قامت “منظمة سوريون من أجل الحقيقة والعدالة”، وبدعم من الصندوق الوطني لدعم الديمقراطية NED، بتنظيم مجموعة من الجلسات التشاورية حضرها أكثر من 80 من النشطاء/ات وممثلين/ات عن منظمات المجتمع المدني، ومواطنين من شمال شرق وغرب سوريا.
تنشر “سوريون” هذه الورقة الخامسة، كجزء من مجموعة أوراق لخّصت نتائج هذه الجلسات، وحيث سوف يتم نشرها تباعاً على شكل خمسة تقارير متسلسلة تمّ عنونتها كالتالي:
- التقرير الأول: آلية تشكيل وعمل اللجنة الدستورية السورية.
- التقرير الثاني: الشمولية/التضمين والتعددية.
- التقرير الثالث: العدالة الانتقالية والعملية الدستورية في سوريا.
- التقرير الرابع:الحوكمة والنظم القضائية والعملية الدستورية في سوريا.
- التقرير الخامس: الدستور السوري وقضايا العدالة الاجتماعية – الإيكولوجية والتجارب الشخصية.
يشير مصطلح “العدالة الاجتماعية” – وهو مصطلح شامل – إلى حقوق الإنسان التي تتجلى في الحياة اليومية للناس على كل مستوى من مستويات المجتمع، حيث يقصد به توزيع الثروة والفرص والرعاية الصحية والتعليم وغير ذلك بشكل عادلٍ ومتساوٍ. وبمعنى آخر يشير هذا المصطلح إلى كافة الحقوق وجميع الوسائل التي تمكّن المواطنين من العيش بحرية والتمتع بالمساواة. وبالرغم من أنَّ الدساتير في كل دول العالم تقريباً تتحدث عن أهمية العيش في ظل مبادئ العدالة الاجتماعية إلا أنَّ أغلبها لم يوضح المسؤوليات التي تقع على عاتق الدولة في هذا الصدد.
وعليه ارتأينا أن نعطي مساحة للمشاركين لدينا لطرح أفكارهم حول قضايا العدالة الاجتماعية في سوريا مثل العدالة البيئية، والحصول على الرعاية الصحية، ومسائل أخرى يعتقدون أنه من الواجب طرحها للنقاش في الحوار الجاري حول عملية بناء الدستور في سوريا.
وعلاوة على ذلك، ومن أجل تسليط الضوء على أهمية إشراك المواطنين في وضع اللبنة لبناء مجتمع عادل وشامل لجميع السوريين، قمنا بإعداد هذا التقرير الذي يتحدث عن تجربة المواطنين في المشاركة في الجلسات التشاورية التي قمنا بتنظيمها لمناقشة عملية بناء دستور سوريا القادم. إنَّ الرسالة التي يريد مشروع “أصوات سورية لدستور شامل” إيصالها، والتي تقوم عليها التقارير التي أعدّت في سياقه، هي إيصال أصوات الفئات التي لا يُسمع لها في الغالب، حيث يركز على وجوب منحهم الفرصة لمشاركة وجهات نظرهم واهتماماتهم. وسيركز هذا التقرير على وجهات نظر وآراء المواطنين التي أدلوا بها لسوريون من اجل الحقيقة والعدالة ولأعضاء اللجنة الدستورية حول عملية بناء دستور سوريا الجديد ومدى رضاهم عن الاهتمام الذي تحظى به متطلباتهم خلالها.
العدالة البيئية والاجتماعية:
ظهرت في السنوات الأخيرة نقاشات عدة حول كيفية تأثير العوامل البيئية على الاستقرار السياسي والدور الذي تلعبه في أوقات الصراع. ويرى خبراء دستوريون ودعاة مجتمع مدني أنَّ العوامل البيئية وسبل حماية البيئة أمور يجب أن تؤخذ بعين الاعتبار عند بناء الدساتير. وهذا الرؤية جاءت على ضوء تعريف العدالة البيئية الذي هو الدور الذي تلعبه الطبيعة والموارد الطبيعية في معيشة الناس. تبرز أهمية أفكار العدالة البيئية واحترام البيئة وتنظيم الحصول على مواردها بشكل عادل عندما تتعرض هذه الموارد إلى الاعتداء المباشر أو غير المباشر في مناطق النزاع.[1]
احتوت الدساتير الحديثة لمعظم دول منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا كالعراق وتونس ومصر وحتى سوريا مبدأ العدالة البيئية حيث ينص دستور الدستوري السوري لعام 2012 في المادة 14 منه على أنَّ: “الثروات الطبيعية والمنشآت والمؤسسات والمرافق العامة هي ملكية عامة، تتولى الدولة استثمارها والإشراف على إدارتها لصالح مجموع الشعب، وواجب المواطنين حمايتها.” وذلك يعني أنَّ هناك لبنة موجودة فعلاً يمكن أن تكون أساساً متيناً لبناء العدالة البيئية في دستور سوريا ودساتير باقي دول المنطقة، الأمر الذي صوت جميع المشاركين لدينا على أهميته. لكن في حين رأي 71 % من المشاركين ذاتهم أنَّ الدستور السوري الجديد يجب أن ينص صراحة على أنَّ الدولة تتحمل مسؤولية إدارة الموارد الطبيعية وجعلها في متناول جميع المواطنين على قدم المساواة ويجب أن توضع تحت طائلة المحاسبة في حال لم تلتزم بذلك، عارض 12 % منهم هذه الفكرة.
وأدّت التطورات التي حدثت في إطار البعد المتعلق بحقوق الإنسان إلى اعتبار المياه مورد اجتماعي وحق من الحقوق الأساسية في حياة الفرد. ومن الأمثلة التي أبرزت ما يتسم به هذا الحق من أهمية، الاتهامات الكثيرة التي وجهت لتركيا بعدما قامت بإغلاق بوابات عبور مياه الفرات إلى سوريا،[2] معرّضة حياة نحو خمسة ملايين نسمة من السوريين للخطر ومهددة سبل عيشهم حيث أنَّ عدم القدرة على الوصول إلى المياه لأسباب سياسية، له عواقب وخيمة على المدنيين. هذا ليس سوى مثالاً واحداً على الكيفية التي يمكن للطبيعة بها أن تؤثر على مصير ووجود الأشخاص وهذا الدور يكون أكبر في حالات الصراع وأخطر في حال لم يتم تنظيم مواردها بشكل صحيح وعادل. وليس مثال نهر الفرات هو المثال الوحيد، فقد قامت فصائل المعارضة السورية المسلّحة والمدعومة من الحكومة التركية، بقطع مياه محطة علوك عشرات المرات، وخاصة في بداية أثناء انتشار جائحة كورونا.[3]
ومن الأمثلة الأخرى عن المواضيع المتعلقة بالعدالة البيئية التي ناقشناها مع المشاركين هي الحصول على الرعاية الصحية. ففي الواقع إنَّ امتلاك دولة ما للوسائل اللازمة التي تكفي لتزويد جميع المواطنين بالرعاية الصحية لا يعني بالضرورة منح جميع المواطنين إمكانية الوصول إليها، ويرجع ذلك في جزء كبير منه، إلى أسباب مثل عدم المساواة الاقتصادية والفقر وعدم إمكانية الوصول الجغرافي ونقص وسائل النقل ومستوى التعليم. وفي هذا الصدد صوت 84.3 % من المشاركين لدينا على وجوب أن يُلزم الدستور الدولة بضمان وصول جميع مواطنيها إلى الرعاية الصحية ووسائل الوقاية والحصول على العلاج والدواء. وفي الواقع لم يعارض أي من المشاركين هذه النقطة وقلة قليلة منهم تركوا السؤال دون إجابة.
تجارب المشاركين في الجلسات التشاورية:
خلال المشاورات وطوال فترة الاستطلاع، تم تشجيع المشاركين على تبادل وجهات نظرهم حول مواضيع متنوعة، وتبادل مخاوفهم. سنسرد في المقاطع التالية بعض الموضوعات الاجتماعية التي شعر المشاركون بأنَّ اللجنة الدستورية قد أغفلتها، وتلك التي اعتبروها مواضيع جوهرية في عملية بناء الدستور.
أولاً، من أكثر المواضيع التي تكرر ذكرها من قبل المشاركين في الاجتماعات هو التركيز على مستقبل الأجيال القادمة. حيث أكد أحدهم بأنه “يجب أن يكون هناك تركيز على تعليم الأجيال القادمة، ودعم الموهوبين منهم، إذ أنَّ تقدم البلدان يقاس بثقافاتها وفنونها.” وقال مشارك آخر أنه “يجب أن يكون التعليم مجانياً في جميع مراحله، حيث أنَّ التعليم هو حق لجميع الأفراد وعلى الدولة أن تساعد الناس على ممارسة هذا الحق“. وعن رأيهم في ماتقوم به اللجنة قال أحد المشاركين “إنَّ اللجنة الغت دور الشباب وأغفلت قدرتهم على ممارسة حقوقهم السياسية والعمل على صياغة دستور يلبي مطالبهم ويحافظ على حقوقهم، متناسين أنَّ الشباب هم أساس وأصل الثورة والتغيير.”
ثانياً، أكدت مجموعة كبيرة من المشاركين في الجلسات التشاورية على ضرورة توزيع الموارد الطبيعية بشكل عادل على جميع المناطق السورية. وقد أثار المشاركين الأكراد قضية المظالم المستمرة التي يتعرض لها المكون الكردي دوناً عن غيره في سياق الوصول إلى العدالة، حيث قال أحدهم: “على الرغم من أنَّ الدستور المنتظر أشار إلى جميع الحقوق الدستورية لجميع مكونات الشعب إلا أنَّ هناك أمراً لا بدَّ من أن نلفت النظر إليه وهو أنَّ المكون الكردي قد تعرض للظلم جراء اتفاقية سايكس-بيكو التي رسمت حدوداً أدَّت إلى فصل أبنائه عن بعضهم. آمل أن يعمل القائمين على وضع الدستور الجديد على إيجاد سبل لتسهيل التواصل بين أبناء الشعب الكردي في أجزاء كردستان الأربعة والسماح بإقامة علاقات وتوفير طرق وصول سهلة وآمنة بينهم.”
ثالثاً، كانت الدعوة إلى المساواة في الحقوق لجميع الأعراق والأديان والتوجهات الجنسية من أهم المواضيع التي أثارها المشاركين معنا، إلى جانب المساواة بين الجنسين في جميع مراحل عملية بناء الدستور وكذلك في المستقبل: ومن التعليقات التي أدلى بها أحد المشاركين في هذا الصدد: “من الضروري التأكيد على مشاركة المرأة في كتابة الدستور، وتفعيل دور الشباب من خلال الانتخابات، وإجراء دراسات متعمقة حول دساتير الدول الأخرى، واستطلاع آراء جميع شرائح المجتمع من خلال عمل استبيان استقصائي.” وعلَّق مشارك آخر: “لا توجد أحكام تُعنى بالشباب وحقوق الطفل وحمايته وحرية المواطنة والأفراد، كأولئك الذين ينتمون إلى المجتمع مثلي الجنس (LGBT) وغيرهم ممن يعانون من قيود اجتماعية.”
تعليقات حول المشاركة في الجلسات التشاورية:
كان الهدف من تنظيم الجلسات التشاورية لنقاش عمل اللجنة الدستورية في سياق مشروع “أصوات سورية لدستور شامل” هو إعطاء فرصة للسوريين لمشاركة آرائهم واهتماماتهم التي يرجون تضمينها في دستور بلادهم الجديد. وتتضح من تعليقات بعض المشاركين التي سنوردها للتو، مشاعر الإيجابية والأمل التي تملكتهم بعد المشاركة في هذا المشروع حيث أكد جميعهم على سعادتهم بالمشاركة في هذه المشاورات التي تلعب دوراً كبيراً في زيادة وعي المواطنين، وتسهم في حرية الاختيار، وتسمح للجنة الدستورية بأن تأخذ بعين الاعتبار آراء المواطنين حول الشكل الذي ينبغي أن يكون عليه دستور سوريا المستقبل وخاصة الفئات الذين لم يتم تمثيلهم في اللجنة.
بعض من تعليقات المشاركين:
- “آمل أن تكون هذه الجلسات بمثابة منبر لإيصال صوت الشعب السوري بكل مكوناته وأطيافه إلى اللجنة الدستورية الحالية.”
- “إنَّ هذه الجلسات جيدة كونها تسمح لي بالتعبير عن رأيي كمواطنة سورية كردية.”
- “أنا ممتن لأي خطوة تهدف إلى إيصال أصوات من هم داخل سوريا الذين لديهم كل الحق في التعبير والاختيار.”
لقد سعدت سوريون من أجل الحقيقة والعدالة بتلقي جميع تعقيبات المشاركين الإيجابية والبنَّاءة، وتطمح إلى مواصلة هذا العمل. إنَّ هدفنا من هذا المشروع لا يقتصر على إنشاء منصات تسمح للمواطنين بالتعبير عن آرائهم فحسب، بل إننا نعمل على وصل هؤلاء المواطنين بأولئك الذين يشاركون بشكل مباشر في صياغة الدستور الجديد أو المعدل. ويسعدنا أننا تمكنا من مناقشة هذه القائمة الواسعة من المواضيع، مع مجموعات متنوعة من المواطنين وأعضاء اللجنة الدستورية الذين تشرفنا بمشاركتهم لنا في هذا الحدث.
يذكر أننا قمنا باستهلال الاستبيان الاستطلاعي الذي قمنا بتوزيعه على المشتركين وختامه بسؤال عما إذا كان المشارك يشعر بأنَّ فئته قد تمَّ تمثيلها بشكل كاف في اللجنة الدستورية أم لا، وكانت النتيجة بأنَّ السؤال الاستهلالي أجاب عليه 65.1 % بـ لا و 28.9 % بـ نعم، بينما أجاب 49.4 % بـ لا و 33.7 % بـ نعم على السؤال نفسه في نهاية الاستبيان. ويمكن تفسير هذا التغير في النتائج بين بداية الاستبيان ونهايته بأنَّ المشاركين أدركوا من خلال إجاباتهم على الأسئلة الواردة في الاستطلاع بأنَّ اللجنة قد تناولت بعض وجهات نظرهم. وعلاوة على ذلك فقد لاحظ أعضاء اللجنة الدستورية، مثل صباح الحلاق، بأنَّ ثقة المشاركين في اللجنة الدستورية ازدادت بعد تلك المحادثات. وعليه فإننا نرى أنه ينبغي أن تشجع هذه البيانات منظمات المجتمع المدني الأخرى وأعضاء اللجنة الدستورية على السعي من أجل إجراء حوارات مماثلة مع المدنيين السوريين حول عملية بناء الدستور في سوريا.
يقول أحد المشاركين: “إنني لا أعرف الكثير عن ممثلي اللجنة لكنني آمل أن يكون بينهم من يشعر بالمواطن ويفضل المصلحة العامة على مصالحه الشخصية الضيقة.” إنَّ اهتمام المشاركين بأعضاء اللجنة ورغبتهم في مشاركة أفكارهم، يخبرنا أنَّ هذه المحادثات يمكن أن تبني ثقة الشعوب في اللجنة الدستورية، وبالتالي في الدستور الذي ستصوغه.
توصيات:
على ضوء المعطيات الواردة في هذا التقرير، سواء من المشاورات أو المصادر التكميلية توصي سوريون من أجل الحقيقة والعدالة الحكومة السورية والمجتمع الدولي واللجنة الدستورية السورية بما يلي:
- إدراج نظم العدالة البيئية والاجتماعية (بما فيها آليات المساءلة) في الدستور، مع الاعتراف بأهمية دور البيئة في ازدهار البلاد وتحديد مسؤوليات الدولة بوضوح.
- إشراك الأجيال الشابة في كتابة الدستور وضمان حقوقهم.
- مواصلة عقد الجلسات التشاورية والمشاركة فيها للوصول إلى دستور شامل، وينبغي أن تكون هذه المشاورات ذات منحى عملي وأن يتم تنظيمها بأشكال ونطاقات ومواقع ومحتويات مختلفة وجعل المشاركة فيها مفتوحة لجميع مواطني سوريا.
- الاعتراف بفكرة أنَّ الشباب هم صانعي التغيير والعمل على أساسها، وبالتالي وضعهم في صدارة عملية بناء الدستور الشاملة للجميع.
______
[1] من المحتمل جداً حدوث زلازل، وحالات جفاف وغيرها من الكوارث نتيجة الاحتباس الحراري، وإنَّ حجب الموارد الطبيعية عمداً، يؤدي إلى وفاة أفراد ومجتمعات بأكملها.
[2] “تركيا تحد من تدفق مياه الفرات إلى سوريا، حارمةً المئات من الوصول إلى المياه الصالحة للاستخدام”، العربية، 7 تموز/يوليو 2020. (آخر زيارة للرابط: 11 شباط/فبراير 2022).
“قرويون سوريون على طول نهر الفرات يتهمون تركيا بقطع المياه”، فرانس 24، 11 آب/أغسطس 2020، https://observers.france24.com/en/20200811-syria-along-euphrates-villagers-accuse-turkey-starting-water-war (آخر زيارة للرابط: 11 شباط/فبراير 2022).
[3] للمزيد انظر: التسلسل الزمني لمسألة تكرار قطع مياه محطة علوك شمال شرق سوريا. سوريون من أجل الحقيقة والعدالة. 31 آب/أغسطس 2020. (آخر زيارة للرابط: 11 شباط/فبراير 2022). https://stj-sy.org/ar/%d8%a7%d9%84%d8%aa%d8%b3%d9%84%d8%b3%d9%84-%d8%a7%d9%84%d8%b2%d9%85%d9%86%d9%8a-%d9%84%d9%85%d8%b3%d8%a3%d9%84%d8%a9-%d8%aa%d9%83%d8%b1%d8%a7%d8%b1-%d9%82%d8%b7%d8%b9-%d9%85%d9%8a%d8%a7%d9%87-%d9%85/