مقدمة: أكثر من أربعة آلاف نازح[1] داخلياً -بحسب مراسل سوريون من أجل الحقيقة والعدالة – ما زالوا يعانون ظروفاً إنسانية صعبة داخل "مخيم الشدادي" الكائن جنوبي مدينة الحسكة، وذلك نتيجة نقص المواد الغذائية ومياه الشرب وتردي الأوضاع الطبية في المخيم، ويأتي ذلك تزامناً مع ازدياد حالات النزوح من مناطق الشمال الشرقي في سوريا، وعلى وجه الخصوص مناطق محافظة دير الزور، إذ أنها تشهد معارك شديدة مما يزيد على العامين، بين القوات النظامية السورية في مواجهة تنظيم الدولة الإسلامية أو مايعرف باسم تنظيم "داعش"، وذلك بغية السيطرة عليها وإخراجها من يد التنظيم. ولاحقاً أيضاً في شهر أيلول/سبتمبر 2019، المعارك التي انطلقت عقب إعلان معركة "عاصفة الجزيرة" للسيطرة على ريف دير الزور الشرقي من قبل "مجلس دير الزور العسكري" المنضوي تحت راية "قوات سوريا الديمقراطية" والمدعوم من قبل التحالف الدولي الذي يحارب تنظيم داعش.
يقع مخيم الشدادي أو-كما يعرف بمخيم العريشة أيضاً- على بعد (35) كم جنوبي مدينة الحسكة، ويبعد عن بلدة الشدادي جنوباً (20) كم، حيث قامت الإدارة الذاتية بافتتاحه على عجل بتاريخ 14 حزيران/يونيو 2017، وذلك نظراً لازدياد أعداد النازحين بعد وعود بالدعم من قبل المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين (بحسب إدارة المخيم)، ووفقاً لإدارة المخيم فإن أعداد النازحين في مخيم الشدادي وصلت إلى حوالي عشرة آلاف نازح في الأشهر السابقة من العام 2017، إلا أنه وابتداءً من تاريخ 6 أيلول/سبتمبر 2017، غادر حوالي (5000) نازح من المخيم باتجاه مدينة دمشق، وذلك إما بغرض العلاج أو العمل في مدينة دمشق، حسبما أكد مراسل سوريون من أجل الحقيقة والعدالة.
صورة مأخوذة بواسطة القمر الصناعي، تبين الموقع التقريبي لمخيم الشدادي للنازحين جنوبي مدينة الحسكة
11وخلال زيارته الميدانية إلى مخيم الشدادي للنازحين، تمكن الباحث الميداني لدى سوريون من أجل الحقيقة والعدالة من مقابلة عدد من النازحين وأجرى العديد من اللقاء في أواسط شهر آب/أغسطس 2017، والذين تحدثوا بدورهم حول صعوبة الأوضاع المعيشية في المخيم.
أولاً: اللحظات الأولى من النزوح:
مع بداية شهر حزيران/يونيو 2017، اشتد قصف القوات النظامية السورية على مناطق سيطرة تنظيم "داعش" داخل محافظة دير الزور، وهو ما حمل العديد من المدنيين على النزوح من مناطقهم إلى مناطق أكثر أماناً، كالشابة عبير الحسن، حيث نزحت برفقة عائلتها بتاريخ 16 حزيران/يونيو 2017 من منطقة "الصالحية" الكائنة ضمن المحافظة، ونجحت في الوصول إلى الحدود الإدارية لمحافظة الحسكة وذلك بتاريخ 19 حزيران/يونيو 2017، وبعد ثلاثة أيام توجهت مع عائلتها إلى مخيم الشدادي، ووفقاً لشهادتها فقد استغرقت رحلة نزوحهم ثلاثة أيام متواصلة كان غالبيتها سيراً على الاقدام، وفي هذا الصدد تحدثت لسوريون من أجل الحقيقة والعدالة قائلة:
"نزحنا من منطقتنا ومشينا سيراً على الأقدام مدة يومين متواصلين، ومن ثم التقينا أحد "المهربين" وركبنا معه مستقلين دراجة نارية بثلاث عجلات، فسار بنا مسافة قدرت ب (8) كم، وبعدها وصلنا إلى أحد الطرقات حيث طلب منا التزام الهدوء والصمت حالنا كحال الجحر، حتى لا يفتضح أمرنا من قبل عناصر تنظيم "داعش"، ثم أكملنا رحلتنا سيراً على الأقدام، حيث لم يستطع عمي أن يتابع المشي بما أنه كبير في السن، فاستأجرنا حماراً من أحد العابرين والمتعاملين مع المهربين بمبلغ (16) ألف ليرة سورية كي نستطيع ايصاله إلى بر الأمان بأقل الخسائر الممكنة، وحتى الحذاء الذي كنت أرتديه تمزق خلال الطريق ولم يعد صالحاً لإكمال السير به نتيجة وعورة الطريق التي مشيناها منذ لحظة خروجنا من منطقتنا وحتى وصولنا إلى حدود محافظة الحسكة."
وفي شهادة أخرى قال سلمان محمد وهو أحد سكان منطقة "الحسينية" في محافظة دير الزور، بأنه نزح مع عائلته هو الآخر إلى مخيم الشدادي بتاريخ 5 حزيران/يونيو 2017، وذلك أملاً في الفرار من جحيم تنظيم "داعش" على حد قوله والوصول إلى بر الأمان، وعقب ثلاثة أيام من السير على الأقدام نجح في الوصول إلى المخيم مستعيناً بأحد المهربين، حيث قال:
"خرجنا من مناطقنا أخذين بعين الاعتبار-وبحسب المهربين- أن مسافة السير على الاقدام لحين الخروج من مناطق سيطرة داعش هي (700)م فقط، وهو ماشجعني على الهروب من مناطق "داعش" برفقة عدد من نساء العائلة وبعضهن كبيرات في السن، لكننا وللأسف بقينا نمشي مسافة قدرت ب (10)كم دون أي توقف إلا قليلاً لأخذ بعض الهواء، وبالإضافة إلى الكيلومترات التي قطعناها، لم أعرف على وجه التحديد كم كيلومتراً مشينا في المسافة الأخرى، لكن كل ما أعرفه أننا أطلنا أكثر من ساعة ونصف بالتمام إلى حين وصولنا لحدود مدينة الحسكة، حيث ركبنا إحدى السيارات التي أوصلتنا للمخيم."
صورة خاصة بسوريون من أجل الحقيقة والعدالة، تظهر إحدى الخيام داخل مخيم الشدادي للنازحين جنوبي مدينة الحسكة، وقد التقطت الصورة خلال الجولة الميدانية في أواسط آب/أغسطس 2017.
ثانياً: دواعي النزوح وتحمل مشقة الطريق:
وتضيف عبير الحسين بأن تردي الأوضاع الأمنية وعدم قدرة عائلتها على كسب لقمة العيش في محافظة دير الزور هو مادفعهم لاتخاذ قرار النزوح، ولا سيما مع الخوف الكبير الذي تملكهم من ممارسات تنظيم "داعش"، إضافة إلى قصف الطيران الحربي السوري الذي لم يغب عن سماء مدينتهم، حيث اكتفت بالقول:
"هربنا نتيجة القصف الهمجي للطائرات، فقد قمت بإخراج ابنتي من بين الركام (6) مرات خلال أقل من أسبوعين! فماذا أفعل؟ أأبقى هناك حتى أرى ابنتي وهي تفقد الحياة في المرة السابعة؟!!."
وبدوره تحدث سلمان المحمد عن الأسباب التي دفعته للنزوح إلى مخيم الشدادي برفقة عائلته، حيث أشار إلى أن تنظيم "داعش" كان يضيق الخناق على أهالي مدينته بشكل لايوصف، إلى حد صاروا معه يداهمون المنازل بأي حجة كانت، وفي هذا الصدد تابع قائلاً:
"في الآونة الأخيرة كان عناصر التنظيم يقومون بمداهمة المنازل، تحت حجج مختلفة فلو رأوا كلباً أمام باب أحد المنازل كانوا يداهمونه، ويتعرضون لأصحابه بالضرب والشتائم بحجة أنهم لم يقوموا بقتل الكلب، وعندما كانوا يلمحون نساءنا بجون "اللباس المقرر" من قبلهم، ولو كانوا داخل المنزل، فكانوا يقومون باستدراج شبان المنزل إلى سجونهم كي يشبعوهم بالضرب والتعذيب."
أمّا النازح محمدكبران الخلف (وهو والد طفلين من ذوي الاحتياجات الخاصّة)، أحد الذين تمّت مقابلتهم خلال الزيارة الميدانية، فقد هرب من منطقة العشارة في دير الزور، ووصف معاناته في المخيم قائلاً:
"نزحت إلى المخيم وكلي أمل في علاج طفليّ المصابيَن بالإعاقة، إلا أنه وبمجرد وصولي تفاجأت بالوضع هنا، فطفليّ بحاجة إلى علاج فيزيائي وطبيب أعصاب، إلا أن ذلك غير متوفر هنا، كما أنهما مقعدان ولايستطيعا المشي حتى لقضاء حاجتهما ولا سيما مع عدم توافر حمامات في المخيم."
لمشاهدة الشهادة الكاملة للنازح محمد كبران الخلف (شريط فيديو مصور) يرجى الضغط هنا.
ثالثاً: معاناة عديدة داخل المخيم:
هنالك صعوبات عدّة تواجه النازحين في مخيم الشدادي، بداية بمجرد وصولهم إلى المخيم ونهايةً بافتقاره إلى أدنى مقومات العيش، وهذا ما أكدته عبير الحسين لسوريون من أجل الحقيقة والعدالة، حيث أفادت بأن إدارة المخيم قامت بأخذ جميع أوراقها الثبوتية بمجرد وصولها إلى هناك، كالهوية وبيان الوضع العائلي، أما الخروج من المخيم فقد بات أمراً ممنوعاً عليها إلا بوساطة كفيل من مدينة الحسكة على حد قولها، حيث أردفت قائلة:
"في البداية حاولت الرحيل برفقة عائلتي إلى مدينة دمشق، إلا أن إدارة المخيم أخبرتني بعدم قدرتي على ذلك إلا بوجود كفيل للدخول إلى مدينة الحسكة، لذا قبلنا بالأمر الواقع وبقينا هنا، لقد مضى عليّ أكثر من شهر ولم أستلم إلا سلة معونات واحدة لعائلتي المكونة من (6) أشخاص، وبعض المواد داخلها فاسد ولايصلح لإطعام الحيوانات، كما أن هنالك مواد داخل السلة لا تصلح للطعام إلا بعد الطهي، وليس لدينا نار في المخيم نستطيع الطهي من خلاله، لذا يلجأ العديد من أهالي المخيم إلى بيع تلك المواد للسماسرة المتواجدين داخل المخيم، حتى يحصلون بذلك على بعض المال لشراء الخبز، حيث يخصص يومياً لكل شخص في المخيم رغيفي خبز فقط وهما لا يكفيا لسد الجوع حتى، لذا وكنتيجة لذلك بادرت وعائلتي منذ فترة قصيرة إلى تقديم طلب العودة إلى مدينة دير الزور رغم سيطرة عناصر داعش عليها، فقد طفح الكيل هنا."
وفي شهادة متقاطعة كرر سلمان المحمد ماقالته عبير حول الحصول على معظم أوراق النازحين الثبوتية بمجرد وصولهم إلى مخيم الشدادي، ومن جهة أخرى فقد أشار إلى الوضع الطبي السيء الذي يعاني منه أغلب النازحين في المخيم، واستدل بذلك على حالة والدته التي لزمها إجراء عملية جراحية لفتح الصدر، إلا أن ذلك تعذر عليها داخل المخيم نتيجة لانعدام الإمكانية الطبية المتاحة لهكذا عمليات، ما اضطرسلمان إلى مراجعة إدارة المخيم وتسجيل اسمها من بين آلاف الأسماء، وذلك حتى يؤذن له بالخروج من المخيم بغية إجراء العملية لوالدته، إلا أن معظم محاولاته لم تجدِ نفعاً حسب تعبيره، وتابع قائلاً:
"انظروا إلى القمامة والأوساخ المرمية هنا وهناك، إنه مكان يصعب على الحيوانات العيش به، أما إدارة المخيم فلا حياة لمن تنادي، فمع بداية شهر أب/أغسطس 2017، قامت الإدارة بتعبئة بعض الخزانات المتواجدة في المخيم بالمياه، إلا أن رائحة وطعم مادة المازوت كانت تفوح منها، ولم نتمكن من شربها أبداً. أقولها بصراحة أنا حالياً على استعداد للعودة والموت في مدينتي فذلك أهون علي وعلى عائلتي من الحياة هنا، تخيل أننا نقوم باستلام سلة معونات واحدة في الشهر الواحد من قبل المنظمات العاملة في المخيم، ولو أننا قمنا بشراء أي شيء من أكشاك المخيم فإن أسعارها تعتبر سياحية ولا مقدرة لنا على شرائها، حتى الحمامات غير متوفرة في المخيم، مايضطرنا نحن الرجال إلى قضاء حاجتنا بعيداً عن المخيم، أما النساء فلاسبيل أمامهن إلا انتظار مغيب الشمس حتى يسترن أنفسهن."
صورة خاصة بسوريون من أجل الحقيقة والعدالة تظهر جانباً من القمامة والأوساخ المرمية إلى جانب خيام النازحين في مخيم الشدادي جنوبي مدينة الحسكة، وقد التقطت هذه الصورة في أواسط شهر آب/أغسطس 2017.
صورة أخرى خاصة بسوريون من أجل الحقيقة والعدالة، تظهر إحدى نساء المخيم وهي تقوم بنقل المياه إلى خيمتها، وقد التقطت هذه الصورة في أواسط شهر آب/أغسطس 2017.
قام الباحث الميداني لدى سوريون من أجل الحقيقة والعدالة بتصوير شريط فيديو، يظهر جانباً من تردي الخدمات في المخيم بسبب انتشار القمامة والأوساخ بين خيم النازحين، وقام بتصوير شريط فيديو آخر يظهر طفلتان من المخيم وهما تقومان بتعبئة المياه من أنانيب الخزانات الأرضية داخل مخيم الشدادي.
ووفقاً لمراسل سوريون من أجل الحقيقة والعدالة، فقد تم تسجيل عدة وفيات في مخيم الشدادي خلال شهر آب/أغسطس 2017، حيث قضت طفلة صغيرة نتيجة إصابتها بمرض الجفاف الناجم عن الحر الشديد في المخيم، فيما قضت امرأة كبيرة في السن نتيجة الحر الشديد أيضاً، كما وفقدت إحدى الفتيات حياتها بعد إقدامها على الانتحار، لكن دون أن يتم التعرف على أسمائهن، كما أكد مراسل سوريون من أجل الحقيقة والعدالة على أن هنالك عدة منظمات إنسانية تعمل في مخيم الشدادي، ومنها من يقوم بتأمين سلل غذائية لمرة واحدة ومنها من يقوم بذلك على الدوام، ولعل أبرزها المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، والهلال الأحمر العربي السوري، إضافة إلى الهلال الأحمر الكردي، ومنظمة الأمم المتحدة للطفولة (اليونيسيف).
[1] تم تحديث الرقم بتاريخ 11 أيلول/سبتمبر 2017 وهو آخر رقم حصلت عليه سوريون من أجل الحقيقة والعدالة.