1. مقدمة:
توثق “سوريون من أجل الحقيقة والعدالة” في هذا التقرير الموجز، الدور المحوري الذي لعبه العديد من أعضاء “الاتحاد الوطني لطلبة سوريا” في قمع الأصوات المعارضة لنظام الأسد، لا سيما خلال السنوات الثلاث الأولى من اندلاع الثورة السورية في عام 2011. فقد تحوّل الاتحاد من كيان نقابي من المفترض أن يمثل مصالح الطلاب إلى ذراع أمنية رديفة، ساهمت بشكل مباشر في ترهيب البيئة الجامعية من خلال مراقبة الطلاب والتبليغ عنهم والمشاركة في الاعتقال والتعذيب الجسدي والنفسي.
وتكشف الإفادات التي حصلت عليها “سوريون” أن العديد من أعضاء الاتحاد كانوا يعملون كمخبرين للأجهزة الأمنية، ويتولون استدراج الطلاب الناشطين عبر مواجهات مباشرة داخل الحرم أو السكن الجامعي، تمهيداً لتسليمهم إلى الفروع الأمنية. وتُظهر الشهادات أن بعض هؤلاء الأعضاء مارسوا الضرب بالعصي الكهربائية والأحذية، إضافة إلى الإهانات اللفظية والتفتيش القسري ومرافقة المعتقلين إلى أماكن الاحتجاز خارج الأطر القانونية.
يستند التقرير إلى خمس مقابلاتٍ معمقة أجراها الباحثون/ات في “سوريون من أجل الحقيقة والعدالة” مع شهود تعرّضوا للاعتقال أو الملاحقة على يد أفراد من الاتحاد، وجرت هذه المقابلات عبر تطبيقات تواصل آمنة بعد الحصول على موافقة مستنيرة من الشهود، الذين طلبوا جميعاً إخفاء هوياتهم حفاظاً على سلامتهم.[1] كما اعتمد التقرير على مراجعة عدد من التقارير الحقوقية الصادرة عن منظمات تناولت دور الاتحاد الوطني لطلبة سوريا في القمع والانتهاكات داخل الجامعات.
2. من “اتحاد طلابي” إلى جهاز أمني رديف:
عرف “الاتحاد الوطني” عن نفسه سابقاً عبر موقعه الرسمي[2] بأنه “منظمة شعبية تضم طلبة الجامعات السورية الحكومية والخاصة والمعاهد العليا والتقنية، وله فروع داخل سوريا وخارجها، وقد أُسس رسمياً في 23 نيسان/أبريل 1966“. لكن هذه الصيغة تغفل العلاقة البنيوية بين الاتحاد والحزب الحاكم، التي جعلت منه أداة سلطوية أكثر من كونه نقابة طلابية مستقلة تمثل مصالح الطلبة وتدافع عن حقوقهم داخل الحرم الجامعي وخارجه، بمعزل عن هيمنة الأحزاب السياسية أو تدخل السلطة التنفيذية في عملها.
نشأ “الاتحاد الوطني لطلبة سوريا” في إطار مشروع حزب البعث العربي الاشتراكي لهندسة مجتمع منظم ومراقب، حيث أُدرج ضمن منظومة المنظمات والنقابات الشعبية المرتبطة تنظيمياً وعقائدياً بالحزب الحاكم.[3] تبنّى الاتحاد منذ تأسيسه خطاب الحزب وخضع لهيكلته الإدارية، فتم تعيين قياداته من قبل القيادة القطرية، ليُستخدم كأداة تعبئة داخل الجامعات بهدف ضبط الطلاب وضمان ولائهم السياسي.[4]
استخدم النظام “الاتحاد الوطني لطلبة سوريا” قبل الانتفاضة كأداة لنشر خطاب الحزب وتصفية أي توجه نقابي مستقل أو معارض. ومع اندلاع الثورة في عام 2011، تم تفعيل دوره الأمني بشكل صريح، فشارك في مراقبة النشاطات الطلابية، وجمع المعلومات لصالح الأجهزة الأمنية، وأسهم مباشرة في عمليات الاستجواب والاعتقال التعسفي.[5] كما بينت الشهادات التي جمعتها “سوريون” -والمذكورة في هذا التقرير- كيف استُخدمت مقرات الاتحاد ومكاتبه داخل الجامعات كمراكز غير رسمية للاحتجاز المؤقت والتحقيق، مما يعكس طبيعة تورطه الممنهج في الانتهاكات، بصفته جهازاً رديفاً للأمن لا هيئة طلابية مستقلة.
واختلف دور الاتحاد من جامعة لأخرى، فعلى سبيل المثال، برز دوره المتسق مع الحل العسكري والأمني في جامعة حلب حيث استخدم العنف المفرط ضد أي حراك طلابي مناهض للسلطة وفصل الطلاب المشاركين في مظاهرات الجامعة.[6] بينما كان عمل الاتحاد أقل تنظيماً في جامعات دمشق والبعث وتشرين، وكان انتقاء الطلاب الذين يتم تسليحهم بناءً على الولاءات، التي تعتمد بشكل أساسي على الانتماء الجغرافي، أو المذهبي، فشارك أعضاء من الاتحاد في مراقبة زملائهم، واستدراجهم، واعتقالهم، بل وتعرضهم للتعذيب بالتعاون مع الأجهزة الأمنية.
كذلك بينت الشهادات التي جمعتها “سوريون” استخدام مقرات الاتحاد ومكاتبه داخل الجامعات كمراكز غير رسمية للاحتجاز المؤقت والتحقيق، الأمر الذي يعكس الطابع الممنهج لتورط الاتحاد في الانتهاكات، باعتباره جهازاً رديفاً للأمن، وليس هيئة طلابية مستقلة.
3. شهادات طلابية عن دور الاتحاد في الانتهاكات:
تضم هذه الفقرة شهادات مفصّلة لطلاب وطالبات جامعيين تعرّضوا للاعتقال أو التعذيب أو التهديد أو الفصل التعسفي، على يد أعضاء في الاتحاد الوطني لطلبة سوريا، إما بشكل مباشر أو عبر التنسيق مع الأجهزة الأمنية. وعلى الرغم من أن الشهادات الواردة في هذا التقرير تعود لطلاب من جامعات دمشق فقط، إلا أن عدة تقارير حقوقية وأبحاث مستقلة أخرى وثّقت شهادات حول أنماط مشابهة من الانتهاكات في جامعات سوريا (خاصة في حلب واللاذقية وحمص)، حيث استخدمت فروع الاتحاد أدوات قمع مشابهة بتنسيق مع أجهزة الأمن.[7]
3.1. شهادة ماجد – كلية الهندسة المعمارية، جامعة دمشق (تم الاعتداء عليه بشدة من قبل طلاب الاتحاد بسبب إشاعة عن نية اعتصام)
في كانون الثاني/يناير 2012، تعرّض شابان للاعتداء في كلية الهندسة المعمارية بجامعة دمشق، بعد انتشار إشاعات تفيد بوجود نية للاعتصام داخل مبنى الكلية.
بدأ أحد الشابين، ويدعى “ماجد”، شهادته لـ”سوريون” بالقول:
“بعد انتشار الإشاعات امتلأت كليتنا بالعديد من طلاب الهيئة الإدارية التابعة للاتحاد الوطني لطلبة سوريا، من مختلف الكليات والجامعات حيث أتوا مسلحين بعصي كهربائية وجنازير حديد ووقفوا في بهو الكلية لمنع الاعتصامات. كنت أدرس مع صديقي بإحدى القاعات، ثم قررنا الافتراق عندما بدأ الوضع بالتوتر، لنتعرّض أنا وصديقي لاعتداء عنيف على يد أعضاء من هيئة الاتحاد الإدارية، حيث كان يقود الاعتداء طالب يُدعى ‘مالك س.’[8] من كلية الاقتصاد، وشارك فيه أيضاً شقيقه ‘ماهر’، إلى جانب عدد كبير من الطلاب المسلّحين بعصي كهربائية وجنازير. هجموا علينا داخل أحد مراسم الكلية، وانهالوا علينا بالضرب بالأيدي والعصي، وحاولوا ضرب صديقي بكرسي خشبي على رأسه.”
بعد تدخل عميد الكلية، الدكتور “بيير نانو”، نُقل ماجد وزميله إلى مكتب العمادة، حيث خضعا لتحقيق من قبل وكيل الجامعة ومسؤول أمني. يضيف ماجد:
“جرى التحقيق معنا دون أي اعتبار أننا ضحايا اعتداء واضح. فُتشت هواتفنا، ووجهت لنا تهم بالتحريض على الشغب، ورغم ذلك، لم يُحاسب أي من المعتدين. لاحقاً، تم تعليق أسمائنا في الكلية كإجراء تأديبي، وحُجبت علاماتنا الدراسية، ثم تم تحويلنا إلى مجلس تأديب، حيث أبلغونا أن ما حصل يُعد إنذاراً، مع التهديد بعقوبات أشد في حال تكرار ما سمّوه مخالفة.”
3.2. شهادة أنس – المدينة الجامعية، جامعة دمشق (تعرض لضرب جماعي بعد هتافات تضامنية، واعتقل وعذب وأصيب نتيجة ذلك بجلطات وشلل، كما قُتل شقيقه تحت التعذيب بناءً على تقرير طالب من الاتحاد)
في أيار/مايو 2011، كان أنس يقيم في الوحدة الأولى من المدينة الجامعية في منطقة المزة بدمشق، عندما بدأ بالتخطيط مع عدد من الطلاب لتنفيذ حراك سلمي محدود تضامناً مع محافظة درعا.
يروي أنس في شهادته لـ”سوريون”:
“بدأت مع عدد من طلاب الطب وطب الأسنان والصيدلة نخطط لحراك سلمي بسيط تضامناً مع درعا، مثل ترديد هتاف ‘حرية’ من الشرفات. قبل هذا الحراك بأيام، صادفت اثنين من طلاب ‘اتحاد الطلبة’، أحدهما من بلدتي، عرضا عليّ عصا كهربائية وقالا إنها ستُستخدم ضد ‘المندسين’. اعترضت على كلامهم، فردّ أحدهم بتهديد مبطن. رغم التوتر، مضينا بالخطة.”
ويُكمل:
“في الليلة المتفق عليها، قطعنا الكهرباء ورددنا الهتافات، فداهمتنا عناصر من الأمن واتحاد الطلبة وطلاب موالين، وبدأوا بضربنا واقتحام الغرف. اعتُقلت مع عدد من الطلاب ونُقلنا إلى فرع الأمن، حيث تعرضنا للضرب والإهانة، وسمعت أصوات تعذيب ونساء تُستدعى للتحقيق. رغم تدخل أحد الضباط ومنعه ضربنا باليد، فقد استُبدل ذلك بالركل والضرب بالأحذية.”
ويتابع أنس وصفه لظروف الاحتجاز قائلاً أن الزنزانة التي احتُجز فيها كانت مكتظة وقذرة، وكان واحداً من 41 محتجزاً في مساحة لا تتسع للنوم، ويضيف:
“بعد الإفراج عنّا، خرجت متورم الوجه والجسد، ولاحقاً أصبت بناسور شرياني وريدي سبّب لي سبع جلطات دماغية وشللاً نصفياً مؤقتاً لا أزال أعاني منه.”
ولا تقتصر الانتهاكات على الشاهد نفسه، إذ يكشف عن مصير مأساوي لشقيقه، الذي كان ضحيّة مباشرة لتقارير كيدية صادرة عن أعضاء في الاتحاد، أفضت إلى تعذيبه حتى الموت:
“اختُطف شقيقي من جامعة البعث، واتُهم زوراً، بناءً على تقرير من أحد طلاب الاتحاد، بسرقة دبابة، وتوفي تحت التعذيب في فرع 215. استلمنا شهادة وفاته في عام 2014.”
3.3. شهادة ياسر – كلية الطب البشري، جامعة دمشق (تعرض للتعذيب الوحشي على يد طلاب الاتحاد بسبب منشورات معارضة، واقتيد إلى مبنى حزب البعث)
في 6 شباط/فبراير 2013، وبينما كان الطالب ياسر يهمّ بالخروج من مكتبة كلية الطب البشري بجامعة دمشق، اعترضه ثلاثة شبان قدّموا أنفسهم على أنهم من الهيئة الإدارية للاتحاد الوطني لطلبة سوريا. كان من بينهم شخص يُدعى “أشرف ص.”،[9] وهو رئيس الهيئة حينها، وطلبوا منه إبراز هويته الجامعية.
يقول ياسر في شهادته لـ”سوريون”:
“طلبوا هويتي الجامعية، ثم اتصلوا بشخص تبيّن لاحقاً أنه ضابط أمن الجامعة، ولا أذكر اسمه، ثم عادوا ليحتجزوني مع آخرين بالقوة.”
اقتيد ياسر بعد ذلك إلى الطابق الرابع من مبنى الإدارة، وهناك بدأ تعذيبه كما يروي:
“عند وصولنا بدأ الضرب المبرح والشتم المهين من أشرف ص. وشخصين آخرين، أحدهم من كلية الآداب، باستخدام الأيدي ثم الهراوة. فتشوا حقيبتي وصادروا جهازي المحمول، وأجبروني على فتحه، ثم اطّلعوا على منشوراتي المعارضة للنظام على فيسبوك بعد إجباري على فتح حسابي أمامهم.”
يتابع الشاهد:
“جن جنونهم عند رؤيتهم نشاطي، فعصبوا عينيّ، وقيدوني، واقتادوني إلى مبنى حزب البعث، وهناك تصاعد التعذيب إلى تهديد مباشر بالقتل. كانت لديهم أدوات مثل العصي والسكاكين والهراوات، ووُجه إليّ مسدس حقيقي وأُطلقت رصاصة وهمية لترهيبي، مع الإصرار على انتزاع اعترافات قسرية بأمور لم أفعلها.”
يعزز اقتياد أحد الطلاب إلى مبنى حزب البعث الأدلة على ارتباطه بالحزب الحاكم، لا كجسم نقابي مستقل، بل كأداة تنفيذية في منظومة القمع. وفي ختام شهادته يقول ياسر:
“بعد التحقيق معي تم تسليمي إلى فرع الأمن السياسي في الميسات، الذي خرجت منه بعد ساعات قليلة. طوال هذه التجربة كنت أرى كيف يعمل الاتحاد الوطني لطلبة سوريا كجهاز أمني رديف للنظام السوري، يمارس الاعتقال والضرب والتحقيق خارج أي إطار قانوني أو جامعي.”
3.4. شهادة مالك – كلية الاقتصاد، جامعة دمشق (اعتقل وتعرض للتعذيب داخل المدينة الجامعية بعد ملاحقة منشوراته السلمية على فيسبوك)
في شهادته لـ”سوريون من أجل الحقيقة والعدالة”، يروي الطالب “مالك”، وهو ناشط في الحراك السلمي بمدينة دوما في ريف دمشق، كيف تحوّل الحرم الجامعي في دمشق إلى مساحة أمنية مغلقة، تدار فيها الاعتقالات والتحقيقات خارج أي إطار قانوني.
يقول مالك:
“لعب أعضاء الاتحاد دور المخبرين والمحققين وحتى الجلادين أحياناً، فقاموا بالتعاون مع الأجهزة الأمنية في تعقب وملاحقة الطلاب الناشطين في الحراك السلمي، وشاركوا في التحقيق معهم وتعذيبهم، وغالباً ما جرت عمليات الاعتقال داخل الحرم الجامعي أو المدينة الجامعية بمساعدة مباشرة من طلاب مرتبطين بحزب البعث أو جماعات موالية للنظام كحزب الله.”
ويتابع:
“كنت أشارك في تنسيق المظاهرات والحراك المدني، وأستخدم حسابي على فيسبوك باسمي الحقيقي لنشر دعوات الإضراب ومتابعة صفحات التنسيقيات. في أواخر عام 2011، بدأ عناصر من اتحاد الطلبة يوقفون الطلاب عند باب الجامعة ويفتشون حساباتهم، ووردني تحذير بأنهم يسألون عني، فأنشأت حساباً جديداً لكن ذلك لم يمنع اعتقالي.”
جرى توقيف “مالك” أمام مكتبة داخل الجامعة على يد عناصر أمن برفقة طالب من “حزب الله” دلّهم عليه وفق حديثه لـ”سوريون”:
“بعد توقيفي اقتادوني إلى غرفة تحقيق بالمدينة الجامعية حيث تعرضت للضرب والتعذيب على يد عناصر من اتحاد الطلبة، أبرزهم ‘أشرف ص.’ وكان طالب طب بشري حينها، وبتلك الأثناء حاولت المماطلة كي يُغلق أصدقائي حسابي الأصلي، لكن العناصر تمكنوا من الدخول إليه وواجهت اتهامات بالتحريض والتنسيق مع ‘الإرهابيين’.”
ويكمل الشاهد:
“لاحقاً، عرض علي أحد المحققين التعاون معهم والتواصل معهم لاحقاً، مع احتفاظهم ببطاقتي الجامعية والهوية الشخصية. وافقت حينها للخروج، وبالفعل أطلقوا سراحي، دون إحالتي إلى فرع أمني.”
ويختم:
“قررت التوقف عن الذهاب إلى الجامعة، خاصة بعد أن هددني أحد عناصر الأمن بكسر رجلي إن عدت، وأنهيت امتحاناتي في الفصل بصعوبة بالغة، بعد أن أعادت أمي وخالتي وثائقي الشخصية. كنت أتوقع أن يكون مصيري كمصير بقية الأصدقاء، لكني نجوت. وبعد التخرج، غادرت لاحقاً إلى الغوطة الشرقية حيث واصلت نشاطي، وتوقفت تماماً عن دخول دمشق بسبب خطورة المرور بهويتي.”
3.5. شهادة مريم – كلية الاقتصاد، جامعة دمشق (اعتقلت لتضامنها مع أستاذتها، وضُربت من أعضاء الاتحاد بسبب محتوى على فيسبوك)
لم يكن النشاط السياسي شرطاً ليصبح الطلاب هدفاً للملاحقة والاعتقال داخل الجامعات السورية. في شهادتها لـ”سوريون”، تروي مريم، طالبة دراسات عليا في كلية الاقتصاد بجامعة دمشق، كيف تحولت لحظة تضامن عفوية إلى تجربة اعتقال مهينة.
تقول مريم:
“كنتُ أُعد رسالة الماجستير في كلية الاقتصاد بجامعة دمشق، وكنت في المكتبة حين سمعت ضجة في الخارج. اقتربت فشاهدت عملية اعتقال لدكتورة جامعية لأنها قرأت سورة الفاتحة على أرواح الشهداء. لم أتمالك نفسي وعلّقت بكلمات غاضبة، فحاول أحد الشبيحة استجوابي. هربت باتجاه الحرم الجامعي وهناك أوقفني الحرس، صادروا هويتي وهاتفي وبدأوا التحقيق معي داخل غرفة مغلقة.”
ووفق إفادة مريم فقد تحولت الجامعة إلى مسرح للعنف الممنهج، ليس فقط من الأجهزة الأمنية، بل أيضاً من زملاء وزميلات شاركوا في الانتهاك:
“لاحقاً جاءت مجموعة من الطالبات المواليات للنظام، كنّ يشاركن في الاعتداء على الدكتورة وبدأن بضربي والتحقيق معي. فتشن حاسوبي المحمول واعتبرن ما فيه دليلاً على معارضتي، وشتمنني بسبب موقفي السياسي. نُقلت بعدها بشكل سري إلى المدينة الجامعية في سيارة دون أن يعرف أحد عن مكاني لثلاثة أيام، وواصلوا التحقيق والضرب هناك. كان بينهم شبيحة من اتحاد الطلبة. وكان هناك إصرار على معرفة حسابي في فيسبوك ومكان فلاشة كنت قد بلعتها لإخفاء محتواها.”
صرحت مريم لـ”سوريون” أنهم كانوا قد طبعوا محادثاتها مع فتاة أخرى حققوا معها سابقاً، وواجهوها بما ورد في المحادثات، ومنه اقتراحها لتعليق صور الرئيس في الحمامات، واعتبروه “دليلاً على التآمر”.
وتختم:
“بعد تحويلي إلى فرع الخطيب ثم إلى فرع أمن الدولة، سمعت أحدهم يقول على الهاتف ساخراً: ‘كمشنا صاحبة الحساب’. وكأنهم ألقوا القبض على مجرمة خطيرة. خرجت لاحقاً من سجن عدرا بكفالة مالية، بفضل خالي الذي كان أستاذ القاضي الذي نظر في قضيتي.”
3.6. قضية أيهم غزول – طالب ماجستير في طب الأسنان، جامعة دمشق (اعتقال داخل الجامعة وتسليمه للأمن من قبل طلاب الاتحاد ما أدى إلى تعذيبه حتى الموت)
رغم أن الشهادات الواردة أعلاه توثق نماذج مباشرة لانتهاكات نفذها أعضاء الاتحاد الوطني لطلبة سوريا بحق طلاب جامعيين خلال الأعوام الأولى من الثورة، إلا أن هذه الحالات لا تغطي حجم الانتهاكات المرتكبة بالكامل، وإنما تمثل جزءً ضئيلاً منها. ومن الأمثلة البارزة التي لم تُوثق عبر مقابلة مباشرة في هذا التقرير، قضية الطالب أيهم غزول، التي استندت “سوريون من أجل الحقيقة والعدالة” في عرض تفاصيلها إلى تقارير منظمات أخرى.[10] وتجدر الإشارة إلى أن صورة أيهم ظهرت لاحقاً ضمن الصور المسرّبة التي عُرفت باسم “صور قيصر”.
تُعدّ قضية الطالب أيهم غزول من أبرز حالات الانتهاك التي تورّط فيها “الاتحاد الوطني لطلبة سوريا”، نظراً لما رافقها من تعذيب أفضى إلى الوفاة. وكان أيهم غزول طالب ماجستير في طب الأسنان وناشطاً في مجال حقوق الإنسان، معروفاً بنشاطه السلمي.
عند خروج أيهم من أحد المحاضرات بتاريخ 5 تشرين الثاني/نوفمبر 2012، اعتقله أحد أعضاء الاتحاد الوطني لطلبة سوريا ويدعى أشرف ص. ومعه رجلين، واقتادوه إلى غرفة تابعة للهيئة الإدارية في كلية الطب البشري. قام عدد من أعضاء الاتحاد الوطني لطلبة سوريا بضرب أيهم وتعذيبه، وخلع أظافره، وسكب الماء المغلي عليه. ثم تم تسليمه بدورية تابعة لفرع الاستخبارات العسكرية الفرع 215، حيث بقي خمسة أيام ليتوفى نتيجة الضرب المبرح والتعذيب الشديد.
تُظهر هذه القضية الدور الحاسم الذي لعبه الاتحاد كأداة في يد السلطة لقمع النشاطات الطلابية السلمية، وتُعد مثالاً صارخاً على تجاوز حدوده التنظيمية وتحوله إلى طرف مباشر في الانتهاكات الجسيمة.
4. التوصيف القانوني:
تشير الشهادات والوقائع الواردة في هذا التقرير إلى أن “الاتحاد الوطني لطلبة سوريا” تحول من منظمة طلابية يفترض بها أن تمثل مصالح الطلبة إلى ذراع قمعي للأجهزة الأمنية السورية، حيث كان أفراد الاتحاد يمارسون الاعتقال التعسفي والتعذيب، ويؤدون مهاماً لا تدخل ضمن صلاحياتهم، مثل التفتيش والتحقيق وتسليم الطلاب إلى الأجهزة الأمنية. هذه الأفعال تُعدّ انتهاكاً لأحكام جوهرية في القانون السوري، وللالتزامات التي تعهدت بها سوريا بموجب القانون الدولي.
4.1. في القانون السوري:
تُشكل هذه الأفعال جرائم يعاقب عليها القانون السوري، فاعتقال الشخص بدون وجه حق ومن قبل جهة غير مختصة يشكل جرم حجز حرية بدون وجه حق، والمنصوص عليه في المادة 555 من قانون العقوبات السوري رقم 148 لعام 1949، وتشدد العقوبة إذا ترافق حجز الحرية مع تعذيب جسدي أو معنوي، كما إن أعمال الضرب والتعذيب تشكل جرم الايذاء المقصود وفقاً للمادة 540 وما بعدها من ذات القانون، وتُشدد العقوبة تصاعدياً وفقاً لمدة التعطيل عن العمل الناجمة عن الضرب والإيذاء، أو إذا أدى هذا الفعل الجرمي إلى حدوث عاهة دائمة لدى الضحية. كذلك نصت المادة 391 من قانون العقوبات بأن “من سام شخصاً ضروباً من الشدّة لا يجيزها القانون رغبة منه في الحصول على إقرار عن جريمة أو على معلومات بشأنها، عوقب بالحبس من ثلاثة أشهر إلى ثلاث سنوات، وإذا أفضت أعمال العنف عليه إلى مرض أو جراح كان أدنى العقاب الحبس سنة”، ومع أن المادة المشار إليها لم تذكر مفردة “التعذيب” إلا أنّ القضاء السوري درج على اعتبار كلمة الشدّة متضمنةً فعل التعذيب.[11]
إضافة لما سبق، تندرج أعمال الضرب والتعذيب ضمن التعريف الوارد في قانون التعذيب رقم 16 لعام 2022، وهو أي فعل يتسبب عمداً في ألم شديد جسدياً أو نفسياً بهدف الحصول على اعتراف أو معاقبة شخص أو تخويفه، ويشمل ذلك الأفعال المرتكبة بدافع التمييز أو الانتقام، سواء ارتكبها موظف رسمي أو شخص يتصرف بهذه الصفة.
وتجدر الإشارة إلى أن القانون الدولي لا يحصر المسؤولية في موظفي الدولة الرسميين فقط، بل يشمل أيضاً من يتصرف بتحريض أو رضى أو موافقة ضمنية من السلطات الرسمية،[12] وهو ما ينطبق على أعضاء الاتحاد الوطني لطلبة سوريا في هذه الحالات.
4.2. في العهود والمواثيق الدولية:
أما على المستوى الدولي، فإن هذه الانتهاكات تخالف عدداً من المعايير والمواثيق الدولية الأساسية، أبرزها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان لعام 1949 الذي نص في المادة 5 منه على أنه “لا يجوز إخضاعُ أحد للتعذيب ولا للمعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو الحاطَّة بالكرامة”، وكذلك تم تأكيد هذا المبدأ في المادة 7 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية لعام 1966.
ويعتبر اعتقال الطلبة وتعذيبهم بسبب أنشطتهم أو آرائهم السياسية المناهضة للنظام الحاكم حينها، تعدياً وانتهاكاً لحقهم في حرية الرأي والتعبير والتجمع السلمي وتخالف بذلك نصوص المواد 9-19-20 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والمواد 9-19-21 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، وتخالف أيضاً اتفاقية الأمم المتحدة لمناهضة التعذيب وغيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة لعام 1984، والتي تفرض التزاماً قانونياً بالتحقيق في أفعال التعذيب ومحاسبة المسؤولين عنها.
كما أن استهداف الطلاب بناءً على آرائهم السياسية يمثل انتهاكاً للمادة 26 من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية، التي تحظر أي شكل من أشكال التمييز، ويشكل أيضاً إخلالاً بالمادة 13 من العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، التي تنص على وجوب إتاحة التعليم العالي على أساس الجدارة دون تمييز.
إضافة إلى ما ذكر، ووفقاً للشهادات الواردة في هذا التقرير وغيره من التقارير الحقوقية، فإن هذه الانتهاكات لم تكن فردية أو عشوائية، بل ارتكبت في إطار سياسة ممنهجة وعلى نطاق واسع في الجامعات السورية، ويتعزز هذا الطابع الممنهج من خلال إشراف بعض عمداء الكليات ووكلائها على التحقيقات، وتهديد بعض الضحايا بالفصل من الجامعة في حال تكرار الفعل، وكذلك تسليح أعضاء الاتحاد من قبل الأجهزة الأمنية، واستخدام مباني حزب البعث في أعمال التحقيق والتعذيب، وبالتالي فإن الطابع الممنهج قد يرقى بتلك الانتهاكات إلى جرائم ضد الإنسانية وفقاً للمادة السابعة من نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، لا سيما الفقرات المتعلقة بـ”السجن أو الحرمان الشديد من الحرية”، و”التعذيب”، و”الاضطهاد”، و”أفعال غير إنسانية تسبب معاناة شديدة”.
وفي هذا الإطار، يمكن الاستناد إلى مبدأ “القيادة والسيطرة” (Command Responsibility) المعتمد في القانون الجنائي الدولي،[13] والذي يحمّل القادة العسكريين والمدنيين المسؤولية عن الأفعال غير القانونية التي يرتكبها مرؤوسوهم، إذا كانوا يعلمون بها أو كان ينبغي أن يعلموا بها ولم يتخذوا التدابير الكافية لمنعها أو معاقبة مرتكبيها. ينطبق هذا المبدأ على القيادات الطلابية في الاتحاد الوطني لطلبة سوريا، وكذلك على مسؤولي الدولة والحزب الذين سمحوا باستمرار هذه الانتهاكات.
5. التوصيات:
لضمان حرية الرأي والتعبير داخل المؤسسات الأكاديمية السورية، وترسيخ مبدأ سيادة القانون ومساءلة الجناة، توصي “سوريون من أجل الحقيقة والعدالة” الحكومة السورية الانتقالية بما يلي:
- فتح تحقيق مستقل وشفاف بشأن الانتهاكات المنسوبة إلى الاتحاد الوطني لطلبة سوريا، على أن يتم بإشراف جهة قضائية مستقلة، ومحاسبة كل من يثبت تورطه وفق الأصول والإجراءات القانونية.
- إعادة هيكلة العمل النقابي الطلابي من خلال حل الاتحاد الوطني بصيغته الحالية، وإتاحة المجال لتأسيس كيان طلابي مستقل يمثل الطلبة، ويضمن حريتهم في التنظيم والدفاع عن مصالحهم دون تدخل سياسي أو أمني.
- إصلاح شامل للنظام الجامعي يشمل مراجعة وتعديل الأنظمة الداخلية للجامعات لضمان احترام الحريات الأكاديمية وحرية التعبير، ومنع تدخل الأجهزة الأمنية في الحرم الجامعي.
- إدماج مبادئ حقوق الإنسان في المناهج الجامعية، وتدريب الكوادر التعليمية والإدارية على احترامها وتطبيقها، لتعزيز ثقافة حقوق الإنسان داخل الوسط الأكاديمي.
- تمكين منظمات المجتمع المدني، ولا سيما العاملة في مجال توثيق الانتهاكات، من الوصول الآمن إلى الحرم الجامعي، وضمان قدرتها على الرصد والتوثيق دون تضييق أو تهديد، مع توفير الحماية للشهود والمبلغين.
[1] لهذا السبب اكتفت “سوريون” بإدراج أسماء وهمية للشهود الذين/اللواتي أجرت معهم/ن مقابلات هذا التقرير.
[2] في 26 كانون الأول/ديسمبر 2024، أصدرت وزارة التعليم العالي قراراً رسمياً بتجميد الاتحاد، وتغيًّر التعريف الرسمي على موقعه ليصبح: مؤسسة نقابية طلابية مستقلة غير ربحية، تمثل الطلبة السوريين حول العالم، وتهتم بقضايا الطلاب السوريين الراهنة وبمستقبلهم، وتعمل على تأهيل جيل سوري مثقف، لأجل الانتقال إلى الدولة الوطنية الحديثة. تعمل هذه النقابة على مساعدة الطلبة السوريين من خلال البرامج والمشاريع الخدمية والتمكينية، وتقوم بنشاطات وتجري حوارات، وتطلق مبادرات، وتعمل لأن تكون مظلة جامعة لكل طلبة سوريا، مستندة إلى قيم الثورة السورية في الحرية والديمقراطية والعدالة وحقوق الإنسان، وقيم المواطنة. تاريخ الاطلاع 18 أيار/مايو 2025. https://ssunion.org/%d9%85%d9%86-%d9%86%d8%ad%d9%86/
[3] للمزيد حول ارتباط النقابات والمنظمات الشعبية بحزب البعث العربي الاشتراكي انظر مثلا: ستيفن هايدمان. التسلطية في سوريا: صراع المجتمع والدولة. دار رياض الريس للكتب والنشر في بيروت. ترجمة: عباس عباس، ومراجعة د. رضوان زيادة. 2011.
[4] مركز عمران للدراسات الاستراتيجية، “أدوات الأسد الناعمة: الاتحاد الوطني لطلبة سوريا أنموذجاً”، 08 حزيران/يونيو 2023. https://www.omrandirasat.org/index.php/ar/research/papers/item/1192
[5] المجلس الهولندي للبحوث (NWO). مشروع تسليح الطلاب: تعبئة الاتحاد الوطني لطلبة سوريا وعسكرته. 2019-2020.
[6] المركز السوري للإعلام وحرية التعبير، “الاتحاد الوطني لطلبة سوريا: سيرة من الانتهاكات”، كانون الأول/ديسمبر 2023. https://scm.bz/wp-content/uploads/2023/12/Student-Union-Report-AR-1.pdf
[7] المجلس السوري البريطاني, “ميليشيا في الحرم الجامعي: جرائم الاتحاد الوطني لطلبة سوريا في جامعة دمشق”. 19 حزيران/يونيو 2024. https://syrianbritish.org/nuss-report/
[8] التزاماً بالمعايير المهنية والحقوقية، تكتفي “سوريون من أجل الحقيقة والعدالة” بذكر الاسم الأول والحرف الأول من كنية المشتبه بهم، وتؤكد أن الهوية الكاملة موثّقة في قاعدة بياناتها الآمنة.
[9] تكتفي “سوريون من أجل الحقيقة والعدالة” بذكر الاسم الأول والحرف الأول من الكنية، التزاماً بالمعايير المهنية والحقوقية، مع التأكيد على أن الهوية الكاملة موثّقة في قاعدة بياناتها الآمنة.
[10] انظر مثلاً: تقرير المركز السوري للإعلام وحرية التعبير، “الاتحاد الوطني لطلبة سوريا: سيرة من الانتهاكات”، كانون الأول/ديسمبر 2023. https://scm.bz/wp-content/uploads/2023/12/Student-Union-Report-AR-1.pdf
[11] سوريون من أجل الحقيقة والعدالة. “سوريا: قانون لتجريم التعذيب بعد 35 سنة من نفاذ الاتفاقية الدولية لمناهضة التعذيب”، 12 حزيران/يوليو 2022. https://stj-sy.org/ar/%D8%B3%D9%88%D8%B1%D9%8A%D8%A7-%D9%82%D8%A7%D9%86%D9%88%D9%86-%D9%84%D8%AA%D8%AC%D8%B1%D9%8A%D9%85-%D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%B9%D8%B0%D9%8A%D8%A8-%D8%A8%D8%B9%D8%AF-35-%D8%B3%D9%86%D8%A9-%D9%85%D9%86/
[12] اتفاقية الأمم المتحدة لمناهضة التعذيب وغيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة، المادة 1.
[13] المركز الأوروبي للحقوق الدستورية وحقوق الإنسان، Command Responsibility https://www.ecchr.eu/en/glossary/command-responsibility/