مقدمة: "إنّ الثقافة التي من المفروض أن توحّد بين البشر رغم اختلافهم وتساهم بالتالي في تعزيز وسائل الدفاع عن السلم هي أيضاً ما يفرق بينهم للأسف غالباً. وفي هذه الظروف ليس من الغريب أن تفضي الحرب إلى تدمير الآثار وأماكن العبادة والأعمال الفنية التي تعد من بين أكبر الإبداعات النفيسة للعقل الإنساني. يحدث البعض من هذا الدمار عرضاً. وفي حالات أخرى برَّرت الأطراف المتحاربة تدمير الممتلكات الثقافية بحجة الضرورات العسكرية. وعلى هذا النحو فسرت الولايات المتحدة تدمير دير " مونتي كاسينو " الشهير الذي تحصن فيه الألمان وأوقفوا مسيرة الحلفاء صوب روما منه. غير أن أعمال الدمار تكون متعمدة في معظم الحالات. فتدمير الآثار وأماكن العبادة أو الأعمال الفنية يقصد القضاء على هوية الخصم وتاريخه وثقافته وإيمانه، بغية محو كل أثر لوجوده وحتى لكينونته[1]."
يعرّف النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية المعتمد في روما في يوليو/تموز 1998 جرائم الحرب كما يلي: "… تعمّد توجيه هجمات ضد المباني المخصصة للأغراض الدينية أو التعليمية أو الفنية أو العلمية أو الخيرية والآثار التاريخية (…) شريطة ألا تكون أهدافاً عسكرية."[2] ويشمل الحظر الأعمال المرتكبة في النزاعات المسلحة الدولية وغير الدولية[3].
وخلال النزاع السوري المستمر، تمّ توثيق العشرات لا بل المئات من الإعتداءات على مرافق العبادة، ويتحدّث هذا التقرير الموجز عن بعض الحوادث المؤخّرة التي وقعت في الغوطة الشرقية المحاصرة في ريف دمشق.
أولاً: القصف على مسجد النعسان في مدينة دوما بريف دمشق:
بتاريخ 4 نيسان/أبريل 2017 قام الطيران الحربي وفي حوالي الساعة (01:15) ظهراً بتوقيت دمشق، بشنّ غارة على "مسجد النعسان" في مدينة دوما بريف دمشق، وبحسب الباحث الميداني لسوريون من أجل الحقيقة والعدالة، فإنّ القصف تزامن مع أداء عشرات المصلين لصلاة الظهر. حيث أصيب العديد من المصلّين بإصابات تراوحت ما بين المتوسطة والخطيرة، وأدى القصف أيضاً إلى دمار جزء من المسجد بحسب الشهادات والصور التي تمّ الحصول عليها.
عمران عباس (17) سنة، وهو أحد الناجين من الغارة، من أبناء مدينة دوما قال في شهادته أنّ الغارة وقعت أثناء أداء المصلّين لصلاتهم، وأفاد أن القصف خلّف ما لايقل عن (60) مصاباً، بينهم أطفال. وأضاف عمران:
"كنتُ أحد المصابين في هذا الهجوم، حيث تمّ إسعافي لاحقاً من قبل فرق الإنقاذ بعد تعرّضي للإصابة في يدي وقدمي ورأسي، وبقيت ليلتين في المشفى بعد يوم الهجوم."
وفي شهادة أخرى، أكد مأمون قشّوع، وهو أيضاً أحد المصلّين الناجين، لسوريون من أجل الحقيقة والعدالة في شهادته ما يلي:
"قبل مجيء فريق الإنقاذ المكونة من الدفاع المدني والهلال الأحمر لإسعافنا، رأيتُ العديد من المصليّن وعليهم دماء كثيرة، بعد أن سقط عليهم ركام المسجد نتيجة القصف، أذكر جيداً كيف تعرّض إمام المسجد لإصابة خطيرة، ومازلتُ أذكر صراخ طفل علق تحت الأنقاض القريبة من باب المسجد."
وأظهر مقطع فيديو نشره عناصر الدفاع المدني السوري في ريف دمشق عمليات إنقاذ المصلّين الذي أصيبوا في الهجوم من تحت الأنقاض ومن بينهم مدني مسنّ نتيجة قصف الطيران الحربي السوري على مسجد النعسان في مدينة دوما بتاريخ 4نيسان/ أبريل 2017.
صور تظهر الدمار الذي لحق بمسجد النعسان بمدينة دوما بعد تعرضه لقصف الطيران الحربي السوري بتاريخ 4 نيسان/أبريل2017. صورة خاصّة بمنظمة سوريون من أجل الحقيقة والعدالة.
ثانياً: القصف على مسجد عربين في مدينة عربين بريف دمشق:
يتكرر قصف دور العبادة في مدن وبلدات الغوطة الشرقية عموماً، من قبل الطيران الحربي السوري حيث يتمّ التعرّف على نوع الطائرة وجنسيتها من خلال "مراصد قوات المعارضة[4]" التي تراقب حركة الطيران في المطارات العسكرية السورية وتنشرها على غرف خاصة داخل تطبيق "التلغرام". وبعد ذلك يتم تعميم الخبر مثلاً على الناشطين والأهالي لضرب أبواق الإنذارات عبر مكبرات المساجد المتوزعة على تلك البلدات، فيتم فضّ تجمعات الأهالي وإخلاء الشوارع والطرقات خوفاً من قصف تلك الطائرات.
ففي 7 نيسان/أبريل 2017، وبعد يومين فقط من استهداف مسجد النعسان في مدينة دوما، تعرض مسجد عربين في مدينة عربين بريف دمشق، للقصف بخمسة صواريخ حرارية، وذلك وفق ما أكدّه "أبو اليسر براء مدير المكتب الإعلامي لمدينة عربين" لمراسل سوريون من أجل الحقيقة والعدالة قائلاً:
"بعد ساعة تقريباً من إنهاء المصلين صلاة الظهر في المسجد وانصرافهم إلى شؤونهم في الخارج، أطلقت طائرة حربية خمسة صواريخ موجهة (أي أنها تصيب أهدافها بدقة)، ما أودى بحياة طفل وأسفر عن وقوع عدة جرحى، فضلاً عن الدمار الكبير الذي لحق بالمسجد من جهته الخلفية."
ومن جهته وثق مراسل سوريون من أجل الحقيقة والعدالة اسم الطفل القتيل وهو "سليمان شقيران"، وذلك بعد جولته على الموقع الذي تعرض للهجوم.
وأظهر مقطع فيديو نشره المكتب الإعلامي لمدينة عربين بريف دمشق، الدمار الذي لحق بمسجد عربين جراء قصف الطيران الحربي السوري بتاريخ 7 نيسان/أبريل 2017.
صورة توضح الدمار الذي لحق بالجهة الخلفية بمسجد عربين في ريف دمشق نتيجة قصف الطيران الحربي بتاريخ 7 نيسان/أبريل 2017 صورة خاصّة بمنظمة سوريون من أجل الحقيقة والعدالة.
ومن الجدير ذكره أنّ "مسجد عربين الكبير" يقع وسط المدينة، في منتصف سوق الخضار وهو أول مسجد بُني في عربين ومن أكبر مساجد المدينة مساحة، إلى جانب أنه أثري البناء والشكل وشبيه في عمارته وزخارفه وهيئته بالمسجد الأموي الكائن في العاصمة دمشق، ويرجّح تاريخ بنائه الأول إلى ماقبل القرن السادس عشر الهجري.
ثالثاً: جرحى في قصف عشوائي على مسجد كفربطنا بريف دمشق:
بتاريخ 12 نيسان/أبريل 2017 تعرّض مسجد كفربطنا الكائن في بلدة كفربطنا بريف دمشق، للقصف بإحدى قذائف الهاون، خلال أداء المصلين صلاة الظهر في تمام الساعة (01:15) بتوقيت دمشق، الأمر الذي أدى إلى إصابة ثلاثة مصلّين، بحسب شهادة محمد الأغواني وهو أحد المصلّين الناجين الذين التقاهم مراسل سوريون من أجل الحقيقة والعدالة أثناء جولته في الموقع.
سراج محمود الناطق الرسمي باسم الدفاع المدني بريف دمشق، قال في شهادته لمراسل سوريون من أجل الحقيقة والعدالة حول الحادثة ما يلي:
"بعد معاينة المكان من قبل متطوعي الدفاع المدني تبين أن قذيفة الهاون التي سقطت على المسجد لم تنفجر، ولكنها وقعت على مكان جلوس ثلاثة شبان، ما أدى إلى إصابتهم إصابات تتراوح بين الطفيفة والمتوسطة واستدعى إسعافهم على الفور."
ويوضح سراج محمود بأن الجيش النظامي السوري يقوم باستهداف ممنهج لمناطق التجمعات المدنية والأماكن الدينية في الغوطة الشرقية رغم خلوها تماماً من أي مقرات عسكرية تابعة للمعارضة المسلحة، ويشير إلى أن الجيش النظامي السوري دائماً ما يقوم باستهداف العديد من مساجد الغوطة الشرقية إما بالصواريخ الموجهة أو القذائف المدفعية، ولاسيما أثناء أداء صلاة الجمعة والمعروف بأنها تكتظ بأعداد كبيرة من المصلين.
وفي سياق متصل أكدّ العديد من الأهالي والسكان في كل من مدن وبلدات دوما وعربين وكفربطنا بريف دمشق – لمراسل سوريون من أجل الحقيقة والعدالة – ممن فضلوا عدم ذكر أسمائهم، عدم وجود أي مقرات عسكرية أو أهداف عسكرية تابعة لفصائل المعارضة المسلحة داخل تلك المساجد المستهدفة أو حتى قريبة منها.
ويعد مسجد كفربطنا بريف دمشق من أقدم مساجد البلدة، إذ يقدر تاريخ بنائه إلى نهايات العهد العثماني.
صورة توضح مكان سقوط قذيقة هاون داخل مسجد كفربطنا بتاريخ 12 نيسان/أبريل 2017. صورة خاصّة بسوريون من أجل الحقيقة والعدالة.
ومع بداية المعارك في نهاية العام 2012 وبداية العام 2013 بين فصائل المعارضة السورية المسلحة والجيش النظامي السوري للسيطرة على مدن وبلدات الغوطة الشرقية بريف دمشق، وتراجع الأخير تحت ضربات المعارضة المسلحة، لم يتوان الجيش النظامي السوري وآلته الحربية عن استهداف المساجد وخاصة خلال صلاة يوم الجمعة ما دفع بالمؤسسات الشرعية وهيئات الإفتاء في الغوطة الشرقية بريف دمشق والمتمثلة في (الهيئة الشرعية العامة والهيئة الشرعية لدمشق وريفها)، إلى إصدار فتوى بتقديم صلاة الجمعة قبل موعدها المحدد والمعروف لعوام المسلمين، لما فيها من تجمع أكبر عدد من المصلين. فبات كل مسجد من تلك المساجد يؤدي صلاة الظهر في أوقات مختلفة، حتى يفوتوا على الجيش النظامي السوري قدر المستطاع فرصة استهداف الناس في تجمعاتهم وأداء شعائرهم الدينية بحسب مراسل سوريون من أجل الحقيقة والعدالة.
[1] نشأة الحماية القانونية للممتلكات الثقافية في حالة النزاع المسلّح ضمن إطار القانون الدولي الإنساني التعاقدي والعرفي، فرنسوا بونيون، اجتماع الذكرى الخمسين لاتفاقية لاهاي لعام 1954 متوفر على الرابط: https://www.icrc.org/ara/resources/documents/misc/5xff7b.htm
[2] نظام المحكمة الجنائية الدولية المعتمد في روما يوم 17 يوليو/تموز 1998، المادة 8،2ب، و8، 2.
[3] المجلة الدولية للصليب الأحمر، العدد 832، ديسمبر/كانون الأول 1998، الصفحتان 734 و737.
[4] يقوم بعملية الرصد بعض المنشقين من الجيش النظامي السوري وأشخاص آخرين، حيث يمتلكون أجهزة تنصت تمكنّهم من معرفة توقيت إقلاع الطائرات ووجهتها ممكن يسهّل في عملية الإخلاء وتفادي وقوع أعداد كبيرة من الضحايا في حالات القصف.