مقدمة: تنوعت الممارسات التي يقوم بها تنظيم الدولة الإسلامية او كمايعرف باسم تنظيم "داعش"، بحق آلاف المدنيين في بلدة مركدة الواقعة جنوبي الحسكة، بدايةً بالاستيلاء على محالهم وممتلكاتهم وإجبارهم الرحيل عن بلدتهم، ومروراً باعتقال العشرات من شبّان ورجال البلدة بغية تسخيرهم في أعمال الحفر، وانتهاءً بفرض التجنيد القسري"واجب الجهاد[1]" على العديد من شبان البلدة، سواء كانوا دون سن الثامنة عشر، أم كانوا حاصلين على تأجيلٍ للخدمة وفقاً لأحكام التنظيم نفسه، وذلك حسبما أكدّ العديد من شبان بلدة مركدة ل سوريون من أجل الحقيقة والعدالة في شهر أيلول/سبتمبر 2017.
ومع تقدم القوات الحكومية السورية وقوات سوريا الديمقراطية باتجاه مناطق سيطرة التنظيم (كمدينتي دير الزور وتدمر) في العام 2016، عمد التنظيم إلى سوق المئات من الشباب إلى القتال، ومنهم من لم يبلغ سنّ الثامنة عشر، بعد إخضاعهم لدورة تدريبية تتألف من تسعة أشهر، وذلك بغية تعويض الخسائر البشرية التي تكبّدها خلال العمليات العسكرية التي خاضها التنظيم ضد مختلف الأطراف والدول.
أولاً: واجب الجهاد أحكامه وطرق الإلتحاق به:
فرض تنظيم داعش ضمن العديد من مناطق سيطرته في سوريا والعراق، واجب حمل السلاح على كل شاب تجاوز الثامنة عشرة عاماً، وذلك عبر مراجعة "مكتب الجهاد-ديوان الجهاد"[2] الذي يعد جزءاً من مؤسسات دولته، ومن ثم الحصول على ما يسمّى "بدفتر الجهاد" الذي يتضمن الاسم والصورة وتاريخ الولادة، إضافة إلى زمرة الدم وست أوراق، كتب عليها الالتحاق أو التأجيل والسبب، فضلاً عن ورقتيين إضافيتين، إحداهما مخصصة للتسريح وتاريخ التسريح من الواجب، والأخرى مخصصة لطلب الاحتياط في حال تطلب الأمر، وذلك وفقاً لشهادات العديد من الشبان الفارين من قبضة التنظيم.
ويعد "دفتر الجهاد" بمثابة وثيقة رسمية تعكس الوضع العسكري لكل شاب تجاوز الثامنة عشر عاماً، وفي المقابل كان يلجأ العديد من الشبان إلى تأجيل أنفسهم إما لأسباب صحية، أو بسبب التحاق أحد أفراد عائلته بمؤسسات التنظيم العسكرية، كما من الممكن أن يكون المؤجل منضوياً في دوام إدري ضمن مؤسسات تنظيم "داعش" لكن شرط أن يكون أحد أفراد عائلته ملتحقاً بالتنظيم عسكرياً أيضاً.
ثانياً: التصرف بخلاف الأحكام التابعة للتنظيم في بلدة مركدة:
مع بداية العام 2016، تكبّد تنظيم "داعش" خسائر كبيرة في مختلف محاور القتال سواء في مدينة الرقة أو حتى مدينة دير الزور وصولاً إلى الحدود السورية العراقية، وهذا ما دفع بالتنظيم إلى "وضع قوانينه" التي تبنّاها في فترة من الفترات جانباً، وبدأ بسوق الشبان في بلدة مركدة للخدمة في صفوفه، حتى وإن كانوا دون سن الثامنة عشر، ووفقاً لمصادر عديدة فإنّ التنظيم يقوم بذلك نتيجة للخسائر الفادحة التي مني بها خلال العمليات العسكرية مع الأطراف الأخرى.
(محمد .خ) وهو اسم مستعار لأحد شبان بلدة مركدة ويبلغ من عمره (19) عاماً، نجح في الفرار من قبضة تنظيم "داعش" في أواخر شهر آب/أغسطس 2016، وذلك عقب معرفتة بأن التنظيم ينوي سوقه للخدمة العسكرية في صفوفه، فاتجه لاجئاً إلى منزل أحد أقاربه في بلدة الشدادي، وفي هذا الصدد تحدّث لسوريون من أجل الحقيقة والعدالة قائلاً:
"قمت باستخراج دفتر الجهاد في عمر الثامنة عشر، إلا أنني كنت مؤجلاً بما أنّ والدي كان يعمل كحداد في إحدى القطع العسكرية التابعة للتنظيم والواقعة على الحدود بين بلدتي مركدة والشدادي، وكان تأجيلي سارياً إلى حين عودة والدي إلى المنزل بحسب قوانين التنظيم، وهذا الحكم بتأجيلي جعلني أتحرك بحرية ضمن حدود بلدة مركدة لأكثر من عام، ومن ثم بدأت العمل لدى أحد أقاربي في سوق البلدة، وكان والدي يزورنا عند نهاية كل أسبوع، لكن بعدما ألحقت قوات سوريا الديمقراطية العديد من الخسائر بالتنظيم، ولاسيما عقب سيطرتها على العديد من المناطق الواقعة بين بلدتي الشدادي ومركدة، كقرى الشمساني والشرقية وقطبة في شهر شباط/فبراير 2016، عمد التنظيم إلى اعتقال كل شاب قادر على حمل السلاح حتى وإن كان دون سن الثامنة عشر."
وأضاف محمد بأن عناصر التنظيم قاموا بالتردد إلى مكان عمله عدة مرات مع مطلع شهر أيار/مايو 2016، وذلك بغية اعتقاله واقتياده للخدمة في صفوفهم، موضحاً بأنهم لم يتمكنوا من اعتقاله بحكم أن عمله كان في الخارج أغلب الأحيان، فما كان من محمد إلا التخفي في إحدى القرى الواقعة شرقي بلدة مركدة، مدعياً المرض عند مكوثه لدى إحدى أقاربه، وفي هذه الأثناء عمد والد محمد إلى مراجعة "ديوان الجهاد-مكتب الجهاد" الكائن في البلدة، فأخبروه بلزوم مجيء محمد إلى مكتب الديوان بنفسه، وفي المرة الثانية ولدى إبراز والد محمد لدفتر الجهاد الخاص بابنه أمام عناصر مكتب الديوان، قاموا بسحبه وتمزيقه، مؤكدين بأن على ابنه الالتحاق بواجب الجهاد كي يساعدهم على قتال "الكفار" حسب تعبيره، وتابع محمد قائلاً:
"بتاريخ 21 آب/أغسطس 2016، قام أحد أقاربي بتهريبي إلى قرية تقع شرقي بلدة مركدة، وبعد عدة أيام تم تهريبي خارج تلك البلدة، وتحديداً إلى حدود بلدة الشدادي الواقعة تحت سيطرة قوات سوريا الديمقراطية، وقام قريبي بدفع مبلغ (250) ألف ليرة سورية لقاء رحلة تهريبي، بينما كان والدي قد أخبر عناصر التنظيم بأنني قمت بالفرار باتجاه قرية في الغرب من أجل تشتيتهم، وقد علمت من خلال الرسائل التي كانت تصلني من والدي عبر أحد الوسطاء، بأن علي الخروج من حدود داعش، وبأن والدي سيقوم باللحاق بي، لكن يبدو أن ذلك تعذّر عليه بسبب سوء وضعه الصحي."
وفقاً لأحكام تنظيم "داعش" الخاصة بواجب الجهاد، يحقّ لأي شاب تأجيل نفسه، على أن يقوم أحد أقاربه بأداء بواجب الجهاد، فيما يعتبر الأول مؤجلاً إلى حين انتهاء الآخر من واجب الجهاد، ومن ثم يتم سحبه للخدمة في صفوف التنظيم، عقب شهر واحد فقط من انتهاء خدمة قريبه، وهو الأمر الذي أكدّه (خليل .خ) وهو اسم مستعار لأحد شبان بلدة مركدة الذين تجاوزوا التاسعة عشر عاماً، ففي تاريخ 1 حزيران/يونيو 2017، أقدم عناصر تنظيم "داعش" على مداهمة منزل عائلته في البلدة، وذلك بغية سوقه هو الآخر إلى واجب الجهاد، علماً بأنه مؤجلاً من الخدمة، باعتبار أن شقيقه كان يخدم في مؤسسات التنظيم العسكرية، وفي هذا الصدد تحدّث خليل لسوريون من أجل الحقيقة والعدالة قائلاً:
"داهم عناصر التنظيم منزلنا برفقة دورية تابعة لمكتب الحسبة، ومن حسن حظي أنني لم أكن متواجداً في المنزل حينها، واستمروا في عملية البحث عني داخل المنزل، دون ان يوضحوا لوالدتي وشقيقتي الأسباب التي دفعتهم لذلك، وفي اليوم التالي توجه والدي إلى مكتب الحسبة للاستفسار عن الأسباب، فعلم من خلال أحد المصادر المقربة له في المكتب، بأن الأمر له علاقة بخدمة واجب الجهاد وبأن علي التواري عن الأنظار، وإلا سيتم اعتقالي وسحبي للخدمة، علماً بأنهم على معرفة مسبقة بأن شقيقي يخدم في إحدى مؤسسات التنظيم العسكرية، وبأن التأجيل من حقي، ثم علمنا لاحقاً من خلال أحد المصادر، أن عناصر التنظيم يقدمون على اعتقال أي شاب تجاوز الثامنة عشر أم لم يتجاوزها من أجل واجب الجهاد وبأن التنظيم بات يطبق سياسة إما أن تحمي وطنك أو ابتعد عنه."
توارى خليل عن الأنظار في منزل أحد أقاربه، ولدى زيارة أخيه إلى منزل العائلة بتاريخ 10 حزيران/يونيو 2017، وبقائه هناك مدة ثلاثة أيام، قام والده بالاتفاق مع أحد المهربين داخل البلدة، على أن يتمّ إخراج العائلة بأكملها عبر الحدود الشرقية لبلدة مركدة، وذلك لقاء مبلغ (750) ألف ليرة سورية، وفي تاريخ 13 حزيران/يونيو 2017، نجحوا في الوصول إلى أول حاجز تابع لقوات سوريا الديمقراطية على الحدود الفاصلة بين بلدتي الشدادي ومركدة ، وذلك بعد قرابة ثلاث ساعات من السير على الأقدام حسب تعبيره.
هذا التقرير، هو التقرير الثالث والأخير من سلسلة تقارير حاولت سوريون من أجل الحقيقة والعدالة من خلاله تسليط الضوء على جانب من معاناة بلدة مركدة التابعة لمحافظة الحسكة إدارياً والواقعة في جنوبها، وتحدّث التقرير الأول عن ممارسات التنظيم في الاستيلاء على منازل وممتلكات ومحال بعض الأهالي ودفعهم إلى خارج البلدة، كما تحدث التقرير الثاني عن اعتقال الشبّان والرجال من أجل تسخيرهم في عمليات حفر الخنادق وحماية المناطق التي تخضع للتنظيم.
[1] كان "واجب الجهاد" في البداية مرتبطاً أكثر بموضوع "الدعوة للجهاد" ولكن ومنذ بداية شهر آب/أغسطس 2017 وبعد أن صدر "إعلان افتتاح مكتب المستنفرين" بدأواجب الجهاد يشمل عمليات التجنيد الإجباري للك من تجاوز سنّ الثامنة عشر وشمل أيضاً كل من هو قادر على حمل السلاح. ولم يُعرف هذا الشيء في بدايات تشكيل التنظيم بسبب عدم ثقته بالسكان المحليين ووجود عدد كافي من المتطوعين لديه.
[2] يعد واحداً من المؤسسات العسكرية التابعة لتنظيم "داعش"، وهو يتولى البحث عن الشبان الذين لم يؤدوا الخدمة العسكرية لدى التنظيم بعد بلوغ سن الثامنة عشر، كما أنه يشرف على النظر في أمور الشبان الذين قاموا بتأجيل أنفسهم وفق أسس كثيرة، ومنها وحيد الوالدين أو معيل العائلة أو المصاب بإعاقة أو المصاب بمرض مزمن ومعدي.