لم يتسنَّ لعبد الرحمن أن يحقق حلمه في الالتحاق بمعهد الفنون المسرحية في العاصمة دمشق، إذ أنه اضطرّ إلى ترك مقاعد الدراسة الجامعية، باعتبار أنه واحدٌ من الكرد السوريين المجرّدين من الجنسية وتحديداً من فئة "مكتومي القيد"، إذ لا يحق لهذه الفئة الحصول على شهادة تخرّج، وليس بوسعهم اختيار المهن التي يريدونها مثل باقي الناس، ومازالت معاناة عبد الرحمن مستمرة حتى يومنا هذا، فوضعه القانوني لم يتغير على الرغم من محاولاته العديدة.
"عبد الرحمن إبراهيم علي" من مواليد مدينة القامشلي/قامشلو عام (1978)، متزوج ولديه طفلان، لم يكن له الخيار أن يصنّف تحت فئة "مكتومي القيد"، إذ أنه ينتمي لعائلة غالبية أفرادها محرومين من الجنسية السّورية، وفي هذا الصدد تحدّث للباحث الميداني لدى سوريون من أجل الحقيقة والعدالة في شهر آذار/مارس 2018 قائلاً:
"أخبرني والدي أنه خلال فترة الإحصاء تمّ تسجيل بعضٍ من أشقائه كمواطنين سوريين في حين سُجّل البقية كمكتومي القيد، وقد حاول والدي وأعمامي العمل على الموضوع كثيراً، كما أنهم اضطروا إلى دفع مبالغ كثيرة لكن دون نتيجة، ومنذ أن وعينا على هذه الدنيا وأنا وإخواني الأربعة وشقيقاتي الخمسة، كنا مكتومي القيد وحاولنا كثيراً تعديل وضعنا القانوني لكن دون جدوى، كما أنّ لزوجتي المعاناة ذاتها، وقد رُزقنا بولدين أحدهما الآن في الصف التاسع الإعدادي والآخر في الصف السابع، وأتساءل أحياناً لماذا يفرح الناس حينما يُرزقون بأطفال، بينما نحن المجّردون من الجنسية نشعر أننا اقترفنا ذنباً بحقهم."
لم يتمكن عبد الرحمن من متابعة تعليمه، باعتبار أنه لا يتمتع بالجنسية السّورية، فقد كان كثيراً ما يسمع عبارة ”اترك الدراسة فأنت مكتوم القيد وتعلّم حرفة/مهنة ما تعينك في هذه الحياة“، وهو الأمر الذي ترك أثراً شديد الألم في نفسه، لا سيّما أنه حُرم من أبسط حقوقه كإنسان بحسب وصفه، وفي هذا الصدد أضاف قائلاً
"لا أريد لأطفالي أن يُحرموا من هذا الحق كما حُرمت منه، فما زلت أذكر حين توجهتُ لمدينة دمشق في إحدى المرات ووقفتُ قبالة معهد الفنون المسرحية وأنا أتحسّر على نفسي، وكانت دموعي تنهال من عيني دون إدراتي، وعندما كنت أمرّ من جانب سور جامعة دمشق وأرى الطلاب داخل الحرم الجامعي، كنت أحزن لأنّي لم أتمكن من متابعة تعليمي ودخول الجامعة، فالحياة لا يمكن عيشها إلا مرة واحدة."
كان عبد الرحمن يأمل في أن يمتلك بيتاً وسيارة مسجّلين باسمه، غير أنّ ذلك لم يحدث، إذ أنه كان يضطر لتسجيل كل أملاكه باسم أصدقائه، كما أنّ ما كان يؤلمه أكثر، هو مطالبته بأوراق لا يُطالب بها غيره من المواطنين، مما يشعره بأنه غريب تماماً عن بلده، حيث قال في هذا الصدد:
"أذكر في إحدى المرات وبينما كنا نقوم بتسجيل أطفالنا في المدرسة، طلب منا القائمون أن نقوم بعرض أطفالنا على لجنة تقدير الأعمار حتى يتمّ قبولهم، خاصة وأننا لا نمتلك أية أوراق ثبوتية تثبت ذلك، وكان بوسع الطبيب الموجود في هذه اللجنة أن يُؤخر ابنك عاماً عن دراسته إن أراد ذلك، كما كانوا دائماً ما يطالبوننا في المراحل الابتدائية والإعدادية والثانوية، بتقديم شهادات تعريف من المختار، أي أننا كنا دائماً مطالبين بأوراق وإثباتات."
واجهت عبد الرحمن صعوبات عدة باعتبار أنه من فئة مكتومي القيد المجرّدين من الجنسية، فلم يحق له السفر خارج البلاد، وحينما كان يسافر من مدينة إلى أخرى، كان يتعرّض للعديد من المآزق، خاصة في مدينتي دمشق وحلب، إذ أنّ عناصر الشرطة وقوات الأمن في هذه المناطق لم يكن لديها فكرة عن ماهية "مكتومي القيد"، ولم يقف الأمر عند هذا الحد، إذ أنهم كانوا محرومين من المبيت في الفنادق، بشرط الحصول على موافقة من إدارة شعبة الفنادق في هذه المناطق، وهو ما كان يضطرهم للمكوث عند أصدقائهم، وتابع عبد الرحمن قائلاً:
"عقب إصدار المرسوم رقم (49) والقاضي بتجنيس الأجانب، سمعنا أنهم سوف يقبلون بأوراق المكتومين أيضاً، لذا كان علينا جميعاً أن نتوجه إلى دائرة الأحوال المدنية في مدينة القامشلي/قامشلو، فذهبت مع عائلتي وعائلة اثنين من أعمامي، وكان هنالك لجنة لتقدير الأعمار، وحينما أتى دور والدي والذي تجاوز السبعين عاماً، كان علينا جلب شاهد على معرفة به وأكبر منه سناً حتى يستذكر عمره الحقيقي، وهو أمر تدبّرناه بصعوبة بالغة، ورغم أننا قمنا بتقديم أوراقنا كاملة إلا أنّ ذلك كان دون جدوى، حتى أننا لم نسمع أنّ أحدًا غيرنا ممّن تقدم بأوراقه قد حصل على الهوية."
وأشار عبد الرحمن إلى أنّ بعض مكتومي القيد لم يعد بوسعهم مؤخراً الحصول على شهادة تعريف من قبل مسؤول الحي أو "المختار"، إذ كان يتم إخبارهم بأنّ هنالك تعليمات بذلك وبأنه لم يعد بالإمكان الحصول عليها، واختتم عبد الرحمن حديثه قائلاً:
"مازلنا نعاني من هذه الصعوبات والعراقيل، فعلى سبيل المثال لازال الطلاب يعانون كثيراً في إكمال الدراسة، وإن كان ثمة بعض الاستثناءات التي صدرت عن وزارة التعليم العالي في الماضي لإتمام المرحلة الجامعية، فإنّ هذه الاستثناءات لم تعد متاحة اليوم. ما أود قوله هو أنّ الإنسان لا يعيش سوى مرة واحدة، وبصراحة لا أريد لأطفالي وأحفادي أن يعيشوا مأساتنا."