مقدمة: بعد إحكامها السيطرة على محافظة درعا[1] في شهر تموز/يوليو2018، عمدت الحكومة السورية إلى إصدار قرارات فصل جماعية بحقّ العديد من المعلمين/المعلمات في بلدات المحافظة ومنها بلدات (الشجرة وبصرى الشام ونوى والصنمين)، وذلك اعتباراً من تاريخ 4 تشرين الأول/أكتوبر 2018، وحتى تاريخ إعداد هذا التقرير في يوم 5 تشرين الثاني/نوفمبر 2018، حيث أفاد العديد شهود العيان والمفصولين لسوريون من أجل الحقيقة والعدالة، بأنّ الحكومة السورية كانت قد قامت مؤخراً بفصل (95) معلماً/معلمة في عموم المحافظة، دون إعلامهم بالأسباب الصريحة التي استوجبت ذلك.
وبحسب الباحث الميداني لدى سوريون من أجل الحقيقة والعدالة، فقد اعتبر العديد من أهالي محافظة درعا قرارات القصل الأخيرة، بمثابة إجراء عقابي بحقّ سكان المحافظة، لافتاً إلى أنّ المخاوف الأمنية التي منعت العديد من المدرّسين من مراجعة مديرية التربية التابعة للحكومة السورية، خلال سنوات سيطرة فصائل المعارضة المسلّحة على محافظة درعا، قد تكون السبب الرئيسي لفصلهم، فقسم كبير من المدرّسين كانوا على رأس عملهم حينها، لكنهم لم يتمكنوا من مراجعة مديرية التربية التابعة للحكومة السورية، ولم يتلقوا أي راتب، لكن مديرية التربية التابعة للحكومة السورية فسّرت ذلك على أمرين، إما أنه بمثابة استقالة أو أنهم بالفعل كانوا على رأس عملهم لكنهم كانوا يتلقوا رواتبهم من "هيئات أجنبية".
وهذه ليست المرة الأولى التي تقوم فيها الحكومة السورية بفصل معلمين ومدرّسين في مناطق مختلفة في سوريا، ففي شهر أيلول/سبتمبر 2018، عمدت إلى القيام بعمليات فصل جماعية وغرامات مالية وأحكام بالسجن طالت أكثر من 400 موظفاً حكومياً في عموم محافظة القنيطرة، وقد كان من بين المفصولين أكثر من (50) مدرّساً صرفتهم من الخدمة بتهمٍ مختلفة، ومنها التورط في أعمال إرهابية، حيث كانت سوريون من أجل الحقيقة والعدالة قد أعدّت تقريراً حول هذا الموضوع.
وكان قد سبقها وتحديداً بتاريخ 13 آب/أغسطس 2018، قيام الحكومة السورية بفصل (71) معلماً من محافظة السويداء، وذلك لرفضهم الالتحاق بالخدمة الاحتياطية العسكرية، حيث كانت سوريون من أجل الحقيقة والعدالة قد أعدّت خبراً حول هذا الموضوع.[2]
ولم تكتفِ القوات الحكومية السورية بفصل العديد من المدرّسين في المحافظة، بل عمدت أيضاً إلى اعتقال العديد من المدنيين في مدن وبلدات (الحارّة وعتمان والمليحة الغربية)، في شهر أيلول/سبتمبر 2018 وقبلها خلال شهر آب/أغسطس 2018، وذلك خلافاً لاتفاق التسوية الذي نصّ في أهم بنوده على عدم التعرّض للمدنيين الذين قاموا بإجراء تسوية مع القوات النظامية السورية لمدة ستة أشهر، وقد كانت سوريون من أجل الحقيقة والعدالة قد أعدّت تقريراً آخراً تناول هذه الحوادث[3].
قرار فصل (93) مدرّساً في درعا دون ذكر الأسباب الصريحة:
بتاريخ 4 تشرين الأول/أكتوبر 2018، وجهت رئاسة مجلس الوزراء التابعة للحكومة السورية، إلى المجمّع الإداري في كلٍ من مدن وبلدات (بصرى الشام ونوى وازرع والصنمين وجاسم والشجرة) في محافظة درعا، خمسة كتب تحمل الرقم 1070/15، والرقم 30، والرقم 1800، والرقم 982، و الرقم 1030، و تحوي تلك الكتب على قرارات تقضي بـ"عدم تعيين أو إعادة استخدام أو تكليف وكالة 93 مدرّساً ومدرّسة" في تلك المجمّعات ولم تذكر الأسباب في القرار بشكل صريح، لكن بعض المدرّسين تمّ التعامل معهم بحكم المستقيل بموجب هذا القرار.
تمتدّ كلٍ من بلدات (بصرى الشام ونوى وازرع والصنمين وجاسم والشجرة)، والتي صدرت بحقّ قسمٍ من معلّميها قرارات الصرف، على مساحة تزيد عن 2500 كم²، ويقطنها قرابة 207,321 نسمة أي ما نسبته 6.5% من مجموع سكان محافظة درعا، بحسب مجلس "محافظة درعا الحرة"/التابع لـ "الحكومة السورية المؤقتة/المعارضة"، في شهر آذار/مارس 2018.
وكانت وزارة الثقافة التابعة للحكومة السورية[4] قد صنّفت محافظة درعا، خالية من الأمية في مطلع العام 2010، حيث لا يخلو أي تجمّع سكاني صغير كان أو كبير من وجود مدرسة أو روضة أو منشأة تعليمية، وبلغ عدد المنشآت التعليمية في المحافظة في العام 2010- أي قبل اندلاع الاحتجاجات بعام واحد- قرابة 1124 منشأة تعليمية بما فيها المدارس الخاصة، وتضم حوالي 280468 طالباً وطالبة و16453 معلماً أي بمعدل 17 طالباً لكل معلم.[5]
لكن النزاع السوري المستمرّ منذ أكثر من سبعة أعوام، كان له آثار تدميرية على الواقع التعليمي في محافظة درعا، شأنه بذلك شأن جميع مناحي الحياة في المناطق التي خرجت عن سيطرة الحكومة السورية، فهذا الواقع بتعقيداته خلق فراغاً إدارياً واضحاً أدى إلى تخبّط المعلمين لعدّة أسباب شرحها موظف سابق في مكتب الخدمات والمشاريع في محافظة درعا الحرّة/التابعة للحكومة السورية المؤقتة المعارضة، حيث تحدّث لـسوريون من اجل الحقيقة والعدالة، قائلاَ:
"طال الدمار عدداً كبيراً من المدارس في درعا خلال السنوات الفائتة، حيث قدّرت الأضرار في البنية التحتية بأكثر من 70% وقرابة 40 % للجسور والطرقات والمرافق العامة، ويعدّ هذا سبباً مهماً دفع العديد من المدرّسين لترك مدارسهم، لكن السبب الرئيسي هو أنّ العوز والحاجة دفع الكثير من مثقفين ومعلمين لترك التدريس والتوجه للعمل في مجالات أخرى، وفي مقدمتها المنظمات الإنسانية، ما أدى لصرف هؤلاء من الخدمة بسبب انقطاعهم غير المبرر، كما يمكن إضافة سبب آخر وهو أنّ طول سنوات الحرب والخوف من القبضة الأمنية، منُع القسم الأكبر من استلام رواتبهم لكنهم كانوا على رأس عملهم في المدرسة، في حين اعتبرت مديرية التربية التابعة للحكومة السورية، ذلك غير مبرر ويستوجب الفصل، شأنهم بذلك شأن من لم يلتحق بخدمة الاحتياط او الخدمة الإلزامية."
صورة تظهر نسخة عن القرار الذي أصدرته رئاسة مجلس الوزراء التابعة للحكومة السورية، بفصل (93) مدرّساً في محافظة درعا، وذلك بتاريخ 4 تشرين الأول/أكتوبر 2018.
مصدر الصورة: أحد مدرّسي محافظة درعا.
"أعترف أني كنت معارضاً وهذه هي جريمتي باختصار":
"ابو فراس" مدرّس أربعيني من مدينة طفس في محافظة درعا وكان قد تمّ فصله بموجب القرار الأخير، رغم أنه كان قد أمضى أكثر من عشرين عاماً في هذه المهنة، وفي هذا الخصوص تحدّث لسوريون من أجل الحقيقة والعدالة، حيث قال:
"حين سيطرت المعارضة المسلّحة على درعا، كنت كغيري الكثيرين ممن لم تعجبه سياسة الحكومة السورية بالتعاطي مع المعارضين، لكنّ ذلك لا يعني أني حملت السلاح وقاتلت الجيش أو تركت مدرستي، فقد بقيت على رأس عملي أعطي الدروس للطلاب، والتزمت بالدوام الفعلي، لكنني لم أكن أجرؤ على مراجعة مديرية تربية درعا التابعة للحكومة السورية من أجل استلام مرّتبي، فقد كنت أخشى أن يتم اعتقالي على أحد الحواجز العسكرية التابعة للنظام، ومرّت سنوات وأنا بلا راتب، وأنا رجل معيل ولديّ ستة أولاد وزوجة، لذا قررت أن أعمل خارج أوقات الدوام بالتدريس بإحدى المدارس التي كانت تسميها المعارضة بـ"المدارس الثورية، ولا أعرف لما كانوا يسمونها بـ"الثورية" رغم أننا كنا ندرّس فيها منهاج تربية الحكومة السورية، ولم نجري أي تعديل عليها، فقط كنا – في هذه المدارس – ندرّس الطلاب الذين لم يتمكنوا من الالتحاق بمدارس النظام. باختصار هذه هي جريمتي، كما أنني أعرف اثنا عشرة مدرّساً في هذا القرار، تمّ طردهم بتهمة العمل مع هيئات معارضة."
"داعش" هي السبب فليحاسبوها هي وليس نحن":
"محمد.م" وهو أحد المدرّسين (37 عاماً) من منطقة حوض اليرموك[6] في محافظة درعا، متزوج ولديه ولدين، وكان قد فقد زوجته في العام 2014، إثر سقوط برميل متفجر بالقرب من منزلهم، كما تمّ صرفه من الخدمة هو الآخر بموجب القرار الأخير، حيث تحدّث لسوريون من أجل الحقيقة والعدالة في هذا الخصوص موضّحاً سبب فصله، وقائلاً:
"الجميع يعرف أنّ تنظيم "داعش" سيطر على منطقة حوض اليرموك لأكثر من ثلاث سنوات، والكل يعلم أنّ التنظيم أجبر جميع المدراء والمدرّسين في هذه المنطقة على عدم تدريس منهاج الحكومة السورية، بل إنّ التنظيم طرح منهاجه الخاص الذي يعرفه كل من في المنطقة، لهذا لست الوحيد الذي أجبر على ترك المدرسة، فكل زملائي منهم من بقي مثلي في منطقة حوض اليرموك دون أن يرجع للتدريس وذلك خوفاً من أن يتم اتهامنا "بالردّة" من قبل "داعش"، ومنهم من ترك المنطقة وسكن في مناطق أخرى قريبة تسيطر عليها فصائل معارضة أخرى، وقد قتل التنظيم الكثير من شبان عشيرتي، بعضهم لسبّ الذات الإلهية، وآخرون بتهم التعامل مع المعارضة المسلّحة، وآخرون جرّاء القصف العشوائي، ولم يبقَ من عائلتي سوى أنا واثنان من أبناء عمي، لهذا كنت مضطرّاً لترك المدرسة، ومن حقي أيضا أن أخاف من الحكومة السورية، فهي الأخرى لا تقدّر ظروف أحد، فتعتقل بشكل تعسّفي كل من يأتي من مناطق المعارضة وكأن كل من يسكن مناطق المعارضة هو داعشي أو مجرم بالنسبة إليها."
كان "محمد" يأمل أن تكون الحكومة السورية أكثر رحمة من تنظيم "داعش" على حد وصفه، لكنها بدل مساعدة العديد من المدرّسين أصدرت بحقهم قرارات الفصل الأخيرة، واصفاً هذه القرارات بأنها جائرة وتابع قائلاً:
"لا أحد عاقل ينكر أن تنظيم "داعش" هو السبب في عدم التزامنا بالدوام الفعلي، فكيف لنا نحن الضعفاء معارضة "داعش" فيما كانت الحكومة السورية عاجزة عن دحرها في ذلك الوقت، إنهم مجرمون، ولا يكفي الحكومة السورية أننا عانينا الأمرّين من جرائم "داعش"، لتأتي هي اليوم وتصدر قرارات فصل بحقنا، فكلّ الذين تمّ فصلهم أجروا "تسوية وضع" مع الحكومة السورية، ويحملون مثلي بطاقة مصالحة، يعني قانونياّ انهم يخالفون اتفاق التسوية الذي وقعته روسيا معنا."
"الدول التي تحترم نفسها تسامح ولا تنتقم ولا تحقد على أبنائها":
وفي شهادة أخرى أدلى بها "أبو مصطفى" (35 عاماً) وهو مدرّس مقيم في بلدة الحارة في ريف درعا الشمالي الغربي، إذ قال لسوريون من أجل الحقيقة والعدالة بأنه كان قد تمّ فصله مؤخراً من الخدمة، نتيجة "تقرير كيدي" قام أحدهم برفعه ضده، وفي هذا الخصوص تحدّث لسوريون من أجل الحقيقة والعدالة قائلاّ:
"القصة باختصار أنني لم أنخرط في المعارضة أبداً، ولم أعمل مع أي هيئة معارضة، ولست مطلوباً لخدمة الاحتياط، لكن يبدو أن أحدهم قام برفع تقرير كيدي بحقي لشعبة الأمن السياسي، وآخر لفرع الأمن الوطني، أعتقد أن هذا هو سبب صرفي من الخدمة، لا أعرف كيف للحكومة أن تستمع لكل من يقوم برفع تقارير كيدية إليها بحقّ الناس. لا أريد هذه الوظيفة. كل ما أريده الآن أن يتم الغاء نلك التقارير بحقي فأنا أخشى أن يتم اعتقالي بسببها."
أما "سامر عيد" (59 عاماً) من مدينة بصرى الشام، وهو مدرّس متقاعد، وقريب لأحد المدرّسين الذين تمّ فصلهم مؤخراً، حيث روى لسوريون من أجل الحقيقة والعدالة في هذا الصدد قائلاً:
"للحكومة السورية سياسة انتقامية غريبة، إنهم ينتقمون من درعا وسكانها، وخاصةً أنهم خسروا هنا أكثر من أي منطقة سورية أخرى، لهذا يعاقبون مثقفي درعا بالفصل من وظائفهم ومساءلتهم أمنياً، وقريبي هذا هو أحد ضحايا هذه الحرب. وقد قدّر لهذا الجيل أنه يعيش في دولة فاشلة، الدول التي تحترم نفسها تسامح لا تنتقم ولا تحقد على أبنائها."
"من يذهب قد لا يعود":
بحسب ما أفاد به العديد من مدرّسي محافظة درعا، لسوريون من أجل الحقيقة والعدالة، فإنّ العديد من المدرّسين في محافظة درعا، كانوا يخشون أن يتم اتهامهم بالتواطؤ مع المعارضة المسلّحة أو تنظيم "داعش"، لذا كانوا يفضلون عدم مراجعة مديرية التربية التابعة للحكومة السورية، خوفاً من أن تتم مسائلتهم من قبل أحد الأفرع الأمنية، فضلاً عن أنّ الكثير من المدرّسين تركوا التدريس بشكل كامل وبحثوا عن فرص عمل أخرى، أو أنهم هاجروا خارج البلاد، وهذه هي الأسباب التي دفعت برئاسة مجلس الوزراء التابعة للحكومة السورية لإصدار قرارات الصرف من الخدمة، والتي تقدر بصرف أكثر من 300 مدرّس في عموم مناطق سوريا، وذلك بحسب الباحث الميداني لدى سوريون من أجل الحقيقة والعدالة.
[1] سيطرت القوات الحكومية السورية على محافظة درعا، بموجب اتفاق تسوية ما بينها وبين فصائل المعارضة السورية المسلّحة في شهر تموز/يوليو 2018، وقد تمّ هذا الاتفاق على مرحلتين وبضمانة الشرطة العسكرية الروسية، حيث شملت المرحلة الأولى الريف الشمالي ومنطقة اللجاة، فيما شملت المرحلة الثانية باقي المحافظة عدا حوض اليرموك (والذي سيطرت عليه القوات النظامية السورية في بداية شهر آب/أغسطس 2018)، وكان من أحد بنوده عدم دخول القوات النّظامية السورية للقرى قبل الشرطة العسكرية الروسية ودون إجراء "تسويات"، إضافة إلى عدم التعرض لأي أحد من السكان، وذلك بحسب الباحث الميداني لدى سوريون من أجل الحقيقة والعدالة في درعا.
[2] "الحكومة السورية تفصل 201 معلماً في عموم سوريا لرفضهم الالتحاق بالخدمة العسكرية الاحتياطية"، سوريون من أجل الحقيقة والعدالة في 1 تشرين الأول/أكتوبر 2018، آخر زيارة بتاريخ 22 تشرين الأول/ أكتوبر 2018، https://www.stj-sy.org/ar/view/805.
[3] " الأجهزة الأمنية السّورية تستمر بحملات الاعتقال في محافظة درعا خلافاً لاتفاق التسوية"، سوريون من أجل الحقيقة والعدالة في 18 تشرين الأول/أكتوبر 2018. آخر زيارة بتاريخ 5 تشرين الثاني/نوفمبر 2018، https://www.stj-sy.org/ar/view/889.
[4] "وزارة الثقافة تحتفل بمحافظة درعا خالية من الأمية" الهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون في سوريا في 9 كانون الثاني/يناير 2010.آخرزيارة بتاريخ 5 تشرين الثاني/نوفمبر 2018، http://www.ortas.gov.sy/index.php?p=20&id=56003.
[5] د. قاسم الربداوي، التزايد السكاني والتنمية الحضرية في محافظة درعا، مجلة جامعة دمشق، المجلد 30، http://www.damascusuniversity.edu.sy/mag/human/images/stories/3-2014/ar/709-752.pdf.
[6] كانت القوات النظامية السورية قد تمكنت من السيطرة على منطقة حوض اليرموك وذلك بتاريخ 1 آب/أغسطس 2018، حيث تمّ التوصل إلى اتفاق تسوية ما بين القوات النظامية السورية وتنظيم "جيش خالد بن الوليد"، من أجل إخراج 400 عنصر من التنظيم وعائلاتهم في منطقة حوض اليرموك، ونقلهم إلى ريف السويداء الشرقي وريف حمص الشرقي، وذلك مقابل الإفراج عن مختطفين لدى تنظيم "جيش خالد بن الوليد" في ريف السويداء.