الرئيسية صحافة حقوق الإنسان قضية الطفلة “جوى استنبولي” تكشف ثغرات في آليات التحقيقات الجنائية في سوريا

قضية الطفلة “جوى استنبولي” تكشف ثغرات في آليات التحقيقات الجنائية في سوريا

دفعت التناقضات ما بين "التقرير الطبّي الشرعي" و"اعترافات المشتبه به" المتلفزة الرأي العام السوري إلى التشكيك بالرواية الرسمية للحكومة السورية وهوية القاتل وتفاصيل الجريمة

بواسطة communication
295 مشاهدة تحميل كملف PDF هذا المنشور متوفر أيضاً باللغة: الإنجليزية حجم الخط ع ع ع
  1. ملخص تنفيذي:

بتاريخ 14 آب/أغسطس 2022، أعلنت وزارة الداخلية السورية في منشور لها عبر منصة الفيس بوك، عن العثور على جثة الطفلة السورية “جوى استنبولي” مقتولة ومرمية في مكب نفايات حيّ “تل النصر” في مدينة حمص، وقالت الوزارة أنّ والدة الطفلة، التي فُقدت بتاريخ 8 من الشهر ذاته، تعرّفت عليها من خلال ملابسها.

وعزا منشور الوزارة سبب الوفاة إلى “النزف الحاد الناجم عن ضرب الرأس بآلة حادة”، وقال بأنّ الجثة تم تسليمها لأهلها بناء على طلب أحد القضاة (دون تسميته) وأكّدت الوزارة بأنّ التحقيقات مستمرة لكشف ملابسات الجريمة وتوقيف مرتكبيها.

وبتاريخ 20 آب/أغسطس 2022، نشرت وزارة الداخلية منشوراً آخراً حول القضية، أعلنت فيه بأنّ قاتل  الطفلة “جوى استانبولي” أصبح في قبضة فرع الأمن الجنائي بحمص. وقالت الوزارة في منشورها بأنّه: و”من خلال التحقيقات التي أجراها فرع الأمن الجنائي في حمص بجريمة قتل الطفلة جوى وبالبحث والتحري وتتبع الأدلة والقرائن تم التوصل إلى معرفة القاتل وتبين أنه يدعى (مدين الأحمد) وأنّه تم إلقاء القبض عليه بتاريخ 16 آب/أغسطس 2022.

وبالتحقيق معه ومواجهته بالأدلة اعترف بإقدامه على استدراج الطفلة إلى منزله بتاريخ 8 آب/أغسطس 2022، كونه من الجيران والاعتداء عليها وقتلها، ثم قام بوضعها بأكياس قمامة ورميها ليلاً في حاوية القمامة بذات الحي.”

صورة رقم (1) – منشور وزارة الداخلية السورية، الذي تمّ الإعلان فيه عن العثور على جثة الطفلة “جوى استانبولي”.
صورة رقم (2) – منشور وزارة الداخلية السورية الذي تمّ فيه كشف اسم المشتبه به بقتل الطفلة جوى وصورته
  1. ملاحظات أولية حول منشورات وزارة الداخلية المتعلقة بقضية الطفلة:

عادت “سوريون من أجل الحقيقة والعدالة” وتتبعت منشورات وزارة الداخلية السورية خلال الأشهر الستة السابقة لتاريخ نشر صورة وبيانات المشتبه به في قضية “جوى”، ولوحظ بأن الوزارة عادة ما تستخدم الأحرف الأولى للأشخاص المشتبه بهم وتقوم بتصويرهم فوتوغرافياً من الخلف دون إظهار ملامح وجوههم، إلاّ أنه وفي جريمة قتل “جوى”، تمّ عرض صورة كاملة للشخص المشتبه به وسمّته باسمه الحقيقي والكامل “مدين الأحمد” على العلن للناس، مما يثير الشكوك حول رغبة الحكومة السورية في استغلال حادثة القتل للترويج لصالحها أمام الرأي العام السوري لتبيّن بأن السلطات التنفيذية وأجهزتها تتمتع بالكفاءة الجنائية والقدرة على ملاحقة المجرمين وممارسة مهامها بفعالية في المناطق التي تسيطر عليها. (هذا أولاً).

(ثانيا)ً: استخدمت وزارة الداخلية السورية مصطلح قانوني “القاتل” لوصف “مدين الأحمد” في أغلب منشوراتها، حيث أن وصف شخص ما بأنه “قاتل”، يطلق على من يُدان بحكم جزائي مبرم بحناية القتل (وهو ما لم يحدث بعد في حالة مدين). وهو ما يثير التساؤلات مرة أخرى، حول توجه الحكومة السورية بإلصاق صفة القاتل على شخص معين دون اتباع إجراءات محاكمة عادلة ومنصفة.

تعتقد “سوريون من أجل الحقيقة والعدالة” بأنّ الأخطاء التي شابت عملية التحقيق التي قامت بها الحكومة السورية، أثارت شكوكاً واسعة النطاق حول قدرة أجهزة الشرطة والعدالة في سوريا على إظهار الحقيقة وإجراء محاكمات عادلة.

كان المصطلح القانوني الأدق، والذي ينبغي توصيف “مدين الأحمد” هو المشتبه به وذلك على اعتبار أن هذا الوصف يطلق على الشخص الذي ثارت الشكوك بارتكابه جريمة القتل، حتى ولو اعترف بالجريمة أمام الشرطة. وهو بذلك يختلف عن المصطلحات القانونية الأخرى؛ كمصطلح المدعى عليه وهو الذي حركت عليه النيابة العامة الادعاء بارتكابه جناية القتل وكذلك عن مصطلح المتهم الذي هو من صدر بحقه قرار اتهام من قبل قاضي الإحالة أو قاضي التحقيق العسكري بجناية القتل.

  1. اعترافات المشتبه به على التلفزيون الرسمي أججت مشاعر السوريين/ات:

بتاريخ 20 آب/أغسطس 2022، بثت وزارة الداخلية السورية ما قالت بأنّها الاعترافات الكاملة للمشتبه به “مدين الأحمد” وقد اعترف فيها بالتفصيل عن وقائع الجريمة، وقال ما يلي:

 “استدرجتُ الطفلة إلى منزلي واعتديت عليها ثم قتلتها ووضعتها بأكياس قمامة ورميتها في حاوية القمامة.. (…).”

وفي نفس المقابلة، قال العميد “سامر خطّاب” رئيس فرع الأمن الجنائي بحمص، في تصريح نشرته وزارة الداخلية السورية أنّ حادثة الطفلة جوى كان لها “طابع خاص”، حيث تمّ اختطاف طفلة صغيرة من الحي الذي تسكن فيها عائلاتها (حي المهاجرين) دون وجود أي شيء مريب في الحي (غرباء .. سيارة ..)، وقال بأنّه وبرغم البحث والتقصيّ خلال فترة غيابها (حتى فترة العثور على جثتها) فلم يتمّ العثور على أي دليل حول مكان تواجدها.

وأضاف العميد بأنّهم فتشوا أحد البيوت المريبة في الحي، وحصلوا على اسم صاحبه، وعندما قاموا “بتفييشه” تبيّن أنّ له سوابق متعلقة بجرم “ضرب مبرح للأطفال” و “ممارسة الجنس بخلاف الطبيعة”. (دون التحقق من صحّة هذه الاتهامات أساساً).

وأضاف العميد في اللقاء بأنّ فرع الأمن الجنائي قام في اليوم التالي بجلب طبيب شرعي من أجل تفتيش المكان بشكل دقيق، وصرّح العميد سامر بأنّهم وجدوا آثار (لم يُحدد ماهيتها) حول حدوث اعتداء جنسي في ذات المكان. وعلى أساس ذلك تم إلقاء القبض على الشخص الذي كان متواجداً في المنزل، وتم أخذه إلى فرع الأمن الجنائي واعتراف بالتالي:

“بتاريخ 8/8، يوم الاثنين، جيت من الحديقة (حديقة المهاجرين)، اتجهت باتجاه البيت الساعة 7 المسا، طلعت على بيتي لفوق، وطلعت على البرندا.. المحلات كانت فاتحة والولاد بيلعبوا بالحارة، شفت أربع بنات بيلعبوا بالطابة.. اجتني فكرة إنو جيب وحدة من البنات لعندي ع البيت كوني لحالي.. واغتصبها…”. أكمل المشتبه به تفاصيل الحادثة واعتراف بأنّه قام باغتصاب الطفلة لمدّة عشر دقائق قبل أن يقوم بخنقها لاحقاً.

استفزّت الاعترافات (عملية الاغتصاب/الاعتداء الجنسي – كما بثّهتا وزارة الداخلية) مشاعر السوريين، وقد أثارت الاعترافات المصورة وتفاصيل الجريمة من قبل القناة الرسمية التابعة للحكومة السورية حفيظة الرأي العام السوري، بسبب عدم مراعاتها لمشاعر وقيم أهالي الضحية وسكان مدينة حمص، بحسب الآراء المتداولة.

وكنتيجة لبث تلك “الاعترافات المستفزة” بحسب البعض، خرج سكان الحي الذي يقطنه أهل الطفلة “جوى” في حمص، في مظاهرة غاضبة مطالبين بالثأر والإعدام فوراً للمشتبه به دون حاجة للمحاكمة.

وبسبب تحول قضية جوى لقضية رأي عام وحديث السوريين/ات الرسمي، وبغية امتصاص حالة الغليان الشعبي في الشارع السوري بسبب إذاعة المقابلة المصورة للمشتبه به، ظهر وزير الداخلية السوري “محمد الرحمون” وهو يقدم واجب العزاء باسم الرئيس السوري “بشار الأسد” لذوي الطفلة “جوى استانبولي” في منزلهم بحي المهاجرين بحمص.

وبتاريخ 21 آب/أغسطس 2022، نشرت وزارة الداخلية السورية على صفحتها على الفيس بوك مقطع مصور لمقابلة قصيرة مع التلفزيون السوري الرسمي. وقد صرح الوزير “رحمون” بأنه كان هنالك توجه (يرجح أن يكون من قبل الرئيس السوري بشار الأسد) لسرعة كشف ملابسات الجريمة والقاء القبض على الفاعل. كما وقد اعتذر الوزير” رحمون” للسوريين بسبب بث المقابلة كونها احتوت على اعترافات القاتل بطريقة استفزازية للناس، مبرراً ذلك بغية عرض الحقيقة وتعريف الناس بالجاني الذي وصفه بـ”الذئب البشري”.

وقال الوزير بأنّ نقل جثة الطفلة بسيارة قمامة، وبسبب العامل الميكانيكي، تم هرس جثة الطفلة، وتفسخها والرض الكبير، ولم يتمّ الجزم بضرب بآلة حادثة (وقال الوزير بأنّ الطبيب الشرعي بعد أن شاهد وجود جرح في رأس الطفلة قدّر بوجود ضربة على الرأس).

يثير تصريح الوزير الجدل مرة أخرى حول قدرة الطب الشرعي على تحديد سبب الوفاة كون الجثة مهروسة. وبالتالي الصعوبة مرة أخرى في تحديد سبب الوفاة بدقّة.

  1. اعترافات المشتبه به ناقضت التصريح حول تقرير اللجنة الأولية للطبابة الشرعية:

بعد عرض اعترافات المشتبه به “مدين الأحمد” على التلفزيون السوري، اتضح للسوريين/ات حجم التناقض الذي لا لبس فيه، بين ما أدلى به المشتبه به وبين ما ورد في التصريح الأولي حول تقرير اللجنة الأولية للطبابة الشرعية في حمص وذلك وفق لما ورد على لسان مدير الهيئة العامة للطب الشرعي الدكتور زاهر حجو لموقع آثر بريس القريب من الحكومة السورية بتاريخ 21 آب/ أغسطس 2022 ، حيث قال:

“نعتمد كهيئة عامة للطب الشرعي بتصريحاتنا على تقرير الطبيب الكاشف أو اللجنة الفاحصة، في البداية لم يستطع التقرير تأكيد أو نفي وجود اعتداء جنسي، بالإضافة إلى سبب الوفاة، هاتان النقطتان كانتا الخلافيات”.

وأكمل روايته، بالقول:

“عندما تم إخطارنا بالحادث وتقديم اللجنة الطبية تقرير لنا كهيئة عامة للطب الشرعي كان تصريحنا بعدم تأكيد أو نفي وجود اعتداء جنسي بناءً على تقرير اللجنة الأولية التي لم تستطع تأكيد وجود اعتداء جنسي، والسبب عدم قيامها بالتشريح، لو تم تشريح لكان قد اختلف الوضع.”

وفي ذات اليوم، ظهر رئيس الهيئة العامة للطب الشرعي في سوريا الدكتور “زاهر حجو” في مقابلة مع إذاعة شام إف إم، أكد ما ورد في تصريحه لموقع أثر بريس وأعلن فيها استقالة رئيس مركز الطب الشرعي في حمص الدكتور “جورج صليبي”. (والمعروف بمهنيته العالية وبسمعته الحسنة في المهنة لأكثر من 20 سنة – بحسب مصادر قريبة من الحكومة السورية).

 كما صرّح ” زاهر حجو” بأنه قد أتت تلك الاستقالة بسبب ورود أخطاء في تقرير الطب الشرعي الأول والمتعلق بوفاة الطفلة “جوى إستانبولي”، فقال” حجو” في سرديته المتوافقة مع رواية الحكومة السورية، ما يلي:

“إننا كطب شرعي (مؤسسة) نعترف للأسف الشديد بوجود أخطاء في تقرير الطب الشرعي المتعلق بوفاة الطفلة جوى”، وأن التقرير كان فيه أخطاء كبيرة، حيث اشتمل على نقطتين أساسيتين كانتا موضع خلاف، هما سبب الوفاة بالإضافة إلى وجود اعتداء جنسي من عدمه.”

وتابع رئيس هيئة الطب الشرعي في تبريره حول الخطأ الوارد في التقرير الطبي الأول الذي وقع فيه الطبيب جورج بالقول، ما يلي:

“التبس على اللجنة الكسر المتمادي الموجود على الجمجمة، حيث توقعت أن هذا الكسر ناجم عن ضربة على الرأس، وأن هذا سبب الوفاة الى أنه تم استخراج الجثة وتم تشريحها، حيث تم التأكد من وجود اعتداء جنسي، مشيرًا إلى عدم الإعلان عن ذلك في وقت سابق من منطلق سرية التحقيق.”

  1. استنتاجات “سوريون” حول التناقضات الواردة في التقرير الشرعي الأول واعترافات المشتبه به:

من ناحية أولى، إنّ التسرع/العجلة في بث الاعترافات بتلك الطريقة، كان بمثابة عبث بمشاعر وأعصاب السورين/ات، وأوضحت حالة الاستخفاف بالرأي العام للسوريين/ت من قبل السلطات التنفيذية وأجهزتها. وتجلّى ذلك بشكل واضح، من تباين التصريحات لاحقاً حول تقرير الطبيب الشرعي الأول، والمناقض تماماً لاعترافات المشتبه به، ومن ثم استبداله بتقرير لاحق مختلف. تبعها استقالة الطبيب المسؤول عن التقرير الأول.

من ناحية ثانية، تعتقد “سوريون من اجل الحقيقة والعدالة” بأنّ استقالة أو ربما إقالة “الدكتور صليبي” جاءت كنتيجة لحالة تخبط الحكومة السورية والموقف المحرج الذي أوقعت نفسها فيه وزارة الداخلية السوري أامام أهالي الضحية والسوريين بشكل عام فأرادت التملص من مسؤوليتها بإلقاء المسؤولية على كاهل الطبيب “جورج”.

 وعلى ما يبدو أن وزارة الداخلية السورية قررت التدخل في نتائج تقرير الطبيب الشرعي الثاني وكتابته بشكل   متوافق ومتوائم مع سردية الحكومة السورية وليس بغية البحث عن الحقيقة وجلب المتهمين الحقيقيين الى العدالة.

 وما يعزز هذه الفرضية” لسوريون” بأنه من غير المعقول أن يقع الطبيب “جورج صليبي” و المشهود له بالكفاءة والمصداقية والخبرة لأكثر من عقدين من الزمن، بأخطاء بدائية طبية متعلقة بعدم تشريح الجثة ووجود الاعتداء الجنسي من عدمه على المغدورة” جوى”، فبالتالي ما كان من الحكومة السورية إلا أن تدخلت لتغير الوقائع  واستبدلت التقرير الأول بتقرير أخر يتوافق وروايتها.

من ناحية ثالثة، نظراً لوجود تلك التناقضات وسرعة إجراءات القبض على الفاعل وبث اعترافاته وإظهار هويته وملامح وجهه بالكاملة من الممكن أن تقوم الحكومة بإلصاق التهمة بمدين بغية التستر على الفاعلين الحقيقين واغلاق الملف، مع الأخذ بالحسبان، احتمالية بأنّ يكون المشتبه به “مدين الأحمد” هو القاتل الحقيقي.

وأخيراً، تبقى الأسئلة المثارة هنا؛ من يجب علينا أن نصدق؟ تقرير الطبابة الشرعية الأول الذي قال بداية بإن الوفاة وقعت كنتيجة لضرب بآلة حادة على الرأس وتسببت بنزيف، أم اعترافات المشتبه به، الذي قال بأنّه خنق الضحية بخنقها؟ (إذا كانت تلك الاعترافات صحيحة أساساً). وهل أن الطبابة الشرعية عاجزة عن التمييز بين الحالتين وتوضيح ذلك بتقريها الذي نفى وجود اعتداء جنسي على الطفلة بداية؟ بينما قالت اعترافات المتهم أنه قام باغتصابها لمدة 10 دقائق وفض غشاء البكارة.

  1. جدل قانوني حول مدى الحجية القانونية للاعترافات أمام الأمن الجنائي:

من الناحية النظرية، فإن الاعتراف أمام رجال الأمن أو الشرطة لا يقبل كدليل إلا إذا تم تأييدها باعتراف آخر أمام القضاء أو يثبت أن الاعتراف صحيح وينسجم مع الأدلة الأخرى القائمة بحسبان أن المادة 176 من قانون أصول المحاكمات الجزائية السوري رقم 112 لعام 1950 نصت على ما يلي:

 “لا يجوز للقاضي أن يعتمد إلا البينات التي قدمت أثناء المحاكمة وتناقش فيها الخصوم بصورة علنية”.

كما أن الاجتهاد القضائي لم يعط للاعترافات أمام رجال الأمن أو الشرطة القوة في الإثبات إذا لم تقترن بمؤيدات أخرى تساندها وتثبت حقيقة ارتكاب الجرم المنسوب إلى المتهم.[1]

علاوة على ذلك، فإن الاعتراف أمام الضابطة العدلية قانوناً لا قيمة له إلا كمعلومة عادية في الجنايات (م180 أصول جزائية) “لا قيمة للضبوط الأخرى” الا كمعلومات عادية”، أما الاعتراف امام جهة قضائية (محكمة الجنايات مثلاً) فيخضع لتقدير المحكمة كسائر الأدلة (م175 فقرة 1 اصول جزائية).

 وبالتالي لا يمكن أن يبنى حكم جزائي على اعتراف أمام أجهزة الأمن أو الشرطة، ولكن يمكن أن يبنى حكم جزائي على اعتراف قضائي في حال اقتنعت وركنت المحكمة لصحته.

 مع أن الواقع العملي، يظهر أن كثيراً من أحكام الإدانة في الجنايات تُبنى لى الاعترافات الأولية، وتقول المحاكم عادة في هذا السياق عبارتها الشهيرة (وما إنكار المتهم وتراجعه عن أقواله إلا محاولة يائسة منه للتملص من المسؤولية الجزائية). علماً، إن الاعتراف في المسائل الجنائية هو في ذيل الأدلة، بينما الاقرار في المسائل المدنية هو سيد الأدلة ولكن في الواقع العملي فالضبط الفوري بات سيّد الأدلة.

بالإضافة إلى ذلك، فإن المشرع ترك تقدير الأدلّة وقوتها لقناعة القاضي الجزائي التي يجب أن تبنى على أساس الوثائق الموجودة في الملف، ذلك لك عندما قرر المشرع السوري في أحكام “المادة 175 أصول جزائية”، بأن البينة في القضاء الجزائي تقام بكافة طرق الإثبات وأن القاضي يحكم بقناعة الشخصية وله أن يقتنع بأي دليل موجود في ملف الدعوى ويطرح باقي الأدلة شرط ان يعلل.

  1. الإشكاليات القانونية حول نشر صور وأسماء المشتبه بهم:

يرى بعض القانونين بأن نشر المقابلات التلفزيونية وإظهار شخصيات المشتبه بهم وخاصة عند وجودهم لدى الضابطة العدلية، يعد مخالفاً لنص المادة 410 من قانون العقوبات العام السوري والتي حظرت نشر أي وثيقة من وثائق التحقيق الجنائي أو الجنحي قبل تلاوتها في جلسة علنية وبالتالي فإن نشره محظور قبل تلاوته في جلسة علنية.

كما أن المادة 12 من قانون الاعلام لعام 2011، حظرت على الوسائل الاعلامية نشر أي محتوى من شأنه التحريض على ارتكاب الجرائم، أو ما يحظر نشره قانون العقوبات، حيث إن نشر اعترافات المتهم قد تؤجج روح الانتقام تجاهه وبالتالي قد تؤدي إلى إرتكاب جريمة بحقه أو بحق أي من ذويه.

علاوة على ذلك، فإن فرع الأمن الجنائي في حمص قد تسرّع في كشف معلومات عن المتهم إلى العلن رغم غياب النص القانوني الحرفي الذي يمنعه من ذلك، خاصة بأن هذا النوع من الجرائم من الممكن أن يشكل تهديد على سلامة المجتمع وتدفع الناس للثأر من المشتبه به او أحد أفراد عائلته، فكان الأولى رعاية مصلحة المتهم وأهله عملا بالقاعدة (درء المفاسد مقدم على جلب المصالح). إضافة الى أن كشف اسم المتهم من الممكن أن يؤثر على الادلة أو إلى تلفها أو اخفائها من شركائه أو محرضيه للقيام بالجريمة على فرض وجودهم.

ومن وجهة نظر أخرى، يرى فريق آخر من الحقوقيين بأنه من المقبول قانوناً نشر الاعترافات المتلفزة للمشتبه به لقاتل الطفلة من باب الحفاظ على هيبة أجهزة مكافحة الجريمة واستعادة ثقة الناس بها،  ويتم الدفاع عن تلك الحجة بالقول بأنه لا يوجد أي مانع قانوني من هذا النشر في هذه المرحلة من التحقيق الجنائي حيث لم يضع القضاء يده على القضية بعد ليحظر أو يسمح بالنشر، ومن المعلوم أن القضاء يضع يده على الدعوى الحق العام بحق المشتبه به من قبل النائب العام، حيث وأنّه وبمجرد تنظيم محضر الكشف على الجثة، يُحال المحضر إلى مكتب “النائب العام” لاتخاذ الإجراءات اللازمة أصولاً.

تستلزم “عدالة الإجراءات القضائية” امتناع أي جانب عن التأثير أو ممارسة الضغوط أو التخويف أو التدخل بصورة مباشرة أو غير مباشرة أياً كانت الدوافع. فعلى سبيل المثال، إذا تعرض أحد المتهمين إلى مظاهر العداء قد يفضي إلى نتائج مماثلة في التعامل مع الدعاوى المماثلة.[2] ولعلّ الأحكام القانونية المذكورة أعلاه (المادة 410 من قانون العقوبات العام والمادة 12 من قانون الإعلام) ما هي إلا تكريس من المشرّع لمبدأ عدالة الإجراءات القضائية التي ما هي إلا شرط أساسي للحق في المحاكمة العادلة وفقاً للمادة 14 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية. وتعتبر علانية المحاكمة أحد الإجراءات القضائية المطلوبة للمحاكمة العادلة، ولكن ذلك متعلق بجلسات المحكمة وليس بالإجراءات المؤدية لها. حتى على صعيد جلسات المحكمة، تتمتع المحاكم بصلاحية استبعاد الجمهور لأسباب تتعلق بالآداب العامة أو النظام العام أو الأمن القومي في مجتمع ديموقراطي، أو لمقتضيات حرمة الحياة الخاصة لأطراف الدعوى.[3]

وفي هذا التوجه أخذ بعين الاعتبار لمصلحة العدالة أولاً، ومصلحة الضحايا ثانياً، وهو الأمر الذي قد ينطبق بشكل دقيق على حالة الطفلة “جوى” وعائلتها، التي تقتضي مصلحتهم الفضلى في كشف الحقيقة ومحاسبة الجناة الحقيقيين وتحقيق العدالة لهم، وليس توظيف ما تعرضوا له بشكل علني قبل الوصول لمرحلة المحاكمة لتحقيق ما يبدو أنه مصالح سياسية أو لأطراف مباشرين أو غير مباشرين في القضية.

وربطاً بواجب منع التأثير على الإجراءات القضائية، يعتبر افتراض البراءة بحق المتهم بارتكاب جريمة شرط أساسي لحماية حقوق الإنسان. ومن واجب السلطات في سياق الالتزام بهذا المبدأ الامتناع عن إصدار أحكام مسبقة عن محاكمة ما، ومن ذلك الامتناع عن الإدلاء بتصريحات عامة تؤكد إدانة المتهم.[4] وكي تتم ترجمة “افتراض البراءة” وعدم إصدار الأحكام المسبقة والتعامل مع المتهم على أساسها، تفرض الفقرة 3 (ب) من المادة 14 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية أن يعطى المتهم ما يكفيهم من الوقت والتسهيلات لإعداد دفاعهم وللاتصال بمحاميهم. إن الفترة الزمنية ما بين إعلان السلطات عن اكتشاف الجريمة في 14 آب/أغسطس 2022 وبثّ ما اعتبرته “اعترافات” في 20 من الشهر ذاته لا يمكن بأي حال من الأحوال اعتباره وقتاً وتسهيلات كافية للمتهم الذي تم إصدار حكم مسبق بحده من سلطة غير قضائية.

وترى “سوريون” بأن الرأي الأول القائل بوجوب عدم النشر قبل صدور حكم قضائي مبرم هو الأقرب للصواب، لأن القول بغير ذلك قد يؤدي لنتائج لا تحمد عقباها ولا يمكن تداركها مستقبلاً، ولا سيما تلك المتعلقة بإمكانية ضياع الأدلة، لأن القاعدة القانونية يجب أن تكون مجردة وعامة، أي تطبق على الجميع وفي كل الحالات، إلا ما يستثنى منها بنصّ خاص.


[1] دعوى رقم /49/ أساس /56/ تاريخ  9  حزيران/يونيو1985. مجـلة الـمحامون. عام 1987 صفحة 1146 قضاء الـمحاكم.

[2] أنظر على سبيل المثال: لجنة الأمم المتحدة المعنية بحقوق الإنسان، التعليق العام رقم 32: المادة 14 – الحق في المساواة أمام المحاكم والهيئات القضائية وفي محاكمة عادلة، 23 آب/أغسطس 2007، CCPR/C/GC/32، الفقرة 25.

[3] المصدر السابق، الفقرة ٢٩.

[4] المصدر السابق، الفقرة ٣٠.

منشورات ذات صلة

اترك تعليقاً

* By using this form you agree with the storage and handling of your data by this website.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك عدم المشاركة إذا كنت ترغب في ذلك. موافق إقرأ المزيد