الرئيسية تحقيقات مواضيعية الغائبون الحاضرون… لن نتوقف عن البحث ولن نفقد الأمل

الغائبون الحاضرون… لن نتوقف عن البحث ولن نفقد الأمل

الكشف عن مصير جميع المختفين/ات قسرياً وأماكن وجودهم هو طريق السلام المستدام في سوريا ومقدمة وصول للعدالة الانتقالية وسبيل لجبر الضرر والانتصاف

بواسطة communication
337 مشاهدة تحميل كملف PDF هذا المنشور متوفر أيضاً باللغة: الإنجليزية حجم الخط ع ع ع

1. خلفية:

بعد مرور أكثر من اثني عشر عاماً على اندلاع الاحتجاجات في سوريا والنزاع المسلّح اللّاحق، ما زال السوريون/ات يعانون من ممارسة جرم الإخفاء القسري ضدّهم، واستخدام كل السلطات له كوسيلة ترهيب لمعارضيها، في ظل غياب سيادة القانون وانتشار الإفلات من العقاب. علماً أن هذه الجريمة لم ترتكب بحق السوريين بعد انتفاضة 2011 فقط، بل استخدمت من قبل الحكومات السورية المتعاقبة بشكل واسع ولعدة عقود بغية فرض السيطرة الكاملة على جميع مفاصل الحياة العامّة والمواطنين/ات.

كذلك كان الاحتجاز التعسفي والإخفاء القسري المرتبط به أحد الأسباب الجذريّة للنزاع ومن دوافعه وأسباب استمراره، وكانت هذه الانتهاكات من بين المظالم الرئيسية التي أثارت الاحتجاجات عام 2011 والتي طالبت بإطلاق سراح المعتقلين السياسيين كإحدى المطالب الرئيسية للحراك.

وبحسب اللجنة المعنية بحقوق الإنسان،[1] يشكّل الاختفاء القسري مجموعة فريدة ومتكاملة من الأفعال وأوجه التقصير التي تمثل تهديداً خطيراً للحياة. إن سلب الحرية، ثم عدم الاعتراف بذلك أو عدم الكشف عن مصير الشخص المختفي، يحرمه في الواقع من حماية القانون ويُعرض حياته لخطر جسيم ودائم تعتبر الدولة مسؤولة عنه. ويؤدي بالتالي إلى انتهاك الحق في الحياة وغيره من الحقوق المعترف بها في العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية (ولا سيما المادة 7 حول حظر التعذيب أو المعاملة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة، المادة 9 حول حرية الشخص وأمنه، والمادة 16 حول حق الفرد في الاعتراف به كشخص أمام القانون).

وبحسب اللجنة أيضاً، ينبغي للدول أن تتخذ التدابير الملائمة لمنع الاختفاء القسري ولإجراء تحقيق فعّال وسريع لتحديد مصير ضحاياه المحتملين ومكان وجودهم. وعليها أن تكفل المعاقبة على الاختفاء القسري بعقوبات جنائية ملائمة، وأن تستحدث إجراءات سريعة وفعالة تتيح لهيئات مستقلة ومحايدة إمكانية إجراء تحقيقات شاملة في حالات الاختفاء. وعليها أن تقدم إلى العدالة المسؤولين عن أفعال وأوجه تقصير من هذا القبيل، وأن تكفل إبلاغ ضحايا الاختفاء القسري وأقاربهم بنتائج التحقيق وحصولهم على التعويض الكامل لجبر الضرر. وعلى الدول أيضاً أن تتيح لأسر ضحايا الاختفاء القسري الوسائل اللازمة لتسوية وضعهم القانوني فيما يتعلق بالأشخاص المختفين بعد فترة زمنية مناسبة.

على الصعيد الدولي، لم يتمّ إحراز سوى قليل من التقدم في ملف المختفين قسرياً خلال السنوات الماضية من العنف والنزاع في سوريا، ولا تزال الأسر تكافح لمعرفة مصير أحبائها ومكان وجودهم. مؤخراً في شهر حزيران/يونيو الفائت، تبنت الجمعية العامة للأمم المتحدة قراراً تاريخياً بإنشاء مؤسسة دولية مستقلة معنية بالمفقودين في سوريا[2] للكشف عن مصير المختفين وأماكن وجودهم ولدعم حقّ أسر وذوي الضحايا بمعرفة الحقيقة، فكان هذا القرار تتويج لجهود جمعيات الضحايا ومنظمات المجتمع المدني التي عملت بشكل مستمر على حث الدول الأعضاء في الأمم المتحدة على التصويت لصالح إنشاء المؤسسة.[3]

تجدر الإشارة إلى أن سوريا لم تصادق على الاتفاقية الدولية لحماية جميع الأشخاص من الاختفاء القسري،[4] ولا يوجد في قوانينها ما ينصّ على جريمة الإخفاء القسري بشكل صريح، رغم أنّ الفقرة الأولى من المادة رقم 33 من الدستور السوري تنص على أن “الحرية حق مقدس وتكفل الدولة للمواطنين حريتهم الشخصية وتحافظ على كرامتهم وأمنهم“.[5]

وفي هذا السياق، لا بدّ أن نذكر أن الحكومة السورية أنشأت هيئات ذات صلاحية للتعامل مع مسألة المفقودين والمختفين منها مكتب المفقودين التابع لوزارة العدل، والهيئة العامة للطب الشرعي، والمركز السوري للاستعراف على الجثث المجهولة، ومديرية شؤون الشهداء والجرحى والمفقودين التي تقدم الدعم والخدمات لأسر الجنود وأفراد قوات الأمن. رغم ذلك، تشير التقارير إلى أن الحكومة تتعمد إطالة أمد معاناة عشرات الآلاف من أسر المختفين قسراً بعدم مشاركتهم المعلومات التي لديها عنهم. وبدلاً من التحقيق في الجرائم المرتكبة في مرافق الاحتجاز التابعة لها، تواصل الحكومة حجب المعلومات مما له أثر مدمر على الأسر.[6]

وكانت “سوريون من أجل الحقيقة والعدالة” قد نشرت عدة تقارير حول الاختفاء القسري والمفقودين في سوريا، آخرها المساهمة التي قدمتها إلى لجنة الاختفاء القسري والفريق العامل المعني بالاختفاء القسري أو غير الطوعي بخصوص إصدار بيان مشترك حول الاختفاء القسري قصير الأمد والذي عرض سياقات حدوثه والأطر القانونية والممارسات التي قد تؤدي إليه.[7]

تسعى “سوريون من أجل الحقيقة والعدالة” في هذا التقرير إلى تسليط الضوء على معاناة السوريين ممن تعرض أحبائهم لجريمة الاختفاء القسري وعدم معرفتهم أي شيء عن مصيرهم، كذلك يركز التقرير على معرفة ما يتطلع إليه ذوي الضحايا اليوم من المؤسسة المستقلة الجديدة الخاصة بالمفقودين في سوريا.

ولأجل ذلك، قابلت المنظمة 21 ضحية من ذوي المختفين قسراً الذين ما يزال معظمهم محرومين حتى تاريخ إعداد التقرير من معرفة الحقيقة حول مصير ذويهم، وفيما إذا كانوا أحياء أم لا. ولا بد من الإشارة هنا إلى أن “سوريون” تؤكد على أن هذا العدد من الضحايا الذين قابلتهم لا يعد إلا جزءاً بسيطاً جداً من الحالات المنتشرة في كافة أرجاء سوريا، وهو محاولة للإضاءة على ما يعانيه السوريون/ات وما يسعون إليه أو يأملونه فيما يتعلق بالاختفاء القسري ومعرفة الحقيقة.

حرصاً على عكس الواقع بشكل أقرب ما يكون للدقة، قابلت “سوريون” أسر ضحايا اختفوا في مختلف المناطق السورية، فكان 5 منهم من مناطق سيطرة الحكومة السورية، بينما 4 من مناطق الإدارة الذاتية شمال شرقي سوريا، فضلاً عن 3 مختفين على يد تنظيم الدولة “داعش”، و 2 في مناطق سيطرة هيئة تحرير الشام/تنظيم جبهة النصرة سابقاً، و 2 تعرَض ذووهم للاختفاء القسري على يد الجيش الوطني السوري/المعارض والذي تتحكم به تركيا. كما تمّت مقابلة 5 من ذوي ضحايا مفقودين لا تعلم عائلاتهم الجهة التي قامت بإخفائهم.

أجرت “سوريون” المقابلات مع أسر الضحايا المقيمين داخل سوريا، وذلك خلال الفترة الممتدة ما بين أواخر حزيران/يونيو 2023 وحتى منتصف آب/أغسطس 2023، وتمّ لقاء خمسة منهم بشكل فيزيائي، فيما تمّ التحدث مع البقية عن بعد بواسطة الانترنت وبطرق آمنة ومشفرة.

كذلك أضافت “سوريون” في التقرير رأي خبيرها القانوني الذي تحدث حول أهم المهمات التي يجب أن تركز عليها المؤسسة فيما يتعلق بالمختفين قسراً، وناقش أهمية مشاركة ضحايا وعائلات المختفين الفعالة، وذكر التحديات التي يمكن أن تعيق عمل المؤسسة فيما يتعلق بالاختفاء القسري.

تجدر الإشارة أخيراً إلى أنه ونظراً لحساسية القضية وتخوف الشهود من ذكر أسمائهم الصريحة، خشيةً على أنفسهم وعلى ذويهم المختفين، تمّت الاستعاضة عن الأسماء الحقيقية بأخرى مستعارة، ولن يتم إدراج أي حيثيات أو أماكن تحدّث عنها الشهود مع “سوريون” إن كان هناك احتمال أن يعرضهم ذكرها للخطر.

2. الاعتقال التعسفي طريق معبدة للاختفاء القسري:

يقدر عدد المختفين قسرياً في النزاع السوري بعشرات آلاف الحالات، تقف الحكومة السورية وراء النسبة الأكبر من حالات الفقد. تمّ احتجاز النسبة الساحقة منهم تعسفياً وانقطعت أخبارهم عن ذويهم. وفي هذا الصدد، تُشير الأدلة إلى أن الحكومة تقوم بتسجيل المحتجزين لديها بدقة، ولكنها بدل التحقيق في الجرائم المرتكبة في مرافق الاحتجاز فإنها تواصل حجب المعلومات عن أفراد الأسر، وهو ما يفعله أطراف النزاع الآخرون أيضاً، مما يؤدي لإطالة معاناة الأسر خاصة التي تعيلها النساء.[8] وترى لجنة التحقيق الدولية المستقلة المعنية بالجمهورية العربية السورية أنه “نظراً لكثرة حالات الاختفاء القسري في سوريا فإن قضايا المحتجزين تمثل صدمة وطنية ستؤثر على المجتمع السوري لعقود قادمة”.[9]

يتعرض المختفون وأسرهم لانتهاكات القانون الدولي الإنساني وانتهاكات وتجاوزات حقوق الإنسان التي يرتكبها أطراف النزاع وقلة قليلة لديها إمكانية الوصول الفعلي إلى مرافق الاحتجاز الرسمية، وليس لدى أحد القدرة على الوصول إلى مواقع المخابرات أو مواقع الاحتجاز غير الرسمية أو السرية، حيث تحصل الكثير من حالات الاختفاء القسري المتصلة بالاحتجاز.

بحسب المصادر من أهالي الضحايا الذين قابلتهم “سوريون” تبدأ الصعوبة الحقيقية عند اعتقال أحدهم في معرفة المكان الذي أُخذ إليه خاصة أن الاعتقال بحد ذاته لا يكون قانونياً بل تعسفياً. ترى “سوريون” أن أبرز أسباب هذه الظاهرة تعود إلى أن الأفرع الأمنية (سواء التابعة للحكومة السورية أو لجهات النزاع المعارضة) تمارس سلطة الاعتقال دون مراعاة الأصول القانونية حيث يجري الاعتقال دون وجود مذكرة قانونية أو دون أساس قانوني لتبرير الحرمان من الحرية.

“عبد الله” على سبيل المثال، من محافظة إدلب، تعرّض للاختفاء القسري على يد هيئة تحرير الشام لأكثر من شهرين، وذلك في شهر آب/أغسطس 2022، بحسب ما روى لـ “سوريون”:

“اعتقلني عناصر من هيئة تحرير الشام على حاجز سرمدا واقتادوني إلى جهة مجهولة وسألوني إن كانت لدي علاقات مع النظام السوري والتحالف الدولي ضد داعش وتنظيم داعش والجيش الوطني، وانهالوا عليّ بتهم العمالة لجميع الأطراف دفعة واحدة، وكأن عليّ اختيار جهة معينة كي أكون عميلاً لها ويتوقف تعذيبي. لم يكتفوا بذلك بل استجوبوا زوجتي لمدة 24 ساعة أيضاً. عندما قامت عائلتي بمراجعة المحكمة التابعة لهيئة تحرير الشام للسؤال عني، كان الرد بأنه لا توجد مذكرة اعتقال بحقي (أي أنه لم يتم اعتقالي). أمّا عندما قامت بمراجعة مكاتب الأجهزة الأمنية، تم إنكار وجودي تماماً. ثم بعد شهرين ونصف أبلغوا عائلتي بأنّ ملف قضيتي لديهم وبأنني سأحاكم بعد عدّة أيام، وهو ما حدث. استمع القاضي إلى أقوالي ولم يوجه لي أي تهم بل أفرج عني بعد توقيع ورقة تعهد بعدم انتقاد الهيئة أو التحريض عليها”.

تعرض أيضاً “محمد” من مواليد محافظة الرقة للاختفاء القسري على يد قوات الحكومة السورية عام 2014، بعد أن تم اعتقاله من قبل عناصر حاجز “الستين” بمدينة حمص بحسب ما علم شقيقه لاحقاً من أحد الأشخاص الذين كانوا متواجدين معه في الحافلة ذاتها، والذي قال بأنّ عناصر الحاجز قالوا لمحمد لحظة اعتقاله “نحن ننتظرك منذ الصباح”.

رغم مرور تسعة أعوام على احتجازه، لا زالت عائلة محمد لا تعلم شيئاً عن مصيره حتى اللحظة، رغم محاولاتهم السؤال عنه في عدد من الأفرع الأمنية التابعة للحكومة السورية مثل فرع فلسطين وسجن صيدنايا العسكري وفرع الشرطة العسكرية في حي القابون بمدينة دمشق. سمعت أسرة المعتقل أنه في سجن صيدنايا ولكن لا يوجد لديها إثبات عن وضعه أو معلومات حقيقية عن تهمته وعقوبته. أضاف شقيقه في هذا السياق:

“قبل خمس سنوات تقريباً، التقينا شاب من سجن صيدنايا أخبرنا أنه رأى شقيقي في السجن، كما قال أنّ صحته كانت جيدة، وأنّه متهم بارتكاب أفعال إرهابية، وهي تهمة توجه لجميع من يُعتقل على أساس ارتباطه بالمعارضة، علماً أن أخي يعمل في لبنان منذ عام 2000 ولم يكن في سوريا إلا ليقضي إجازة مع أسرته”.

“كرم” من مواليد محافظة الرقة، كان مقيماً أيضاً خارج سوريا (في قطر) اختفى في إحدى زياراته إليها في عام 2014. تحدثت “سوريون” مع ابنه الذي أخبرنا بالآتي:

“سألنا عن والدي في كل المناطق وبحثنا في معظم السجون والنقاط الأمنية التابعة لتنظيم الدولة الإسلامية/داعش، وفي معظم المناطق التي كان يرتادها عادةُ ولكن لم نعثر له على خبر. سمعنا من أحد المصادر لاحقاً بأنّ والدي كان محتجزاً من قبل التنظيم في أحد سجون الرقة، وأنه تنقل لاحقاً بين سجون مختلفة، لكننا في الواقع لا نعرف عن مصيره شيئاً، ولا ندرك سبب اعتقاله وهو لا يعيش في سوريا”.

مع غياب الرقابة اللازمة والتنسيق الضروري بين الأجهزة الأمنية (التابعة للحكومة أو لغيرها من الجهات)، ومع عدم التزام الأخيرة بالقوانين، وبسبب الأمان الذي يبثه الإفلات المتكرر من العقاب في سوريا، انتشرت حالة الإخفاء القسري بعد الاعتقال، حيث يتم نقل المحتجز بين مرافق مختلفة يصعب تتبعها بسبب عدم إبلاغ أقربائه بهذه التغييرات، وعدم وجود محامٍ له، ولأن الكثير من هذه المرافق سرية أساساً.

في العديد من الحالات التي وثقتها “سوريون”، تم نقل المعتقلين بين عدة مرافق احتجاز دون تبليغ الأهل أو السماح للمعتقل بالتواصل مع ذويه مما أدى إلى اعتباره مختفٍ قسراً.

“هفال” من مواليد رأس العين/سري كانيه كان أحد الضحايا الذين تعرّضوا للاختفاء القسري في عام 2019، على يد قوات سوريا الديمقراطية “قسد”، وانتقل بين عدة مرافق احتجاز وفقاً لرواية زوجته:

بعد الهجوم التركي وفصائل الجيش الوطني السوري على مدينة رأس العين في تشرين الأول/أكتوبر 2019، نزحنا مثل غالبية سكان المدينة، وكان مقصدنا مدينة الحسكة حيث أقمنا في منزل مع أربع عائلات. بعد أيام من نزوحنا، عاد زوجي دون علم أخيه إلى مناطق التماس في محاولة منه لمساعدة أحد معارفنا في العودة إلى رأس العين. في طريق عودته أوقفته دورية من وحدات حماية الشعب YPG وقامت باعتقاله. بحثنا عن زوجي وبقينا نتتبع أخباره عن طريق معارفنا من قيادات أو عناصر قسد والإدارة الذاتية. علمنا أنه نُقل إلى القامشلي وإلى ديرك في فترات لاحقة. بعد حوالي عامين، قصدنا قيادة قسد بريف الحسكة لنطلب المساعدة، ووعدونا بمتابعة ملف زوجي وإطلاق سراحه. سمعنا لاحقاً أنه محتجز لصالح مكتب يدعى مكتب الأمن القومي إلا أن الأخير أنكر وجوده عند سؤاله في البداية، ومن ثم أقر به دون الإفصاح عن التهم الموجهة له، علماً أن زوجي لا ينتمي لأي حزب سياسي. قبل عام ونصف سمعنا أنه نُقل إلى سجن في مدينة القامشلي، وفي آب/أغسطس 2023، علمت أنه نقل إلى سجن بمنطقة ديرك“.

بالإضافة لما سبق، تجدر الإشارة إلى أن الاخفاء القسري يطال أيضاً من تتم إحالتهم إلى محكمة الإرهاب (التي أحدثتها الدولة السورية بقانون رقم 22 لعام 2012)[10] من قبل النيابة العامة الخاصة بالمحكمة، حيث يبقى هؤلاء أشهراً طويلة في أقبية أجهزة الأمن قد تصل إلى سنوات، وذلك خلافاً للمرسوم التشريعي رقم 55 لعام 2011[11] والذي ينص على ألا تتجاوز مدة التحفظ على المشتبه به مدة سبعة أيام قابلة للتجديد على ألا تتجاوز فترة التحفظ الستين يوماً.[12]

“عمر” من مواليد محافظة الرقة، كان أحد الضحايا الذين تعرضوا للاختفاء القسري عام 2014 على يد قوات الحكومة السورية، بحسب ما روى شقيق الضحية لـ”سوريون” قائلاً:

“تعرّض أخي للاعتقال في فندق بمدينة دمشق وانقطعت أخباره. بعد عامين من اختفائه زارنا شاب من حلب، وقال أنه التقى بعمر أثناء نقلهما من فرع أمن الدولة إلى محكمة الإرهاب بدمشق بعد انتظار طويل لهذا التحويل. سألنا عنه في كل مكان، في فرع أمن الدولة وفرع الشرطة العسكرية في حي القابون بدمشق من دون فائدة. لا نعلم إن كان حياً أم ميتاً، لكننا تمكنا منذ عامين من استخراج وثيقة ‘إخراج قيد’ له، مما يعطينا أملاً أنه على قيد الحياة”.

3. قد يحدث الاختفاء القسري في أي مرحلة من مراحل الاعتقال:

شارك معنا عدد من أهل الضحايا عدم قدرتهم على الشعور بالأمان من أنهم لن يفقدوا ابنهم المحتجز حتى وإن علموا مكان احتجازه، ويعود السبب وراء ذلك إلى أن الكثير من الأسر كانت تعلم مكان اعتقال ابنها في بادئ الأمر، ولكنها ما لبثت أن فقدته بعد ذلك ولم يعد له أثر في أي مكان تسأل فيه.

تحدثت “سوريون” إلى شقيق “أحمد” من محافظة الرقة الذي تعرض عام 2015 للاختفاء القسري على يد قوات الحكومة السورية، حيث قال:

“في آذار/مارس لعام 2015، وبينما كان أخي بصدد نقل حمولة قطن إلى مدينة اللاذقية، تمّ توقيفه وآخرين على حاجز عسكري يُعرف باسم حاجز الأصدقاء، يقع قبل بلدة الخناصر بحوالي كيلومتر. كان ذلك بحجّة نقلهم عناصر وأسلحة لصالح تنظيم داعش. احتجز حينها شقيقي مع ستة آخرين. علمنا لاحقاً أنّ شقيقي كان محتجزاً مع البقية لدى قوات الدفاع الوطني في حي المزة في مدينة دمشق، وتمّ بعد ذلك تحويلهم إلى مقر الشرطة العسكرية في حي القابون. بعد مرور أربعة أشهر على حادثة اعتقاله، تمكنتُ عبر أحد الوساطات وبشكل غير رسمي من زيارة شقيقي في مقر الشرطة العسكرية لمدة عشر دقائق، ولم يسمح لنا بالتكلم عن أي شيء سوى أحوال الأهل والأقارب. لاحقاً تمّ تحويل شقيقي إلى سجن صيدنايا العسكري، حيث زرته بشكل رسمي في آذار/مارس 2016، وكان حينها بصحة لا بأس بها”.

وأكمل الشاهد بأنه ورغم مراجعاته المتكررة للشرطة العسكرية والقضاء العسكري التابع للحكومة السورية في مدينة دمشق، إلا أنهم لم يخبروه عن التهمة الموجهّة لأخيه، مشيراً إلى أنّ بعض “السماسرة” من ذوي النفوذ أبلغوه أنه تمّ الحكم على شقيقه بالسجن المؤبد، لكن لم تكن هناك أي وثيقة تثبت ذلك. وأضاف الشاهد حول ذلك:

“عادةً ما أقوم بمراجعة القضاء العسكري والشرطة العسكرية كل ستة أشهر أملاً في الحصول على أي معلومة حول شقيقي والتقدّم بطلب إذن لزيارته، لكنّ ردهم دائماً ما يكون بأن عليّ مراجعة الأمن العسكري أو المكتب الوطني، وأحياناً أخرى كانوا يخبرونني بألا معتقل لديهم بهذا الاسم، وأحياناً يطلبون مني ألا أسال عنه مجدداً. وفي أحد مراجعاتي للشرطة العسكرية في حي القابون أخبروني بأنّ أخي قد توفي وبأن عليّ مراجعة مشفى تشرين العسكري، إلا أنها كلها ادّعاءات لا دليل عليها”.

“حازم” أيضاً من محافظة الرقة، كان يعمل في تربية الأغنام، وقد تعرّض للاختفاء القسري على يد تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” عام 2014، وفقاً لشهادة شقيق الضحية، حيث قال:

“اعتقل شقيقي على يد عناصر تنظيم داعش الذين أخذوه وسيارته على مرأى من زوجته وأطفاله. لم نستطع معرفة مكان تواجده أو التهمة التي تمّ اعتقاله بسببها. كلما راجعناهم أنكروا وجوده لديهم، أو بدأوا باختلاق حجج مختلفة لأخذه. أحياناً كانوا يقولون أنّ تهمته هي العمالة للنظام السوري، وفي أحيانٍ أخرى قالوا أنه متهم بالعمالة للجيش الحر، وفي غيرها من المرات قالوا أنه عميل للإدارة الذاتية. لم يكن هناك أي إثبات لديهم على أي تهمة من هذه التهم. عرفتُ لاحقاً عبر أحد المصادر أن شقيقي نقل إلى أحد النقاط الأمنية في مدينة الرقة، وتنقّل بين عدد من السجون التابعة للتنظيم داخل مدينة الرقة. كلما سمعنا من أحدهم معلومة عن مكان احتجاز شقيقي، توجهنا إليه، وسألنا عناصر التنظيم هناك عن أخي لكنهم لم يعترفوا بشيء. سمعنا الكثير من الشائعات عن مكان أخي من أشخاص لم نعرفهم لأنهم كانوا يأتون ملثمين والخوف من كشفهم بادٍ عليهم. في أحد هذه المرات زارنا عنصر من تنظيم داعش لم نتمكن من معرفة هويته الحقيقية، وأخبرنا أنّه قابل شقيقي في سجن ‘سد الفرات’ في مدينة الطبقة، وأن الأخير طلب منه إعلامنا عن مكانه حرصاً على طمأنة أمنا المريضة. آخر ما سمعناه عن أخي كان عام 2015، عرفنا من أحد المصادر أن التنظيم حكم عليه بالسجن مدة عشر سنوات وأنه يحتاج إلى تزكية شخص من التنظيم حتى يطلق سراحه. منذ ذلك الحين لا نعرف شيئاً عن مصير أخي”.

4. لا أحد في سوريا مستثنى من خطر الاختفاء القسري:

لا تتوانى الحكومة السورية وغيرها من أطراف النزاع عن اعتقال أي شخص تشك بأنه يشكل “خطراً عليها” أو أنه ينتمي إلى الجهات المعارضة لها، أو تعتقله بناءً على تقارير كيدية أو غيرها من الأسباب الغير موضوعية أو قانونية. ولا يشفع للمعتقل أن يكون مريضاً أو صغيراً أو كهلاً.

تعرَّض “رواد”، من محافظة الحسكة ومقيم في القامشلي، للاختفاء القسري عام 2015، ولا تعلم عائلته شيئاً عن مصيره حتى اللحظة. تحدثت “سوريون” مع شقيق رواد الذي أخبرنا أن الأخير يعاني من مرض انفصام الشخصية، وأنه كان يفقد توازنه ومحاكمته المنطقية أحياناً ويحاول الخروج من البيت وحده رغم عدم قدرته على ذلك، حتى أتى ذلك اليوم الذي خرج فيه رواد ولم يعد. وأضاف شقيقه:

“عرضنا أخي على الأطباء عندما لاحظنا تدهور وضعه النفسي، فوصفوا له نوعاً من الحبوب كان يهدأ عند تناوله وتستقر حالته ويذهب إلى عمله بهدوء. لكن للأسف في عام 2015 حدثت أزمة غير مسبوقة على صعيد الأدوية وإمكانية شرائها، ولم نعد قادرين على إيجاد الدواء المناسب لأخي في سوريا أو تأمين بديل عنه من البلدان المحيطة بنا، وبدأت حالته تسوء مرة أخرى. في ذلك العام سافر أخي ليلاً من القامشلي إلى دمشق دون أن يخبرنا، وقد علمنا بذلك بعد أن فقدنا الأمل في العثور عليه في مشافي المدينة. قصدنا الكراجات وسألنا عنه، وهناك تعرف عليه أحد السائقين وأخبرنا أنه نزل في ساحة العباسيين في مدينة دمشق عندما توقف الباص عند حاجز تابع للنظام. قال السائق أن الركاب نزلوا من الباص ريثما انتهى التفتيش، وأنه اعتقد أن الجميع ركبوا مجدداً، ولكن في حقيقة الأمر لم يركب رواد معهم، وبقيت هويته مع السائق ولكن الأخير لم يدرك ذلك إلا بعد حين، فاختفى أخي عند مدخل ساحة العباسيين. سافر والدي في الصباح التالي إلى دمشق وفتح ضبطاً باختفاء أخي في قسم العباسيين. لاحظ والدي انتشار كبير للجيش السوري على الحواجز في دمشق ومحيطها وتأكد أنه لا يمكن لشخص أن يدخلها ويمشي فيها دون المرور بالحواجز، لذا فأغلب الظن أنه معتقل في أحد مراكز احتجاز النظام. منذ ذلك الحين ونحن نسأل عن شقيقي في الأفرع الأمنية وحاولنا الوصول إلى معلومات عنه عبر سماسرة ولكن من دون جدوى. أخي مريض، ولا ينتمي لأي جهات سياسية، كما لم يكن داعماً لأي طرف في النزاع، ولم يتدخل في أي نشاطات سياسية”.

وليس الحال أفضل بكثير مع الأشخاص الذين أجروا “تسوية وضع أمني” مع الحكومة السورية والتي يفترض أن تعني سقوط التهم عنهم وأنهم لم يعودوا مطلوبين وأنها بمثابة كرت أخضر يسمح لهم بممارسة حياتهم الطبيعية من جديد. ولكن أبدى بعض الشهود عدم شعورهم بالثقة في الحكومة بألا تعتقل أو تخفي من يجري هذه التسوية معها. في مثال على ذلك، تحدثت “سوريون” مع أحد ذوي المختفي “رائد”، وهو من جيرود في ريف دمشق. والذي أخبرنا بالآتي:

“كان رائد يعمل مدرّساً لمادة الفيزياء، لكن بعد سيطرة المعارضة السورية على مدينة جيرود في عام 2013، تمّ تبليغه بأنه مطلوب لفرع المخابرات الجوية، ومن ثمّ فُصل من عمله عام 2016 وتمّ إيقاف راتبه. بعد سيطرة الحكومة السورية على جيرود في شهر نيسان/أبريل 2018، أجرى رائد مصالحة مع الأفرع الأمنية ضمن خيمة المصالحة التي تم تشييدها في مدخل المدينة، وكان بداخلها ضباط مخابرات ممّثلين عن جميع الأفرع الأمنية. أخبروه حينها أنه مطلوب للسؤال عن أقاربه في جبهة النصرة وليس هناك أي تهمة أخرى موجّهة له، وبأنه تمّت تسوية وضعه. فبدأ بالفعل يعمل على الرجوع إلى العمل. قام بمراجعة الأفرع الأمنية على مدى ستة أشهر، وأجاب على كل الأسئلة التي طرحت عليه، حتى حصل على ورقة لا مانع من عودته للتدريس وقدمها لوزارة التربية

أضاف الشاهد:

“عند محاولة رائد استخراج جواز للسفر، تم اعتقاله في إدارة الهجرة والجوازات في دمشق واقتيد إلى جهة مجهولة. حاولنا معرفة مكانه، حتى علمنا أنه احتجز في البداية في فرع المعلومات، ومن ثمّ تمّ تسليمه إلى فرع الاستخبارات الخارجية. سمعنا من أحد المفرج عنهم أنه كان في سجن صيدنايا وحالته الصحية سيئة جداً”.

لم يتمكن الأهل من التواصل مع الضحية أو الاطمئنان عليه أو حتى التأكد من مكان وجوده أو من وضعه الصحي الذي سمعوا عنه الكثير من الشائعات.

بحسب ما تحدث به الشهود/الضحايا، يمكن أن يجري الاعتقال بحق أي شخص لأسباب كيدية أو شخصية أو انتقامية، بغض النظر عن الجهة التي تجري الاعتقال، وقد يؤدي البحث عن الحقيقة إلى تعريض الأسرة بأكملها لخطر كبير.

على سبيل المثال، اختفى “حمد” بعد أن كان شاهداً على سرقة ارتكبها عناصر تابعين لفصيل السلطان مراد (التابع للجيش الوطني السوري المعارض) بحسب ما أخبرنا به شقيق “حمد” وهو من منطقة عفرين بريف حلب تمت مشاهدته لآخر مرة في مطلع عام 2021:

“اقتحم ملّثمون مسلّحون يقودون سيارات دون لوحة مرورية مكان عمل شقيقي في عفرين. دخلوا إلى مكان عمله وطلبوه بالاسم ثمّ قاموا باقتياده إلى جهة مجهولة. نحن نعتقد أن الخاطفين يتبعون لفصيل السلطان مراد لأنّ أخي كان قد تشاجر معهم قبل أسبوع واحد من اختفائه بعد أن شاهدهم وهم يسرقون كمية من البيرين[13] من المعمل الذي يعمل فيه. اختلفت الروايات التي سمعناها عن مكان احتجازه، منها أنه في سجن يقع في بلدة كفرجنة بريف حلب، ومنها أنه في سجن اسمه سجن ‘المعصرة’ بريف مدينة إعزاز، في حين قالت مصادر أخرى أنه محتجز لدى الاستخبارات التركية، وإلى اليوم ما زلنا لا نعرف على وجه اليقين أين هو”.

5. تجنيد القاصرين واختفائهم قسراً:

خلال سنوات النزاع، لم يكن الإخفاء القسري حكراً على البالغين. في الحقيقة تعرض له الكثير من القاصرين والقاصرات أيضاً، وتجلى ذلك بشكل كبير في حالات تجنيد الأطفال المترافقة مع الإخفاء، والتي تمت ممارستها من جميع أطراف النزاع في كل سوريا،[14] وانتشرت في السنوات الأخيرة بشكل خاص في شمال شرق سوريا.[15]

من بين الأهالي الذين قابلتهم “سوريون” والدة الضحية “روان” من محافظة الحسكة (تولد عام 2006)، وهي إحدى الفتيات اللواتي تمّ تجنيدهنّ من قبل جماعة “الشبيبة الثورية” المرخصة من قبل الإدارة الذاتية والمقربة منها سياسياً، وذلك في منتصف عام 2018، عندما كانت تبلغ من العمر 12 عاماً فقط. قالت والدة الضحية:

“خرجت ابنتي من المنزل في عصر أحد الأيام ولم تعد. بحثنا عنها في كل مكان حتى علمنا أنّها كانت تقابل بعض عناصر الشبيبة الثورية في الحي. قمنا بمراجعة جميع المراكز العسكرية التابعة لقسد ومركز جماعة الشبيبة الثورية في القامشلي والحسكة وديرك، ومراكز التجنيد التابعة للدفاع الذاتي، ولكن أنكرها الجميع. بعد خمس سنوات، تمّ توقيف ابني على أحد الحواجز لأنه مطلوب لأداء ‘واجب الدفاع الذاتي’. لذا قصدتُ مركز التجنيد في محافظة الحسكة، وهناك أخبروني أن ابني يستطيع تأجيل تجنيده لأن شقيقته مجنّدة ضمن صفوف ‘وحدات حماية المرأة’ وهو ما أكده مركز العلاقات التابع لقسد. أتمنى أن أتمكن من التواصل مع ابنتي وسماع صوتها والاطمئنان على حالها”.

كذلك قابلت “سوريون” والد الضحية “عامر” من مدينة القامشلي (تولد عام 2004)، والذي تم تجنيده أيضاً عام 2018 من قبل جماعة “الشبيبة الثورية”، ولا تعلم عائلته شيئاً عن مصيره حتى وقت إعداد التقرير. أخبرنا والد الضحية بالآتي:

“وقع شجار بيني وبين عامر فغادر البيت. حاولت اللحاق بسيارة الأجرة التي ركبها لكنني لم أدركه. رأيت السائق وحده في السيارة، وعند سؤاله عن ابني قال أنه أنزله أمام شعبة التجنيد التابعة للإدارة الذاتية في الحي الغربي من المدينة. سألت في الشعبة ولكنهم قالوا أنهم رفضوا استقباله لعمره الصغير وبأنه قصد قسم قوى الأمن الداخلي الأسايش المجاور. ذهبت إلى القسم ولكنهم أخبرني أنه توجه إلى قسم الأسايش في حي الصناعة. ولم أسمع أي شيئاً عن ابني بعد ذلك”.

وروى والد عامر بأنه توجه أكثر من مرة إلى مقر جماعة “الشبيبة الثورية” في مدينة القامشلي، لكنه لم يجد ابنه هناك. قال والد الضحية:

“بقينا نبحث عنه طوال ستة أيام، التقينا خلالها بكادر من الجماعة نفسها، وقلت لهم بأنّ ابني صغير السن ومريض، وطلبت منهم أن يعيدوه ويأخذوا الكبير بدلاً عنه، لكن دون فائدة. في اليوم السادس اتصل بنا ابني من رقم سوري، وقال أنه سيذهب للمشاركة في دورة مدتها ستة أشهر. حاولت والدته إقناعه بالعدول عن ذلك، إلا أنه قام بفصل الهاتف، وبعدها حاولنا الاتصال به عشرات المرات من دون جدوى، حيث أجابنا بعد حوالي ساعة شخص وحذرنا من الاتصال مجدداً”.

وفي حالة أخرى، تحدثنا مع والدة “لاوند” من محافظة الحسكة (تولد عام 1999)، كان قد انضم إلى وحدات “حماية الشعب” بينما كان في سن الثالثة عشر، ثمّ تعرّض للاختفاء عام 2015:

“اختفى ابني في معركة جرت بين وحدات حماية الشعب وداعش، قُتل فيها عناصر من الوحدات بريف رأس العين الغربي. لكن لم تعثر وحدات حماية الشعب على أي دليل يتعلق باختفاء ابني أو يثبت مقتله خلال هذه المعركة. وكان حينها قد بلغ السادسة عشر من عمره. بعد مرور عام ونصف على اختفائه، قامت وحدات حماية الشعب بتشييعه وإعلانه شهيداً، أما أنا فما زلت أنتظر عودة ابني، لأننا لم نعثر على جثته ولم ندفنه ولا يوجد دليل يثبت أنه قتل. في الحقيقة وصلتنا أخبار متضاربة من مصادر متعددة خلال السنوات الماضية تشير إلى أنه قد يكون حياً. بعضها قال أنه في سجن صيدنايا لدى النظام، والبعض الآخر قال أنه في أحد السجون التركية، كما قال أحد المصادر أنه أسر مع تسعة عناصر آخرين في المعركة على يد تنظيم داعش وأنه مسجون في الرقة. لا أعرف الحقيقة ولا أعرف إن كان صغيري على قيد الحياة”.

6. الأصعب هو عدم معرفة ما إذا كانوا أحياء:

إن الثغرات القائمة في الإطار القانوني والمؤسسي السوري تطرح تحديات إضافية لأقارب المختفين في البحث عن أحبائهم ومعرفة مصيرهم وأماكن وجودهم، وفي المطالبة بالمساءلة، مثل التشريعات التي تمنح حصانة لموظفي إنفاذ القانون كالمرسومين رقم 14 لعام 1969 ورقم 64 لعام 2008، واستعراض مشروعية حرمان الأشخاص الذين يحتجزهم مسؤولو الحكومة من حريتهم في إطار إجراءات تجري دون ضمانات قضائية.

كما أن المرسوم التشريعي رقم 7 لعام 2022 القاضي بمنح عفو عام عن “الجرائم الإرهابية” المرتكبة من السوريين قبل تاريخ 30 نيسان/أبريل 2022،[16] والذي اعتُمد مؤخراً، يشكل أحد نقاط الضعف المؤسسية. علماً أن المرسوم كان سبباً للإفراج عن مئاتٍ من المحتجزين، على الرغم من عدم تقديم أي قوائم، وأفيد بأنه أدى إلى الإفراج عن أشخاص سبق أن أرسل بشأنهم إخطارات بالوفاة سُلمت إلى أسرهم.[17]

خلال المقابلات مع ذوي الضحايا، ذكر الكثير منهم أن أسوأ ما في الاختفاء هو عدم اليقين مما إذا كان أحباؤهم على قيد الحياة. تحدثنا في “سوريون” مع زوجة “عابد” من مواليد محافظة الرقة، والذي تعرّض عام 2013 للإخفاء القسري على يد جبهة النصرة.

“تعرّض زوجي للاعتقال في أحد المقرات التابعة لجبهة النصرة وذلك عندما قام بمراجعتهم من أجل السؤال عن صديقه المعتقل، وقد فقدنا أثره منذ ذاك الحين. حاولنا البحث عنه عند جبهة النصرة، وحركة أحرار الشام الإسلامية، وتنظيم داعش، لكن الجميع أنكروا وجوده. منذ ثلاث سنوات قرأنا اسمه في قائمة للقتلى نُشرت على إحدى صفحات الفيس بوك. تقول الصفحة أنه أعدم ميدانياً على يد قوات النظام السوري، إلا أنّ هناك أقاويل أخرى تقول بأنه مسجون لدى النظام بعد أن سلمته جبهة النصرة. هذه جميعها أقاويل ولا توجد أي براهين أو أدلة على موته. نحن لا نعلم يقيناً إن كان حياً أم لا وليس أمامنا سوى الانتظار”.

في سياق مشابه، تحدث شقيق “عدنان” من مواليد محافظة الرقة، والذي تعرض للاختفاء القسري على يد تنظيم الدولة “داعش” في محافظة الرقة عما جرى مع شقيقه:

“كان شقيقي مناهضاً لفكر تنظيم داعش ودائماً ما صرح بذلك. وقد حاول التنظيم ضمّه إليه لكنه رفض، مما سبب اعتقاله عدة مرات، كان آخرها في شهر أيلول/سبتمبر 2016 عندما قام التنظيم بأخذه واختفى بعدها. زارتني بعد 15 يوماً من اختفائه سيارة تابعة للحسبة وأخبرني من فيها بأن أخي قد أعدم. لم أتمالك نفسي عندما سمعت الخبر وسقطت أرضاً غير قادر على استيعاب الأمر. سألتهم عن السبب فقالوا أن عدنان متهم بالعمالة للنظام السوري وللتحالف الدولي والبيشمركة، ومنعونا من إقامة مجلس عزاء له. راجعت دار المظاليم التابعة للتنظيم آنذاك أكثر من مرة من أجل المطالبة بأي دليل على تنفيذ حكم الإعدام، لكنهم لم يريحوا قلبي بأي شي يؤكد حياته أو موته“.

أضاف الشاهد:

“كل التهمٌ الموجهة لأخي لا يمكن للعقل أن يصدقها. أخي مدرس يقضي نهاره بين المدرسة والجامع والبيت. في كل مرة كنت أراجعهم كانوا يؤجلون طلبي لأسبوع. خاف أبي إن تابعت الزيارات والأسئلة أن يعتقلوني ويخفوني أنا أيضاً. في قلبي مازلت أعتقد بأنهم لم يعدموه وأنه على قيد الحياة. لم نرَ إعدامه ولم يعطونا أياً من أغراضه أو هويته أو أي إثبات على موته”.

كذلك تحدثنا في “سوريون” مع شقيقة “طارق” من محافظة الحسكة، والذي اختفى عام 2019 خلال الغزو التركي على مدينة رأس العين/سري كانيه، حيث قالت في شهادتها:

“آخر ما قاله لي أخي أنه ذهب إلى مدينة تل أبيض، ثم انقطع الاتصال معه. بعدها علمت أنّ تل أبيض سقطت، واختفت معها كل أخبار أخي. أخبرتنا قوات قسد بعد عامين أن شقيقي قُتل مع أخرين في قصف للطيران التركي على ريف رأس العين. نحن لا نصدق كل هذا وما نزال نعتقد أن أخي لم يمت تحت القصف وأنه قد تعرّض للاعتقال على يد فصائل الجيش الوطني”.

“سلمان” من منطقة رأس العين/سري كانيه، كان أيضاً أحد الضحايا الذين تعرّضوا للاختفاء القسري خلال الهجوم التركي مدعوماً بفصائل الجيش الوطني السوري في عام 2019، بحسب رواية شقيق الضحية لـ “سوريون”، حيث قال:

“آخر تواصل لي مع أخي كان بعد ثلاثة أيام من الهجوم التركي. أخبرني حينها أنه سيبقى في منزله الواقع على طريق مدينة الحسكة، وبأنه لن يغادره إلا في حال شعر بخطر كبير. بعد سبعة أيام من بدء الهجوم التركي، اتصل بي شخص لا أعرفه وقال أنه من الجيش الحر، وادعى أنّ شقيقي معتقل لديه وبأنّ معه هاتفه ودراجته وطالبنا بدفع مبلغ مائة ألف دولار من أجل إطلاق سراحه، وراح يصف لنا التعذيب الذي يتعرض له أخي. أردتُ التأكد مما يقول فطلبتُ منه تسجيلاً صوتياً أو مصوراَ. تبيّن لاحقاً أنه تواصل مع شقيقتي وشقيقي والعديد من الأرقام الموجودة على هاتف أخي، وعرفنا من خلال أحد الوساطات أنّ هؤلاء مجرد جماعة عثروا على هاتف شقيقي ودراجته النارية في حي الصناعة في مدينة رأس العين، لكنهم لا يعلمون شيئاً عن مصيره، وقد كان الهدف من التواصل معنا هو النصب والاحتيال فقط. استمرت معاناتنا في البحث عن أخي ومعرفة مصيره، فبعد نحو عام من اختفائه علمنا من أحد المصادر أن أخي شوهد بالقرب من معبر رأس العين، معصوب العينين، ومصاباً في إحدى قدميه، وذلك حينما سلّمه عناصر من فصائل الجيش الوطني إلى الجيش التركي من أجل نقله إلى تركيا”.

أضاف الشاهد:

“قبل عام واحد فقط زارني صديقان لأخي كانا يسكنان بالقرب منه، وأخبراني أنهما كانا مع شقيقي في اليوم الثالث من الهجوم التركي، حيث ورده اتصال من أحد عناصر الجيش الحر يطلب منه أن يذهب إلى حي الصناعة، الذي كان تحت سيطرتهم حينها، من أجل إخراج معدات محله من هناك. ذهب أخي إلى الحي رغم اعتراض أصدقائه وتخوفهم من أن يكون فخاً. انقطع بعدها تواصلهما مع أخي الذي ذهب ولم يعد. هذا آخر ما عرفناه عن سلمان ونحن لا نعلم أي شيء آخر اليوم عن مصيره وعما إذا كان حياً أم لا”.

7. انتظرناهم ولم يعودوا:

لا يقتصر ضحايا الإخفاء القسري على الأشخاص الذين اختفوا قسراً، بل يشمل أسرهم أيضاَ حيث تعاني عائلات الأشخاص المختفين من عدم معرفة ما حدث مع أبنائهم وبناتهم، ومكان احتجازهم، أو كيف تتم معاملتهم، فيعيش ذوو المختفين في ألم الانتظار من جراء عدم معرفة ما حصل. وفي كثير من حالات الاختفاء القسري، تعرض الضحايا للاختفاء وهم وحدهم دون أن يعلم ذووهم ماذا حدث بالضبط وأين اختفت الضحية أو السبب وراء اختفائها أو الجهة التي أخذتها. جهل مطبق على الحادثة يترك أسر الضحايا في عتم مطبق.

“مراد” من محافظة حماه، كان أحد الضحايا الذين تعرّضوا للاختفاء القسري عام 2015، ولا تدري عائلته على وجه الدقة الجهة التي قامت بإخفائه، بحسب ما روى شقيق الضحية لـ “سوريون”، حيث قال:

“عمل شقيقي إعلامياً ضمن أحد فصائل المعارضة. وفي صيف عام 2015 اختفى في منطقة جسر الشغور التي كانت آنذاك تحت سيطرة هيئة تحرير الشام والحزب الإسلامي التركستاني. لم نعلم من كان وراء اختفائه ولكن أخبرني شقيقي سابقاً أنه تلّقى تهديدات بعد نشره انتقادات بحق الهيئة والحزب على حسابه على موقع الفيس بوك. وقد حاولنا السؤال عن مراد عند عدّة جهات أمنية تابعة للهيئة والحزب لكن دون فائدة، كما قمنا بدفع مبالغة نقدية للكثير من الوساطات والمتنفذّين من أجل جلب معلومة عنه لكن دون جدوى. في عام 2021، سمعتُ أنه محتجز في أحد سجون محافظة إدلب التابعة للهيئة. لشقيقي طفلتان لم تتمتعا بوجود والد قربهما وعاشتا حياة الحرمان والشقاء منذ غيابه واستمرت معاناتهما بشكل يومي خلال السنوات الثمان الفائتة”.

“حامد” من محافظة الحسكة، هو أحد الضحايا الذين تعرّضوا للاختفاء القسري عام 2017 وهو في طريقه إلى بيته بعد أن كان في مراسم عزاء في قرية “مزري” في الحسكة. بحسب ما روت زوجة الضحية لـ “سوريون” قائلة:

“خرج حامد من خيمة العزاء حوالي الساعة الرابعة ظهراً عائداً إلى بيته لكنه اختفى في الطريق. لاحظ أحد سكان قريتنا أن سيارة زوجي مركونة بشكل مثير للشبهة بين قريتنا وقرية مزري، فقام بإبلاغ أخي بذلك. ذهبنا لتفقد السيارة لكن عندما وصلنا فوجئنا بسيارة تابعة لقوات الأسايش وأحد عناصرها قد شغّل سيارة حامد. من حينها ونحن نعتقد بوجود زوجي في سجون الإدارة الذاتية، وتحديداً لدى قوة مكافحة الإرهاب التابعة للإدارة الذاتية لأنها اعتقلت زوجي سابقاً عام 2016 مدة 17 يوماً دون أن نعرف حينها بمكان وجوده إلى أن عاد للمنزل وأخبرنا بنفسه. بحثنا عن حامد في كل مكان، قصدنا جميع مؤسسات الإدارة الذاتية الأمنية كمؤسسات الأسايش في مدينة القامشلي وديرك وعامودا، فضلاً عن سجن ‘جركين’ وسجن ‘علّايا’ وغيره من السجون، من أجل الكشف عن مصيره لكن دون جدوى. التقيت أيضاً أحد القياديين في حزب الاتحاد الديمقراطي، وقدم وعوداً لي بالكشف عن مصير زوجي لكن دون فائدة أيضاً. لا نعرف أين حامد ولا نعرف ماذا حصل معه ومن أخذه منا وهو في طريقه إلى بيته”.

8. كيف يمكن أن تساعد المؤسسة المستقلة المعنية بالمفقودين ضحايا الاختفاء القسري؟

نص قرار إنشاء المؤسسة المستقلة المعنية بالمفقودين في سوريا على وجوب ضمان مشاركة الضحايا والناجين وأسر المفقودين وتمثيلهم بشكل كامل وفعّال، وأن تعمل مع المنظمات النسائية ومنظمات المجتمع المدني بشكل منتظم مستمر، وتطبّق نهجاً يركز على الضحايا والناجين، وأن تكون شاملة للأسر، وأن تعمل دون تمييز وبشكل مستقل محايد شفاف.

ولأن “سوريون” تدرك أهمية التركيز على الحق في معرفة الحقيقة وعلى مشاركة الضحايا والأسر وضرورة عمل المؤسسة بطريقة تشاركية تضمن دوراً مركزياً لأسر المختفين والمفقودين في تصميم وتنفيذ التدابير المتعلقة بالبحث عن الضحايا، وانطلاقاً من أهمية مراعاة حاجات الأسر إلى الوصول للعدالة ومحاسبة الجناة وللاعتراف بالضرر وجبره، قمنا خلال إعداد هذا التقرير بسؤال ذوي الضحايا عما يعرفونه عن المؤسسة وعما يتوقعونه منها وما يأملون أن تحققه.

أغلب من قابلتهم “سوريون” من المقيمين في سوريا لا يعرفون عن قرار إنشاء المؤسسة أو عن مهمتها، وعند سؤال الضحايا من أسر المختفين عما يمكن أن تقدمه لهم هذه المؤسسة، أجمعوا على أن ما يتطلعون إليه هو معرفة مصير أحبائهم المفقودين وأنهم على استعداد كامل للتعاون مع المؤسسة بحال كان هناك أمل في الوصول إلى الحقيقة.

نورد هنا بعض أقوال الشهود من ذوي الضحايا كمثال على ما سمعناه أثناء المقابلات:

“لم يسبق أن سمعتُ بالمؤسسة الجديدة للكشف عن مصير المفقودين، لكننا كعائلة مستعدون للتعاون معها. وإن لم يكن بإمكانها العمل على الإفراج عن المعتقلين المختفين، على الأقل من المهم أن تساعدنا في معرفة أين هم وما هو مصيرهم. نأمل أن تساعدنا المؤسسة في الوصول إلى حقيقة اختفاء أخي – شقيق الضحية عمر”

 

“أرجو من المؤسسة أن تساعدنا في معرفة ما إذا كان أخي حياً أم ميتاً، أن نعرف مكان احتجازه أو أي معلومات عنه.. نريد الخلاص من هذا العذاب الذي لا ينتهي – شقيق الضحية مراد”

 

“كل ما أتمناه وأريده من هذه المؤسسة هو أن نعرف مصير المختفين، وأن يتم السماح لنا بزيارتهم. نريد أيضاً أن يحصلوا على محاكمة عادلة لا أن يتم سجنهم ظلماً كي لا نفقدهم مجدداً – شقيق الضحية أحمد”

 

“نحن مستعدون للتبليغ والتعاون مع فريق المؤسسة الجديدة، حيث نأمل منهم أن يساعدونا في الكشف عن مصير زوجي ووالد أطفالي. أولادي يكبرون وهناك عمليات لتجنيد القاصرات والقاصرين من قبل مجموعة الشبيبة الثورية التابعة للإدارة الذاتية، وأنا أحتاج إلى حماية أطفالي من التجنيد. قد لا يكون ذلك من ضمن صلاحيات المؤسسة، لكن هذه المشكلة تؤرقني كثيراً، وهو ما دفعني مؤخراً لإرسال طفلي إلى إقليم كردستان العراق خوفاً من تجنيده واختفائه – زوجة الضحية حامد”

 

“أتمنى من المؤسسة الجديدة أن تساعدنا في الكشف عن مصير ابنتي، كل ما أريده هو أن تتواصل معنا وأن نطمئن عليها على الأقل – والدة الضحية روان”

 

“لم أسمع بتشكيل هذه المؤسسة لكننا مستعدون للتعاون معها، وما نأمله منها هو المساعدة في الكشف عن مصير أخي وكل المعتقلين المختفين – شقيق الضحية محمد”

 

“أتمنى أن تساعدنا المؤسسة في الكشف عن مصير أخي وإرجاعه إلينا. يعيش أطفاله العشرة حالة مادية صعبة للغاية في ظل غياب معيلهم – شقيق الضحية سلمان”

 

“ما أريد أن أعرفه هو مصيره فقط، أتمنى من المؤسسة الجديدة أن تساعدنا في الكشف عن ذلك – والدة الضحية لاوند”

 

“لم أسمع من قبل بمؤسسة دولية جديدة للكشف عن مصير المفقودين في سوريا، لكننا سنتعاون معها أملاً في الكشف عن مصير ابني، فكل ما نريده هو أن يعود إلى المنزل أو يتكلم معنا على الأقل – والد الضحية عامر”

 

“آمل أن تساهم المؤسسة الجديدة في الضغط على فصائل الجيش الوطني السوري من أجل الكشف عن مصير أخي – شقيق الضحية حمد”

 

“لم أسمع من قبل عن تأسيس مؤسسة للمفقودين في سوريا، ما نريده أن تساعدنا في الكشف عن مصير شقيقي المختفي الذي لا نعرف عنه شيئاً حتى اليوم – شقيق الضحية رائد”

“أرجو أن تستطيع المؤسسة مساعدة ذوي المختفين قسراً في إيجاد أبنائهم وبناتهم، وأن تكشف الحقيقة حول مصير المفقودين في سوريا – شقيق الضحية رواد”

بالإضافة إلى سؤال ذوي المختفين قسرياً عما يتطلعون إليه من المؤسسة الجديدة المعنية بالمفقودين في سوريا، تحدثنا مع الخبير القانوني في “سوريون” حول أهم ما يجب أن تركز عليه المؤسسة فيما يتعلق بالمختفين قسراً.

بحسب ما قاله الخبير، ينبغي أن تركز المؤسسة على الكشف عن مصير المفقودين في سوريا لدى جميع أطراف النزاع السوري، بغض النظر عن هوية المختفي قسرياً وانتمائه، وبغض النظر عن هوية مرتكب الانتهاك والجهة التي يتبع لها. كذلك أشار إلى أهمية التعاون مع منظمات المجتمع المدني السوري العاملة في مجال توثيق الانتهاكات، ولا سيّما الاختفاء القسري، وطلب بيانات حديثة عن قوائم الضحايا الموثقة لديها، وكذلك إنشاء قاعدة بيانات لدى تلك المؤسسة والعمل عليها بمهنية وتجنب تكرار البيانات وأي تضليل قد يحدث من قبل بعض منظمات المجتمع المدني غير المحايدة.

وفقاً للخبير القانوني، لا يمكن للمؤسسة أن تؤدي عملها بالشكل الأمثل إذا لم يتم إشراك أهالي الضحايا وعائلاتهم في عملية البحث عن المختفين، لأنّ الأهالي هم أكثر الناس حرصاً على الكشف عن مصير أحبائهم المفقودين، ومن الممكن أن تكون لديهم معلومات تساعد المؤسسة في الوصول إلى هدفها.

لضمان فاعلية هذه المشاركة من الممكن إحداث مكتب أو لجنة ضمن المؤسسة مهمتها التواصل مع أهالي الضحايا، وتخصيص أرقام هواتف وعناوين بريد إلكتروني لضمان وصول الأسر إلى المؤسسة. يجب أن يكون التواصل باللغة العربية متاحاً دائماً، وكذلك باللغة الكردية خاصة بالنسبة لأهالي شمال شرق سوريا، وينبغي الامتناع عن التمييز بين عائلات الضحايا على أي أساس كان (لا سيّما الأساس العرقي أو المناطقي).

 أشار الخبير القانون بأنّ أحد أصعب التحديات التي قد تواجه المؤسسة هو عدم تعاون الجهات المرتكبة للاخفاء القسري، خاصة مع وجود سجون سرية لدى كل أطراف النزاع، بالإضافة إلى وجود مرافق احتجاز تابعة لأجهزة الأمن السورية خارجة عن رقابة القضاء المدني وتتمتع بالحصانة من الملاحقة القضائية بموجب تشريعات جائرة سنتها الحكومة السورية بهدف حماية هذه الأجهزة وتمكينها من الإفلات من العقاب.

برأي الخبير القانوني أن الوسيلة الأنجع للتعامل مع التحديات المذكورة هي في أن يطرح الأمين العام للأمم المتحدة في تقريره القادم، ضرورة إبرام مذكرات تفاهم أو اتفاقيات بين الجهات الداخلية الفاعلة في الملف السوري (الحكومة السورية وسلطات الأمر الواقع) من جهة، والمؤسسة من جهة أخرى، بحيث تسمح هذه الاتفاقيات ومذكرات التفاهم للمؤسسة بدخول كافة مرافق الاحتجاز حتى السرية منها.

وأكمل الخبير بأنّ الاتفاقيات المذكورة يجب أن تحمل صفة الإلزام، وفي حال عدم الالتزام تقوم الأمم المتحدة بفرض عقوبات معينة على الجهة التي تخالف التزاماتها الواردة في الاتفاقية. كذلك ينبغي أن تصدر تقارير دورية تبين الجهات التي تمّ التواصل معها ودرجة تعاونها مع المؤسسة الدولية.

كما ويمكن للمؤسسة أن تخرج بتوصيات معينة تساعدها في تفعيل عملها في البحث عن المفقودين والمختفين قسرياً، كأن توصي بإلغاء التشريعات التي تمنح الحصانة لأجهزة الأمن السورية وتوفر البيئة الخصبة لعمليات الاختفاء القسري مثل المرسوم رقم 14 لعام 1969 الخاص بإحداث إدارة أمن الدولة والمرسوم رقم 64 لعام 2008 الذي يمنح حصانة ضد الملاحقة القضائية للأمن السياسي والشرطة وموظفي الجمارك على الجرائم المرتكبة أثناء تأدية مهامهم.

أكد الخبير القانوني أخيراً على أهمية حثّ الدولة السورية على التصديق على الاتفاقية الدولية لحماية كل الأشخاص من الاختفاء القسري، وكذلك ضرورة إنشاء مختبر للحمض النووي والاستفادة في هذا المجال من تجربة “البوسنة والهرسك” (اللجنة الدولية لشؤون المفقودين)، ولا سيّما بعد توثيق وجود العديد من المقابر الجماعية في سوريا خلال سنوات الصراع الماضية.

9. التوصيات:

الحكومة السورية:
  • الامتثال بالتزاماتها بمقتضى القانون الدولي، والانضمام إلى الاتفاقية الدولية لحماية جميع الأشخاص من الاختفاء القسري.
  • مراجعة تشريعاتها وإلغاء تلك التي تمنح الحصانة من الملاحقة القضائية للأجهزة الأمنية وغيرها، وإخضاع السجون ودور التوقيف كافة لرقابة وإشراف القضاء العادي.
الحكومة السورية وأطراف النزاع الأخرى:
  • الإفراج الفوري عن المعتقلين تعسفاً، والوقف الفوري للاعتقال التعسفي والاعتقال مع منع الاتصال، والسماح لجميع المعتقلين بالاتصال بأسرهم وبمحامين يدافعون عنهم أصولاً.
  • السماح للمنظمات المستقلة والإنسانية (مثل اللجنة الدولية للصليب الأحمر) بالوصول إلى مرافق الاحتجاز، خاصة تلك التي تدار من قبل الأجهزة الأمنية، والتأكد من توفر الشروط الأساسية التي تضمن صحة المعتقلين.
  • تسليم قوائم بجميع المعتقلين للجهات الفاعلة ذات الصلة للمساعدة في كشف مصير المفقودين وأماكن وجودهم.
  • محاسبة مرتكبي الانتهاكات في حق المعتقلين وإجراء تحقيقات نزيهة في حالات الاختفاء القسري وحالات الوفاة في مرافق الاحتجاز.
  • دعم تنفيذ قرار إنشاء المؤسسة الدولية الخاصة بالمفقودين، ودعم المؤسسة في مباشرة أعمالها في كشف مصير المفقودين والمختفين قسراً في سوريا، والتجاوب مع طلباتها.
المجتمع المدني السوري:
  • التعاون معاً لدعم عمل المؤسسة الدولية المعنية بالمفقودين في سوريا.
  • بناء قاعدة بيانات موحدة تجنباً للتكرار والمعلومات المضللة.
  • المساعدة في تعريف السوريين بالمؤسسة، وإرشادهم إلى أفضل طرق التواصل والتبليغ، وإبراز أهمية التعاون معها للكشف عن أماكن المختفين والمفقودين في سوريا.
  • متابعة التقارير الدورية للمؤسسة والقيام بعمليات الحشد والمناصرة للنقاط الهامة في تلك التقارير وتسليط الضوء على مكامن الخلل والتقصير في تلك التقارير إن وجدت.
المؤسسة الدولية المستقلة المعنية بالمفقودين في سوريا:
  • التركيز على الحق في معرفة الحقيقة وعلى مشاركة الضحايا والأسر وضمان دورهم المركزي في تصميم وتنفيذ التدابير المتعلقة بالبحث عن الضحايا، وأن تتيح لهم قنوات اتصال آمنة وفعالة وأن يكون لديهم الخيار في الحفاظ على سرية معلوماتهم.
  • إعطاء الأولوية في المرحلة الأولى من عمل المؤسسة على التواصل مع السوريين وتعريفهم بعملها وولايتها وذلك بالتعاون مع مؤسسات المجتمع المدني السورية.
  • إصدار تقارير نصف سنوية عن أنشطة وأعمال المؤسسة تتضمن استعراضاً لظروف الاختفاء القسري في مختلف مناطق السيطرة في سوريا، وبيان مدى التقدم الذي تحرزه المؤسسة خلال الفترة التي يغطيها التقرير، ومدى تعاون الجهات ذات الصلة معها.

[1] العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، التعليق العام رقم 36 CCPR/C/GC/36، الفقرة 58. 3 أيلول/سبتمبر 2019. تاريخ آخر زيارة للرابط 18 آب/أغسطس 2023.

https://undocs.org/Home/Mobile?FinalSymbol=CCPR%2FC%2FGC%2F36&Language=E&DeviceType=Desktop&LangRequested=False

[2] الأمم المتحدة، الجمعية العامة. A/RES/77/30 بتاريخ 5 تموز/يوليو 2023. تاريخ آخر زيارة للرابط 18 آب/أغسطس 2023.

https://undocs.org/Home/Mobile?FinalSymbol=A%2FRES%2F77%2F30&Language=E&DeviceType=Desktop&LangRequested=False

[3] منظمات المجتمع المدني تحث الدول الأعضاء في الأمم المتحدة على التصويت لصالح مؤسسة مستقلة بشأن المفقودين في سوريا. سوريون من أجل الحقيقة والعدالة. 25 حزيران/يونيو 2023. تاريخ آخر زيارة للرابط 18 آب/أغسطس 2023.

https://stj-sy.org/ar/%d9%85%d9%86%d8%b8%d9%85%d8%a7%d8%aa-%d8%a7%d9%84%d9%85%d8%ac%d8%aa%d9%85%d8%b9-%d8%a7%d9%84%d9%85%d8%af%d9%86%d9%8a-%d8%aa%d8%ad%d8%ab-%d8%a7%d9%84%d8%af%d9%88%d9%84-%d8%a7%d9%84%d8%a3%d8%b9%d8%b6/

[4] الاتفاقية الدولية لحماية جميع الأشخاص من الاختفاء القسري. موقع الأمم المتحدة. تاريخ آخر زيارة للرابط 18 آب/أغسطس 2023.

https://www.ohchr.org/ar/instruments-mechanisms/instruments/international-convention-protection-all-persons-enforced

[5] الدستور السوري. المرسوم رقم 94 لعام 2012. موقع مجلس الشعب السوري. تاريخ آخر زيارة للرابط 18 آب/أغسطس 2023. http://www.parliament.gov.sy/arabic/index.php?node=5518&cat=423

[6] الجمعية العامة. تقرير لجنة التحقيق الدولية المستقلة المعنية بالجمهورية العربية السورية A/HRC/46/55 تاريخ 11 آذار/مارس 2021. تاريخ آخر زيارة للرابط 18 آب/أغسطس 2023. https://documents-dds-ny.un.org/doc/UNDOC/GEN/G21/059/71/PDF/G2105971.pdf?OpenElement

[7] سوريا: مساهمة إلى لجنة الاختفاء القسري والفريق العامل المعني بالاختفاء القسري أو غير الطوعي بخصوص إصدار بيان مشترك حول الاختفاء القسري قصير الأمد. سوريون من أجل الحقيقة والعدالة. 24 تموز/يوليو 2023. تاريخ آخر زيارة للرابط 18 آب/أغسطس 2023. https://stj-sy.org/ar/%d8%b3%d9%88%d8%b1%d9%8a%d8%a7-%d9%85%d8%b3%d8%a7%d9%87%d9%85%d8%a9-%d8%a5%d9%84%d9%89-%d9%84%d8%ac%d9%86%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d8%a7%d8%ae%d8%aa%d9%81%d8%a7%d8%a1-%d8%a7%d9%84%d9%82%d8%b3%d8%b1%d9%8a/

[8] المفقودون والمختفون في سوريا: هل من سبيل للتحرك قُدماً؟ لجنة التحقيق الدولية المستقلة المعنية بالجمهورية العربية السورية. 17 حزيران/يونيو 2023. تاريخ آخر زيارة للرابط 18 آب/أغسطس 2023. https://www.ohchr.org/sites/default/files/2022-06/PolicyPaperSyriasMissingAndDisappeared_17June2022_AR.pdf

[9] الجمعية العامة. تقرير لجنة التحقيق الدولية المستقلة المعنية بالجمهورية العربية السورية A/HRC/46/55 تاريخ 11 آذار/مارس 2021. تاريخ آخر زيارة للرابط 18 آب/أغسطس 2023. https://documents-dds-ny.un.org/doc/UNDOC/GEN/G21/059/71/PDF/G2105971.pdf?OpenElement

[10] القانون رقم 22 لعام 2012. موقع مجلس الشعب السوري. تاريخ آخر زيارة للرابط 25 آب/أغسطس 2023

http://www.parliament.gov.sy/arabic/index.php?node=201&nid=4304&ref=tree&

[11] القانون رقم 55 لعام 2011. موقع مجلس الشعب السوري. تاريخ آخر زيارة للرابط 25 آب/أغسطس 2023

http://www.parliament.gov.sy/arabic/index.php?node=201&nid=4443&ref=tree

[12] محكمة الإرهاب/ أداة تنفيذ جرائم حرب. مركز توثيق الانتهاكات في سوريا. نيسان 2015. تاريخ آخر زيارة للرابط 21 آب/أغسطس 2023. https://www.vdc-sy.info/index.php/ar/reports/1430186775

[13] البيرين: مادة قابلة للاشتعال.

[14] لا توقف عن تجنيد الأطفال من قبل أطراف النزاع في سوريا خلال العام 2018. سوريون من أجل الحقيقة والعدالة. 11 شباط/فبراير 2019. تاريخ آخر زيارة للرابط 21 آب/أغسطس 2023. https://stj-sy.org/ar/1181/

[15] شمال شرق سوريا: لماذا تخفق الإدارة الذاتية في منع عمليات تجنيد الأطفال؟ سوريون من أجل الحقيقة والعدالة. 13 كانون الثاني/يناير 2023. تاريخ آخر زيارة للرابط 21 آب/أغسطس 2023. https://stj-sy.org/ar/%D8%B4%D9%85%D8%A7%D9%84-%D8%B4%D8%B1%D9%82-%D8%B3%D9%88%D8%B1%D9%8A%D8%A7-%D9%84%D9%85%D8%A7%D8%B0%D8%A7-%D8%AA%D8%AE%D9%81%D9%82-%D8%A7%D9%84%D8%A5%D8%AF%D8%B1%D8%A7%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%B0%D8%A7/

[16] المرسوم التشريعي رقم 7 لعام 2022. موقع مجلس الشعب السوري. تاريخ آخر زيارة للرابط 24 آب/أغسطس 2023.

http://www.parliament.gov.sy/arabic/index.php?node=5516&cat=22968&

[17] الأمم المتحدة، الجمعية العامة. A/76/890 بتاريخ 2 آب/أغسطس 2022. تاريخ آخر زيارة للرابط 24 آب/أغسطس 2023. https://undocs.org/Home/Mobile?FinalSymbol=A%2F76%2F890&Language=E&DeviceType=Desktop&LangRequested=False

منشورات ذات صلة

اترك تعليقاً

* By using this form you agree with the storage and handling of your data by this website.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك عدم المشاركة إذا كنت ترغب في ذلك. موافق إقرأ المزيد