1. مقدمة
في بداية العام الجاري وتحديداً بتاريخ 27 كانون الثاني/يناير 2023، نشرت منظمة حظر الأسلحة الكيميائية[1] التقرير الثالث[2] لفريق “التحقيق وتحديد الهوية”[3] والذي حمل رقم S/2125/2023.
ركّز هذا التقرير على استخدام قوات الحكومة السورية للسلاح الكيميائي في مدينة دوما بتاريخ 7 نيسان/أبريل 2018، وعرضت فيه منظمة حظر الأسلحة الكيميائية نتائج التحقيقات التي أجرتها في الفترة الواقعة ما بين كانون الثاني/يناير 2021 وكانون الأول/ديسمبر 2022.
خلص التقرير إلى وجود “أسباب معقولة” للاعتقاد أنه بين الساعة 19:10 و19:40 (التوقيت العالمي UTC) من يوم 7 نيسان/أبريل 2018، وأثناء هجوم عسكري كبير لاستعادة السيطرة على مدينة دوما، أسقطت طائرة مروحية واحدة -على الأقل- من طراز Mi-8/17 تابعة لسلاح الجو السوري (أقلعت من قاعدة الضمير الجوية، وتعمل تحت سيطرة قوات النمر) أسطوانتين صفراوي اللون أصابتا مبنيين سكنيين وسط المدينة.
بحسب ما جاء في التقرير المذكور، فقد اصطدمت الأسطوانة الأولى بأرضية سطح مبنى سكني مكون من ثلاثة طوابق دون أن تخترقه بالكامل، وأطلقت غاز الكلور بتركيز عالٍ جداً، انتشر بسرعة في المبنى وقتل 43 شخصاً وألحق الأذى بالعشرات غيرهم. أما الأسطوانة الثانية فقد اصطدمت بسطح مبنى سكني غير مأهول، وأطلقت غاز الكلور ببطء، مما أثر بشكل طفيف على من وصلوا أولاً إلى موقع الحادثة.
أما عن طريقة عمل فريق التحقيق على التقرير، فقد أكدت المنظمة قيام الفريق بمراجعة أكثر من تسعة عشر ألف ملف (أكثر من 1.86 تيرابايت)، وبالحصول على ستٍ وستين إفادة شهود، ودراسة بيانات تتعلق بـ 70 عينة. هذا وبحسب التقرير، فقد وصل الفريق لنتائجه بعد أن قام بتقييم المعلومات التي حصل عليها من بعثة تقصي الحقائق التابعة لمنظمة حظر الأسلحة الكيميائية في سوريا،[4] ومن الدول الأطراف، إلى جانب المقابلات التي أجراها فريق التحقيق، وتحليل العينات، ومخلفات الذخيرة، ونماذج انتشار الغاز، وتجارب إسقاط الأسطوانات، وتصاميم الكمبيوتر، وصور الأقمار الصناعية، وصور ومقاطع الفيديو والصور الموثقة، بالإضافة إلى استشارة الخبراء والمتخصصين ومعاهد الطب الشرعي.
وتجدر الإشارة إلى أنه عند حدوث الهجوم على دوما، قامت منظمة “سوريون” وغيرها من المنظمات الحقوقية بإرسال باحثيها الميدانيين إلى موقع الهجوم لتوثيقه،[5] كما نشرت المنظمات بياناً مشتركاً وجهته للأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريس، تحثه فيه على الدفاع عن المدنيين في كل مكان من خلال تفعيل آلية مستقلة للأمم المتحدة تحدد المسؤولين عن الهجمات الكيميائية في سوريا، ومنها هجوم يوم 7 نيسان/أبريل 2018.[6]
2. حملة عنيفة على الغوطة الشرقية ومحاولات لطمس الحقائق:
تمكنت قوات الحكومة السورية وحلفاؤها من السيطرة على كامل الغوطة الشرقية عقب حملة عسكرية عنيفة شنتها الحكومة على مدن وبلدات الغوطة الشرقية، ومنها مدينة دوما المذكورة بتقرير منظمة حظر الأسلحة الكيميائية، وذلك بدءاً من تاريخ 18 شباط/فبراير 2018 حتى تاريخ 8 نيسان/أبريل 2018.
جاء ذلك عقب التوصل إلى اتفاق مع جيش الإسلام في مدينة دوما في اليوم ذاته، نص على إخراج مسلحي جيش الإسلام عن جميع المحتجزين لديهم، مقابل السماح لهم بالخروج مع أهاليهم غير الراغبين بالتسوية إلى شمال البلاد. وبحسب ما وثقته “سوريون”، كان قد سبق هذا الاتفاق توقيع عدة اتفاقيات مع فصائل المعارضة المسلّحة هناك.[7] وكانت “سوريون” قد أعدت تقريراً مفصلاً عن المجازر التي ارتكبت من قبل القوات الحكومية السورية في الغوطة الشرقية خلال هذه الحملة العسكرية.[8]
وفي منتصف شهر حزيران/يونيو 2018، قامت قوات الحكومة بعملية تجريف لمقبرة “السنديانة” في مدينة دوما، بسبب احتواء المقبرة على بعض رفات ضحايا الهجوم الكيميائي الذي وقع على المدينة بتاريخ 7 نيسان/أبريل 2018. وكانت “سوريون” قد نشرت تقريراً سابقاً عن هذه الواقعة، ذكرت فيه أن العديد من الشهود والمصادر الذين قابلتهم أكدوا قيام عناصر من القوات الحكومية السورية بنقل بعض الجثث من المقبرة إلى مكان مجهول، وأن عملية التجريف استمرت حتى تاريخ 20 تموز/يوليو 2018، في محاولة من الحكومة لطمس أي أدلة قد تشير إلى استخدامها للمواد الكيميائية في هذا الهجوم.[9]
3. وثقت المنظمات السورية تكرار الحكومة للهجمات الكيميائية خلال سنوات النزاع:
تقوم “سوريون” وغيرها من منظمات المجتمع المدني والمنظمات الحقوقية السورية بتوثيق الهجمات الكيميائية على مدن سوريا منذ عام 2012، وتتعاون مع منظمة حظر الأسلحة الكيميائية من أجل كشف الحقيقة ومحاسبة الفاعلين وإنصاف الضحايا. وبناءاً على ما تم توثيقه، فقد تعرض السوريون لـ 222 هجوم كيميائي على الأقل، منها 217 ارتكبته الحكومة السورية،[10] كان أولها في 23 كانون الأول/ديسمبر 2012 حيث قتل سبعة أشخاص في حمص.[11]
وبالعودة إلى الغوطة الشرقية عام 2018، فلا بد من الإشارة إلى أن قوات الحكومة السورية كررت قصف مدن الغوطة الشرقية مراراً خلال ذلك العام،[12] وبحسب ما وثقته “سوريون” فقد جاء الهجوم الكيميائي الأول في ذلك العام في صبيحة يوم السبت الموافق 13 كانون الثاني/يناير، حيث تعرضت المنطقة ما بين مدينتي دوما وحرستا إلى عدة صواريخ محملة بمواد كيميائية يُعتقد أنها غاز الكلور. ورغم أن مكان الهجوم كان أقرب لمدينة حرستا منه إلى مدينة دوما (التي يركز عليها تقرير منظمة حظر الأسلحة الكيميائية) إلا أن هبوب الرياح باتجاه الشمال-الشرقي حمل هذه الغازات باتجاه مدينة دوما، ما تسبب بحالات اختناق في صفوف المدنيين.[13] أصدر حينها المجلس المحلي في المدينة بياناً أدان فيه الهجوم وطالب المجتمع الدولي بتحمل مسؤولياته.[14]
ولا بد من الإشارة أخيراً إلى أن استخدام الأسلحة الكيميائية محظور في العالم منذ عام 1925 حين منع بروتوكول جنيف استخدام هذه الأسلحة في الحروب.[15] ثم اعتمد مؤتمر نزع السلاح اتفاقية الأسلحة الكيميائية في جنيف في 3 أيلول/سبتمبر 1992،[16] وفتح باب التوقيع على الاتفاقية في باريس في 13 كانون الثاني/يناير 1993، ولكن لم يبدأ نفاذها حتى تاريخ 29 نيسان/أبريل 1997، وأنشئت حينها رسمياً منظمة حظر الأسلحة الكيميائية. انضم إلى هذه الاتفاقية حتى الآن 193 دولة طرف، منها سوريا التي انضمت في 14 أيلول/سبتمبر عام 2013.[17]
4. توصيات:
بالنظر إلى أن سوريا دولة طرف في اتفاقية جنيف لحظر استحداث وإنتاج وتخزين واستعمال الأسلحة الكيميائية وتدمير تلك الأسلحة، فإنها تعتبر ملزمة بكل الالتزامات التي تفرضها هذه الاتفاقية، ومنها الالتزام بالامتناع عن حيازة الأسلحة الكيميائية واستعمالها،[18]
وبما أن تقرير منظمة حظر الأسلحة الكيميائية، المشار إليه في هذه الورقة، قد أثبت استخدام الحكومة السورية للسلاح الكيميائي في حادثة واحدة على الأقل، فإن “سوريون” تدعو المجلس التنفيذي للمنظمة[19] لاتخاذ الإجراءات التي تفرضها اتفاقية حظر الأسلحة الكيميائية، حيث تنص المادة الثامنة منها أنه على المجلس المذكور أن ينظر في أية قضية أو مسألة تقع ضمن اختصاصه وتؤثر على الاتفاقية وتنفيذها، بما في ذلك أوجه القلق المتعلقة بالامتثال، وحالات عدم الامتثال.
كذلك يتوجب على المجلس بحسب الاتفاقية أن يقوم حسب الاقتضاء بإبلاغ الدول الأطراف وعرض القضية أو المسألة على المؤتمر.[20] أما في حالات الخطورة الشديدة والضرورة العاجلة فيتوجب عليه عرض القضية مباشرة، بما في ذلك المعلومات والاستنتاجات المتصلة بالموضوع، على الجمعية العامة ومجلس الأمن التابعين للأمم المتحدة، ويقوم في الوقت نفسه بإبلاغ جميع الدول الأطراف بهذه الخطوة،[21] وهو ما ينطبق على حالة سوريا.
كذلك تدعو “سوريون” المنظمات المتخصصة في مجال حقوق الإنسان، المحلية والدولية، ولا سيما العاملة في الشأن السوري، إلى مخاطبة المجتمع الدولي، دولاً ومنظمات، ولا سيما الدول الأعضاء حالياً في المجلس التنفيذي لمنظمة حظر الأسلحة الكيميائية، للقيام بالمهام الملقاة على كاهلها في هذا الصدد، وعلى الأخص تلك الواردة في المادة الثامنة من الاتفاقية، والمذكورة آنفاً، بهدف الوصول للعدالة ومحاسبة المسؤولين عن جريمة استخدام السلاح الكيميائي في دوما 7 نيسان 2018، وتأمين انصاف الضحايا وجبر الضرر.
[1] منظمة حظر الأسلحة الكيميائية. (آخر زيارة للرابط 16 شباط/فبراير 2023). https://www.opcw.org/ar
[2] التقرير الثالث لفريق التحقيق وتحديد الهوية التابع لمنظمة حظر الأسلحة الكيميائية “التصدي للتهديد الناجم عن استخدام الأسلحة الكيميائية” في دوما (الجمهورية العربية السورية) في 7 نيسان/أبريل 2018. S/2125/2023 (باللغة الانكليزية). 27 كانون الثاني/يناير 2023. (آخر زيارة للرابط 16 شباط/فبراير 2023).
https://www.opcw.org/sites/default/files/documents/2023/01/s-2125-2023%28e%29.pdf
[3] أنشأ مدير عام الأمانة الفنية لمنظمة حظر الأسلحة الكيميائية فريق التحقيق وتحديد الهوية (IIT) عملاً بالقرار الصادر عن مؤتمر الدول الأطراف بعنوان “التصدي للتهديد الناجم عن استخدام الأسلحة الكيميائية” (C-SS-4/DEC.3) بتاريخ 27 حزيران/يونيو 2018). بدأ الفريق العامل الدولي عمله في حزيران/يونيو 2019، وركز على بعض الحوادث التي قررت بعثة تقصي الحقائق التابعة لمنظمة حظر الأسلحة الكيميائية في سوريا (FFM) حدوث استخدام أو احتمال استخدام أسلحة كيميائية فيها. لا تعتبر IIT هيئة قضائية لها سلطة تحديد المسؤولية الجنائية الفردية، ولا تتمتع IIT بسلطة تقديم النتائج النهائية لعدم الامتثال للاتفاقية. تتمثل مهمة IIT في إثبات الحقائق
[4] تقرير بعثة تقصي الحقائق بشأن حادثة الاستخدام المزعوم للمواد الكيميائية السامة كأسلحة في دوما (الجمهورية العربية السورية) في 7 أبريل 2018. S/1731/2019. (باللغة الانكليزية). 1 آذار/مارس 2019.
https://www.opcw.org/sites/default/files/documents/2019/03/s-1731-2019%28e%29.pdf
[5] سوريا: منظمة حظر الأسلحة الكيميائية تؤكد صحة النتائج حول استخدام الأسلحة الكيميائية في مدينة دوما. سوريون من أجل الحقيقة والعدالة. 29 آذار/مارس 2019. (آخر زيارة للرابط 16 شباط/فبراير 2023) https://stj-sy.org/ar/1235/
[6] على الأمين العام للأمم المتحدة تفعيل آلية مستقلة لتحديد المسؤول عن الهجمات الكيميائية في سوريا. سوريون من أجل الحقيقة والعدالة. 15 نيسان/أبريل 2018. (آخر زيارة للرابط 16 شباط/فبراير 2023). https://stj-sy.org/ar/502/
[7] هجمات عنيفة بمواد حارقة على دوما في يومي 22 و23 آذار/مارس 2018. سوريون من أجل الحقيقة والعدالة. 17 نيسان/أبريل 2018. (آخر زيارة للرابط 16 شباط/فبراير 2023). https://stj-sy.org/ar/504/
[8] لم يسبق لها مثيل. سوريون من أجل الحقيقة والعدالة. 28 حزيران/يونيو 2018. (آخر زيارة للرابط 16 شباط/فبراير 2023). https://stj-sy.org/ar/608/
[9] تجريف “مقبرة السنديانة” في دوما يزيد المخاوف من احتمالات طمس أدلة استخدام المواد الكيميائية. سوريون من أجل الحقيقة والعدالة. 6 أيلول/سبتمبر 2018. (آخر زيارة للرابط 16 شباط/فبراير 2023). https://stj-sy.org/ar/724/
[10] هجمات خان شيخون ودوما الكيميائية التي نفذها النظام السوري ما زالت دون محاسبة منذ خمس سنوات. الشبكة السورية لحقوق الإنسان. 7 نيسان/أبريل 2022. (آخر زيارة للرابط 16 شباط/فبراير 2023). https://snhr.org/arabic/wp-content/uploads/sites/2/2022/04/R220409A-1.pdf
[11] نهج الحرب الكيميائية لدى النظام السوري. توبياس شنايدر وتيريزا لوتكيفيند. المعهد الدولي للدراسات العامة. نيسان/أبريل 2020. (آخر زيارة للرابط 16 شباط/فبراير 2023). https://chemicalweapons.gppi.net/analysis/introduction/ar/
[12] انظر (على سبيل المثال لا الحصر): القوات السورية تعاود استخدام الغازات السامة في الغوطة الشرقية للمرة الخامسة على التوالي خلال العام 2018. سوريون من أجل الحقيقة والعدالة. 10 نيسان/أبريل 2018. (آخر زيارة للرابط 16 شباط/فبراير 2023) https://stj-sy.org/ar/498/؛
هجمات متكررة بواسطة الأسلحة الحارقة والذخائر العنقودية والمواد الكيميائية في الغوطة الشرقية. سوريون من أجل الحقيقة والعدالة. 26 آذار/مارس 2018. (آخر زيارة للرابط 16 شباط/فبراير 2023). https://stj-sy.org/ar/476/؛
القوّات السوريّة تقصف الغوطة الشرقيّة بمواد كيميائيّة للمرة الرابعة على التوالي منذ بداية العام 2018. سوريون من أجل الحقيقة والعدالة. 15 آذار/مارس 2018. (آخر زيارة للرابط 16 شباط/فبراير 2023) https://stj-sy.org/ar/464/
[13] تعرّض ست مدنيين لمواد سامّة في الغوطة الشرقية – ريف دمشق. سوريون من أجل الحقيقة والعدالة. 21 كانون الثاني/يناير 2018. (آخر زيارة للرابط 16 شباط/فبراير 2023). https://stj-sy.org/ar/392/
[14] المرجع السابق.
[15] بروتوكول بشأن حظر استعمال الغازات الخانقة والسامة أو ما شابهها والوسائل الجرثومية في الحرب. اللجنة الدولية للصليب الأحمر. (آخر زيارة للرابط 16 شباط/فبراير 2023). https://www.icrc.org/ar/doc/resources/documents/misc/62tcuk.htm
[16] اتفاقية حظر الأسلحة الكيميائية. منظمة حظر الأسلحة الكيميائية. (آخر زيارة للرابط 16 شباط/فبراير 2023). https://www.opcw.org/ar/atfaqyt-hzr-alaslht-alkymayyt
[17] وثائق الأمم المتحدة UNTC. (آخر زيارة للرابط 16 شباط/فبراير 2023). https://treaties.un.org/pages/ViewDetails.aspx?src=TREATY&mtdsg_no=XXVI-3&chapter=26
[18] المادة رقم 1.
[19] يتكون المجلس التنفيذي من 41 دولة عضواً في منظمة حظر الأسلحة الكيميائية ينتخبها مؤتمر الدول الأطراف كل سنتين بالتناوب. يشرف المجلس على أنشطة الأمانة الفنية وهو مسؤول عن تعزيز التنفيذ الفعال للاتفاقية والامتثال لها. انظر موقع منظمة حظر الأسلحة الكيميائية. (آخر زيارة للرابط 16 شباط/فبراير 2023). https://www.opcw.org/ar/mn-nhn/almjls-altnfydhy
[20] المادة رقم 8 الفقرة 35.
[21] المادة رقم 8 الفقرة 36.