أولاً: ملخص تنفيذي:
تجلس “سمر الحسن” (40 عاماً) بجانب خيمة عائلتها في أحد مخيمات منطقة “حارم” بريف إدلب، والتي اضطرت للانتقال إليه بسبب عدم قدرتها وأولادها على التصّرف بتركة زوجها الذي قُتل نتيجة قصف نفذته طائرات سورية على أحد أحياء مدينة “معرة النعمان” التي كانت تعيش فيها العائلة، ذلك بسبب امتناع الدوائر الرسمية السورية عن منحها “بيان وفاة” يخول الأسرة الحصول على حقوق الميراث.
تستذكر “الحسن” بأسى واضح بين التجاعيد المرتسمة على جبينها، الأيام والسنوات المستقرة من حياتها، والتي قضتها مع زوجها في منزلهما في “المعرة” بإدلب، قبل مصرع الأخير عام 2018، جراء القصف الذي استهدف أحد أحياء المدينة آنذاك.
تأتي أهمية وضرورة وثيقة “بيان الوفاة” لذوي المتوفى (الزوج/ة والأولاد والعائلة) من كون اعتبارها شرطاً ضرورياً لتمّكن: أ. الزوجة: عند وفاة الزوج لأي سبب كان، وبعد انقضاء “عدّة الوفاة”، بالزواج من رجل آخر في حال رغبتها. ب. البدء بإجراءات معاملة “حصر الإرث” من قبل الوَرَثة؛ أي الأولاد في حال وجودهم والزوجة/الزوجات والوالدين.
من المهم هنا الإشارة إلى أن “بيان الوفاة” يختلف عن “شهادة الوفاة”، حيث أنّ الأول يصدر عن أمانات ودوائر السجل المدني المختصة بعد تثبيت واقعة الوفاة بشكل أصولي، والثانية تصدر عن المؤسسات الرسمية الأخرى كالمشافي والسجون المركزية والمخاتير، واستناداً لهذه الشهادات يتم تسجيل واقعة الوفاة، ومن ثم يتم إصدار ما يسمّى بـ”بيان الوفاة”.
كان من الواضح أنّ الحكومة/المؤسسات الرسمية السورية (كونها الجهة المخولة قانونياً ورسمياً بإصدار تلك الوثائق) تستخدم هذه الورقة كأداة ابتزاز مادي ومعنوي لاستغلال وإذلال ذوي المتوفين وخاصة المعتقلين منهم أو من قتل إلى جانب أطراف النزاع الأخرى ضدّ الحكومة السورية أو على يد الحكومة السورية نفسها خلال عمليات القصف.
وبدا جليّاً، أنّ السلطة الحاكمة في سوريا تميّز بشكل واضح بين المتوفين الذين يُقتَلون في معاركها (على سبيل المثال)، وبين المواطنين الآخرين الذين يموتون تحت التّعذيب مثلاً في مراكز الاحتجاز، أو من تحتجز السّلطة جثثهم وقت المعارك بين قواتها وبين فصائل المعارضة المسلّحة، فهي تقوم بتسلم جثث الأشخاص المرتبطين بها لذويهم بسهولة وسرعة بينما تمتنع عن فعل ذلك بالنسبة لفئات اخرى وتقوم بدفنهم في مقابر جماعية، عُرفت أماكن البعض منها.
مدير الأحوال المدنية في سوريا “أحمد رحال”، كان قد صرّح بتاريخ 8 آب/أغسطس 2018، إلى أنّ الحكومة السوريّة قد استطاعت تثبيت 32 ألف حالة خلال العام 2018 (ابتداءً من شهر كانون الثاني/يناير حتى آب/أغسطس)، و 68 ألفاً، في العام 2017، موضحاً أن المديرية تثبت واقعة الوفاة من دون تحديد طبيعتها.
عاد “رحال” وصرح بتاريخ 14 تشرين الأول/أكتوبر 2020، أنّه تمّ تسجيل أكثر من 35 ألف واقعة وفاة حتى بداية شهر أيلول/سبتمبر 2020، في حين تم تسجيل 47 ألف حالة في كامل عام 2019.
تنوه “سوريون من أجل الحقيقة والعدالة” إلى ضرورة بناء مقاربة شاملة من أجل التعاطي مع قضية شهادات الوفاة وبيانات الوفاة، بطريقة تمنع المفاضلة ما بين الحصول على شهادة أو بيان الوفاة على حساب طمس الحقيقة.
ترى “سوريون من أجل الحقيقة والعدالة” ضرورة مخاطبة السلطات السورية من أجل منح “بيانات الوفاة” لكل المتوفين داخل سجونها وخارجها، ولا سيما لذوي الضحايا الذين سلمت أسمائهم لأمانات السجل المدني لقيد واقعة الوفاة، دون طمس حقيقة الظروف التي أدّت إلى وفاتهم أو محاولة إخفاء الجرائم والانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان. كما يجب الضغط باتجاه فتح السجون والمعتقلات السورية أمام موظفي الأمم المتحدة والمنظمات الدولية الحقوقية لمعرفة أسماء الموجودين في تلك المعتقلات، ووقف عمليات التعذيب والإعدام، وإنهاء حالات الاختفاء القسري الموجودة في سوريا.
ثانياً: منهجية الورقة والتحديات:
لغرض هذه الورقة، قامت “سوريون من أجل الحقيقة والعدالة” بمتابعة مستجدات قضية حرمان السوريين/ات من الوثائق الأساسية التي تبين حالات الوفاة لعدد من الفئات التي نجمت عن النزاع السوري منذ العام 2011. ولأجل ذلك، أجرت المنظمة مجموعة من المقابلات مع ذوي الضحايا والمفقودين، والمختفين قسرياً، في محافظات درعا وحماه وإدلب والسويداء ودمشق والقنيطرة، وخاصة أولئك الذين لم يتمكنوا في غالب الأحيان من استخراج بيانات الوفاة من الدوائر الرسمية الحكومية. علماً أنّ معظم المتوفين، وخاصة في مراكز الاحتجاز السورية، لا يتم تسليم جثامينهم إلى ذويهم ويتمّ دفنهم في مقابر جماعية، ولا يتم إرشاد الأهالي إلى مكان الدفن أو إخبارهم عن سبب الوفاة الرئيسي، الذي غالباً ما يكون بسبب عمليات التعذيب الممنهجة والتجويع وانتشار الأمراض المميتة داخل مراكز الاحتجاز السوريّة.
تتناول هذه الورقة أيضاً الآثار المترتبة على عدم حصول عائلات الضحايا على “بيانات الوفاة” الخاصة بأحبائهم، خاصّة على النساء، بسبب عدم قدرة جزء منهن على الزواج مرة أخرى، وعدم استطاعة جزء آخر التصرف بتركة أزواجهن.
ولا تستطيع عائلات الأشخاص المتوفين من التحرك في الجوانب القانونية الناشئة عن حالة الوفاة، بدون تثبيت حالة الوفاة واستخراج بيانات وفاة رسمية تثبت ذلك.
واجه فريق العمل من باحثي وباحثات المنظمة، أثناء العمل على جمع الشهادات وإجراء المقابلات لكتابة هذه الورقة، العديد من التحديات والصعوبات، وكان السبب الأساسي الأوضاع الأمنية المتوترة في غالبية المناطق السورية، إضافة إلى الظروف الصحية الصعبة التي تبعت انتشار جائحة كورونا، وما رافقها من حالات الحجر الصحي التي فرضت على بعض المناطق المستهدفة، وكل ذلك حد من حركة الفريق العامل نوعاً ما.
ثالثاً: مقدّمة:
تهدف هذه الورقة إلى الكشف عن أهمية حصول ذوي المتوفين خلال النزاع السوري على بيانات الوفاة، وتأتي أهمية وضرورة بيان الوفاة لذوي المتوفى (الزوج/ة والأولاد والعائلة) من كون اعتبار وثيقة بيان الوفاة شرطاً ضرورياً لتمكن الفئات التالية مما يلي:
أ. الزوجة: عند وفاة الزوج لأي سبب كان، وبعد انقضاء “عدّة الوفاة” البالغة (4 أشهر و10 أيام) بحسب قانون الأحوال الشخصية السوري (المادة 123)[1]، وفي حال رغبتها بالزواج من رجل آخر، يتوّجب على المرأة الأرملة أن تبرز للمحكمة الشرعية (القضاء الشرعي) بيان وفاة لزوجها المتوفى، بالإضافة إلى معاملة “انحلال الزواج” أي إكمال إجراءات الفصل عملياً (وهو ما يسمى قانوناً بانفصام عرى الزوجية) لدى أمانة السجل المدني التي تتبعها الزوجة.
ب. الوَرَثة: والمقصود بالوَرثة حسب قانون الأحوال الشخصية السوري لعام 1953، هم الأولاد في حال وجودهم والزوجة/الزوجات والوالدين. وفي حال عدم وجود أولاد تنتقل التركة إلى الزوجة/ات والأبوين والأخوة. وبدون الحصول على بيان الوفاة، لا يمكن البدء بإجراءات ما يسمّى بمعاملة “حصر الإرث” بشقيها “القانوني: للأموال الأميرية” و”الشرعي: للأموال الملك”. وبدون اتمام معاملة حصر الإرث (أي عملية حصر الوَرثة والتركة)، لا يمكن توزيع تركة المتوفى على وَرثته وبالتالي ولا يمكنهم التصرف (بيع/استثمار) بأي شيء من أموال التركة كالعقارات والمركبات وحتى الراتب التقاعدي للشخص في حال كان موظفاً لدى الدولة.
ومن المهم هنا الاشارة إلى أن “بيان الوفاة” يختلف عن “شهادة الوفاة”، حيث أنّ الأول يصدر عن أمانات ودوائر السجل المدني المختصة بعد تثبيت واقعة الوفاة بشكل أصولي، والثانية تصدر عن المؤسسات الرسمية الأخرى كالمشافي والسجون المركزية والمخاتير، واستناداً لهذه الشهادات يتم تسجيل واقعة الوفاة، ومن ثم يتم إصدار ما يسمّى بـ”بيان الوفاة”.
تنوه “سوريون من أجل الحقيقة والعدالة” إلى ضرورة بناء مقاربة شاملة من أجل التعاطي مع قضية شهادات الوفاة وبيانات الوفاة، بطريقة تمنع المفاضلة ما بين الحصول على شهادة أو بيان الوفاة على حساب طمس الحقيقة. فقد أخبر العديد من الشهود المنظمة، على سبيل المثال، أنّ عدّة جهات حكومية وافقت على إعطاء شهادات وفاة للأهالي بشرط التوقيع على مقتل أحبائهم على يد “العصابات الإرهابية” وهو ما تمّ رفضه من قبل عدد غير قليل من الأهالي، وبالتالي تمّ حرمانهم من شهادة الوفاة وبيان الوفاة.
لقد أدى النزاع السوري إلى وجود الكثير من حالات الوفاة/القتل على طول الجغرافية السورية؛ سواء خلال الاحتجاجات السلمية في السنوات الأولى للانتفاضة السورية، أو خلال العمليات العسكرية لاحقاً، والانتهاكات المرافقة لها، و/أو بسبب المشاركة المباشرة في الأعمال العدائية. بالإضافة إلى آلاف الأشخاص الذين توفوا وقتلوا في أماكن الاحتجاز الرسمية وغير الرسمية التابعة للحكومة السورية.
بطبيعة الحال، لا يمكن حصر جميع الفئات بشكل دقيق دون انتهاء النزاع وبدء المرحلة الانتقالية وكشف الحقيقة.
رابعاً: التوصيات:
1 ــ يجب على مجلس الأمن الدولي، الدفع باتجاه إيجاد حل سياسي جذري للمشكلة السورية وضمان الانتقال من الوضع الحالي إلى نظام ديمقراطي يشمل ويشارك فيه جميع السوريين/ات. على أساس قرارات الأمم المتحدة ذات الصلة، دون إهمال قضية المحاسبة وكشف الحقيقة.
2 ــ إخضاع الجيش والأجهزة الأمنية لسلطة الدستور والقانون ورقابة القضاء ووضعها تحت إدارة الحكومة المنتخبة القادمة التي من المفترض أن تمارس السلطة وتكون مسؤولة أمام الشعب من خلال البرلمان.
3- ضرورة مخاطبة السلطات السورية بمنح بيانات الوفاة لكل المتوفين داخل سجونها وخارجها، ولا سيما لذوي الضحايا الذين سلمت أسمائهم لـ أمانات السجل المدني لقيد واقعة الوفاة، دون طمس الحقيقة وإخفاء الجرائم والانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان.
4- يجب الضغط باتجاه فتح السجون والمعتقلات السورية أمام موظفي الأمم المتحدة والمنظمات الدولية الحقوقية لمعرفة أسماء الموجودين في تلك المعتقلات، ووقف عمليات التعذيب والإعدام، والانتهاء من حالات الاختفاء القسري الموجودة في سوريا.
5- ضرورة تمكين اهالي الضحايا من الاستدلال على مكان رفات أحبائهم المتوفين في السجون السورية، وتمكينهم من اعادة دفنهم، إن أرادوا، وفقاً للأصول والقواعد المعترف بها في ديانة المتوفي.
خامساً: الفئات التي خلّفها النزاع السوري من القتلى/المتوفين:
لا يمكن بطبيعة الحال، حصر جميع الفئات التي تعرّضت للقتل/الوفاة خلال النزاع السوري المستمر منذ أكثر من عقد من الزمن بشكل دقيق، إلاّ أنّ المشترك الوحيد بين تلك الفئات وبغض النظر عن سبب وظروف الوفاة والجهة التي تقف خلفه، حرمان حصول عائلاتهم على وثائق تثبت الوفاة.
ومن الواضح أنّ الحكومة والمؤسسات الرسمية السورية (كونها الجهة المخولة قانونياً ورسمياً بإصدار تلك الوثائق) تستخدم هذه الورقة كأداة ابتزاز مادي ومعنوي لاستغلال وإذلال ذوي المتوفين وخاصة المعتقلين منهم أو من قتل إلى جانب أطراف النزاع الأخرى ضدّ الحكومة السورية أو على يد الحكومة السورية نفسها خلال عمليات القصف.
1. حرمان من الحرية ثم من الحياة وتدمير مستقبل الأحياء:
تُعتَبَرُ حريّة الإنسان قيمة عليا فالأصل أن يكون الإنسان حراً، ويُعتَبَرُ تقييد الحريّة أو انعدامها هو الاستثناء، وبالتّالي فإنه يتوجب على السلطة احترام حرية الأفراد وصونها، لكنّ الواقع يفيدنا أن الحريّة ليست مطلقة، وأنّه يمكن للسلطة في دولة ما أن تحجز حرية الأفراد إما بموجب القانون عندما يرتكب الفرد مخالفة تستوجب هذا الحجز، أو أن تحتجزه السلطة خلافاً للقانون فنكون أمام حالة الاحتجاز/الحرمان التّعسّفي من الحرية والذي لا يتوافق مع القانون المحلي عادة والمخالف كذلك للقوانين الدولية، وقد تتجاوز السلطة الاعتقال/الحبس التعسفي إلى تصرفات أكثر جسامة عندما تقوم هي أو جهات مرتبطة بها، بإخفاء أشخاص ثم تنكر وجودهم لديها وهنا نكون أمام حالة الاختفاء القسريّ.
اختلفت الجهات الرسمية التي قامت بتزويد ذوي المتوفين بشهادات الوفاة قبل شهر كانون الثاني/يناير 2018، منها على سبيل المثال وليس الحصر الوثائق التي كانت تصدر عن المشافي العسكرية التابعة للحكومة السورية، مثل مشفى (601) في المزة ومشفى تشرين العسكري ومشفى حرستا العسكري تحت اسم (شهادة وفاة/تشهد وتثبت أنّ الشخص توفي لديها). ورغم أنّ شهادات الوفاة تلك كانت صادرة عن جهات رسمية سورية، وتؤكد بما لا يدع مجالاً للشك وفاة هؤلاء الأشخاص في عهدة الحكومة السوريّة، إلّا أنّها كانت مختلفة من حيث الأثر القانوني عن (بيان الوفاة) الصادر عن أمانات السجل المدني، رغم تقاربها في عدد من المعلومات الشخصية.[2]
تستلزم الشهادات الصادرة عن المشافي/السجون/المخاتير مثلاً، تثبيتها وتسجيلها لدى الجهة المختصة والمخوّلة بذلك والمتمثلة بأمانات ودوائر السجل المدني في سوريا.
واعتباراً من شهر كانون الثاني/يناير 2018، بدأت دوائر السجل المدني في سوريا تقوم بتحديث بيانات آلاف من الأشخاص الذين قضوا في مراكز الاحتجاز السورية، حيث قامت “سوريون من أجل الحقيقة والعدالة” بمتابعة الملف عن كثب وأصدرت عدّة تقارير عن هذه القضية، صدر التقرير الأول بتاريخ 18 حزيران/يونيو 2019،[3] والذي كشف عن ورود ما لا يقلّ عن 700 وثيقة وفاة إلى دوائر السجل المدني في محافظة حماه/حماة وحدها في أوائل العام 2019. أمّا التقرير الثاني فقد نشرته المنظمة بتاريخ 1 شباط/فبراير 2021، والذي كشف النقاب عن موجة غير معلنة من “إخطارات الوفاة” لعشرات المحتجزين في عهدة الأجهزة الأمنية.[4]
لكن وعلى الرغم من تبليغ ذوي المتوفى بواقعة الوفاة من قبل موظفي الدولة، إلا أن السلطات السورية نفسها أبت أن تمنح وثيقة “بيان الوفاة” الرسمية لذويهم، وهو ما حصل مع “أحمد الحموي” 60 عاماً، فعلى الرغم من إبلاغه بموت ابنه داخل أحد معتقلات الحكومة السورية من قبل موظف السجل المدني نفسه في حماه. إلاّ أنّه لم يتمكن حتى تاريخه من الحصول على “بيان الوفاة”، والذي أفاد في شهادته لسوريون من أجل الحقيقة والعدالة، في كانون الثاني/يناير 2021، ما يلي:
“اعتقل حاجز عسكري تابع لأجهزة الأمن السورية ابني (23 عاماً) بتاريخ 11 أيلول/سبتمبر من العام 2013، عند توجهه من منطقة “حربنفسه” جنوب حماه إلى المدينة لشراء عجلات للسيارة التي نملكها، وقد تمّ اقتياده الى جهة مجهولة، إذ لم نتمكن من معرفة اي شيء عن مكان احتجازه أو مصيره، على الرغم من بحثنا المستمر عنه، ذلك حتى عام 2019، حين تم استدعائي الى دائرة السجل المدني بحماه ليتم إبلاغي بوفاة ابني في السجن جراء أزمة قلبية”.
بعد إبلاغ الوالد بوفاة ابنه “شفهياً” من قبل مدير السجل المدني بحماه، قام الأخير بتسليمه بطاقة الابن الشخصية، دون إيراد أيّة معلومات إضافية أخرى. وقد تحدث “الحموي” حول ذلك قائلاً:
“في 27 أيار/مايو 2019 وردني اتصال من شخص يطلب مني التوجه لدائرة السجل المدني بحماة، وعلى الفور وفي صباح اليوم التالي توجهت الى الدائرة المذكورة، انتظرت ساعتين للدخول إلى مدير الدائرة، الذي طلب مني الجلوس، وبدأ يحدثني عن ابني بشكل عام، حتى وصل الى جملة لن أنساها ما حييت؛ إذ قال لي إنّ ابني قد توفي بسبب “أزمة قلبية” أصابته في السجن، دون أن يحدد لي اسم السجن أو تاريخ الوفاة أو مكان الدفن”.
من هول المصيبة، لم يفكر والد الضحية أثناء إبلاغه بوفاة ابنه، بضرورة استخراج بيان/شهادة تثبت الوفاة، لكنّه عاد بعد انقضاء مراسيم العزاء إلى دائرة السجل المدني في حماة مرة أخرى، محاولاً استخراج هذه الوثيقة والتحقق حول سبب وفاة ابنه، إلا أنه فوجئ بالرفض الذي أبداه الشخص ذاته، أي مدير الدائرة، ووصف حيثيات تلك الزيارة قائلاً:
“ذهبت الى دائرة السجل المدني والتقيت بمديرها، وطلبت منه بيان/شهادة وفاة لابني، فأجابني بأنّه لا يعرف مَن يكون ابني وعمّا أتحدّث، فحاولت تذكيره بلقائي به قبل ما يقارب 10 أيام، لكنه أنكر كل ما أسلفت وادعى أنه يراني للمرة الأولى، حتى أنني أخرجت له بطاقة ابني الشخصية وقلت له بأنه هو من أعطاني إياها، لكنه ظل ينكر. سألته لماذا لا تمنحوني بيان وفاة طالما أنكم متأكدين أن وفاة ابني “بشكل طبيعي”. هنا وبكل برودة أعصاب طلب مني الخروج من المكتب بعد إصراره على الإنكار بمعرفتي، وأنه لم يسبق له أن أبلغني بوفاة ابني في السجن”.
باءت محاولات “أحمد الحموي” باستخراج بيان وفاة لابنه الذي فارق الحياة في أحد مراكز الاحتجاز التي تديرها الحكومة السورية بالفشل، كما لم تسلم له جثة ابنه المتوفى، أو يُسمح له بالتحقق من سبب وفاته، إذ أضاف في هذا الصدد قائلاً:
“بعد خروجي من مكتب المدير، تجولت في غرف الموظفين أسالهم عن شهادات الوفاة و أقص عليهم قصتي طالباً المساعدة، لكن دون جدوى، قبل أن يلحق بي أحد الموظفين إلى خارج الدائرة، أثناء مغادرتي، والذي أخبرني أن دائرة السجل المدني لا تمنح شهادات وفاة لذوي الذين توفوا في مراكز الاحتجاز، ذلك بأمر وتوجيه من الأجهزة الأمنية، كما لم تقم تلك الجهات بتسليمهم الجثث أو إرشادهم إلى مكان دفنها، لذا فأن طلبي هذا مستحيل، حيث أن كثيرين غيري تبلغوا شفهياً بموت أبنائهم في السجن، إلا أنهم لم يتسلموا جثثهم أو يحصلوا على بيانات الوفاة الممهورة بختم رسمي”.
يأبى “الحموي” وصف ابنه المُعتقل بالمتوفى، حيث لا يزال مقتنعاً بأن ابنه على قيد الحياة، ويقول بأنّه وعائلته يعيشون على أمل اللقاء به من جديد، رغم أنهم يعلمون أنه قد فارق الحياة، لكنهم يأبون التصديق.
وفي حالة أخرى مشابهة، لم تتمكن “رزان موسى” (26 عاماً) من استخراج بيان وفاة لزوجها الذي كان قد توفي في أحد مراكز الاحتجاز التي تديرها قوات الحكومة السورية بدمشق في 2015. وتحدثت “الموسى” التي تنحدر من محافظة “القنيطرة” لـسوريون من أجل الحقيقة والعدالة في كانون الأول/ديسمبر 2020 حول ذلك قائلةً:
“في عام 2014، اعتقل زوجي من قبل أجهزة الأمن السورية، أثناء محاولته عبور الحدود إلى لبنان بقصد العمل، وقد قمنا بالبحث عنه ومتابعة قضيته عبر وسيط عسكري في دمشق، والذي أبلغنا بوفاته في عام 2015 في السجن”.
بعد مضي نحو خمس سنوات على إبلاغ “رزان” بوفاة زوجها، قررت الزواج مرة أخرى والسفر، ولإتمام معاملة تثبيت الزواج قانونياً كان عليها تثبيت واقعة وفاة زوجها الأول (المتوفى في المعتقل)، لكنها لم تتمكن من ذلك، إذ قوبل طلبها بالرفض القاطع من قبل السلطات السورية، وأكملت قصتها قائلة:
“مع بداية العام 2020، قمت بتوكيل محامي لتثبيت واقعة وفاة زوجي واستخراج شهادة وفاة له، ومن ثم تثبيت زواجي الثاني، لكن ذلك لم ينجح، إذ أخبرني المحامي أنه يصعب الحصول على شهادة وفاة لزوجي، لأنه توفي في السجن، ولم تكن وفاته طبيعية، وأن المحكمة الشرعية رفضت تثبيت انحلال الزواج الأول، كما لم تعترف دائرة السجل المدني بوفاة زوجي في المُعتقل”.
خلافاً للحالات السابقة، نجحت زوجة أحد المتوفين في مراكز الاحتجاز التي تديرها القوات الحكومية السورية من استخراج بيان وفاة لزوجها المتوفى، عبر دفع رشاوى لموظفين في مكتب “دفن الموتى” ومديرية السجل المدني، بعد أن كان قد تم رفض طلبها هذا مرات عدة من قبل الجهات المذكورة آنفاً.
تحدثت الشاهدة التي تنحدر من محافظة “السويداء” لـسوريون من أجل الحقيقة والعدالة، في كانون الثاني/يناير 2021، حول حادثة اعتقال زوجها الذي كان ينشط في الحراك السلمي “المعارض” في مدينة “دمشق مع بداية النزاع في سوريا، واستذكرت ما حصل قائلةً:
“كانت الأجهزة الأمنية السورية تلاحق زوجي على خلفية نشاطه السياسي، حتى تم اعتقاله في منطقة “المزة” في تشرين الثاني/نوفمبر 2012، ولم نعرف بعدها مصيره، رغم أننا لم نكف عن البحث عنه، إذ سألنا لدى كافة الأفرع الأمنية، لكنهم رفضوا إعطاءنا أي معلومة عنه أو حتى التصريح بوجوده، كما أننا لجانا إلى الكثيرين للمساعدة، بما فيهم شيخ عقل الطائفة الدرزية، لكن جميع محاولاتنا ومحاولات من لجأنا إليهم باءت بالفشل”.
لم تتمكن الشاهدة من معرفة أي معلومة حول مصير زوجها، حتى منتصف عام 2013، حيث علمت من أحد المعتقلين السوريين المُفرج عنه من الفرع 285 المعروف باسم (فرع الخطيب)، أنه كان موجوداً مع زوجها بنفس المهجع، قبل أن تصلها مذكرة إبلاغ صادرة عن فرع “الشرطة العسكرية” بدمشق، بتاريخ في 24 آب/أغسطس من العام نفسه، من أجل استلام جثة زوجها من مشفى دمشق الوطني – المجتهد، وقد تحدثت حول ذلك قائلةً:
“كان قد كُتب في ورقة الإبلاغ أن زوجي قد توفي في شهر حزيران/يونيو 2013، أثناء توقيفه لصالح إدارة المخابرات العامة – الفرع 285. ذهبت إلى المشفى فوراً، لكن لم أجد جثة زوجي، ولا أية أوراق أو أمانات أو أي شيء يثبت وفاته، باستثناء ورود اسمه كمتوفي في سجلات المستشفى، وقد أطلعني عليها موظف في قسم براد الموتى، حيث كان اسمه موجوداً مع أسماء خمسة جثث أخرى، تم دفنهم دفعة واحدة، وكان مدوناً أن سبب وفاته هو توقف عضلة القلب بشكل مفاجئ، وقد أخبرني الموظف المذكور، أنهم يقومون بدفن الجثث القادمة من السجون في مقابر جماعية، بعد أن يكتمل عدد محدد في كل مرة”.
صورة خاصة بسوريون من أجل الحقيقة والعدالة تظهر مذكرة خطية رسمية صادرة عن فرع الشرطة العسكرية بدمشق، وموجهة إلى إدارة مشفى دمشق الوطني – المجتهد، تفيد بعدم ممانعة الفرع بتسليم جثة أحد المتوفين في الفرع 285 التابع للإدارة العامة للمخابرات إلى ذويه أصولاً.
بعد ذلك، حاولت عائلة الزوج استخراج شهادة وفاة لابنها، لكن طلبها قوبل بالرفض من قبل مديرية الشؤون المدنية، وكذلك إدارة المشفى، التي امتنعت أيضاً عن إرشاد العائلة إلى مكان دفن ابنها، أو مشاركتها أي معلومة تثبت وفاته، باستثناء ورود اسمه في سجلات المشفى. قبل أن تتمكن زوجته من الحصول على وثيقة الوفاة من أجل اكمال معاملة “حصر الإرث” بعد دفع رشوة لأحد الموظفين، حيث سردت ذلك قائلة:
“بعد مضي فترة على رفض الجهات الرسمية منح عائلة زوجي شهادة وفاة له، تمكنت عن طريق دفع رشوة لموظف في مكتب دفن الموتى، من الحصول على شهادة وفاة، ومن ثم بيان وفاة من أمانة السجل المدني”.
على الرغم من ذلك، لم تتمكن الشاهدة من المضي قدماً في الجوانب القانونية المتعلقة بمتابعة إجراءات حصر الإرث، حيث طلبتها الأجهزة الأمنية للتحقيق، بعد اكتشاف حصولها على شهادة وفاة لزوجها، فسافرت مع أولادها إلى لبنان، قبل أن تلجأ إلى إحدى الدول الأوروبية لاحقاً.
من المؤكّد من خلال ما عرضناه آنفاً أن الأجهزة الأمنية المختلفة لم تتقيّد بما يفرضه عليها قانون الأحوال المدنية الصادر بالمرسوم رقم 26 لعام 2007، الذي يجعل التبليغ عن الواقعات الجديدة التي تطرأ على أوضاع السوريين المدنيّة إلزاميّاً، وتنصّ المادّة /38/ من القانون المذكور على أن الوفيّات الحاصلة في السّجون والمستشفيات تُسجّل استناداً إلى شهادات يقدّمها مديرو هذه المؤسسات أو من ينوب عنهم إلى أمين السّجلّ المدني المختص، وتمسك هذه المؤسسات سجلّات خاصّة بهذه الوقائع، وتنصّ المادّة /44/ على أنه لا يمكن دفن أي متوفى بدون شهادة طبّية، وفي حالة الاشتباه بأسباب الوفاة فإنّه يتوجّب على المختار عندما يُصدر شهادة الوفاة في المناطق التي لا يوجد فيها أطباء، أنْ يجمع المعلومات ويبلغ السلطات القضائية والإدارية بالأمر.
وتبقى المشكلة الأكبر هي امتناع الأجهزة الأمنيّة السورية عن تسليم جثث المتوفين داخل معتقلاتهم، إمّا تحت التّعذيب أو نتيجة الإعدامات الميدانية والقتل خارج نطاق القانون، أو حتى الوفيات الناجمة عن عمليّات إعدام بموجب قرارات صادرة عن المحاكم الاستثنائية، مثل محكمة أمن الدولة سيئة الصيت والسمعة التي كانت قائمة في البلاد، أو محاكم الميدان العسكرية التي مازالت قائمة، والتي أصدرت أحكاماً بالإعدام على عشرات الآلاف من السوريين قبل عام 2011 وبعده، في عمليّات شنق جماعية تُنَفّذ تحت جنح الظلام، وتُحاط بغلاف من السرّيّة المطلقة، بالإضافة إلى عمليات قتل لآخرين في سجن صيدنايا العسكري على سبيل المثال جراء تكرار تعرّضهم للتّعذيب والحرمان الممنهج من الطعام والشراب والدواء والرعاية الطبية ويدفن قتلى سجن صيدنايا كما تؤكّد تقارير لمنظمة العفو الدولية في مقابر جماعية.[5]
وفق قانون العقوبات السوري، فإنّ هتك أو تدنيس حرمة القبور يعتبر جريمة يعاقب عليها القانون، كما ويعتبر دفن الميت أو حرق جثّته دون مراعاة الأصول القانونية أو مخالفة القوانين والأنظمة المتعلقة بالدّفن جريمة أيضاً، وإذا وقع الفعل بقصد إخفاء الموت فإن عقوبتها الحبس من شهرين إلى سنتين وفق نص المادّة /468/ من قانون العقوبات العام، وبالتالي فإن ما قامت به السلطات السورية من عدم دفن جثث الموتى في المعتقلات أو دفنها خلافاً للأصول القانونية الدينية والعادات الاجتماعية يخالف هذا القانون ويعتبر جريمة تستوجب العقاب، وطالما أنّ التصرفات المذكورة تنال من كرامة الإنسان وأحقيته بدفن مناسب وتمكين أهله من وداعه فإن ذلك يشكل مخالفة وخرقا للدستور السوري الذي يؤكّد في المادّة 19 على صيانة الكرامة الإنسانية لكل فرد.
لقراءة التقرير كاملاً وبصيغة ملف PDF يُرجى الضغط هنا.