خلفية:
أثر النزاع السوري المستمر منذ عام 2011 على جميع مفاصل الحياة في البلاد، حيث تعددت أطراف النزاع وانقسمت الجغرافية السورية إلى مناطق نفوذ/سيطرة مختلفة، وتدخلت أطراف إقليمية ودولية على خط الصراع السوري لتزيد المشهد تعقيداً، كما ارتُكبت جرائم حرب وانتهاكات لحقوق الإنسان، لا حصر لها، في ظل غياب المساءلة واستمرار الإفلات من العقاب.
كما كان من تداعيات استمرار النزاع في سوريا، تدمير البنية التحتية وتدهور الخدمات الاجتماعية، مما أدى إلى احتياجات إنسانية هائلة، وكان سبباً في دفع ملايين السوريين للسفر واللجوء، سواءً للقارة الأوروبية، أو للدول المجاورة، التي استخدم عدد منها، وعلى رأسها تركيا، ملف اللاجئين كأداة لابتزاز المجتمع الدولي والتدخل في سوريا. ناهيك عن الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، التي تعرض ويتعرض لها السوريين في مختلف مناطق السيطرة، حيث قُتل أكثر من 350 ألف سوري/ة كنتيجة مباشرة لعقد من النزاع، بحسب الأمم المتحدة، كما إن عشرات الآلاف من المدنيين الذين اعتُقلوا تعسفياً، لا يزالون مختفين قسراً، بينما تعرض آلاف آخرون لسوء المعاملة والتعذيب، بما في ذلك العنف الجنسي، أو الموت رهن الاحتجاز. لا يزال الاعتقال التعسفي والاختفاء القسري وغيرها من ضروب المعاملة السيئة متفشية لدى جميع أطراف النزاع، في ظل تزايد عدد مرافق الاحتجاز سيئة السمعة المنتشرة في البلاد، حيث يتم استخدام الاعتقال والحبس التعسفي بشكل متعمد لبث الخوف وقمع الرأي العام المعارض بين السكان المدنيين، أو في أحيانٍ أقل لتحقيق مكاسب مالية.
كما رافق النزاع انتهاكات أخرى ارتُكبت على نطاق واسع، تشمل مصادرة الممتلكات أو تدميرها أو احتلالها بصورة غير قانونية، وإجبار السكان على ترك منازلهم، وعرقلة عودة السكان الأصليين، ولا سيما من قبل قوات الحكومة السورية والمجموعات المسلحة الموالية لها في المناطق التي استعادتها من سيطرة قوات المعارضة المسلحة، ومن قبل القوات التركية وفصائل “الجيش الوطني السوري” المُعارض، في مناطق عفرين ورأس العين/سري كانيه وتل أبيض شمال سوريا، التي تحتلها تركيا كنتيجة لعمليتي “غصن الزيتون” في عام 2018 و “نبع السلام” في عام 2019.
كذلك تعرضت الأقليات الدينية والعرقية للاستهداف، وخاصةً في مناطق من شمال سوريا، التي تتميز بتنوعها الاثني والديني والقومي، إذ يعيش فيها المسلمون والمسيحيون والايزيديون، الكُرد منهم والعرب والأرمن والسريان والآشوريين والشركس والشيشان والتركمان، يجمعهم السلم الأهلي والتعايش المشترك.
يعتمد ملايين الأشخاص في شمال شرق وشمال غرب سوريا، وكثير منهم من النازحين داخلياً، على تدفق الغذاء والدواء والمساعدات الأخرى الضرورية عبر الحدود. في عام 2020، استخدمت روسيا حق النقض “الفيتو” لإجبار “مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة” على إغلاق ثلاثة من المعابر الحدودية الأربع المُصرح لها باتجاه شمال سوريا، ما أدى إلى قطع المساعدات الأممية عبر الحدود عن الشمال الشرقي بالكامل، وزاد من صعوبة توزيع المساعدات في الشمال الغربي. حالياً، يعتمد شمال غرب سوريا بالكامل حصرياً على معبر “باب الهوى” الحدودي مع تركيا، كونه الوحيد المتبقي إلى شمال غرب البلاد لتلقي جميع المساعدات الإنسانية والإمدادات الطبية التي تقدمها الأمم المتحدة للمدنيين. بلغ انعدام الأمن الغذائي مستويات عالية قياسية في شمال سوريا. تستمر أسعار المواد الغذائية في الارتفاع بشكل حاد، ولا تزال الخدمات الأساسية محدودة جداً، وهناك نحو ثلاثة ملايين نازح داخلي. من بينهم 1.8 مليون شخص يعيشون في مخيمات غير رسمية.
مقدمة:
إنّ السوريين والسوريات من جميع شرائحهم/ن وإثنياتهم/ن المتنوعة، وشتى توجهاتهم/ن هُمّ ضحايا نزاع مستمرّ لأكثر من عقد من الزمن، لدرجةٍ لا يُعرف معها سوريّ أو سوريّة بمنأى عن تداعيات الصراع، أيّ أنّ الجميع ضحايا بدرجات متفاوتة، لكن بعض الظروف أدّت إلى معاناة إضافية للضحايا، كظروف النزوح الداخلي، والتي ترافقت في الكثير من الحالات بتهجير قسري، كما حصل إبان العمليات العسكرية التركية في شمال سوريا، كالعملية التي أطلقت عليها “أنقرة” اسم “غصن الزيتون” في عام 2018، والتي أفضت إلى احتلال منطقة عفرين، وتلك التي أطلقت عليها اسم “نبع السلام” في عام 2019، والتي أفضت إلى احتلال مناطق رأس العين/سري كانيه وتل أبيض/كري سبي.
إنّ عدم امتلاك الضحايا للمعرفة الكافية حول حقوقهم الأساسية وآليات الدفاع عنها، يُضاعف من معاناتهم، ويجعلهم أكثر عرضة للانتهاكات، كما أن الإفلات من العقاب يغذي الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان ويؤدي إلى تفاقمها، لذا تعمل “تآزر” على توثيق كافة انتهاكات حقوق الإنسان التي ترتكبها جميع أطراف النزاع، وتسعى إلى المساهمة الفعالة في عمليات المساءلة والعدالة حول سوريا، بهدف إنصاف الضحايا ومكافحة الإفلات من العقاب.
وفي خضم سعيها لفهم احتياجات وأولويات الضحايا بما فيهم النازحين/ات والمهجّرين قسرياً، وتوفير مساحة للنقاش فيما بينهم، نظّمت رابطة “تآزر” للضحايا، خلال أيلول/سبتمبر 2023، ثلاث جلسات نقاش مركزة، شارك/ت فيها 25 شخصاً من الضحايا والناجين/ات وعائلاتهم/ن في شمال وشمال شرق سوريا، كما أعدّت الرابطة استطلاعاً للرأي استهدف 200 شخصاً من الضحايا والناجين/ات والمدافعين/ات عن حقوق الإنسان ونشطاء وناشطات المجتمع المدني.
أفضت جلسات النقاش وتحليل نتائج استطلاع الرأي، إلى تحديد الأولويات والاحتياجات المختلفة للضحايا، وصياغة وتطوير أجندة المنتدى السنوي الثاني للضحايا في شمال سوريا، بهدفِ توفير منصّة ومساحة للضحايا والناجين/ات وعائلاتهم/ن في شمال وشمال شرق سوريا، لتمثيل أنفسهم/ن بنفسهم/ن والمطالبة بحقوقهم/ن، وكذلك التنسيق فيما بينهم/ن لتحقيق أهدافهم/ن.
احتياجات وأولويات الضحايا في شمال سوريا:
نظّمت رابطة “تآزر” للضحايا ومنظمة “سوريون من أجل الحقيقة والعدالة” ورابطة “دار” لضحايا التهجير القسري، بتاريخ 27 تشرين الأول/أكتوبر 2023، المنتدى السنوي الثاني للضحايا في شمال سوريا، تحت شعار “معاً صوتنا أقوى”.
سلّط المنتدى الضوء على احتياجات وأولويات الضحايا في شمال سوريا، سعياً لأنصافهم ومناصرة القضايا ذات الأولوية بالنسبة لهم، بما في ذلك الحقّ في العودة الآمنة والكريمة والطوعية، وكشف مصير المفقودين/ات والمختفين/ات قسرياً، وتحقيق السلام والاستقرار، واستعادة الممتلكات والحقوق المسلوبة، ومساءلة مرتكبي الانتهاكات، والتعويض وجبر الضرر، وتحسين الوضع الاقتصادي وواقع المخيمات.
وشارك في المنتدى الذي عُقد في مدينة القامشلي/قامشلو في شمال شرقي سوريا، 57 مشارك/ة، حضر معظمهم/ن بشكل فيزيائي، وآخرون عبر الفضاء الافتراضي، بينهم/ن 6 متحدثين/ات، وشمل الحضور ضحايا وناجين/ات، بما في ذلك النازحين/ات والمُهجّرين/ات قسرياً، وناشطون وناشطات، ومُدافعين/ات عن حقوق الإنسان وصُنّاع قرار، بالإضافة إلى العديد من الوكالات والمؤسّسات الإعلامية، المحلية والإقليمية والدولية.
الحق في العودة الآمنة والطوعية والكريمة:
أظهرت نتائج استطلاع الرأي الذي أعدّته رابطة “تآزر” للضحايا، واستهدف 200 شخصاً من الضحايا والناجين/ات وعائلاتهم/ن والمدافعين/ات عن حقوق الإنسان ونشطاء وناشطات المجتمع المدني في شمال وشمال شرق سوريا، أنّ “العودة الآمنة والطوعية والكريمة” هي من أكثر القضايا إلحاحاً وذات الأولوية بالنسبة لهم/ن، كما كانت المطلب الأكثر تكراراً في جلسات النقاش المركّزة، التي استهدفت ضحايا وناجين/ات وعائلاتهم/ن.
حيث لا يزال أكثر من 350 ألف شخص من سكان مناطق عفرين ورأس العين/سري كانيه وتل أبيض شمال وشمال شرق سوريا، نازحين/ات ومهجرين/ات قسرياً، نتيجة عمليتيّ “نبع السلام” و “غصن الزيتون” التركيتان، من بينهم أكثر من 36 ألف شخص يعيشون في ثلاث مخيمات غير رسمية (واشو كاني وسري كانيه وتل السمن) في محافظتي الحسكة والرقة، وأكثر من سبعة آلاف نازح في خمس مخيمات غير رسمية (العودة وعفرين والشهباء والمقاومة والعصر) في منطقة الشهباء شمالي حلب.
وكنتيجة لاحتلال تركيا لمناطق رأس العين/سري كانيه وتل أبيض، لا يزال أكثر من 150 ألف شخص من السكان الأصليين لتلك المناطق نازحين ومهجرين قسرياً، في حين قامت تركيا وفصائل “الجيش الوطني السوري” التي تدعمها “أنقرة”، بتوطين أكثر من 2815 عائلة نازحة من مناطق سوريّة أخرى في منازل المُهجرين والنازحين قسرياً.
ففي منطقة رأس العين/سري كانيه، وعلى الرغم من مضي أكثر من أربعة أعوام على احتلالها، لا يزال أكثر من 85% من سكانها الأصليين مهجرون قسرياً، كما فقدت المنطقة ألوان وخصائص تنوعها، إذ لا يزيد عدد الكُرد فيها اليوم عن 45 شخصاً، بعد أن كان الكُرد يشكلون أكثر من 75 ألف نسمة قبيل الاحتلال التركي، ويقل عدد الأرمن والسريان والايزيديين عن عشرة أشخاص، كما نزح غالبية العرب والشيشان والشركس وغيرهم، في حين قامت تركيا بتوطين أكثر من ألفي عائلة نازحة من مناطق سوريّة أخرى، ومن اللاجئين الذين رحلتهم من أراضيها في منازل السكان المهجرين قسرياً، بما في ذلك عائلات عراقية من نساء وأطفال مقاتلي تنظيم “داعش”، كما أنّ منطقة عفرين والتي كانت نسبة الكُرد فيها تزيد عن 92% من مجمل عدد السكان، قبل عام 2011، تؤكد تقارير حقوقية أنّ نسبتهم تقلصت عقب احتلالها إلى ما دون 20% أو أقل.
وفي حين أنّ القاعدة 132 من قواعد القانون الدولي الإنساني العرفي تقول صراحةً أنّ “للأشخاص النازحين الحق في العودة الطوعية بأمان إلى ديارهم أو أماكن سُكناهم المعتادة حالما تنتفي الأسباب الي أدت إلى نزوحهم“. إلا أنّ معظم النازحين/ات والمهجّرين/ات قسرياً لا يستطيعون العودة، وقد وثّقت رابطة “تآزر” في تقرير لها، نُشر بتاريخ 26 شباط/فبراير 2023، أوجه عدم الاستقرار في مناطق “نبع السلام” التي تشهد حالة فوضى سلاح وانعدام الأمان، فضلاً عن الاقتتال الداخلي المستمر بين الفصائل على تقاسم ملكيات المهجّرين/ات، وحول السلطة والنفوذ، وإدارة تجارة المخدرات، وتهريب البشر بين سوريا وتركيا. كما وثّقت في تقرير آخر، نُشر بتاريخ 19 كانون الثاني/يناير 2023، أنماطاً متكررة ومنهجية من عمليات النهب والاستيلاء على ممتلكات المدنيين في منطقتي “نبع السلام” و “غصن الزيتون”، خاصّةً تلك التي حدثت خارج سياق العمليات القتالية، كسلب الممتلكات العقارية والاستيلاء عليها بدون وجه حق، أو بيعها أو حرقها وتدميرها، وطرد سكانها الأصليين، ودفعهم الى مغادرة المنطقة، ما يؤدي إلى تغيير الهندسة الديمغرافية لتلك المناطق، كما يقوّض السلم الأهلي والتعايش المشترك الذي تتسم به.
كما أنّ لجنة التحقيق الدولية المستقلة المعنيّة بسوريا، قالت في تقريرها بعنوان “لا نهاية تلوح في الأفق: التعذيب وسوء المعاملة في الجمهورية العربية السورية 2020-2023” الذي صدر بتاريخ 10 تموز/يوليو 2023: “سبق للجنة أن توصّلت إلى أنّ الجيش الوطني السوري قد ارتكب في سياق الاحتجاز جرائم حرب تتمثّل في التعذيب والمعاملة القاسية وأخذ الرهائن والاغتصاب والعنف الجنسي، فضلاً عن أعمال ترقى إلى مستوى الاختفاء القسري”.
المخيّمات مأساة مستمرّة:
إنّ أحد الصعوبات المستمرّة هي المخيّمات التي يقطنها النازحون/ات والمهجّرون/ات قسرياً، لا سيما المخيمات غير الرسمية أو غير المعترف بها من قبل هيئات الأمم المتحدة، كمخيّمات (واشو كاني وسري كانيه وتل السمن) في محافظتي الحسكة والرقة، ومخيمات (العودة وعفرين والشهباء والمقاومة والعصر) في منطقة الشهباء شمالي حلب، والتي لم يتم تسجيلها رسمياً أو التكفل بها حتى الآن من قبل المفوضية السامية لشؤون اللاجئين أو غيرها من الهيئات والوكالات التابعة للأمم المتحدة، كما أنها لا تحصل على خدمات ومساعدات من قبل المنظمات الإنسانية الدولية إلا في الحدود الدُنيا.
وتزيد من معاناة قاطني تلك المخيمات حالات نقص المياه أو تلوثها، نتيجة سلسلة الانقطاعات المتكررة في مياه “محطة علوك” شرقي رأس العين/سري كانيه من قبل تركيا وفصائل “الجيش الوطني السوري”، والتي تزود مناطق الحسكة وريفها، ومن ضمنها مخيّمات النازحين بالمياه الصالحة للشرب والاستخدام، حيث تمّ تسجيل عشرات حالات الجرب بين الأطفال في مخيمي “واشو كاني” و “سري كانيه” في الحسكة منذ مطلع عام 2023. كما تتضاعف معاناة قاطني المخيمات في الجوانب الصحية، حيث تفتقر لخدمات صحية منتظمة وناجعة، فعلى سبيل المثال؛ لا يوجد سوى نقطة طبية واحدة في مخيم “تل السمن” الذي يضمّ 1246 عائلة بعدد أشخاص يبلغون 6448 نازح/ة، وهذه النقطة غير مُخدّمة بشكل كافي ولا تضم سوى قابلة نسائية وبعض الممرّضين.
وكانت السيدة “عزيزة مرعي” وهي إدارية في مخيّم “تل السمن”، وإحدى قاطنات المخيم الذي يضم نازحين/ات ومهجّرين/ات قسريا من منطقة تل أبيض/كري سبي نتيجة عملية “نبع السلام”، إحدى المشاركات في جلسات النقاش المركزة وكذلك المنتدى السنوي الثاني للضحايا، حيث سلطت الضوء على المعاناة المستمرة لقاطني هذه المخيّمات، قائلةً:
“إنّ قاطني المخيّم هم مهجّرون/ات قسرياً، لا يستطيعون العودة إلى مناطقهم -التي أدّعت تركيا حين احتلالها أنّها ستُنشئ منطقة آمنة- وقد فقدوا ممتلكاتهم التي تمّ الاستيلاء عليها من قبل الفصائل التي أولتها أنقرة إدارة تلك المناطق منذ تشرين الأول/أكتوبر 2019. أنّ الناس هنا -في المخيم- يعيشون على الأمل في العودة الآمنة والطوعية يوماً ما”.
أهمية المشاركة الفاعلة للضحايا والناجين/ات في جهود كشف الحقيقة، المساءلة، وتحقيق العدالة:
بدأ المنتدى بكلمة المدير التنفيذي لرابطة “تآزر” للضحايا، عز الدين صالح، الذي تحدث حول تفاقم انتهاكات حقوق الإنسان نتيجة استمرار النزاع في سوريا منذ عام 2011، وأثرها على الضحايا والناجين/ات وعائلاتهم/ن، مشيراً إلى أهمية التنسيق بين الضحايا والناجين/ات، لتمثيل أنفسهم/ن وقيادتهم/ن لحملات الدفاع عن حقوقهم/ن، حيث لا يمكن تحقيق سلام شامل ومستدام في سوريا، بدون إنصاف الضحايا، ومشاركتهم الفاعلة في عمليات كشف الحقيقة، المساءلة، وتحقيق العدالة.
كما تمّ عرض فيديو حول حالة حقوق الإنسان في سوريا، وما خلّفه استمرار النزاع السوري منذ عام 2011 من ضحايا وأزمة إنسانية كارثية، لا تزال قائمة ومستمرة، وشمل إحصائيات حول ضحايا الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان في سوريا، بما في ذلك القتل خارج نطاق القضاء والاعتقال التعسفي والاختفاء القسري وغيرها.
شارك/ت أربعة متحدّثين/ات في المحور الأول من المنتدى، الذي حمل عنوان احتياجات وأولويات الضحايا في شمال سوريا، حيث تحدّث الكاتب والناقد الأدبي “عبد الوهاب بيراني” حول احتياجات وأولويات الضحايا، بما في ذلك النازحين/ات والمهجرين/ات قسرياً، سواءً في المخيمات أو خارجها، ودور الأدب والفن، المهمّ والمُهمل، في توثيق واقع وقصص الضحايا، بينما تحدّثت الإعلامية والناشطة المدنية “أفين يوسف” عن دور الإعلام في مناصرة قضايا الضحايا على المستوى المحلي والإقليمي والدولي، فيما تحدّث “خلف داوود” عضو مكتب العلاقات العامة في مجلس سوريا الديمقراطية (مسد) حول واجبات ومسؤوليات الإدارة الذاتية والجهود الدبلوماسية اللازمة حيال القضايا ذات الأولوية للضحايا ومناطق شمال وشرق سوريا عموماً، وأخيرا تحدّث الأكاديمي والباحث السياسي “إبراهيم مسلم”، المقيم في فرنسا، عبر منصة Zoom، حول حالة حقوق الإنسان في مناطق شمال سوريا التي تحتلها تركيا.
آليات العدالة المتوفّرة للضحايا -محلياً ودولياً- حالياً ومستقبلاً:
تضمن المحور الثاني من المنتدى حوار فعّال وهادف بين المشاركين/ات حول آليات العدالة المتوفرة في السياق السوري، على الصعيدين المحلي والدولي، وحالياً ومستقبلاً، وأهمية المشاركة الفاعلة للضحايا والناجين/ات وعائلاتهم/ن في عمليات المساءلة والعدالة الانتقالية في سوريا.
وتحدّث المدير التنفيذي لرابطة “دار” لضحايا التهجير القسري “محي الدين عيسو”، المقيم في ألمانيا، عبر منصة Zoom، حول آفاق تحقيق السلام والاستقرار، والحقّ في العودة الآمنة والطوعية والكريمة، وضرورة العمل المستمرّ لتحقيقها.
بينما ركّز “أحمد حلمي” وهو مُدافع عن حقوق الانسان ومدير مبادرة تعافي لدعم الناجين/ات من الاعتقال والتعذيب على أهمية المُشاركة الفاعلة للضحايا في عمليات كشف الحقيقة والمساءلة وتحقيق العدالة، وتحدث حول تجربة “ميثاق الحقيقة والعدالة” الذي يضم عشرة روابط ضحايا سوريّة، تعمل بشكل مشترك بهدف الكشف عن الحقيقة، وضمان العدالة للمعتقلين/ات والمختفين/ات قسريًا وعائلاتهم/ن، باعتبارها حجر الأساس لتحقيق سلام دائم في سوريا، حيث قادت أسر وروابط الميثاق، ومن بينها “تآزر”، مع شركاء المجتمع المدني نضالاً دام سنوات للمطالبة بإنشاء هيئة دولية مستقلة تُعنى بكشف مصير المفقودين/ات والمختفين/ات قسرياً لدى جميع أطراف النزاع في سوريا، وتكللت جهودها بالنجاح بتاريخ 29 حزيران/يونيو 2023، حيث تبنت الأمم المتحدة قرار إنشاء هذه المؤسسة، التي ستكون مركزاً لجمع وتنظيم البيانات المتوفرة ذات الصلة بالمفقودين، وتوحيد معاييرها بالتنسيق مع الآليات القائمة الأخرى، بهدف تحديد أماكن وجود الأحياء من المفقودين، وتحديد أماكن دفن رفات المتوفين منهم وتحديد هويات أصحابها وإعادتها إلى الأُسر، كما أنها ستُوفر دعماً للضحايا والناجين/ات وأسرهم/ن.
كما ناقش/ت المشاركين/ات، بمن فيهم/ن المتحدّثين/ات، وبشكل واسع ومُركز، القضايا ذات الأولوية للضحايا والناجين/ات وعائلاتهم/ن، بما في ذلك النازحين/ات والمُهجرين/ات قسرياً، وبحثوا سبل تحقيق العدالة، من وجهة نظرهم/ن.
ركّزت النقاشات على ضرورة نشر الوعي حول أهمية التوثيق بهدف كشف الحقيقة، والمشاركة الفاعلة للضحايا والناجين/ات وعائلاتهم/ن في جهود المساءلة، كحقّ أساسي ونوع من الانتصاف الفعال للضحايا، في سعيهم لإخضاع مرتكبي الانتهاكات والجناة للمساءلة، وتحقيق العدالة.
وفي إشارة إلى عمليات القطع الجائرة وواسعة النطاق لأشجار الزيتون والأشجار الحراجية في منطقة عفرين، من قبل فصائل “الجيش الوطني السوري” التي تدعمها وتمولها تركيا، قال الكاتب والمؤرخ “عبد الله شكاكي” المُهجر قسرياً من عفرين نتيجة عملية “غصن الزيتون”:
“في عفرين لم يكن السكان فقط ضحايا، بل كانت الطبيعة أيضاً مُستهدفة ومُستباحة، ولا تزال كذلك حتى اللحظة”.
ووثق تقرير أعدته منظمة “سوريون من أجل الحقيقة والعدالة” وجمعية “ليلون” للضحايا، ونُشر بتاريخ 12 نيسان/أبريل 2023، عمليات قطع جائرة وواسعة النطاق لأشجار حراجية/برية في 114 موقعاً بمنطقة عفرين، من بينها 57 موقعاً تضرر بشكل كامل على أيادي فصائل المُعارضة المسلحة الموالية لتركيا.
وحول أهمية مشاركة الضحايا الفاعلة في جهود كشف الحقيقة، المساءلة، وتحقيق العدالة، قال الصحفي “عبد الحليم عبد الحليم” وهو من المهجرين قسرياً من منطقة رأس العين/سري كانيه خلال مشاركته في المنتدى السنوي الثاني للضحايا:
“الوعي بأهمية التوثيق بمشاركة الضحايا أنفسهم هي أهم خطوة على طريق العدالة، ولأن الهجرة نحو بلدان اللجوء في ازدياد كل يوم، لا سيما هجرة الضحايا والمهجرين قسرياً أنفسهم، فإنّنا بذلك نفقد الشهود والأدلة، لذا علينا تكثيف جهود التوثيق”.
كما أضاف الناقد والكاتب “عبد الوهاب بيراني” أنّ التوثيق لا يقتصر على الجهد القانوني، مشيراً إلى أنماط أخرى من جهود التوثيق الهادفة لكشف الحقيقة وتعزيز التضامن مع الضحايا.
“ثمة جانب مهمٌّ في التوثيق لا يقلّ أهمية عن التوثيق القانوني والحقوقي، ألا وهو التوثيق بالأدب والفن، نحتاج إلى هذا النوع من التوثيق للضحايا”.
وتأكيداً لأهمية اعتماد نهج يُركز على تجارب ووجهات نظر وأولويات الضحايا والناجين/ات وعائلاتهم/ن، قال الكاتب والروائي “ريدي مشو”:
“الأولوية الأساسية هي النضال من أجل قضايا الضحايا من وجهة نظر إنسانية لا سياسية، والتركيز على الجوانب الإنسانية والقانونية، والسعي لتعزيز التضامن الإنساني مع الضحايا”.
التوصيات
أفضت النقاشات خلال المنتدى وجلسات النقاش وحوارنا المباشر مع الضحايا والناجين/ات وعائلاتهم/ن، إلى عدد من التوصيات، من أهمّها:
إلى ضحايا النزاع في سوريا:
- التنسيق بين الضحايا –أي أهل القضية– وتنظيم أنفسهم، وقيادتهم الجهود الهادفة للدفاع عن حقوقهم ومناصرة القضايا ذات الأولوية بالنسبة لهم.
- رفع الوعي حول أهمية التوثيق بمبادرة من الضحايا وبقيادتهم، ودوره في بناء سرديّة جامعة للضحايا، وتطوير رؤيتهم حول العدالة والانتصاف الفعّال.
- النضال المستمر من أجل ضمان المشاركة الفاعلة للضحايا والناجين/ات وعائلاتهم/ن في عمليات كشف الحقيقة، المساءلة والعدالة حول سوريا، كحق أساسي لهم/ن، وشرط لا غنى عنه لبناء سلام شامل ومستدام في البلاد.
إلى الأمم المتحدة وصنّاع القرار والفاعلين الدوليين:
- تقديم الدعم الكافي لضحايا النزاع في سوريا، ولا سيما النازحين/ات والمهجرين/ات قسرياً، بما يلائم احتياجاتهم/ن وأولوياتهم/ن.
- تبني ودعم المخيمات التي لم تحظى بعد باعتراف هيئات الأمم المتحدة، كمخيمات نازحي عفرين ورأس العين/سري كانيه وتل أبيض وغيرها.
- تقديم المساعدات الإنسانية عبر الحدود لسكان شمال شرق سوريا، عن طريق معبري اليعربية/تل كوجر وسيمالكا/فيشخابور، دون انتظار موافقة الحكومة السورية و/أو غيرها من أطراف النزاع، كون المساعدات الإنسانية تعتبر من المستلزمات المنقذة للحياة.
- الضغط على الحكومة السورية للالتزام بواجباتها القانونية والإنسانية والأخلاقية تجاه مواطنيها، وضمان حماية حقوقهم الأساسية، والتعاون مع الهيئات الأممية لإنهاء النزاع، بناء السلام، وتحقيق العدالة.
- الضغط على الحكومة التركية للاعتراف باحتلالها للمناطق التي تسيطر عليها فعلياً في شمال سوريا، ومن ضمنها عفرين ورأس العين/سري كانيه وتل أبيض، والقيام بواجباتها كدولة احتلال وفقاً لاتفاقية جنيف الرابعة، بما في ذلك الانسحاب من المناطق التي تحتلها بأقصى سرعة ممكنة، ومنع قواتها والفصائل والميليشيات التابعة لها من ارتكاب انتهاكات بحق السكان المدنيين، وضرورة محاسبة جميع المتورطين في هذه الانتهاكات.
- فرض عقوبات على الشخصيات والفصائل والكيانات السورية، وتلك الوافدة إلى سوريا، المتورطة في ارتكاب انتهاكات لحقوق الإنسان وجرائم حرب، ومساءلة الجهات التي تدعمها وتمولها.
- محاسبة مرتكبي انتهاكات حقوق الإنسان، أفراداً وجماعات، وتوفير آليات انتصاف فعّالة للضحايا، تتوافق مع رؤيتهم للانتصاف والعدالة في سوريا.
- الضغط على الحكومة التركية لوقف هجماتها العدائية على الأعيان المدنية، البنى التحتية والمرافق الحيوية في مناطق شمال وشرق سوريا، والتي تفاقم الأزمة الإنسانية الكارثية القائمة، وتُدمر سبل عيش السكان، وتُهدد استقرار المنطقة الهش أساساً، ومطالبتها بمحاسبة مسؤوليها المتورطين في ارتكاب جرائم الحرب.
- الضغط على الحكومتين السوريّة والتركية لوقف استخدامهما المياه كسلاح ضد أهالي وسكان مناطق شمال وشمال شرق سوريا، وتحييد الموارد المائية عن التجاذبات السياسية.
- الضغط على الحكومة التركية لتوفير البيئة الآمنة والمحايدة في المناطق التي تحتلها، لتأمين العودة الطوعية والآمنة والكريمة للنازحين/ات والمهجّرين/ات إلى أماكن سكنهم الأصلية، والكفّ بشكل فوري عن سياسات التغيير الديموغرافي للمناطق التي تحتلها، وإزالة الآثار الناجمة عن تلك الممارسات.
- الضغط على جميع أطراف النزاع في سوريا للكشف عن مصير المعتقلين/ات والمفقودين/ات والمختفين/ات قسرياً، وتحديد أماكن دفن رفات المتوفين/ات منهم/ن وتحديد هويات أصحابها وإعادتها إلى الأُسر، وتقديم الدعم والتسهيلات اللازمة للناجين/ات وعائلاتهم.
إلى روابط/جمعيات الضحايا ومنظمات المجتمع المدني:
- العمل بشكل مستمر على تحديد احتياجات وأولويات الضحايا والناجين/ات وعائلاتهم/ن، بما في ذلك النازحين/ات والمهجرين/ات قسرياً، وإشراكهم/ن في بناء خططها وسياساتها، وتصميم الأنشطة والتدخلات الملائمة.
- حشد الرأي العام، المحلي والعالمي، حول انتهاكات حقوق الإنسان التي يرتكبها جميع أطراف النزاع في مناطق شمال وشمال شرق سوريا، والعمل من أجل إنصاف الضحايا وتعويضهم.
- توثيق جميع انتهاكات حقوق الإنسان، أياً كانوا الضحايا وأياً كانت الجهات المُنتهكة، كالقتل خارج نطاق القضاء والاعتقال التعسفي والإخفاء القسري والتعذيب والتهجير القسري، وكذلك تلك التي تطال حقوق الأرض والسكن والملكية، وتقديمها للهيئات الأممية وآليات العدالة المتوفرة حول سوريا، بهدف المساهمة في جهود كشف الحقيقة، المساءلة والعدالة حول سوريا.
- تضخيم أصوات الضحايا والناجين/ات وعائلاتهم/ن وتمكينهم لتمثيل أنفسهم/ن وقيادة حملات الدفاع عن حقوقهم/ن ومناصرة قضاياهم/ن.
- توفير كل أنواع الدعم (القانوني والطبي والاجتماعي والنفسي والخدمي) بشكل كافي وفعّال للضحايا والناجين/ات والنازحين/ات والمهجرين/ات قسرياً.
- تكثيف حملات وأنشطة التوعية والتدريب للنازحين/ات والمهجّرين/ات لتعريفهم/ن بحقوقهم/ن المسلوبة، لاسيما تلك المتعلقة بالأرض والسكن والملكية، ورفع الوعي حول أهمية الاحتفاظ بوثائق إثبات الملكية، ومساعدتهم/ن في استصدار الوثائق القانونية في حال فقدانها أو تلفها أو ما شابه.
إلى الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا:
- الحوار المستمر مع ضحايا النزاع في سوريا، بما في ذلك النازحين/ات والمهجرين/ات قسرياً، وإشراكهم/ن في صناعة القرارات الصادرة عنها.
- تأمين الخدمات الأساسية للنازحين/ات والمهجرين/ات قسرياً في مناطقها، لا سيما سكان المخيمات، وضمان حقوقهم الأساسية، وتأمين فرص العمل لهم/ن، ومساعدتهم/ن في التأقلم مع المجتمع المضيف.