-
مقدمة:
ازدادت سطوة الأجهزة الأمنية[1] على المؤسسات العامة والقضاء في سوريا، وبشكل خاص بعد استيلاء حزب البعث العربي الاشتراكي على السلطة عام 1963، إذ أصبحت تلك الأجهزة والجيش السوري، الأدوات الرئيسية لاستمرار نظام الحكم حتى الآن.
وبعد الانقلاب الذي قام به الرئيس السوري السابق حافظ الأسد عام 1970، تمّ إعادة هيكلة وتركيبة تلك الأجهزة إلى الحدّ الذي أصبحت فيه منافسة لبعضها البعض، وكل منها يتدخل في شؤون وأعمال يفترض أنها من اختصاصات الأجهزة الأخرى، وهذا ما ضمن للنظام الحاكم عدم قدرة أي من تلك الأجهزة على مجرد التفكير بالانقلاب أو “شقّ عصا الطاعة” بوجه الأسد.[2] تزامن ذلك مع إعادة هندسة وحدات الجيش السوري بحيث تكون قريبة منه جغرافياً وطائفياً وسياسياً، كالحرس الجمهوري والفرقة الرابعة (سرايا الدفاع سابقاً).
ونتيجة لتعاظم دور تلك الأجهزة وضمان بقاء الجيش في ثكناته، خاصة بعد تطعيم هيكليته بشخصيات تدين للرجل الأوحد في الدولة، فإن تلك الأجهزة باتت تتدخل في كل تفاصيل الحياة في سوريا، العامة منها والخاصة، سيما وأنها ضمنت عدم قدرة أي مؤسسة أو سلطة في الدولة، حتى القضائية منها، على محاسبتها، تزامناً مع وجود قوانين تمنع تحريك الدعوى العامة بحقهم في حال ارتكابهم لجرائم أثناء قيامهم بمهامهم أو في معرض قيامهم بها.
ولم يختلف الأمر كثيراً بعد استلام الرئيس السوري الحالي بشار الأسد للحكم في شهر حزيران/يونيو 2000، حيث راود الكثير من السوريين/ات الشعور بإمكانية تحسّن حالة حقوق الإنسان في سوريا، خاصة بعد خطاب القسم الذي تحدث الأسد الابن فيه عن الحاجة إلى “تفكير إبداعي” و”الحاجة الماسة إلى نقد بنّاء” و”الشفافية” و”الديمقراطية”.
ولكن هذه الوعود والآمال لم تتحقق ولم تترجم كلمات الأسد إلى أي نوع من العمل الحكومي لتعزيز النقد، أو الشفافية، أو الديمقراطية[3]. بل أنّ فشل الدولة في إنجاز ذلك ساعد في إنطلاقة الانتفاضة السورية عام 2011، عقب موجة “الربيع العربي” التي اجتاحت المنطقة.
وما زاد الأمر سوءاً هو أن تلك الأجهزة المحصّنة من المساءلة، لم تكتفِ بالتمتع بهذه الخاصية “الإفلات من العقاب” بل صارت تتدخل وتراقب وتوجه عمل مؤسسات الدولة وسلطاتها ومنها السلطة القضائية، وهذا ما ستبينه هذه الورقة من خلال نصوص القوانين والتعاميم الصادرة في سوريا، وكذلك من خلال الشهادات التي تم جمعها من مواطنين سوريين كانوا من ضحايا تلك التدخلات الأمنية.
-
هيمنة الأجهزة الأمنية على إدارات الدولة السورية ومؤسساتها:
كإحدى التحديات اليومية التي تواجه مؤسسات الدولة السورية ورجال إنفاذ القانون، دأبت الأجهزة الأمنية السورية بمختلف مسمياتها، على التدخل وتوجيه إدارات و “مؤسسات الدولة السورية”، وغالباً ما كانت يتم ذلك التدخل من خلال أوامر كتابية أو شفهية، كأحد أوجه التدخل السافر في شؤون مؤسسات، من المفروض أنّ تكون محمية بقوة القانون من أي تدخل أو سطوة.
نسرد وبشكل متتالي بعض تلك التدخلات في عمل مؤسسات الدولة المختلفة، فارضة عليها أوامر وتعليمات غير قانونية في غالب الأحيان، وتشكل تعدياً على استقلالية تلك السلطات.
-
تسجيل الطفل السوري يتطلب أحياناً الحصول على الموافقة الأمنية:
نص قانون الأحوال المدنية السوري رقم 13 لعام 2021، والمعدّل للمرسوم 26 لعام 2007، على إنه وعند حدوث واقعـة أحوال مدنية لمواطن داخل أراضي الدولـة، تقـدم الوثائـق المثبتة لحدوثها إلى أي مركز سجل مدني، ويتولى المركز تسجيلها مباشرةً، ولا تسجـل الـولادات بعـد انقضاء سنة على حـدوثها، وقبل بلـوغ أصحابهـا تمـام الثامنة عشرة من عمرهـم، إلا بناء عـلى ضبط شرطة، باستثناء الولادات والوفيات التي تُثبت بحكم قضائي قطعي.
ولم يشر القانون المذكور، في هذه الحالة، لا من قريب ولا من بعيد، إلى أي دور للأجهزة الأمنية في عملية تسجيل الولادات، وإنما فقط أشار إلى ضرورة تنظيم ضبط من قبل الشرطة المدنية في حال تجاوز عمر المولود السنة ولم يتجاوز الثامنة عشر، وحتى في هذه الحالة فإن التسجيل لا يحتاج لضبط الشرطة إن كان هناك قرار قضائي مبرم/قطعي/بات بخصوص تثبيت نسب الطفل وتسجيله.
إلاّ أنّ الواقع العملي في سوريا ليس دائما كذلك، فأحياناً تتدخل الأجهزة الأمنية في عملية تسجيل الواقعات في سجلات الأحوال المدنية، ومنها واقعات الولادة.
“شيروان ممو” أحد المواطنين السوريين/الكرد، قال لـ”سوريون من أجل الحقيقة والعدالة” في مقابلة تمّ إجراؤها في شمال شرق سوريا بتاريخ 15 شباط/فبراير 2022، بأنّه واجه صعوبة كبيرة في تسجيل ابنته الصغيرة البالغة من العمر خمسة أعوام، كون الطفلة ولدت عام 2017، في مدينة كوباني/عين العرب التي لا تخضع لسيطرة الحكومة السورية، وكان الشاهد قد سجل ابنته في سجلات الأدارة الذاتية، لذلك طلبت مديرية الشؤون المدنية في حلب الحصول على الموافقة الأمنية كشرط لتسجيل حالة الولادة تلك. وقد استغرق الحصول على الموافقة الأمنية/غير القانونية حتى العام 2022، إلى أنّ استطاع الشاهد تسجيل ابنته تلك.
يكفل القانون الدولي لحقوق الإنسان حق الطفل في التسجيل ويُلزم الدولة بتسهيله دون عوائق أو تأخير.[4] وهذا الإلزام مرتبط بواجب الدولة بضمان حقوق الطفل الأخرى وحمايته من خلال تسجيله من مخاطر وانتهاكات أخرى تنتج عن عدم أو تأخير تسجيله.[5] وتُعتبر أية تشريعات أو ممارسات تعرقل أو تمنع تسجيل الأهل لأطفالهم انتهاكاً لهذه الحقوق وفشلاً من قبل الدولة في الاضطلاع بواجباتها لجهة احترام وحماية هذه الحقوق خاصة حين تفشل الدولة من منع بعض أجهزتها أو وكلائها – الأجهزة الأمنية في حالة هذا التقرير – من القيام بهذه الممارسات المعرقلة لتسجيل الأطفال. علاوة على ذلك، قد ترقى ممارسات الأجهزة الأمنية المعرقلة لتسجيل الأطفال إلى التمييز السلبي – المحظور بشكل مطلق في القانون الدولي – في حال كانت تلك الممارسات موجهة ضد فئات معينة على وجه الخصوص، على أساس الإثنية أو العرق أو الدين أو الرأي السياسي أو الموقع الجغرافي أو أي أساس آخر.
-
منع السفر للسوري وإلغائه يتوقف على الموافقة الأمنية:
رغم عدم وجود أي مواد قانونية في التشريعات السورية على صلاحية الأجهزة الأمنية، بإقرار منع سفر شخص أو إلغائه، إلاّ إن المُتبع في الواقع العملي في سوريا هو ممارسات هذه الأجهزة على وضع منع سفر الشخص وحجز حريته وحرمانه من حق التنقل كحق من حقوق الإنسان، وكذلك قدرتها على رفع هذا المنع، وفقاً لرغبات وأهواء تلك الأجهزة، إذ تؤكّد إحدى المحاميات التي تمّ إجراء مقابلة معها لغرض هذه الورقة، بأنها فوجئت بوجود قرار بمنع سفرها خارج البلاد، حيث تبيّن أنّه موضوع من قبل جهاز أمني، وعلى الرغم من محاولاتها المتكررة برفع هذا المنع إلا أن تلك المحاولات باءت بالفشل. وسردت شهادتها قائلة:
“لقد عملت كمتطوعة لدى إحدى الفرق المدنية في الجنوب، والتي كانت تُعنى بشان المرأة والطفل، إذ تطوعت كمستشارة قانونية ومدربة للنساء على أنشطة حول محو الأمية القانونية، وكانت خدماتي متعلقة بالاستشارات القانونية للنساء المُعنفات، وأحياناً كنت أتولى دعاوى قانونية، بالإضافة إلى توعية النساء بالقوانين التميزية التي فيها عنف ضدهن..
وبعد فترة وأثناء قيامي بمعاملة إدارية شخصية تتطلب موافقة أمنية اكتشفت أنني ممنوعة من السفر بقرار أمني (غير قانوني) لصالح أحد الأفرع الأمنية. وهو ما أدّى إلى عدم قدرتي في الحصول على الموافقة الأمنية المطلوبة حالياً لكافة المعاملات الإدارية تقريباً ولا أستطيع أن أوكل أو أتوكل بأي وكالة قانونية لدى كاتب العدل لأنها جميعها تتطلب موافقات أمنية ولا أستطيع أن أقوم بمعاملات البيع والشراء والإيجار والقيام بالتراخيص الإدارية، بالإضافة إلى أنني لا أستطيع مغادرة سوريا إلا بموجب موافقة خطية من فرع الأمن المختص، مما عطل عملي وحياتي المدنية والشخصية والعملية. وهذا ليس حالي فقط بل حال الكثير من السوريين والسوريات.”
وبعد أن حصلت المحامية على إذن من “إدارة المخابرات العسكرية/أمن الدولة” بمراجعة الفرع المطلوب لتعلم ما سبب وضع منع السفر بحقها، اتجهت إلى العاصمة دمشق، وتحدّثت لسوريون عن تجربتها تلك قائلة:
“انطلقت إلى دمشق باكراً وكنت واقفة على باب الفرع في الساعة الثامنة والربع صباحاً، تركت أغراضي الشخصية مع صديقتي في الخارج ودخلت إلى الفرع واجتزت أسواره العالية التي تفصله عن المحيط الخارجي تماماً.. استغرقت قرابة النصف ساعة ليتم السماح لي بالدخول إلى القسم الذي يوجد فيه فرع التحقيقات.. حيث تمّ إجلاسي في ممر طويل وضيق وبارد على مقعد ممنوع أن أكلم أحد أو أسأل أي شيء، مرّ الوقت ببطء شديد وكنت أعدّ الأرقام لأعرف كم مضى من الوقت على جلوسي. كان هنالك أشخاصاً يأتون ويجلسون بجانبي لديهم مراجعات أو معاملات أو تراخيص تحتاج لتدخل وحشرية الأفرع الأمنية، وبالطبع منعنا جميعاّ من الكلام أو السؤال، حتى مرّ قرابة الثلاث ساعات (حسب عدي للأرقام) وأنا جالسة حيث ذهبت وسألت متى دوري فتم الإجابة من قبل عسكري (مو مطولة روحي عمكانك وما تحكي) وبعد مضي ساعة ونصف جاء دوري بالتحقيق.”
وروت لنا الشاهدة تفاصيل التحقيق والاتهامات الجزافية التي وُجِهت لها، والمعوقات الأمنية التي يتعرض لها الناشطين/ات المدنيين في الجنوب السوري:
“سألوني عن اسمي وعنواني ودراستي وعملي وكل شيء شخصي وغير شخصي، ثم بدأت التهم تُلقى علي مثل السيل، مثل التعامل مع “منظمات خارجية” والحصول على “تمويل خارجي” و”العمل مع منظمات غير مرخصة وحضور “اجتماعات وتجمعات غير مأذونة وغير مسموح بها”، إضافة إلى “تهمة التحريض على تعديل القوانين”.. لقد كانت إجاباتي (ولحسن حظي) قوية ومختصرة وقانونية (رغم الخوف الذي زرع بداخلي من رهبة المكان وطول الانتظار)، وبعد التحقيق الطويل الذي دام قرابة الساعة اكتشف المحقق أن أغلب التهم الموجهة لي ليست تهم بالأساس وإنما هو يستند بدون معرفة على التقارير الكيدية المكتوبة عني أمامه، وبعد انتهاء التحقيق وقيامه بإعطائي دروس في حب الوطن والإخلاص له ومساعدتهم في التخلص من عديمي الوطنية (على حد تعبيره) ومحاولته إقناعي في مساعدتهم ونقل الأخبار التي تهمم لهم، وبعد جدال طويل بقبولهم توقيع الضبط باكراً من رئيس الفرع. ومع وعد بأن موضوعي (شبه محلول) خرجت من الفرع كمن كتبت له حياة جديدة، ولازلت ممنوعة من السفر حتى هذا التاريخ.”
ولو كانت سوريا دولة يحكمها القانون لكان بامكان الشاهدة مراجعة القضاء لإلزام تلك الاجهزة برفع قرار منع السفر، إلاّ إن هذا الأمر غير ممكن في سوريا كون القضاء لا سلطة له على الأجهزة الأمنية، سيما وان الشاهدة محامية وتعرف جيداً القوانين التي توضح صلاحيات كل جهة.
زد على ذلك فإن استجواب الشاهدة (المحامية) هو إجراء غير قانوني كونه يخالف نص المادة 78 من قانون تنظيم مهنة المحاماة رقم 30 لعام 2010، والتي نصت بأنه ” لا يجوز تفتيش المحامي أثناء مزاولته عمله ولا تفتيش مكتبه أو حجزه ولا استجوابه إلا بعد إبلاغ رئيس مجلس الفرع ليحضر أو يوفد من ينتدبه من أعضاء المجلس أو من يراه مناسبا من المحامين الأساتذة ولا يعتد بإسقاط المحامي حقه بذلك تحت طائلة بطلان الإجراءات”.
إن حق أي فرد في مغادرة أي بلد ومن ضمنها بلده مكفول في عدة صكوك دولية أهمها المادة 12 (2) من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية. وعلى الرغم من أن الفقرة الثالثة من نفس المادة أشارت إلى إمكانية تقييد هذا الحق، إلا أن هذا التقييد يجب أن يكون استثنائياً، مستنداً لنص قانوني، ومتناسباً مع اختبار الضرورة والتناسب.[6] ومن الواضح أن غياب أي نص قانوني واضح يفيد بالمعايير الواجب تحديدها[7] لتفعيل إمكانية تقييد الحق في مغادرة الفرد لبلده يخالف جوهر المادة 12 (3) وبالتالي يجعل من التقييد الأصل بدل أن يكون الاستثناء وهو ما حذرت منه لجنة الأمم المتحدة المعنية بحقوق الإنسان.[8] وبغياب النص القانوني الواضح، تتحول ممارسة الأجهزة الأمنية في هذا السياق إلى حرمان تعسفي لحق الأفراد في حرية الحركة ومغادرة البلاد.
-
موافقات أمنية مطلوبة لمكتومي القيد السوريين للحصول على شهادة التعريف:
كانت نتيجة الإحصاء الاستثنائي الجائر الذي تمّ في محافظة الحسكة عام 1962، هو تجريد عشرات الآلف من الكرد السوريين من الجنسية السورية، وتمّ تسجيل قسم منهم كـ”أجانب” وقسم آخر كـ”مكتومين”، وقد تمّ التفصيل بهذا الأمر في تقرير سابق لمنظمة “سوريون”، بعنوان المواطنة السورية المفقودة.
وفي عام 2011، ونتيجة الاحتجاجات الشعبية التي اجتاحت المدن والبلدات السورية، أصدر الرئيس السوري بشار الاسد المرسوم رقم 49 وأعاد بموجبه الجنسية السورية للكرد المجردين منها، إلاّ إن المرسوم المذكور شمل فقط فئة الأجانب دون المكتومين، وهؤلاء المكتومين ليس بحوزتهم أي وثيقة تثبت وجودهم القانوني سوى ورقة تسمى “شهادة التعريف” تصدر عن “مختار المحلة/الحي/المنطقة”، وحتى يتمكن المكتوم من استصدار هذه الورقة من المختار يجب الحصول على الموافقة الأمنية.
“فرهاد حسو”، أحد الكرد السوريين المقيمين في كردستان العراق (أربيل/هولير)، قال في شهادته لسوريون من أجل الحقيقة والعدالة، في شهر أيلول/سبتمبر 2021، بأنه بحاجة للحصول على شهادة تعريف مصدقة أصولاً من السلطات السوريّة، كي يتمكن من الحصول على الإقامة القانونية في “كردستان العراق” وكي لا يواجه خطر الترحيل، إلا إن تصديق هذه الشهادة كان يحتاج إلى الموافقة الامنية التي لم يتمكن فرهاد من الحصول عليها رغم محاولاته. يقول فرهاد استكمالاً لقصّته:
“منحني المختار شهادة تعريفية، لكنها لم تكن مصدّقة، وكان لا بدّ من الحصول على موافقة فرع الأمن السياسي حتى يتم تصديقها، لذلك قمت بتقديم طلب إلى فرع الأمن السياسي في الحسكة، خلال أيلول/سبتمبر 2021، ودفعت لهم رشوة أيضاً، من أجل أن يمنحوني الموافقة اللازمة، لكن للأسف، باءت محاولتي هذه أيضاً بالفشل.”
وتجدر الاشارة إلى أن فرهاد وزوجته وأولاده مهددين بالترحيل، بحسب وصفه، من إقليم كردستان العراق لعدم قدرتهم على الحصول على الإقامة القانونية التي تعتمد على وثيقة قانونية تثبت شخصية الشخص مقدم الطلب، وعلاوة على ذلك فأن الأولاد الثلاثة لا يتمتعون بالجنسية السورية كون والدهم مكتوم القيد، وذلك على الرغم من أن والدتهم تتمتع بالجنسية السورية، لكن قانون الجنسية السورية رقم 276 لا يجيز للمراة السورية نقل جنسيتها لأولادها، بعكس الرجل.
-
تدخل الأجهزة الأمنية في شؤون السلطة القضائية:
نصّ الدستور السوري الحالي لعام 2012، وكذلك سابقه على أن “السلطة القضائية مستقلة ويضمن رئيس الجمهورية هذا الاستقلال ويعاونه في ذلك مجلس القضاء الأعلى”، كما نصّ بأن “القضاة مستقلون لا سلطان عليهم في قضائهم لغير القانون”،[9] كما إن المبادئ الأساسية بشأن استقلال السلطة القضائية، والتي تمّ اعتمادها من قبل الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1985، أكّدت بأن على الدولة أن تكفل استقلال السلطة القضائية، ومن واجب جميع المؤسسات الحكومية وغيرها من المؤسسات احترام ومراعاة استقلال السلطة القضائية، وتفصل هذه السلطة في المسائل المعروضة عليها دون أي تحيز، ودون أية تقييدات أو تأثيرات غير سليمة، ولا يجوز أن تحدث أية تدخلات غير لائقة أو لا مبرر لها في الاجراءات القضائية.
وعلى عكس المأمول، فلم تحترم الحكومات السورية المتعاقبة مبدأ فصل السلطات ولا استقلال السلطة القضائية وفق النصوص والمبادئ المذكورة سابقاً، وهذا واضح من خلال ترؤس رئيس الجمهورية (رئيس السلطة التنفيذية) لمجلس القضاء الأعلى وينوب عنه وزير العدل وهو أيضاً من ركائز السلطة التنفيذية، وعلاوة على ذلك فإن الحكومة السورية زادت من درجة امتهان السلطة القضائية وذلك من خلال منح الأجهزة الأمنية صلاحية التدخل في شؤون القضاء، وتجلى ذلك بشكل واضح في قوانين وتعاميم رسخت هذا التدخل.
-
التدخل الأمني من خلال القوانين:
ونذكر على سبيل المثال لا الحصر، القانون رقم 41 لعام 2004 وتعديلاته، والذي نص على عدم جواز إنشاء أو نقل أو تعديل أو اكتساب أي حق عيني عقاري على أرض كائنة في منطقة حدودية إلا بترخيص مسبق (الموافقة الأمنية)، أي أن القانون المذكور علٌّق شراء العقارات أو بيعها أو رهنها أو حيازتها أو حتى الانتفاع بها على شرط الحصول على الموافقة الأمنية، وفي الواقع العملي فإن منح تلك الموافقات من عدمه يؤسس بشكل أساسي على الحالة السياسية للشخص طالب التسجيل أو المتصرف بالعقار.
“زيد سالم” أحد المواطنين السوريين من محافظة السويداء، قال في شهادته لسوريون من أجل الحقيقة والعدالة خلال شهر شباط/فبرير 2022، بأنّه اشترى قطعة أرض، تعود ملكيتها لأخوين، وعندما حاول تسجيلها باسمه، تفاجأ بوجود إشارة حجز على العقار موضوع البيع. كون أحد البائعين مطلوب للخدمة العسكرية، وهو ما يفرض وفي حالة الرغبة وتسجيل العقار المذكور على اسم الشاري، الحصول على الموافقة الأمنية، ومع إن الشاري “سالم” قام برفع دعوى قضائية لتثبيت عقد البيع وحصل على الحكم القضائي المطلوب، إلاّ إنه لم يتمكن من تنفيذ هذا الحكم بسبب عدم قدرته على الحصول على الموافقة الأمنية المطلوبة. وسرد قصّته قائلاً:
“لقد تبين أنّ العقار الذي أنوي شرائه قد وُضع عليه إشارة حجز، ذلك لأن أحد الأخوة المالكيّن كان مطلوباً للخدمة الإلزامية.. لذا فقد قامت الأجهزة الأمنية بتجميد أمواله.. وبعد الحصول على الحكم القضائي بتثبيت البيع ومراجعة الأفرع الأمنية طلب مني مسؤولوا الأجهزة الأمنية -فرعي الأمن السياسي والعسكري- أن لا أراجعم مرة أخرى لطلب الحصول على موافقة لنقل ملكية العقار المذكور، وهددوني بالاستجواب، وربما الاعتقال إذا حاولت ذلك مجدداً.”
“عبد الواحد عمر”، أحد المواطنين السوريين الذين لم يستطيعوا الحصول على “الموافقة الأمنية” من فرع الأمن العسكري، لتسجيل أرض زراعية قام بشرائها في منطقة رأس العين/سري كانيه، على الرغم من حصوله على موافقة الأمن السياسي بعد دفع مبلغ مالي كرشوة، وذكر “عمر” بأن أحد المحققين في فرع الأمن العسكري أبلغ محاميه بأنهم لن يستطيعوا منح موكله الموافقة كون الأرض الزراعية تقع في منطقة محتلة تركّياً في الوقت الراهن، وليس بإمكان موظفي الحكومة السورية الكشف الميداني عليها، وأضاف الشاهد بأن آلاف التجارب السابقة تفيد بأن الكرد لا يحصلون على الموافقات الأمنية اللازمة لتملك الأراضي الزراعية في منطقة الجزيرة.
-
التدخل الأمني من خلال التعاميم:
إضافة إلى ما ذكر فإن التدخل الأمني في شؤون القضاء لم يقتصر على تلك النصوص القانونية التي تتيح له ذلك، بل إن رئاسة مجلس الوزراء وكذلك وزير العدل وهما من ركائز السلطة التنفيذية، أصدروا بعض التعاميم التي تجعل من الحصول على الموافقات الأمنية شرطاً لازماً لقدرة القضاء على تيسير أمور المواطنين الحياتية، ونذكر هنا على سبيل المثال لا الحصر، التعميم الذي صدر عن رئاسة مجلس الوزراء برقم 4554 تاريخ 4 آب 2015 الموجه إلى وزارة الإدارة المحلية، بضرورة إضافة البيوع العقارية وعمليات إيجار وفراغ المنازل والمحلات إلى القضايا التي تستوجب الحصول على موافقة أمنية مسبقة من الجهات المختصة.
والتعميم الصادر عن وزارة العدل السورية برقم 82 لعام 2018 المتعلق بضرورة الحصول على الموافقات الأمنية للحالات المتعلقة بالوكالات الداخلية والخارجية التي تنظم بشأن نقل ملكية العقارات، والوكالات الداخلية والخارجية التي تنظم بشأن تأسيس الشركات أو المشاركة فيها أو الإنسحاب منها، كما أصدرت تعميمها رقم (14)، في 21 من شباط 2018، الذي يؤكد على ضرورة الحصول على الموافقة الأمنية قبل إتمام عمليات البيع بالمزاد العلني، (وقد استثنى التعميم البيوع الجارية لمصلحة الجهات العامة)، وبتاريخ 9 تموز/يونيو 2019 أصدرت وزارة العدل التعميم رقم 14 والقاضي بضرورة الحصوص على الموافقات الامنية اللازمة للوكالات الخارجية، وشملت جميع عمليات بيع وشراء السيارات والمركبات – بيع وشراء العقارات بموجب عقد بيع سابق – قبض الرواتب التقاعدية – تعديل عقود الشركات – مراجعة المصارف العامة والخاصة لسحب أموال وتجديد بطاقات الصراف – تأجير العقارات والأصول الثابتة – التخصص بالشقق السكنية لدى الجمعيات التعاونية أو فسخ العقود – استثمار الأراضي الزراعية وحفر الىبار الارتوازية – الاستقالة من الدوائر العامة والخاصة – الهبة وحصر الارث وتصفية التركات – استثمار المنشأت التجارية السكنية. وبتاريخ 16 أيلول/سبتمبر 2021، عممت وزارة العدل لدى الحكومة السورية تعميماً حمل الرقم (30) ونصّ على ضرورة الحصول على “الموافقات الأمنية اللازمة” كشرط جوهري ومسبق للبدء بإجراءات استصدار وكالات عن الغائب أو المفقود، أسوة بمعظم أنواع الوكالات العامة والخاصة.
-
التدخل الأمني من خلال عدم وجود تشريعات وقوانين تنظم عمل وصلاحيات الأجهزة الأمنية:
ما زاد الأمر تعقيداً هو عدم وجود قوانين ناظمة لعمل تلك الأجهزة الأمنية، فمن خلال البحث الذي أجراه الفريق القانوني لـ “سوريون” في مصادر خاصة ومفتوحة، لم يتم العثور على أي قوانين بهذا الخصوص، سوى نصوص مبعثرة من المرسوم رقم 14 لعام 1969 القاضي بإحداث إدارة أمن الدولة، وبعض المواد من “قانون التنظيمات الداخلية لإدارة أمن الدولة وقواعد خدمة العاملين فيها” والصادر بالمرسوم التشريعي رقم 549 لعام 1969، وهي النصوص التي تؤكد على عدم جواز الملاحقة القضائية لرجال الأمن في سوريا وسبق ذكرها في هذه الورقة، ورغم البحث أيضاً في برنامج حمورابي، وهو برنامج الكتروني يباع في سوريا لرجال القانون ويفترض أنه يحتوي على جميع القوانين والمراسيم والتعاميم الصادرة في سوريا، وعلى الرغم من الدخول إلى قسم التشريعات الأمنية في هذا البرنامج إلا إن “سوريون” لم تعثر على القوانين الناظمة لعمل تلك الأجهزة الأمنية، بل احتوى القسم المذكور على بعض التشريعات الناظمة لعمل وزارة الداخلية، والأخيرة لا علاقة لها بالأجهزة الأمنية، بل هي أيضاً مثلها مثل باقي الوزارات الخاضعة عملياً لرقابة الأجهزة الأمنية المذكورة.
وتستنتج “سوريون” مما سبق إنه لا توجد قوانين لتنظيم عمل وصلاحيات تلك الأجهزة، وحتى في حال وجودها فأنها غير منشورة ولا يتاح للعامة ولرجال القانون الإطلاع عليها، وفي الحالتين، عدم وجودها أو عدم نشرها، فإنه لا يمكن تفسير هذا الأمر سوى إنه يهدف إلى منح هذه الأجهزة صلاحيات فضفاضة غير مقوننة، وهذا ما يوفر لها البيئة المؤاتية للإفلات من المساءلة والعقاب.
-
خاتمة وتوصيات:
لاحظنا من خلال ما تمّ سرده في هذه الورقة الدور المتعاظم للقوى الأمنية في سوريا وتدخلها غير المبرر في عمل مؤسسات الدولة الإدارية والقضائية، وذلك من خلال التعليمات التي تعطيها لتك المؤسسات، ومن خلال التعاميم الصادرة عن رئاسة مجلس الوزراء ووزارة العدل، وبالتالي تعليق معاملات المواطنين الحياتية اليومية كتسجيل واقعات الأحوال المدنية، وعمليات البيع والشراء وتنظيم الوكالات الداخلية والخارجية على الموافقات الأمنية، والتي تتحكم في إصدارها غالباً أهواء ورغبات رجالات الأمن وفسادهم، خاصة إنهم محصنون من الملاحقة القضائية كما أوضحنا سابقاً، وكانت الشهادات التي حصلت عليها “سوريون” والمسرودة في هذه الورقة تنصبُّ جميعها في هذا الاتجاه.
لذلك ترى “سوريون” بأن سوريا بحاجة إلى الكثير من الاجراءات في حال وجود الرغبة الحقيقية والجادة للتوصل الى الحل السياسي المنشود، والوصول بسوريا إلى دولة الحق والقانون والمؤسسات، وكونه من الصعوبة بمكان أن تحيط هذه الورقة بجميع الاجراءات المطلوبة، وخاصة تلك الضرورية لتوفير البيئة الآمنة والمحايدة والتي تعتبر الأساس الذي يمكن أن تبنى عليه الخطوات اللاحقة، فإن “سوريون” ستشير وعلى عجل لأهم الخطوات المطلوبة لإصلاح الأجهزة الأمنية ومنعها من الهيمنة والتسلط على المؤسسات السورية ولا سيما القضاء. ويمكن إختصارها بمايلي:
- النص في الدستور الجديد على مبادئ واضحة ولا تقبل الكثير من التأويل حول عمل تلك الأجهزة الأمنية وصلاحياتها، ومن ثم إحالة تفاصيل هذا الأمر إلى قوانين خاصة لا تتعارض مع المبادئ المنصوص عليها في الدستور.
- سنّ تشريعات توضح بالتفصيل عمل تلك الأجهزة الأمنية وتمنع التداخل في اختصاصاتها، وتتوافق تلك التشريعات مع مبادئ حقوق الانسان المنصوص عليها في العهود والمواثيق الدولية، بشكل يحقق المعايير الدولية المذكورة في مدونة قواعد السلوك للموظفين المكلفين بانفاذ القوانين المعتمدة من قبل الجمعية العامة للأمم المتحدة بقرارها رقم 34/169 لعام 1979، وأن تكون تلك التشريعات والقوانين الناظمة لعملها منشورة ومتاحة لاطلاع العامة عليها.
- إلغاء كافة التشريعات والتعاميم التي تمنح هذه الأجهزة الحصانة من الملاحقة القضائية، عن الجرائم التي يرتكبونها أثناء أداء مهامهم أو في معرض قيامهم بها، وإخضاعها لسلطة القانون والقضاء.
- إعادة هيكلة تلك القوى الأمنية بالشكل الذي يضمن اخضاعها لسلطة مدنية، مع استبعاد كافة الرموز والشخصيات المشار اليها في التقارير الحقوقية بارتكابها لجرائم حرب وجرائم ضد الانسانية.
- إخضاع رجال الأمن، عناصر وضباط، لدورات تدريبية مكثفة بالشكل الذي يحقق الكفاءة والمهنية اللازمة لحسن أداء المهام المطلوبة منهم، وبالشكل الذي يراعي الاحترام الكامل لحقوق الانسان وحرياته الأساسية المنصوع عليها في العهود والمواثيق الدولية.
- على هيئات الأمم المتحدة المعنية بالرقابة على مدى التزام الدول بصكوك القانون الدولي لحقوق الإنسان، وأهمها لجان المعاهدات التي صادقت أو انضمت سوريا لها، ألا تكتفي بمراجعة النصوص القانونية والتشريعات الأخرى المقدمة من الحكومة السورية في تقاريرها الدورية، وذلك لأن المشكلة الأخطر تكمن في الممارسات غير المقنّنة للأجهزة الأمنية، وغياب أية آليات للرقابة والمحاسبة من قبل السلطات الرسمية لتلك الممارسات.
[1] منها بشكل أساسي ( شعبة المخابرات العسكرية/الأمن العسكري، وجهاز المخابرات الجوية/الأمن الجوي، وإدارة المخابرات العامّة/أمن الدولة، وشعبة الأمن السياسي/الأمن السياسي).
[2] يقول الباحث جيمس ت. كويليفان: (أنشأت الحكومة السورية عدة أجهزة أمنية لها اختصاصات متداخلة، تعمل دائماً على مراقبة ولاء الجيش ومراقبة بعضها البعض من خلال مسارات اتّصالات مستقلّة مع القادة المهيمنين، لضمان عدم تعرّض العائلة الحاكمة لانقلاب، وكي تبقى الأجهزة في حالة تنافسية لا تعاونية، يحاول كلّ منها التملّق للرئيس، ما يضمن استمراره في السيطرة على النظام. للمزيد انظر تقرير: للجدران آذان، تحليل وثائق رسمية من أجهزة الأمن السوري. المركز السوري للعدالة والمساءلة، 1 نيسان/أبريل 2019. آخر زيارة للرابط: 1 تموز/يوليو 2022: https://ar.syriaaccountability.org/1787/
[3] “العقد الضائع” حالة حقوق الإنسان في سوريا خلال السنوات العشر الأولى من حكم بشار الأسد. هيومن رايتس وتش. 16 تمّوز/يوليو 2010. آخر زيارة للرابط: 1 تمّوز/يوليو 2022. https://www.hrw.org/ar/report/2010/07/16/256102
[4] العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، المادة ٢٤(٢)؛ واتفاقية حقوق الطفل، المادة ٧.
[5] UN Human Rights Committee (HRC), CCPR General Comment No. 17: Article 24 (Rights of the Child), 7 April 1989.
[6] UN Human Rights Committee (HRC), CCPR General Comment No. 27: Article 12 (Freedom of Movement), 2 November 1999, para. 16.
[7] Ibid. para. 13.
[8] Ibid.
[9] المواد 132 و134 من الدستور السوري.