“كيف حدث هذا؟ ماذا فعلنا حتى نُعاقب بهذا الألم؟ لماذا يجب أن نعيش في حالة من الخوف والفقدان؟ كيف سأعيش دون دعاء؟”.
بهذه الكلمات تساءل خالد الجبل، بعد أن فقدت ابنته دعاء حياتها، وأصيبت شقيقتها التوأم إسراء بجروحٍ بليغة، إثر انفجار شاحنة (سوزوكي) مفخخة عند مرور سيارتهما بجانبها، والتي كانت تقلهما وأكثر من 30 مزارعة (فلّاحات بالمياومة)، إلى مكان عملهم بمنطقة العسلية، في مدينة منبج بريف حلب الشرقي صباح الـ3 من شباط/فبراير 2025.
أدى انفجار السيارة المفخخة التي ركنت على جانب الاتستراد الرئيسي في مدينة منبج إلى مقتل 22 مدنياً، وهم 21 أمرأة ورجل واحد سائق الشاحنة الزراعية (بيك آب) التي كانت تقل المزارعات، وفقاً للطبيب أمين المشهد، العامل بمشفى منبج الوطني، المعروف بمشفى الفرات، والذي استقبل ضحايا التفجير.
قال الطبيب أن المشفى استقبل 17 جثة و16 جريحاً يوم الحادثة، وأن عدد الضحايا أخذ بالأرتفاع لاحقاً، بسبب الإصابات البليغة.[1]
وقد وصف الانفجار بأنه “الأكثر دموية” في سلسلة من الانفجارات المشابهة في منبج؛ حيث شهدت المدينة سبعة انفجارات لسيارات مفخخة منذ أن سيطرت عليها فصائل من “الجيش الوطني السوري” (الجيش الوطني المعارض) المدعوم من تركيا بتاريخ 6 كانون الأول/ديسمبر2024، بإطار عملية “فجر الحرية” التي أطلقتها بتاريخ 30 تشرين الثاني/نوفمبر 2024، ضد “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد)، والتي سيطرت على المدينة منذ عام 2016.
وخلال فترة التفجيرات تلك كانت لا تزال فصائل “الجيش الوطني” مسيطرة على المدينة عسكرياً إلى جانب وجود إدارة مدنية، وتقوم مع “الشرطة العسكرية” التابعة للجيش بنشر حواجز ليلاً، فيما دخلتها “إدارة الأمن العام”، التابعة للحكومة السورية الانتقالية، فقط خلال زيارة محافظ حلب إليها بتاريخ 26 كانون الثاني/يناير 2025، وخرجت بعدها، بحسب ما نقله موقع “عنب بلدي” الإعلامي عن سكان محليين.
في بيانٍ على “تلغرام”، أدانت “رئاسة الجمهورية السورية” الانفجار ووصفته بـ”الإرهابي الغادر”، قائلةً “أنها لن تتوانى في ملاحقة ومحاسبة المتورطين في هذا العمل الإجرامي“، فيما تبقى هوية الجهة الضالعة بالانفجارات مجهولة، وسط تبادلٍ للاتهامات ما بين فصائل “الجيش الوطني” و”قسد”، مع استمرار معاركهما للسيطرة على “سد تشرين” شمال شرق منبج، وسقوط ضحايا مدنيين، في هجمات لمسيرات تركية على السد.
في صفحتها على “فسيبوك”، أدانت “قسد” التفجير الأخير ونفت مسؤولية قواتها عنه، قائلةً أن “ثقافة المفخخات والاقتتال الداخلي والإرهاب والفوضى والفتنة هي جزء أصيل من أفعال الفصائل المرتزقة التابعة لتركيا” في إشارة لفصائل “الجيش الوطني”، مضيفةً أن التفجيرات “استراتيجية ثابتة يتبعها هؤلاء لترويع الأهالي ومنعهم من الاحتجاج على الأوضاع السيئة التي تعيشها منبج من قضايا سرقة ونهب واغتصاب تمارسها عناصر تلك الفصائل“.
يذكر أن منبج، شهدت تصاعداً في انتهاكات حقوق الإنسان على يد عناصر من “الجيش الوطني” بعد سيطرتها على المدينة، شملت الإعدامات الميدانية، الاعتقالات التعسفية، التعذيب، ونهب الممتلكات، مما شكل دافعاً لنزوح السكان منها، وفقاً لتقارير حقوقية وإعلامية عدة.
تواصلت “سوريون من أجل الحقيقة والعدالة” (سوريون)، مع ذوي عددٍ من النساء اللاتي فقدن حياتهن في التفجير، وكانت جميعهن تعشن في مخيم “الرسم الأخضر” للنازحين داخلياً، الذي يفتقر للدعم ولا يوفر لقاطنيه أساسيات الحياة.
وكانت من بين من التقتهن “سوريون”، الطفلة إسراء الجبل، ناجية من التفجير وتوأم الضحية دعاء الجبل، وبلغت كلتاهما من العمر 17 عاماً فقط. قالت إسراء أن الانفجار حدث في الساعة السادسة والربع صباحاً،[2] فيما كانت متوجهةً، مع دعاء وباقي العاملات في السيارة إلى الأرض الزراعية للعمل:
“كنا نضحك ونتبادل الأحاديث حينما وقع التفجير بشكل مفاجئ. أتذكر الصوت العنيف للإنفجار. وكأنني فقدت الوعي على الفور. وعندما استفقت، وجدت نفسي بجانب السيارة التي كانت تحترق والنيران تلتهمها. كانت ملابسي مشتعلة، وكان جسدي مغطى بالدماء والأشلاء، والمشهد كان مرعباً بشكل لا يمكن وصفه.”.
وفيما لا يزال جسدها متألماً من الإصابات، أضافت إسراء، “المشاهد المرعبة تلاحقني في كل لحظة. أحياناً، لا أستطيع النوم من هول الصدمة“.
بعد الانفجار، لم تتمكن إسراء من إيجاد أختها دعاء وسط الدمار والفوضى، فاستقلت سيارة إلى مخيم “الرسم الأخضر” في منبج حيث تعيش عائلتها، لتنقل الخبر إلى والدها، خالد الجبل،[3] والذي قال:
“كنت في حالة من الذهول، تركت إسراء المذعورة والمرعوبة وركضت إلى مكان التفجير. وصلنا إلى الموقع بعد ساعات من البحث، لكن ما وجدته كان ناراً مشتعلة وأرضاً ملطخة بالدماء، ولم أتمكن من العثور على أي شخص. المكان كان مغطى بالحطام، وكان من المستحيل أن أتصور ما جرى”.
قال خالد أنه وجد دعاء جثةً هادة على سريرٍ في “مشفى منبج الوطني” بعد رحلة بحثٍ طويلة، مضيفاً أن أكثر ما يؤلمه: “أنني لا أستطيع تقديم العدالة لدماء ابنتي”.
بدوره، علم محمد المحمود عن الانفجار من إحدى العاملات الناجيات، عمرها 14 عاماً، كانت قد سارعت إلى مخيم “رسم الأخضر” لتخبر عائلات الضحايا عما حدث، ليهرع مباشرةً إلى مكان الإنفجار، والذي وصفه بأنه كان “مليئاً بالدخان والنيران”.[4]
وبعد رحلة بحثٍ طويلة أيضاً، وجد محمد ابنته نهود، والتي بلغت من العمر 34 عاماً، في المشفى الوطني وكانت قد توفيت إثر إصاباتٍ بليغة، قائلاً: “نهود كانت مطلقة وأم لطفلة صغيرة، وكانت تعمل في الأرض الزراعية لإعالة نفسها وابنتها. كانت تتقاضى أجراً يومياً قدره دولارين فقط، لكنها كانت تسعى بكل جهدها لتحسين حياتها وحياة طفلتها“.
فيما قال جمال خليف أن قريبه فقد كل من زوجته مريم القداح، وعمرها 29 عاماً وأم لأربعة أطفال، وابنة شقيقه جواهر ا.، وعمرها 15 عاماً، والتي كانت تعتني بإخوتها الخمسة، لا تتجاوز أعمارهم 13 عاماً، بعد أن قتل والدهم بقصف روسي استهدف مدينة إدلب عام 2015 وتركتهم والدتهم، قائلاً:[5]
كانت تذهب (جواهر) مع وزجة قريبي إلى الأراضي الزراعية للعمل بأجر يومي لا يتجاوز الدولارين، ورغم صغر سنها، اضطرت للعمل بسبب الظروف المعيشية الصعبة التي يواجهونها. … وكانت جواهر بمثابة الأم (لإخواتها)، تعمل لتأمين لقمة العيش لهم … وكان عملها الشاق هو الوحيد الذي مكنهم من تدبير أمورهم المعيشية. الظروف القاسية في المخيم وفي المنطقة بشكل عام، جعلتها تتحمل عبئاً أكبر من عمرها”.
حمل مصدر عسكري في صفوف “الجيش الوطني” بمدينة منبج،[6] مسؤولية التفجير لـ”قسد”، قائلاً:
“في صباح ذلك اليوم، حاول عنصر من قسد إدخال سيارة سوزوكي صغيرة محملة بالمتفجرات إلى عمق المدينة، لكنه فشل بسبب تشديد الحواجز الأمنية، فاضطر إلى تركها على الطريق الدولي M4 شرق دوار المطاحن، مترصداً اللحظة المناسبة لتفجيرها… المنفذ تمكن من الفرار باتجاه مدينة الرقة، بعد أن ارتكب هذه المجزرة بحق أناس أبرياء يبحثون عن لقمة العيش”.
وأضاف أن “الإدارة العسكرية في منبج”، التي شكلت من قبل أمنيين وعسكريين من أبناء المدينة بعد السيطرة عليها، كانت قد نشرت الحواجز على مداخل ومخارج المدينة وضمن الأحياء لمنع الخروقات الأمنية، وأنها:
“تعتمد على نظام أمني مشدد، يقوم على التواصل السريع عبر مجموعة واتساب تضم ممثلين من جميع أحياء المدينة، وبمجرد الإبلاغ عن أي جسم مشبوه أو سيارة غريبة، تقوم الإدارة بإغلاق الطرق إلى المنطقة المعنية، الاستعانة بالكلاب المدربة لكشف المتفجرات، واستدعاء فريق الهندسة المختص للتعامل مع التهديدات المحتملة”.
ولكن تتناقض بعض التفاصيل الواردة في إفادة المصدر العسكري، مع معلوماتٍ جمعتها “سوريون” من سكان في “حي الأسدية” القريب من الاتستراد حيث وقع الانفجار، والذين أكدوا أن السيارة المنفجرة كانت مركونة في الموقع قبل يوم من تاريخ الانفجار، وكذلك مع ما ذكره جمال، الذي حمل مسؤولية الحادث للجهات الأمنية المعنية،[7] “التي لم تتعامل مع بلاغات الأهالي بالجدية اللازمة”، موضحاً:
“قام الأهالي بإبلاغ الجهات المختصة عدة مرات عن وجود (السيارة المنفجرة) والاشتباه بها، لكن للأسف لم يكن هناك أي استجابة تُذكر من الجهات المعنية. عند اقتراب سيارة العاملات من الموقع، كانت هناك عدة سيارات أخرى تسير على الطريق وتجاوزت السيارة المشبوهة دون أن يحدث أي شيء يُذكر، مما أعطى انطباعاً مؤقتاً بأن الأمور طبيعية. لكن المأساة وقعت عندما وصلت سيارة العاملات بمحاذاة السيارة المريبة، حيث وقع الانفجار فجأة، مما أدى إلى سقوط عدد كبير من الضحايا بين صفوف العاملات”.
قامت “سوريون” بدمج أربع صور في صورة واحدة: تمّ تحديد موقع الانفجار على الخريطة من خلال ربط الخارطة بصور حيّة. بالإضافة إلى موقع الانفجار بالصورة الحية – الصورة رقم 3 – وصورة السيارة المنفجرة بعد الانفجار الصورة رقم 1 – وصورة سارة المزارعات بعد الانفجار – الصورة رقم 2)
صورة أخرى تُظهر خارطة السيطرة في شمال سوريا أثناء الانفجار.
من الجدير بالذكر، أن الحالة الأمنية والحقوقية المتردية “جعلت الحياة في منبج شديدة الصعوبة”، إذ يقول موسى الصالح،[8] أحد سكان المدينة:
“أخاف من المرور بجانب أي سيارة تتجول في شوارع منبج، فالجميع هنا يشعر بالخوف والريبة. هناك حالة من الترقب في عيون الناس، وأغلب المحال التجارية مغلقة، والكل يعيش في حالة من الانزعاج الدائم بسبب الخوف”.
وأضاف أن الأزمة في منبج لا تقتصر على التفجيرات والتهديدات الأمنية فقط، بل تشمل أيضاً تدهوراً كبيراً في الخدمات الأساسية، فقد انقطعت المياه والكهرباء عن المدينة منذ حوالي شهرين، بسبب القتال المستمر والقصف العنيف في محيط سد تشرين. حيث توقف السد عن العمل منذ الـ10 من كانون الأول/ديسمبر 2024، ما يحرم قرابة 413 ألف شخص من المياه والكهرباء في منطقتي منبج وكوباني، من خدمات الماء والكهرباء.
[1] مقابلة عبر الإنترنت بتاريخ 10 شباط/فبراير 2025.
[2] مقابلة عبر الإنترنت بتاريخ 13 شباط/فبراير 2025.
[3] مقابلة عبر الإنترنت بتاريخ 13 شباط/فبراير 2025.
[4] مقابلة عبر الإنترنت بتاريخ 9 شباط/فبراير 2025.
[5] مقابلة عبر الإنترنت بتاريخ 13 شباط/فبراير 2025.
[6]اسم مستعار بناء على طلب المصدر، خلال مقابلة عبر الإنترنت بتاريخ 13 شباط/فبراير 2025.
[7] اسم مستعار بناء على طلب المصدر، خلال مقابلة ثانية عبر الإنترنت بتاريخ 10 شباط/فبراير 2025.
[8] مقابلة عبر الإنترنت بتاريخ 8 شباط/فبراير 2025.