خلفية: رغم مرور عدة أعوام على المجزرة المرّوعة في بلدة “أورم الكبرى” بريف حلب، ما زالت معاناة الضحايا الناجين حاضرة حتى يومنا هذا. وذلك بسبب الحروق الرهيبة التي أحدثها استهداف معهد “اقرأ” التعليمي، بمواد حارقة شديدة يُعتقد أنّها مادة النابالم. وقعت الحادثة بتاريخ 26 آب/أغسطس 2013، حين قصفت طائرة حربية تابعة لسلاح جو القوات النظامية، المعهد الذكور في ساعة ذروته، حيث كان يعجّ بالطلاب الذين كانوا يخضعون لدورات تقوية للمرحلتين الإعدادية والثانوية، إضافة إلى وجود عدد من المدرسين وبعض المراجعين. وخلّف الهجوم مقتل ما لا يقل عن أربعين شخصاً إضافة إلى إصابة أكثر من سبعين شخصاً آخراً، معظهم من طلّاب المعهد.
بعد مرور أكثر من أربعة أعوام، مازال عدد من الضحايا الناجين يعانون من تشوهات بليغة أصابت جسدهم، واضطرابات نفسية خطيرة جعلتهم أشبه بالغرباء في المجتمع الذي ينتمون له، ولم يكن الزمن كفيلاً بجعل عائلات الضحايا ينسون أبناءهم الذي قضوا حرقاً حتى الموت.
أشبه بطفلٍ صغير، بدأتُ أتعرف على العالم من جديد!
محمد لطفي عاصي من مواليد بلدة أورم الكبرى في ريف حلب عام (1995)، كان أحد الطلاب الناجين من تلك المجرزة المروعة، إلا أنّه مازال حتى اليوم يعاني من تشوهات وندبات غيّرت حياته رأساً على عقب، وفي هذا الصدد استرجع لسوريون من أجل الحقيقة والعدالة لحظات تعرضّ المعهد للقصف قائلاً:
“في تمام الساعة (5:30) مساءً من يوم الاثنين الموافق 26 آب/أغسطس 2013، سقط صاروخ أمام شرفة أحد الصفوف في المعهد، وأذكر تماماً كيف كان صوت الطائرة أقوى بكثير من صوت الانفجار، وماهي إلا لحظات حتى أصبح معظم الطلاب جثثاً متفحمة أو أجسام مشوهة بالكامل، في حين كان الدمار الذي أحدثه الصاروخ قليلاً مقارنة مع ما تسبّب به من فظائع وحروق.
أصبتُ بحروق بليغة كما غيري من الطلاب، وعملت فرق الإسعاف والدفاع المدني على نقلنا إلى مشفى الأتارب القريب من المنطقة، حيث قاموا حينها بسكب الماء على أجسادنا، وعمل هذا المشفى رغم إمكاناته البسيطة على تقديم الإسعافات الأولية لنا، وفي ذات اليوم تم نقلي إلى إحدى المشافي في مدينة أنطاكية التركية نظراً لأن الحروق غطت أكثر (85 %) من جسدي كما أنها كانت من الدرجة الثالثة.”
فاقداً لأي شعور …
لدى وصول محمد إلى أحد مشافي مدينة أنطاكية التركية، عمد الأطباء إلى إعطائه مسكنات قوية، كما قاموا بعمل اختبار على يده التي أصبحت شبه متفحمة، حيث بدأوا بغرز إبرة في أصابعه، حتى يتبيّنوا مدى إحساسه وشعوره نظراً لأنه كان فاقداً لأي شعور حينها، ومن ثم تمّ إدخاله إلى غرفة العناية المركزة، حيث تملكه خوف كبير من بقائه مشوهاً مدى الحياة، حيث تابع قائلاً:
“بقيت في غرفة العناية المركزة حوالي (45) يوماً، وكنت أخضع خلالها إلى عمليات جراحية يومية، ابتداءً من عمليات الترميم والإزالة للجلد الميت، وانتهاءً بالعمليات التي أجريت على أصابع يديّ، بعدما فقدت التحكم بهما جيداً، وعقب مرور (15) يوماً، شهدت حدثاً أليماً جعلني أنهار تماماً، فقد شاءت الأقدار أن يكون سرير صديقي “محمد” بالقرب من سريري في المشفى، وكان وضعه الصحي سيئاً للغاية نتيجة الحروق التي أصيب بها هو الآخر في الهجوم، فتوفي “محمد” أمام عينيّ اللتين كنت بالكاد أرى بهما.
بعد مرور (45) يوماً تجاوزت مرحلة الخطر وعدت إلى منزلي، وأصبحت أتوجه يومياً إلى مشافي الداخل السوري، من أجل تبديل الضماد ودهن المراهم وغيره من المواد التي قد تخفف من التشوه بعدما بات هاجساً بالنسبة لي.”
تلاشي الحلم ..
حظي محمد بدعم كبير من قبل عائلته وأصدقائه، لمتابعة العلاج والخروج لمقابلة الناس، كما أنه نجح في تقبّل وضعه الصحي الجديد الذي أصبح واقعاً ملازماً له مدى الحياة، ولا سيما أنه كان يرفض ذلك في العامين اللذان تلا الهجوم، حيث قال في شهادته لسوريون من أجل الحقيقة والعدالة في هذا الصدد:
“أنا اليوم كما ترون أحاول إطالة شعري لإخفاء تشوهات وجهي ورأسي ويديّ اللتين مازالتا تعانيان من الندبات والتقرحات، لقد تعلمت كيف أتقبل وضعي الصحي الجديد، كما تعلمت المشي وتناول الطعام من جديد وكأنني أشبه بطفل صغير بدأ يتعرف على العالم مجدداً !”
صورة خاصة بسوريون من أجل الحقيقة والعدالة، تظهر الناجي محمد لطفي عاصي، عقب مرور عدة أعوام على إصابته وتماثله للشفاء، وقد التقطت هذه الصورة بتاريخ 7 أيلول/سبتمبر 2017.
تلاشى حلم محمد بأن يصبح مهندساً كما كان يخطط لمستقبله، إذ أن إصابته تسببت في انقطاعه عن مقاعد الدراسة مدة عامين، كما أنه وجد صعوبة كبيرة في العودة إليها بسبب العوائق النفسية والخوف الكبير الذي تملكه حينها، لكنه رغم ذلك استطاع التغلب على مخاوفه وعزم على الخروج والعمل في مجال البرمجيات والإنترنت، وهو حالياً يعمل جاهداً لإثبات نفسه واكتساب الخبرات الجديدة في هذا المجال.
صور خاصة بسوريون من أجل الحقيقة والعدالة، تظهر الناجي محمد لطفي عاصي وهو في مكان عمله الحالي حيث التقطت هذه الصورة بتاريخ 7 أيلول/سبتمبر 2017.
كانت تحلّم بأنّ تكون طالبة في قسم اللغة الإنكليزية ذات يوم …
سهام قنبري من مواليد مدينة حلب عام (1996)، كانت إحدى الطلاب اللذين قضوا جراء الهجوم، حيث أصيبت بحروق شديدة غطت معظم جسدها، ماجعلها تفارق الحياة حسبما أكد شقيقها محمد لسوريون من أجل الحقيقة والعدالة، والذي قال في شهادته:
“كانت سهام إحدى طالبات الصف الثالث الثانوي، وكل ما أعرفه أنها كانت تتلّقى الدروس كالمعتاد لحظة الاستهداف، حيث قضت صديقتاها “ولاء” و “وسام”، وأصبحتا مجرد جثث متفحمة، في حين أصيبت سهام بحروق شديدة، فتم إسعافها على الفور إلى المشافي التركية، ولحق بها والديّ اللذيَن وجدا صعوبة في التعرف عليها وصدما من هول ما حدث لها، وبقيت سهام في أحد مشافي مدينة غازي عينتاب التركية مدة أربعة أيام، لكن نظراً لسوء حالتها الصحية تم نقلها إلى أحد مشافي مدينة اسطنبول التركية، حيث بقيت هناك مدة شهر كامل وهي تتلقى العلاج والمسكنات القوية، تحسنت حالة سهام في البداية واستجاب جسمها للعلاج، وتمّ خفض نسبة الالتهاب في جسدها حتى (35 %) جراء عمليات ترميم وزرع الجلد التي خضعت لها.”
وتابع شقيق سهام بأن وضعها الصحي أخذ بالتطور والتدهور بشكل مفاجئ، وعلى إثر ذلك تم نقلها إلى مشفى آخر في مدينة أنقرة التركية، حيث بقيت هناك للعلاج مدة شهر كامل وهي تصارع من أجل الشفاء، إلا أن جسدها الضعيف لم يتحمل هول هذه الآلام، وبعد معاناة دامت شهرين كاملين وبتاريخ 26 تشرين الأول/أكتوبر 2013، فارقت سهام الحياة، وأضاف محمد في شهادته قائلاً:
“كانت صدمة كبيرة لنا، ولاسيما لأمي وأبي اللذين لم يفارقاها طيلة فترة العلاج، ناهيك عن والدي الذي بات يجهش في البكاء كلما أتى أحد على ذكر اسم سهام أمامه، لقد خسرنا سهام التي كانت تحلم بأن تكون طالبة جامعية في قسم اللغة الانكليزية، هذا الحلم الذي وعدها الكثيرون بتحقيقه في حال كانت أقوى من المرض وتمكنت من الشفاء.”
عليَّ أنّ أقوم بأيّ شيء مفيد !
حسام جدوع من مواليد بلدة “كفرتعال” التابعة لمحافظة حلب عام (1996)، كان أيضاً أحد الناجين من المجزرة ،كما أنه كان شاهداً على ماجرى حينها، إلا أنه إصابته الشديدة لم تزده إلا إصراراً وعزيمة على تحقيق حلمه ومتابعة دراسته. وفي هذا الصدد تحدّث لسوريون من أجل الحقيقة والعدالة مسترجعاً لحظات الاستهداف وتعرضه للإصابة، حيث قال:
“بدايةً تناهى إلى مسامعنا صوت طائرة حربية وهي تقترب شيئاً فشيئاً، وماهي إلا لحظات حتى استهدفت تلك الطائرة مبنىً سكنياً ملاصقاً لمبنى المعهد، فشعرنا بحالة من الذعر الشديد، اختبأ بعضنا والبعض الآخر خرج إلى ساحة المعهد، واخترق الصاروخ الأول ذلك المبنى المؤلف من طابقين ماتسبب في إصابة طفلين أحدهما من ذوي الاحتياجات الخاصة، بالنسبة لي صعدت إلى أعلى السطح حتى أرى مايحدث، ولم تمضِ سوى خمس دقائق، حتى أغارت الطائرة مرة أخرى، لكن هذه المرة سقط الصاروخ علينا مباشرة وتحديداً أمام نافذة أحد الصفوف، وكان محملاً بمادة النابالم الحارقة، ما أدى إلى إصابتي وإصابة بقية أصدقائي إصابات بالغة وصلت إلى تفحم البعض، وبلغ عدد المصابين حينها حوالي (50) مصاباً.”
صورة خاصة بسوريون من أجل الحقيقة والعدالة، تظهر مدى إصابة الناجي حسام جدوع، وذلك خلال تلقيه العلاج في مشفى الأتارب في ريف حلب، وقد التقطت هذه الصورة بتاريخ 26 آب/ أغسطس 2013.
رحلة علاج حسام ومعاناته:
تم إسعاف حسام مع بقية أصدقائه الطلاب إلى المشفى القريب من المنطقة، حيث قدموا لهم الإسعافات الأولية، ثم تم نقله إلى المشافي التركية المتخصصة بعلاج مثل هذه الحالات، وتحديداً إلى أحد مشافي مدينة أنطاكية، حيث بقي هناك بضعة أيام ثم تمّ نقله إلى أحد مشافي مدينة غازي عينتاب، وعلى الفور تم وضعه في غرفة العناية المركزة، وتابع في شهادته قائلاً:
“غطت الحروق جسدي بنسبة (90 %)، وعلى وجه الخصوص وجهي ويديّ وقدميّ، ماجعل الأمر غاية في الصعوبة، حيث شعرت بآلام لاتحتمل، كما أنني فقدت القدرة على الكلام والرؤية حينها، لذا قام الأطباء بفتح وريد من منطقة الحالب، من أجل إدخال السيروم ومسكن المورفين الذي كان يخفف عني تلك الأوجاع الرهيبة.”
صور خاصة بسوريون من أجل الحقيقة والعدالة، تظهر إصابة الناجي حسام جدوع، خلال تلقيه العلاج في أحد المشافي التركية، وقد التقطت هذه الصورة بتاريخ 29 آب/أغسطس 2013.
التغلب على الصعاب وتخطي الأزمات النفسية:
بعد مرور (55) يوماً من العمليات الجراحية اليومية، عاد حسام إلى منزله، وتولت عائلته العناية به، وماهي إلا فترة قصيرة حتى استطاع أن يخطو أولى خطواته من جديد، حيث تماثل للشفاء بعد أشهر من العلاج، إلا أن الندبات والتشوهات تركت أثرها على جسمه ووجهه وإحدى أذنيه، ماتطلب منه جهداً كبيراً في التغلب على الأزمات النفسية التي خلفتها تلك التشوهات، وذلك بدعم من عائلته وأصدقائه، وفي هذا الصدد تابع حسام قائلاً:
“بعد عام من إصابتي، عدت إلى كتبي ودراستي، وخضعت لامتحان الشهادة الثانوية عام 2014، ونجحت فيها بمجموع جيد جداً، لكن ونتيجة لظروف الحرب الدائرة في سوريا، لم أستطع إكمال الدراسة في عام 2015، فخسرت عاماً آخراً من حياتي الدراسية، ومع بداية العام الدراسي 2016، أصبحت طالباً في معهد المدرسين الكائن في مدينة الأتارب، وتحديت معظم الصعوبات وظروف الحرب، وتعرّفت على أصدقاء ومعلمين جدد، كما أنني أصبحت ذي نشاط أكبر وخجل أقل وأكثر اندماجاً مع الأصدقاء، وحالياً أنا أعمل مع أخي في محل لصيانة الدراجات، علّي أقوم بأي شيء مفيد.”
صورة خاصة بسوريون من أجل الحقيقة والعدالة، تظهر الناجي حسام جدوع بعد تماثله للشفاء، وذلك في مكان عمله الجديد، وقد التقطت هذه الصورة بتاريخ 8 أيلول/سبتمبر 2017.
قصة الأخوين محمد وعمر
الطفلين الأخوين محمد وعمر من مواليد بلدة أورم الكبرى في ريف حلب، كانا أحد ضحايا الهجوم أيضاً، فقد قضى محمد جرّاء إصابته وحروقة الشديدة، في حين نجى شقيقه عمر من الموت، لكنّه ما يزال يصارع للبقاء على قيد الحياة، بحسب شهادة والدهما “أبو عمر” الذي قال:
“خضع طفليّ محمد وعمر لعمليات جراحية كثيرة، حيث كانت الحروق تغطي حوالي (75 %) من جسدهما، كنت أراقبهما في كل يوم وأحاول دعمهما وتقويتهما من أجل تجاوز مرحلة الخطر، لكن للأسف بلا فائدة، فبعد حوالي (15) يوماً من العلاج، ازداد وضع محمد خطورة، وبتاريخ 10 أيلول/سبتمبر 2013، لم يستطع الكادر الطبي إنقاذه، فتوفي على إثر ذلك، وفي هذه الفترة ازدادت مسؤوليتي تجاه ابني الآخر عمر، وحاولت عمل مابوسعي حتى لا أفقده هو الأخر، فتنقلت معه في مشافي عديدة وخضع لعمليات كثيرة على مدار الأعوام الماضية، أما حالياً فلا يزال عمر يخضع لعمليات ترقيع وترميم للجلد، والمشكلة الأكبر أن جلده لازال يميل إلى اللون الأسود والانتفاخات بادية على وجهه، ناهيك عن حالته النفسية المتدهورة والمتأزمة.”
صورة خاصة بسوريون من أجل الحقيقة والعدالة، تظهر الطفل عمر في الأيام الأولى من علاجه في المشافي التركية وقد التقطت هذه الصورة بتاريخ 10 أيلول/سبتمبر 2013.
“يمكن أن تحتوي الأسلحة الحارقة على الكثير من المواد الملتهبة، بما فيها النابالم، أو الثرمايت، أو الفوسفور الأبيض، وهي مصممة لإشعال النار في الأغراض الجامدة، أو إحداث الحروق، لكنها ليست أسلحة كيماوية، حيث تقتل تلك الأخيرة أو تشل الحركة عن طريق الخواص السامة للمواد الكيماوية المنطلقة منها.
تؤدي الأسلحة الحارقة إلى حروق شديدة الإيلام، تصل إلى العظام في أغلب الأحيان، كما يمكنها التسبب في تلف الرئتين. يصعب علاج تلك الحروق، وخاصة في مناطق النزاع التي تفتقر إلى المرافق الطبية المجهزة، كما قد يكون العلاج نفسه موجعاً أشد الإيجاع. يمكن للندوب والتشوهات المستديمة أن تؤدي إلى النبذ الاجتماعي. كما تسبب الأسلحة الحارقة اشتعال الحرائق [في مرافق] البنية الأساسية بسبب تأثيرها على مساحات واسعة، مما يعني تعذر استخدامها بطريقة تميز بين الجنود والمدنيين في المناطق المأهولة بالسكان.”[1]
[1] سوريا ـ استخدام الأسلحة الحارقة في مناطق مأهولة بالسكان، هيومان رايتس وتش: https://www.hrw.org/ar/news/2012/12/12/248261