بتاريخ 17 كانون الثاني/يناير 2024، أصدرت “محكمة الراعي“، أحكاماً متفرقة بحقّ تسعة أفراد، على خلفية قضية قتل أربعة مدنيين كرد من عائلة واحدة ببلدة جنديرس، بريف منطقة عفرين، مساء يوم 20 آذار/مارس 2023. حيث أطلق ليلتها عناصر من فصيل “جيش الشرقية” المنضوي تحت لواء “حركة التحرير والبناء” التابعة للجيش الوطني السوري/المعارض، النار على الإخوة: “فرح الدين عثمان” وابنه “محمد”، و”نظمي عثمان” و”محمد عثمان”، لإشعالهم النار احتفالاً برأس السنة الكردية، نوروز.
قضت المحكمة التابعة لـ”الحكومة السورية المؤقتة”، والواقعة في المنطقة المسماة بـ”درع الفرات” في ريف حلب الشمالي المحتل من قبل تركيا بحسب وصف منظمات دولية مستقلة، بـ”الإعدام” بحق أربعة أشخاص والسجن لثلاثة أشهر بحق أربعة آخرين وبالبراءة لشخص واحد، ينتمون جميعهم لفصيل “جيش الشرقية”، وذلك بعد 10 أشهر من تاريخ وقوع الجريمة.
وبحسب مصدرٍ خاص لم يسمه موقع تلفزيون سوريا، فإن “قرار المحكمة جرّم المتهم “بلال العبود” بجناية القتل القصد المرتكب تسهيلاً لفرار مرتكب جناية وفقا للفقرة الثانية من المادة 535 – عقوبات عام، وتجريم المتهمين “عمر الأسمر” و”حبيب الخلف” و”عبد الله العبد الله” بجناية الاشتراك بالقتل قصداً تسهيلاً لفرار مرتكب جناية وفقاً للفقرة الثانية من المادة 535 بدلالة المادة 212 من قانون العقوبات العام، ومعاقبتهم جميعاً بالإعدام شنقاً حتى الموت.”
كما حكمت المحكمة بالسجن ثلاثة أشهر، بحسب ذات المصدر، ضدّ كل من “أحمد الحواس” و”فادي المصطفى” و”صدام المسلط” و”علي الضبع”، “بجنحة إخفاء شخص مرتكب جناية، بحسب المادة 221 من قانون العقوبات عام، وبراءة المتهم علي جيجان الخلف (والد حبيب) لعدم كفاية الأدلة”، على الرغم من أن بعض المصادر التي استمعت اليها سوريون” في تقرير سابق بعنوان “جريمة جنديرس/ عفرين في ليلة نوروز: القصة كاملة”، أكّدت تورط المدعو أبو حبيب “مسؤول أمنية لجيش الشرقية” في هذه الجريمة، حيث ذكر أحدهم أنه رأى أبو حبيب وهو يسلَّم الأسلحة لابنه ولمن معه لكي يهاجموا الضحية “نظمي”، وأنّ “أبو حبيب هو المجرم والمسؤول الأول عن هذه الجريمة” بحسب وصف المصادر. كما إن “روشين محمد عثمان” شقيقة الضحايا الثلاث قالت بأنّ “أبو حبيب هو رأس المشكلة وهو القاتل الأكبر”، وكذلك أكّد مصدر من فصيل أحرار الشرقية أن المشاجرة مفتعلة من قبل المدعو أبو حبيب.
وفي تعليقٍ عن الأحكام الصادرة، قال مسؤول الجناح السياسي في حركة “التحرير والبناء“، العقيد حسين الحمادي، أنّه و”بعد أقل من عام على ارتكاب جريمة جنديرس يقول القضاء كلمته في هذه الجريمة”، متوجهاً بالتحية لكلّ من ساهم في جهود المحاسبة، وبالأخص “حركة التحرير والبناء عناصرَ وقيادات والإخوة في وزارة الدفاع والشرطة العسكرية وإدارة القضاء العسكري”.
تواصل سلطات الأمر الواقع في المنطقة الاحتفاء “بأخذ العدالة لمجراها” متجاهلةً مجموعة الظروف التي أحاطت بالقضية خلال المحاكمة، والأهم مناخ “الإفلات التام من العقاب” الذي يوفره “الجيش الوطني السوري” المدعوم من تركيا، التابع لـ”الحكومة السورية المؤقتة”، والذي جعل من المنطقة بؤرة لانتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان لا حصر لها، من ضمنها جريمة جنديرس، والتي يصبح أغلبها طي الكتمان دون خضوع مرتكبيها لأي مساءلة تماماً أو إخضاعهم لإجراءات قانونية شكلية فقط، لاسيما إن كانوا عناصر من الفصائل المسلحة العديدة المنضوية في صفوف الجيش الوطني، وذلك لحماية السلطات والفصائل من الانتقادات أو بغية تبييض صورتها.
في هذا التقرير، تكشف “سوريون” عن الظروف التي أحاطت بمجريات محاكمة المتهمين في جريمة جنديرس، لاسيما الضغوطات التي تعرض لها ذوو القتلى من قبل سلطات الأمر الواقع؛ وتورد بعض الانتهاكات التي يستمر “جيش الشرقية” بارتكابها دون محاسبة، وأثرها على المجتمع المحلي في مناطق سيطرته؛ وذلك بالاستناد إلى خمسة مقابلات معمّقة أجراها الباحثون الميدانيون في المنظمة مع مصدرين مقربين من عائلة الضحايا، وثلاثة مصادر عسكرية من الفصيل نفسه.
ترهيب ذوي الضحايا لحثهم على التخلي عن القضية:
قال أسامة سعيد،[1] صديق أحد إخوة الضحايا، أن أفراد العائلة تعرضوا “للترهيب” مراراً وضغوطات هائلة خلال فترة المحاكمة والتي امتدت على سبع جلسات استماع؛ واجهوا بعضها حتى في قاعة المحكمة، وكان مصدر بعضها الآخر أفراد من فصيل “جيش الشرقية” ذاته.
أوضح أسامة في إفادته لـ”سوريون”، أن أكبر التحديات التي واجهت العائلة كانت عدم قدرتهم على تزويد المحكمة بشهود، من غير أفراد العائلة، لعدم اكتفاء القاضي بشهاداتهم عن الحادثة، كونهم من “أولياء الدم”، منوهاً إلى تخوف الشهود من أي ردود فعل انتقامية قد تطالهم من “جيش الشرقية”:
“أخبر أهل الضحايا الشهود ومنهم الجيران، ولكنهم خافوا وأخبروهم أن شهادتهم قد تؤدي إلى اعتقالهم أو قتلهم، لذلك رفض جارهم الذي شاهد كل عملية القتل ولم يذهب، بينما وافقت إحدى الجارات وقدمت شهادتها، رغم خوفها”.
وكان ذلك، في حين تقدم عدد كبير للشهادة لصالح المتهمين، بما في ذلك مقاتلين وقيادات من “جيش الشرقية”، بحسب أسامة، الذي أضاف أن محامي المتهمين كثيراً ما حاول استفزاز أفراد العائلة خلال جلسات الاستماع، حيث أتهمهم بأنهم “أنصار حزب العمال الكردستاني، رغم أنه ليس لديهم أي أقارب في صفوف الحزب”.
من الجدير بالذكر، أن هذه التهمة السابقة تشكل خطراً على حياة أفراد العائلة، فطالما تكرر استخدامها كذريعة من قبل عدد من فصائل “الجيش الوطني”، لاعتقال وتعذيب سكان منطقة عفرين، لاسيما الكرد، وكذلك للاستيلاء على ممتلكاتهم، وهو ما وثقته “سوريون” في تقريرٍ موسع نشر بتاريخ 13 تشرين الثاني/نوفمبر 2023.
كما تحدث أسامة كذلك لـ”سوريون” عن الضرب وسوء المعاملة الذي تعرضت له عائلة الضحايا على أحد حواجز “الشرطة العسكرية”، في طريقها إلى جلسة الاستماع الأولى:
“ما إن عرفوا أنهم ذوو الضحايا، حتى طلبوا منهم النزول للتفتيش، وبدأت الإهانات، والضرب المتعمد للأخ، ونزلت النساء لتترجاهم بالتوقف عن ضربه. تدخل الضابط التركي وأوقف الضرب وسمح لهم بإكمال الطريق. ذكروا ذلك للقاضي والذي قال أنها، ‘أخطاء فردية سنطلب من ادارة الشرطة العسكرية معالجة الأمر‘“.
لم تتعرض العائلة للمزيد من المضايقات على الحاجز بعدها، ولكن لم تتكفل المحكمة وغيرها من السلطات المحلية بحماية أفراد العائلة من “جيش الشرقية”، حيث قال أسامة أن أفراداً من الجيش هاجموا ابن صديقه مرتين خلال سير المحاكمة:
“تم كسر يده في إحدى هذه المرات، عن طريق الدهس بالسيارة، وذلك بعد أن اعترضت طريقه سيارة عسكرية فيها أربعة من عناصر جيش الشرقية ليلاً، كما تم إطلاق النار أمام نافذة منزل صديقي، وبحسب قوله: ‘حالات الترهيب هذه هي للتنازل عن حقنا، والافراج عن القتلة. ‘“
وبدورها، نقلت زهرة حنان،[2] وهي إحدى جارات العائلة، لـ”سوريون”، مخاوف ذوي الضحايا بعد أن صدر الحكم، قائلةً:
“إحدى مخاوفهم هي الطعن بالقرار ثانيةً وتحويل الحكم من الإعدام، الذي لم نشهد تطبيقاً له في الشمال السوري، وتحويله الى مؤبد، ثم تحويل هذا القرار إلى 10 أو 15 عاماً في السجن؛ وكذلك لديهم مخاوف من أن المتهمين لن يبقوا في السجن، حيث تشك العائلة أنه سيتم تهريبهم.”
هذا وكانت صحيفة “عنب بلدي”، قد نقلت، في تقريرٍ تناول تفاصيل الحكم، عن مصدر حقوقي في ريف حلب، أن “حكم الإعدام يصدر مع وقف التنفيذ في مناطق سيطرة الحكومة المؤقتة، وهناك أكثر من 100 حكم إعدام لم ينفّذ في محاكم ريف حلب”.
أضافت زهرة أن العائلة تعمل حالياً على تقديم “طعن بالقرار الصادر ضد أبو حبيب وتطالب بقرار إعدامه بما أنه العقل المدبر وهناك من شهد ضده، وايضاً للمطالبة بتطبيق حكم الإعدام”، حيث يعتبر أقارب الضحايا أن الأحكام الصادرة كانت “جائرة بحقهم”. هذا ولم تطلق المحكمة سراح “أبو حبيب”، على الرغم من الحكم ببراءته لعدم كفاية الأدلة.
اقتبست “سوريون” المطالبة بتنفيذ حكم الإعدام كجزء من شهادة المصدر كما جاءت المطالبة حرفيّاً. وفيما تحترم حق أهل الضحايا في التعبير عن مخاوفهم وشعورهم بالخذلان إزاء مسار المحاكمة، تؤكد “سوريون” موقفها المؤيد لوجوب الإلغاء العالمي لعقوبة الإعدام، وذلك تماشياً مع البروتوكول الاختياري الثاني للعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية والهادف إلى إلغاء عقوبة الإعدام لعام 1989. كما وتتشارك “سوريون” مع مفوضية الأمم المتحدة لحقوق الإنسان الأسباب الدافعة لاتخاذ هذا الموقف. |
هل استوفت المحاكمة الشروط القانونية؟
صدر حكم المحكمة، في سياق قام فيه الفصيل المتهم نفسه، ولأكثر من مرة، بتهديد أفراد عائلة الضحايا، ووصل به الأمر إلى قيام أربع من عناصره باعتراض طريق أحد أقارب الضحايا ليلاً، وكسر يده وذلك بهدف ترهيبه وترهيب باقي أهالي الضحايا للتنازل عن حقهم، ولم تتخذ المحكمة أي إجراء لحمايتهم، وهو ما يؤكد على رغبة الفصيل في تخويف المدعين الشخصيين (أفراد عائلة الضحايا) ووهن عزيمتهم في متابعة ادعائهم، وهو ما يبدو أنّه عزز، من مخاوف بقية الشهود من غير أفراد العائلة. وهو ما تم تأكيده من قبل الأشخاص الذين استمعت إليهم “سوريون” لهذا الغرض، حتى إن أحد الجيران وهو شاهد رئيسي في الدعوى، وشاهَدَ كل تفاصيل الجريمة رفض الذهاب للمحكمة للإدلاء بشهادته، وهذا ما يحمل “سوريون” إلى التشكيك باستيفاء المحكمة للشروط والمعايير القانونية المنصوص عليها في القوانين السورية والعهود والمواثيق الدولية ذات الصلة.
ثم إن عدم اكتفاء المحكمة بشهادات أفراد عائلة الضحايا بحجة أنهم من “أولياء الدم”، ومطالبتهم بجلب شهود من غير الأقارب، يُدلِّل وبشكل قاطع إلى أن المحكمة لا تتمتع بأدنى درجات النزاهة والحياد والاستقلالية، لأن هذا المانع “أولياء الدم” ليس موجوداً في القوانين السورية أصلاً، وليس ما يمنع قانوناً من الاستماع إلى أفراد عائلة المدعي الشخصي كشهود، وبعد الاستماع تقدِّر المحكمة تلك الشهادات بناء على وقائع كل قضية وملابساتها، بل إن المدعي الشخصي نفسه يمكن أن يكون شاهداً في القضية بعد أن يتم تحليفه اليمين القانونية وفق الأصول والقانون.
على العكس مما ذكر، فإن المنع الوارد في القانون السوري، بخصوص منع الاستماع لشهادة الأصول والفروع والأخوة والأخوات وذوو القرابة الصهرية الذين هم في هذه الدرجة والزوج أو الزوجة ولو بعد الطلاق، قد ورد بالنسبة للمتهم وليس للمدعي الشخصي، (المادتين 193- 292 من قانون أصول المحاكمات الجزائية)، وإذا كانت المحاكم الموجودة في تلك المناطق ومنها المحاكم العسكرية، تطبِّق القوانين السورية وفقا لتصريح وزير العدل السابق في الحكومة السورية المؤقتة، فمن الواجب عليها قانوناً الاستماع لشهادة ذوي الضحايا ولو كانوا مدعين شخصيين، وتأخذ بتلك الشهادات إن اقتنعت بها وإن كانت متوافقة مع ملابسات القضية وحيثياتها، ولا يمكن للمحكمة، بأي حال من الأحوال أن تطلب من الخصوم شهود آخرين أو أي أدلة أخرى، وإن فعلت ذلك فإنها تكون قد خرجت عن حيادها المفترض. ومما يؤكد عدم استقلالية القضاء في المناطق الخاضعة للاحتلال التركي، هو التدخل المباشر للحكومة التركية في تعيين القضاة العاملين في تلك المناطق وتمويلهم ودفع رواتبهم،[3] كما إن الفصائل العسكرية، ومنها فصيل جيش الشرقية، لها دور بارز في تعيين القضاة ولا سيما قضاة المحاكم العسكرية، فعلى الرغم من نفي وزير العدل السابق في الحكومة المؤقتة وجود أي دور للفصائل العسكرية في العملية القضائية، إلا إنه أكد على أن “هذه الفصائل تقوم بترشيح من تراه مناسباً للعمل في القضاء العسكري”، فإذا كانت الفصائل ترشح القضاة فلا شكّ انها تتدخل بقوة في عملهم وتفرض عليهم توجهاتها، ولن ترشح أي شخص لشغل هذا المنصب إلا إن ضمنوا ولاءه للفصيل مسبقاً.
وبناء على ما ذكر، فإن المحاكم المشكلة في تلك المناطق، ومنها المحكمة العسكرية التي أصدرت الحكم موضوع هذه الورقة، لم تحترم الحد الأدنى من الشروط القانونية المطلوبة للمحاكمة العادلة، فطلب المحكمة بجلب شهود آخرين بعيداً عن أقارب المدعين بحجة إن الأقرباء هم من “أولياء الدم”، يعبِّر عن فقدانها لأدنى المعايير المطلوبة لتحقيق الاستقلالية والنزاهة والحياد المنصوص عليها في المبادئ الأساسية لاستقلال السلطة القضائية الصادرة عن الجمعية العامة للأمم المتحدة والإعلان العالمي لحقوق الانسان والعهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية. ولا بد من الإشارة إلى أن شرطَي نزاهة واستقلال المحكمة لا يمكن الاستغناء عنهما وفق أحكام القانون الدولي. وكي تكون المحكمة مستقلة، يجب أن تتمكن من تأدية أعمالها بشكل مستقل تماماً عن أي فرع آخر من السلطة، خاصة السلطة التنفيذية.[4] ونزاهة المحكمة من نزاهة القضاة الذين يجب ألا يكوّنوا موقفاً مسبقاً عن القضية وألا يتصرفوا بطريقة تساند مصالح طرف من الأطراف.[5]
جريمة جنديرس غيض من فيض:
في بيئة يطغى فيها الإفلات التام من العقاب، لم تكن “جريمة جنديرس” هي الانتهاك الوحيد الذي وقف خلفه عناصر من “جيش الشرقية”. ففي ٍتقرير نشر بتاريخ 1 آذار/مارس 2024، وثقت “سوريون”، تطبيق عناصر من الجيش نفسه “حكم جلد” على شاب من مدينة الباب، في الريف الشمالي لحلب، بتهمة “سب الذات الإلهية”، دون عرضه على القضاء، وذلك في محاولة من الفصيل لإحياء إيدولوجيا تنظيم “الدولة الإسلامية/داعش” في المنطقة، بحسب أحد مصادر التقرير.
حيث توجد علاقة وثيقة بين “جيش الشرقية” وعناصر وقيادات من تنظيم “الدولة الإسلامية”، بحسب أبو جمال،[6] وهو مصدر رفيع في الشرطة العسكرية، والذي أكد لـ”سوريون” أن الجيش يقدم الحماية لفلول التنظيم في مناطق سيطرته، وأنه سبق وأن سمح لأحد أبرز قيادات التنظيم بحرية الحركة، حيث “عرَّف القيادي ماهر العقال/العكال، (الذي قتل في غارة للتحالف الدولي ضد تنظيم داعش)، عن نفسه أنه من جيش الشرقية على الحواجز، ودائما ما حمل معه مهمة عسكرية صادرة عن فصيل الشرقية”.
تشجع ممارسات “جيش الشرقية” الأوسع على الانتهاكات ضد سكان المنطقة، بما في ذلك عمليات تهريب البشر وفرض الأتاوات على المزارعين، والتي تشكل مصدر دخل رئيسي للفصيل ككل ولأفراده، إلى جانب تجارة النفط، وتهريب السلاح والمخدرات، بحسب مصادر من الفصيل نفسه.
وفقاً لأبو مهند،[7] قيادي سابق في “جيش الشرقية”، تعدّ المجموعات العسكرية التابعة لـ”جيش الشرقية” الأكثر نشاطاً في مجال تهريب البشر عبر الحدود السورية-التركية، في منطقة جنديرس التابعة لعفرين، ومنطقة رأس العين/سري كانيه في محافظة الحسكة، كما تستخدم المقرات العسكرية التابعة للفصيل في المنطقتين “كنقاط تجميع للبشر قبل التهريب”، والذي يتم مقابل مبالغ مالية تتراوح ما بين 300 و3000 دولار أمريكي بحسب التشديد على الحدود التركية.
وعن آليات التهريب، قال أبو مهند لـ”سوريون”، بأن:
“كل قائد مجموعة يدير عمليات التهريب الخاصة به باستقلالية تامة، ويدفع للفصيل ضريبة عن عدد الأشخاص الذين يتم تهريبهم بنجاح من قطاعه إلى تركيا.”
وفي انتهاكٍ متصل بعمليات التهريب، بحسب أبو مهند، تعمد هذه المجموعات لاحتجاز أو خطف بعض الأشخاص الراغبين بعبور الحدود، من بينهم الأطفال والنساء، لغرض طلب الفدية مقابل الإفراج عنهم، “وزجهم في سجون الشرطة العسكرية والمدنية، وفي بعض الأحيان قتلهم لعدم دفعهم الفدية”، وذلك لتعويض المبالغ المالية التي يحصلون عليها عادةً، إذا ما فشلت عمليات التهريب.
أورد “أبو مهند” في إفادته لـ”سوريون” تفاصيل أحد حوادث الخطف هذه، والتي جرت بتاريخ 3 تموز/يوليو 2023. حيث اختطفت مجموعة عسكرية تابعة ل”أبو الباز”، نائب قائد جيش الشرقية، شابين من قبيلة الموالي أثناء عملية تهريبهم من جنديرس إلى تركيا، بغية طلب فدية من القبيلة. أضاف أبو مهند:
“تم اطلاق النار على فم أحد هذين الشابين من قبل العناصر في جيش الشرقية، أبو مصعب السراوي و أبو مجاهد، ورميه في البرية اعتقاداً منهم أنه مات، بينما بدأوا يفاوضون القبيلة على مبلغ مالي للإفراج عن الابن الثاني… بعد العثور على الشاب الذي تم إطلاق النار على فمه، استنفر أفراد من قبيلة الموالي ضد جيش الشرقية. ومنعاً لحصول اصطدام عسكري، تم الافراج عن الشاب الثاني المختطف، والاعتذار للقبيلة، وأعلن أبو الباز في تسجيل صوتي أنه جاهز لدفع أي مبلغ مالي، كما تم تسليم الخاطفين أبو مصعب و أبو مجاهد للشرطة العسكرية، وتم الإفراج عنهما بعد فترة عشرين يوم.”
ولا تنحصر الانتهاكات ضد المجتمع المحلي في جنديرس، التابعة لعفرين، أو ما تسمى بمنطقة “غصن الزيتون”، بل تمتد إلى مناطق أخرى يسيطر عليها “جيش الشرقية” في مدينة رأس العين/سري كانيه، أو منطقة “نبع السلام”، هذا وتقبع المنطقتان تحت السيطرة الفعلية لتركيا، بعد احتلالهما خلال عمليتان عسكريتان واسعتي النطاق، قامت بهما تركيا عام 2018 و2019 على التوالي.
في مدينة رأس العين/سري كانيه، يفرض “جيش الشرقية” ضرائب جائرة على المزارعين، وذلك وفقاً لأبو مجد،[8] قيادي في صفوف الفصيل، شارحاً لـ”سوريون” تفاصيل نظام الآتاوات هذا:
“هناك الأراضي التي استولى عليها جيش الشرقية، وهي للدولة أو المدنيين المغتربين. يتم توكيل شخص للإشراف عليها، من المدنيين أو العسكريين الذين لديهم خبرة بالزراعة؛ وهم يأخذون 60 بالمئة من الانتاج، فيما يأخذ المزارع 40 بالمئة، سواءً من القمح أو المحصول الصيفي. وهنا نتحدث عن مساحات شاسعة تقدر بمئات الهكتارات التي تم مصادرتها وتوكيل أشخاص للإشراف عليها.”
أكد أبو مجد أن عمليات استملاك الأراضي الزراعية التي ينخرط فيها “جيش الشرقية” لا تتوقف على تلك العائدة للمغتربين والنازحين من المنطقة، ولو أنهم يشكلون النسبة الأكبر من المستهدفين، بل يعمد الفصيل لمصادرة انتاج أراضٍ لا يزال مالكوها في المدينة، وتصل نسبة المصادرة إلى 50 بالمئة.
يتقاطع هذا الانتهاك مع ممارسة مجحفة أخرى، مضاعفاً معاناة المجتمع المحلي في ظل ظروف معيشية متدهورة، حيث يحتكر “جيش الشرقية” تجارة المنتجات النفطية في المنطقة، والتي تردها من مناطق سيطرة “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) عبر معبر تفاحة، على أطراف قرية تفاحة في ريف مدينة رأس العين، رابطاً بين مناطق الأخيرة و مناطق “الجيش الوطني السوري”. موضحاً أثر احتكار هذه التجارة، يقول أبو مجد:
“بشكل أساسي، يحتكر جيش الشرقية مادة المازوت، ويتحكم بسعرها بشكل كبير؛ مسبباً بمعاناة كبيرة للأهالي الذين يشترون مادة المازوت للتدفئة في الشتاء أو للمزارعين الذين يشترون المازوت لضخ المياه من الآبار. التحكم ورفع الأسعار جعل تكاليف الزراعة أكبر بكثير من واردها، مما أدى لانهيار الزراعة في نبع السلام وتوقف الكثير من المزارعين عن الزراعة.”
[1] تم استخدام اسم مستعار بناءً على طلب المصدر خلال مقابلة عبر الإنترنت، أجراها الباحث الميداني في “سوريون من أجل الحقيقة والعدالة” بتاريخ 12 كانون الأول/ديسبمبر 2023.
[2] تم استخدام اسم مستعار بناءً على طلب المصدر خلال مقابلة عبر الإنترنت، أجراها الباحث الميداني في “سوريون من أجل الحقيقة والعدالة” بتاريخ 18 كانون الثاني/يناير 2024.
[3] الفقرتين 69 و70 من تقرير لجنة التحقيق الدولية المستقلة المعنية بسوريا شباط/ فبراير 2019 على الرابط التالي:
[4] Human Rights Committee, Bahamonde v. Equatorial Guinea, Views, Communication No. 468/1991, CCPR/C/49/468/1991, 20 October 1993, para. 9.4.
[5] Human Rights Committee, Kartunnen v. Finland, Decisions, Communication No. 387/1989, CCPR/C/46/D/387/1989, 05 November 1992, para. 7.2.
[6] تم استخدام اسم مستعار بناءً على طلب المصدر خلال مقابلة عبر الإنترنت، أجراها الباحث الميداني في “سوريون من أجل الحقيقة والعدالة” بتاريخ 18 كانون الأول/ديسمبر 2023.
[7] تم استخدام اسم مستعار بناءً على طلب المصدر خلال مقابلة عبر الإنترنت، أجراها الباحث الميداني في “سوريون من أجل الحقيقة والعدالة” بتاريخ 15 كانون الأول/ديسمبر 2023.
[8] تم استخدام اسم مستعار بناءً على طلب المصدر خلال مقابلة عبر الإنترنت، أجراها الباحث الميداني في “سوريون من أجل الحقيقة والعدالة” بتاريخ 18 كانون الأول/ديسمبر 2023.