الرئيسية صحافة حقوق الإنسان سوريا: تعديل المناهج الدراسية.. قرار أيديولوجي أحادي يفتقر إلى الشرعية

سوريا: تعديل المناهج الدراسية.. قرار أيديولوجي أحادي يفتقر إلى الشرعية

يجب على السلطات الانتقالية السورية تعليق العمل بقرار تعديل المناهج الدراسية الأحادي إلى حين تشكيل لجان متخصصة تضم خبراء تربويين/ات وأكاديميين/ات مستقلين/ات تضمن صياغة مناهج علمية حيادية تراعي التنوع الثقافي والديني والإثني في سوريا وتعزز التزاماتها الدولية

بواسطة bassamalahmed
112 مشاهدة تحميل كملف PDF هذا المنشور متوفر أيضاً باللغة: الإنجليزية حجم الخط ع ع ع

1. المقدمة:

أصدرت وزارة التربية والتعليم في حكومة تصريف الأعمال السورية، مطلع عام 2025، قرارًا بتعديل المناهج الدراسية للصفوف من الأول حتى الثالث الثانوي، وألغت مادة “التربية الوطنية” من المناهج والامتحانات، معلّلة ذلك بأنها تحتوي على “معلومات مغلوطة تهدف إلى تعزيز دعاية نظام الأسد المخلوع”، وفقًا لتصريح الوزير نذير القادري[1] الذي وضح أن درجات هذه المادة ستُعوَّض بمادة “التربية الدينية” (الإسلامية أو المسيحية) التي ستدخل ضمن المجموع العام للشهادة الثانوية. وقد شملت التعديلات إزالة ما اعتبرته الوزارة من رموز النظام السابق/نظام الأسد مثل العلم والنشيد الوطني، وإعادة صياغة بعض العبارات، وحذف نصوص تاريخية ودينية وعلمية وفلسفية.[2]،[3]

وقد أثار القرار موجة واسعة من الانتقادات، لا سيما لصدوره السريع عن حكومة انتقالية محدودة الصلاحيات، يُفترض أن تقتصر مهمتها على تسيير الأمور الجارية، دون اتخاذ قرارات استراتيجية تمس الهوية الثقافية والسياسات العامة للبلاد. حيث باشر الوزير القادري، خلال فترة وجيزة، بإدخال تعديلات ذات صبغة أيديولوجية موجهة،[4][5] دون أي مشاورات مهنية أو لجان اختصاصية، سواء محلية أو دولية. وقد برر في بيان على “فيسبوك” أن المناهج ستبقى كما هي حتى تُشكَّل لجان متخصصة لمراجعتها، معتبرًا أن ما أُعلن عنه لا يتعدى “تصحيح لبعض المعلومات المغلوطة” في مادة التربية الإسلامية. لكنه لم يعلّق على الانتقادات المتعلقة بحذف نصوص أدبية وفكرية مهمة، مثل قصائد الزهاوي وبدر الدين الحامد، أو حذف دروس عن أصل الحياة، والفكر الفلسفي الصيني، وغيرها من المواضيع غير المرتبطة مباشرة بالنظام السابق أو بحكم حزب البعث.

يقدم هذا التقرير الموجز، الصادر عن منظمة “سوريون من أجل الحقيقة والعدالة”، قراءة تحليلية متعددة الأبعاد لقرار تعديل المناهج الصادر بعد 8 كانون الأول/ديسمبر 2024، ويقيّم أثره على حيادية التعليم، وتوافقه مع المعايير الدولية والإعلان الدستوري الصادر في 13 آذار/مارس الماضي، كما يستعرض آراء خبراء ومعلمين داخل سوريا حول أولويات التعليم والتحديات الراهنة، في ظل واقع يقدّر فيه تقرير اليونيسيف لعام 2025 وجود 7 ملايين طفل خارج النظام التعليمي، وأكثر من 10 آلاف منشأة تعليمية خارجة عن الخدمة.

2. التعليم كأداة للسيطرة في “سوريا الأسدين”:

شكّلت سيطرة الأجهزة الأمنية السورية عاملًا رئيسيًا في تقويض جودة التعليم، إذ تحوّلت المؤسسات التعليمية إلى أدوات للضبط السياسي والاجتماعي، على حساب وظيفتها الأساسية في توفير تعليم نوعي ومحايد. اعتمد النظام هذه الهيمنة كجزء من استراتيجيته، فجعل التعليم رهينة لخدمة أيديولوجيته، مستعينًا بشعارات قومية لتبرير شرعيته، وتحويل المدارس والجامعات إلى ساحات لإعادة إنتاج الولاء.

يُنظر في الأنظمة الاستبدادية إلى التعليم كأداة لـ”تدجين” الطلبة منذ الطفولة، بهدف إعداد مواطنين/ات موالين/ات، طائعين/ات للنظام قبل الوطن. ولهذا، صيغت المناهج بما يعكس أيديولوجية النظام وفلسفته الاستبدادية، لضمان استمرارية حكمه، وهو نمط شائع في الدول الشمولية كما في “سوريا الأسد”، حيث أصبح التعليم وسيلة لترسيخ البصمة الاستبدادية سياسيًا وثقافيًا واجتماعيًا واقتصاديًا.[6]

تجلّى هذا التدخل الأيديولوجي بوضوح في المقررات الدراسية، سواء عبر محتواها أو طريقة تقديمها، تحت إشراف المؤسسات الأمنية. وقد نصّ دستور حزب البعث العربي الاشتراكي صراحةً على حصرية التعليم بالدولة، إذ ألغى كل المؤسسات التعليمية الأهلية والأجنبية (المادة 46)، وحصر مهنة التعليم وكل ما يتعلق بالتربية بالمواطنين العرب (المادة 49). لقد تركت هذه السياسات أثرًا عميقًا استمر بعد عام 2011، وأعادت التعديلات الأخيرة إنتاج هذا الإرث المركزي والأيديولوجي، بدل أن تفتح المجال أمام مناهج أكثر شمولًا وتعددية.

3. التعليم بعد 2011: من الانقسام السياسي إلى أزمة الهوية:

مع اندلاع الانتفاضة السورية عام 2011، تراجعت هيمنة حزب البعث الأيديولوجية، وفقد النظام أدواته التقليدية في السيطرة على المجتمع، بفعل انهيار السلطة المركزية وانتشار مصادر المعرفة بفضل التطور التقني. أدى ذلك إلى تراجع التنشئة السياسية في المدارس والجامعات، وتقلص قدرة النظام على التحكم بالمعلومات.

لكن مع تحول الاحتجاجات إلى نزاع مسلح، ووجود خمسة جيوش أجنبية على الأراضي السورية، وتقاسم مناطق النفوذ بين أطراف متعددة، فرضت كل جهة مناهجها الدراسية الخاصة، بما يعكس رؤيتها الأيديولوجية والسياسية. وهكذا وجد أطفال سوريا أنفسهم يتلقون تعليمًا متباينًا عبر أكثر من خمسة مناهج مختلفة، تخضع لسلطة الأمر الواقع، مما قوّض حقهم في التعليم الموحد والمتكافئ، وأدى إلى نشوء بيئات تعليمية متباعدة ثقافيًا وفكريًا، تهدد الهوية الوطنية الجامعة. وبحسب تقرير لجنة التحقيق الدولية المستقلة بشأن سوريا (2020)، قدمت أطراف النزاع مناهج متنافسة فكريًا، مما أنتج هويات متضاربة، حيث تعرض الأطفال لتعريفات متباينة للقيم، فأصبح انتماؤهم مرتبطًا بالمحتوى التعليمي المقدم لهم، لا بروابطهم الوطنية المشتركة. وعلى مدى 14 عامًا، لم يعرف أطفال سوريا سوى العنف والتشرد، وانقطاع الروابط الأسرية، وغياب الخدمات الحيوية. وحتى أولئك الذين تمكنوا من الوصول إلى التعليم، عانوا من تدني جودته بفعل الاستهداف المباشر للمدارس، والوضع الأمني الهش، والنزوح المتكرر. ترك هذا الواقع أثرًا عميقًا على قطاع التعليم، وزاد من هشاشة النسيج الاجتماعي.

4. أولويات واحتياجات التعليم في سوريا ما بعد النزاع:

يشهد قطاع التعليم في سوريا دمارًا واسعًا جراء النزاع المسلح، حيث تضررت أكثر من 10 آلاف منشأة تعليمية أو دُمرت بالكامل، وأبعد النزاع حوالي 7 ملايين طفل عن مقاعد الدراسة. إلى جانب ذلك، يعاني الأطفال السوريون من اضطرابات نفسية واجتماعية متفاقمة.

توضح رُهلات عمار، معلمة لغة عربية في إحدى مدارس دمشق، أن “المنهج لا يحقق فائدته إلاّ إذا بُني على أسس تراعي احتياجات الطلاب الحياتية والعقلية والاجتماعية، وسياقهم المحلي والثقافي، خاصة في بلد مثل سوريا يواجه تحديات اجتماعية وسياسية واقتصادية كبيرة”.

ترتبط جودة التعليم بتوافر الموارد وجودة التدريس والتعلّم، وعلى الرغم من تأكيد الحاجة إلى ضخ الاستثمارات في قطاع التعليم، إلا أن انخفاضًا حادًا طرأ على مستوى معدلات الإنفاق الحكومي على وزارة التربية والتعليم في سوريا، بحسب تقرير اليونيسف الصادر في 2023، فقد انخفض الإنفاق من 7.1% في عام 2011 إلى 3.6% في عام 2022، وانخفضت مخصصات التعليم بنسبة 78% مقارنة بعام 2011، تبعها تدهور مجمل العملية التعليمية ومستلزماتها الأساسية، وهو أقل بكثير من المتوسط الذي حددته منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD) بـ4.9%.

تؤكد “عمار” أن نجاح تعديل المناهج يتطلب استراتيجية تجمع بين تعديل المحتوى، وتوفير بيئة تحتية داعمة، من خلال الاستثمار في تأمين كهرباء وإنترنت مستقرين، وتجهيز المدارس بالأجهزة والبرمجيات الحديثة، وإتاحة الموارد التعليمية الرقمية والمفتوحة. كما ترى أن ضمان حقوق المعلمين/ات أمر أساسي لتحقيق بيئة تعليمية ناجحة، من خلال الاستقرار الوظيفي، والرواتب العادلة، وفرص التطوير المهني، وبيئة العمل الداعمة، ووجود نقابة حقيقية تُمكّنهم من المشاركة في صنع القرار.

تضيف روهلات أيضاً أن الأطفال في سوريا تعرضوا لموجات عنف متكررة، ما أدى إلى ارتفاع معدلات اضطرابات ما بعد الصدمة والاكتئاب والقلق بينهم، وتشدد على أهمية أن تكون المناهج “مرنة، محدثة، ومتصلة بواقع الطلاب، بحيث تُعزز قدراتهم على التفكير المستقل وحل المشكلات، وتعمل على بناء وعي نقدي يساعدهم في إعادة بناء مجتمعهم بعد فترات الاضطراب والصراعات”.

تحدثت “سوريون” مع محمد طباطب، وهو معلم تاريخ في إحدى مدارس حمص. وقد صرح في مقابلة معه على أن “تغيير المناهج ضروري بعد سقوط النظام الاستبدادي، لكنه تم بتسرع، بينما يحتاج إلى لجان متخصصة ذات كفاءة عالية”. ويضيف طباطب أنه “في بلد متنوع دينيًا ومذهبيًا واثنيًا، يجب أن تراعي المناهج هذا التنوع لتعزيز الهوية الوطنية الجامعة. ويجب أن تستند عملية إعداد المناهج إلى أسس علمية ومعاصرة، تدعم تطورات البحث العلمي، وتقترن ببرامج تدريب حقيقية للكادر التدريسي والإداري”.

يخلص طباطب إلى ضرورة إعادة صياغة المناهج بما يتماشى مع قيم الحرية والتعددية والحداثة، لإزالة آثار الأيديولوجيا السابقة، وبناء هوية وطنية شاملة ومتنوعة.

5. المناهج العقائدية: أي مستقبل للتعليم؟

جاءت التعديلات التي أقرتها وزارة التربية والتعليم في حكومة تصريف الأعمال السابقة دون أن تسبقها مشاركة مجتمعية أو مشاورات مهنية معلنة، ما يثير تساؤلات حول انعكاساتها المحتملة على الهوية الوطنية، وإمكانية خلق تباينات معرفية بين الطلاب.

وقد أفرز غياب المشاركة، واعتماد القرارات الفردية في إدارة سياسات التعليم، شعورًا لدى بعض المعلمين والطلاب باللاجدوى، وأسهم في التشكيك بمصداقية العملية التعليمية،[7] مما يقوض أدوار التعليم الأساسية في بناء السلوك المدني، وتعزيز القيم الوطنية المشتركة كالتسامح والمواطنة والحوار. كما يُخشى أن تسهم هذه التعديلات في ترسيخ رؤى مغلقة قد تغذي الانقسام والصراع، على حساب التفكير النقدي العلمي، وجودة التعليم، والمعايير الأكاديمية، في ظل غياب مراجعة علمية متخصصة أو رؤية متكاملة، وهو ما قد يحدّ من قدرة المعلمين/ات على إيصال المعرفة بفعالية.

حتى تاريخ إعداد التقرير، لم تعلن وزارة التربية عن تشكيل أي لجان متخصصة لمراجعة أو تعديل المناهج بعد 8 كانون الأول/ديسمبر 2024، ولم تُكشف أسماء أي لجنة أكاديمية أو تربوية شاركت في هذه العملية، أو المدة الزمنية التي استغرقها إعداد التعديلات. اكتفى الوزير بالإشارة إلى حذف الرموز المرتبطة بالنظام السابق، واعتماد رموز جديدة مثل علم الثورة السورية، وإدخال تعديلات في مادة التربية الإسلامية بحجة “تصحيح التفسيرات المغلوطة”.

لكن، وفي الواقع، شملت هذه التعديلات (انظر الملحقات) تغييرات جوهرية ذات توجهات أيديولوجية ودينية، مثل استبدال مصطلحات حقوقية بمصطلحات دينية أكثر تشددًا في مادة التربية الدينية (مثلاً: استبدال “يحكمه قانون العدل” بـ”يحكمه شرع الله”)، وتعديل تفسير مفهوم “الشهادة” من “في سبيل الوطن” إلى “في سبيل الله”. كذلك، حُذفت وحدة دراسية عن “أصل الحياة والتطور” من مادة العلوم، وأزيلت من مادة التاريخ إشارات إلى الآلهة وأسمائها في الميثولوجيا القديمة، وحُذفت شخصيات وأقوام تاريخية كزنوبيا والآراميين والكنعانيين، مما أضعف المحتوى الثقافي المتنوع للمناهج.

تعكس هذه التعديلات[8] غلبة الأيديولوجيا على العملية التعليمية، بما يهدد حيادية المناهج ويضعف التزامها بالمعايير الدولية. يفاقم هذا الخطر غياب الشفافية، وغياب إشراك خبراء مختصين/ات أو آليات مراجعة مستقلة، ما يجعلها خرقًا لمعايير الحق في التعليم المنصوص عليها في إعلان إنشيون (2015)، الذي يشدد على تطوير المناهج بما يعزز حقوق الإنسان، والمساواة، وثقافة السلام، والمواطنة العالمية.

ويزداد القلق عند النظر إلى محدودية صلاحيات حكومة تصريف الأعمال، التي من المفترض أن تقتصر مهامها على القرارات الضرورية المؤقتة، التي لا تحتمل التأجيل لضمان سير مرافق الدولة، دون اتخاذ قرارات استراتيجية طويلة الأثر كقرار تعديل المناهج، لما له من تبعات تمس مستقبل الأجيال والدولة.[9]

6. المعايير الدولية والإعلان الدستوري: ضمان الحق في التعليم:

في سياق ما بعد النزاع المسلح، يُعتبر التعليم في سوريا استجابة إنسانية عاجلة وأداة مركزية لبناء الاستقرار المجتمعي، وتعزيز حقوق الإنسان، والكرامة، والعدالة الاجتماعية، والتنوع الثقافي. ومع ذلك، فإن تعديل المناهج التعليمية في مثل هذا السياق يتطلب مقاربة شاملة، تقوم على المشاركة المجتمعية والشفافية والالتزام بالمعايير الدولية، وخاصة الهدف الرابع من أهداف التنمية المستدامة، والمبادئ المنصوص عليها في إعلان إنشيون لعام 2015، التي تشدد على ضمان التعليم الجيد المنصف والشامل، وتعزيز حقوق الإنسان، والمساواة، وقبول التعددية، واحترام التنوع الثقافي والديني.

غير أن قرار تعديل المناهج الذي أقره وزير التربية في حكومة تصريف الأعمال يمثّل استخدامًا للسلطة المؤقتة خارج حدود اختصاصها، بصفته قرارًا أيديولوجيًا أحاديًا يفتقر إلى الشرعية، إذ إن المناهج الدراسية هي مخرجات سياسات الدولة ورؤيتها التربوية، ويُفترض أن تكون ثمرة عملية تشاركية شاملة، لا قرارًا فرديًا تصدره حكومة انتقالية محدودة الصلاحيات. كما أن تطوير المناهج يتطلب بيئة تعليمية متكاملة، تشمل المعلم المؤهل، الطالب المهيأ، البنية التحتية المناسبة، والإدارة الكفؤة. وفي ظل غياب هذه العناصر، وظروف العمل والمعيشة الهشة للمعلمين/ات والطلاب، يصعب توقع نجاح أي إصلاح تعليمي أو تحقيق الأهداف المرجوة من المناهج الجديدة.

وفي هذا السياق، قال أحمد حسين، مسؤول سابق في وزارة التربية والتعليم، في حوار أجرته معه “سوريون”:

“خطوة تعديل المناهج الأخيرة كانت خطوة ضعيفة. المناهج نوعان: المعارف العامة التي تلبي احتياجات كل صف دراسي، والاستراتيجيات التي تطرح تساؤلات جوهرية: ما الذي يجب أن تركز عليه الدولة اليوم في مناهجها؟ هل المطلوب أن يكون الطالب حافظًا دون فهم؟ أم أداة تخدم نظامًا دكتاتوريًا؟ أم نريده مفكرًا نقديًا مبدعًا؟ هذه الأسئلة تحتاج إلى فرق متخصصة للإجابة عليها، من خلال أبحاث واستقصاءات وإحصاءات علمية”.

يعكس هذا التصريح الحاجة إلى رؤية علمية تشاركية في تطوير المناهج، ويؤكد أن أي إصلاح تعليمي لا يمكن أن ينجح دون فهم واضح لغايات التعليم، وإشراك خبراء مختصين، وضمان آليات مراجعة مستقلة. كما يكشف أن غياب هذه الفرق واستبعاد الرأي المهني يعمّق أزمة الحوكمة التربوية، ويعيد إنتاج نموذج مركزي أحادي القرار يفرض أيديولوجيته على المعرفة والطلاب، ويجعل تعديل المناهج انعكاسًا مباشرًا لصراع سياسي حول تشكيل الهوية الوطنية وإعادة كتابة الذاكرة الجمعية.

تحمي العديد من الوثائق القانونية الدولية الحق في التعليم، بوصفه حقًا أساسيًا لتنمية الشخصية الإنسانية، وتعزيز الكرامة، واحترام حقوق الإنسان والحريات الأساسية. وتشمل هذه الوثائق صكوكًا دولية ملزمة، مثل العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، والمعاهدات والاتفاقيات ذات الصلة، التي تلزم الدول الموقعة بضمان هذا الحق.

وينص الإعلان الدستوري الصادر في 13 آذار/مارس 2025 على حق الطفل في التعليم، وحمايته من الاستغلال، ويُلزم الدولة بوضع أطر سياسية وقانونية لضمان توفير تعليم جيد ومستدام. ويعتبر هذا الإعلان، بصفته وثيقة انتقالية، ملزمًا للحكومة المؤقتة بوضع سياسات مرحلية لا تتجاوز صلاحياتها، وبالامتناع عن اتخاذ قرارات استراتيجية طويلة الأمد تمس القطاعات الأساسية كالسياسات التعليمية.

7. خاتمة وتوصيات:

استنادًا إلى ما ورد في هذا التقرير، توصي منظمة “سوريون من أجل الحقيقة والعدالة” بمجموعة إجراءات كخارطة طريق نحو استعادة الثقة بالعملية التعليمية، وضمان حق الأجيال المقبلة في تعليم نوعي، شامل، عادل، يعزز المواطنة والعدالة الاجتماعية، وتشمل هذه التوصيات:

  1. تعليق العمل بقرار تعديل المناهج الدراسية الحالي، إلى حين تشكيل لجان متخصصة تضم خبراء تربويين/ات وأكاديميين/ات مستقلين/ات، تضمن صياغة مناهج علمية حيادية تراعي التنوع الثقافي والديني والإثني في سوريا.
  2. إجراء مراجعة شاملة للمناهج التعليمية عبر آليات تشاركية شفافة، تشترك فيها نقابات المعلمين، وخبراء تربويون/ات وأكاديميون/ات مستقلون/ات، وممثلو/ات المجتمع المدني، لضمان توافق المناهج مع احتياجات المجتمع، وقيم المواطنة والتعددية.
  3. الالتزام بالمعايير الدولية المعترف بها في تطوير المناهج، وخاصة مبادئ إعلان إنشيون (2015)، وأهداف التنمية المستدامة، لضمان توفير تعليم جيد، منصف، شامل، يعزز حقوق الإنسان، والمواطنة العالمية.
  4. تحديد واضح لصلاحيات الحكومة المؤقتة بما يضمن عدم تجاوزها اختصاصاتها المرحلية، والامتناع عن اتخاذ قرارات استراتيجية طويلة الأمد تمس السياسات التعليمية والثقافية، باعتبارها من مهام الحكومات الدائمة المنتخبة.
  5. تعزيز الاستثمار في البنية التحتية التعليمية، وضمان حقوق المعلمين/ات في الاستقرار الوظيفي، والأجور العادلة، والتطوير المهني، بما يشكل بيئة تعليمية داعمة وفعالة.
  6. تشكيل هيئة مستقلة لمراقبة وتقييم العملية التعليمية، تتولى متابعة تطبيق السياسات التعليمية، وضمان التزامها بالشفافية، والمعايير الدولية، وحقوق الإنسان.

 


[1] تصريح وزير التربية والتعليم نذير القادري في حكومة تسيير الأعمال عبر “فيس بوك”، تاريخ النشر 1 من كانون الثاني/ يناير 2025، https://n9.cl/t49x7.

[2]  تقرير لموقع “مونت كارلو الدولية”، تاريخ النشر 2 من كانون الثاني/ يناير 2025، https://n9.cl/2crkc.

[3] تقرير لموقع “الشرق الأوسط” ، تاريخ النشر 2 من كانون الثاني/ يناير 2025، https://n9.cl/rbc8x.

[4] تقرير لموقع “DW”، تاريخ النشر 3 من كانون الثاني/ يناير 2025، https://n9.cl/y80ec.

[5] تقرير لموقع “بي بي سي عربي”، تاريخ النشر 2 من كانون الثاني/ يناير 2025، https://n9.cl/6qpz0n.

[6]  تقرير لمركز “حرمون للدراسات المعاصرة”، تاريخ النشر 22 من تشرين الثاني/ نوفمبر 2021، https://n9.cl/3jkboy.

[7] مقابلة “سوريون” مع أحمد حسين، مسؤول سابق في وزارة التربية والتعليم.

[8] تجدر الإشارة إلى أن الأمثلة المذكورة في هذا التقرير لا تغطي جميع التعديلات التي أُجريت على المناهج الدراسية، إذ شملت هذه التعديلات مواد متعددة ومراحل دراسية مختلفة، امتدت من التعليم الأساسي حتى المرحلة الثانوية، وطالت التربية الدينية، التاريخ، الفلسفة، العلوم، والتربية الوطنية، إلى جانب حذف أو تعديل نصوص أدبية وصور ورموز ثقافية. ونظرًا لاتساع نطاق هذه التعديلات، وغياب وثائق رسمية شاملة وشفافة ترصد تفاصيلها، يصعب حصرها كاملة ضمن هذا التقرير، مما استدعى التركيز على بعض الأمثلة التي تعكس التوجهات الأيديولوجية والدينية الأساسية لهذه التعديلات.

[9] للمزيد من التفاصيل راجع الدكتور أحمد حسانين إيهاب، النظام الدستوري لحكومة تصريف الاعمال. https://journals.ekb.eg/article_268373_9f62a42fc1f1e2ebb7a92a15287a96ec.pdf

منشورات ذات صلة

اترك تعليقاً

* By using this form you agree with the storage and handling of your data by this website.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك عدم المشاركة إذا كنت ترغب في ذلك. موافق إقرأ المزيد