تستمر موجات الحرائق التي تطال مساحات شاسعة من حقول القمح في عدة محافظات سورية بالتهام غذاء السوريين الأساسي، حيث اندلعت أكبر هذه الحرائق في منطقة الجزيرة السورية/المناطق الواقعة تحت سيطرة الإدارة الذاتية، والتي تعدّ بمثابة الخزان الأكبر للقمح، فبلغت نسبة الخسائر فيها ذروتها، الأمر الذي قد يهدد مستقبلاً بارتفاع أسعار الخبز وتوفره في معظم الجغرافية السوريّة. وفي محافظة إدلب الشمالية، حذر خبراء من أن الحرائق قد تهدد الأمن الغذائي للسكان بشكل مباشر هناك، بسبب قلّة المساحات المزورعة بالقمح أولاً، والعمليات العسكرية المستمرة ثانياً.
ولم تتمكن الجهات المسيطرة في سوريا من تحديد أسباب معظم الحرائق ولا كبح جماحها، إذ ما تزال معظم هذه الحرائق مجهولة السبب وقيد التحقيق، في حين أن بعض الحرائق اندلعت إثر قصف من قوات عسكرية عدّة في مناطق متفرقة، وفي أحيان أخرى، تبنّى التنظيم الذي يُطلع على نفسه اسم الدولة الإسلامية والمعروف باسم تنظيم “داعش” عدّة حرائق أخرى.
الباحثون الميدانيون لدى سوريون من أجل الحقيقة والعدالة في محافظات الحسكة والرقة وحلب وإدلب وحماه والسويداء، رصدوا الحرائق التي اندلعت أواخر شهر أيار/مايو 2019 وحتى تاريخ 14 حزيران/يوليو من العام الجاري، وتحدثوا مع مهندس زراعي وخبير اقتصادي للوقوف على حجم الخسائر جراء الحرائق وآثارها، إضافة إلى مصادر محلية.
أولاً: حرائق مجهولة السبب وقيد التحقيق:
1. الحرائق في مناطق سيطرة الإدارة الذاتية:
قال الرئيس المشترك لهيئة الاقتصاد والزراعة في شمال وشرق سوريا “سليمان بارودو” للباحث الميداني لدى سوريون من أجل الحقيقة والعدالة في محافظة الحسكة إن نحو 450 ألف دونم[1] من الأراضي المزروعة بالقمح احترقت بشكل كامل خلال الفترة الواقعة بين 20 أيار/مايو 2019 و 14 حزيران/يونيو 2019، وذلك في المناطق التي تقع تحت سيطرة الإدارة في محافظات الرقة والحسكة ودير الزور إضافة إلى منطقة عين العرب/كوباني.
وقدّر “بارودو” حجم الخسائر المالية بـ18 مليار ليرة سورية[2] نتيجة الحرائق المذكورة، علاوة على وفاة لمزارع كان يحاول إخماد النار في حقله، واحتراق ثلاث معدات زراعية بحسب الباحث.
ونقل الباحث الميداني عن مزارعين -في أحد الحوادث- أنهم رأوا شخصين؛ أحدهما يستقل سيارة من نوع سوزوكي والآخر يستقل دراجة نارية، قاما بإشعال نار في محصول القمح في ريف القامشلي الجنوبي وعلى الطريق الدولي بين القامشلي وتل تمر، كما قامت الإدارة الذاتية الكردية بتوقيف 12 شخصاً يشتبه بضلوعهم بإشعال الحرائق.
وفي محافظة الرقة، قال “مصطفى العبد” مدير المكتب الإعلامي لمجلس الرقة المدني في حديث إلى سوريون من أجل الحقيقة والعدالة إن نحو 15 بالمئة من الأراضي المزروعة بالقمح قد احترقت، لافتاً إلى عدم معرفة أسباب اندلاع الحرائق ولكنه رجحّ أن تكون الحرائق مفتعلة لاسيما أن الأراضي التي احترقت هي فقط التي تقع تحت سيطرة الإدارة الذاتية، أما الأراضي التي تقع تحت سيطرة الحكومة السورية لم تسجل فيها أي حادثة.
2. الحرائق في مناطق سيطرة الحكومة السورية:
في محافظة السويداء، قال الناشط المحلي سلام عزام -اسم مستعار- في حديث لسوريون من أجل الحقيقة والعدالة إن نحو 15 ألف دونم من الأراضي المزروعة بالقمح والواقعة في منطقة اللجاة بين قرى دبين وجرين وداما والعريقة احترقت بشكل كامل أواخر أيار/مايو 2019، علاوة على احتراق 13 قطع أرض أخرى -مختلفة المساحة- مزروعة بالقمح ومحلصيل أخرى في مناطق متفرقة بالمحافظة، وما تزال أسباب الحرائق مجهولة، إلا أن الناشط نقل عن عدد من المزارعين ومالكي الأراضي اعتقادهم بأن الحرائق مفتعلة حيث استندوا في ذلك على طبيعة ومسار الحريق من حيث البدء ووصوله إلى مناطق متفرقة.
وبحسب الناشط فإن المناطق التي شهدت حرائق هي: قرى صما والطيرة وسميع والمزرعة وحازم والدور في الريف الغربي، وقرى لبين وجرين وجدا وداما وعريقة والخرسا وقم في الريف الشمالي الغربي، وقرى قنوات وسليم ومفعلة في الريف الشمالي، وقرى صلخد والعانات وأمتان في الريف الجنوبي.
من جهته، أعلن التنظيم الذي يطلق على نفسه اسم “الدولة الإسلامية” مسؤوليته عن الحرائق وفق ما نقلت وكالة “نبأ” التابعة له، حيث نشر تقريراً يتحدث فيه عن عمليات الثأر والحرائق التي تسبب بها في الحسكة ومحافظات أخرى.
نسخة عن التقارير التي نشرتها وكالة “نبأ” التابعة لتنظيم داعش تتضمن تبني الأخير لعدة حرائق.
ثانياً: حرائق بسبب القصف وأخرى متعمدة:
قال الباحثون الميدانيون لدى سوريون من أجل الحقيقة والعدالة في محافظات حلب وإدلب وحماه، إن حرائق كبيرة طالت قسماً واسعاً من الأراضي الزراعية في تلك المحافظات، وكانت ناتجة عن قصف عشوائي للقوات النظامية السورية والميليشيات الموالية لها، في حين أن جزءاً من هذه الحرائق كان مفتعلاً وتسبب به عناصر/متطوعون/مقاتلون ضمن ميليشيات موالية للحكومة السورية وأجهزة أمنية مرتبطة بها.
1. حرائق تسبب بها عناصر وأشخاص موالون للحكومة السورية:
رصد الباحث الميداني في محافظة حماه عدداً من الحرائق التي اندلعت في المناطق الخاضعة لسيطرة القوات النظامية السورية، حيث بدأت بتاريخ 22 أيار/مايو 2019 غربي ناحية الحمرا من قرية السماقة ومنها انتقلت إلى قريتي الربيعة والمحصر جنوباً مروراً بقرية قصر الشاوي، وفي يوم 24 من الشهر ذاته بدأ الحريق من قرية قصر المخرم ومنها إلى الحويجة والبيرة ودوما وقصر أبو وربدة وقصر علي.
“أبو علي” مدني متواجد في ناحية الحمرا الخاضعة لسيطرة الحكومة السورية، قال للباحث الميداني: “لقد طلب عناصر في الدفاع الوطني من الفلاحين مبالغ مالية لقاء السماح لهم بإدخال الحصادات من معبر أبو الظهور وحصاد الأراضي، وعندما رفض الأهالي دفع المبالغ المفروضة والتي كانت مرتفعة جداً قام العناصر بحرق أراضيهم.”
كذلك قال مدني مقيم في قرية المحصر -رفض كشف هويته-، إن مختار قرية الخرسان الذي يدعى “سمعان” يملك السلطة العليا في ناحية الحمرا كما أنه على علاقة وثيقة بشعبة الأمن العسكري، حيث قام “سمعان” بإحراق معظم الأراضي الزراعية في قرى دوما والحزم وعرفة وربدة وقصر علي بعد أن قام بحصاد الأراضي التي تعود له.
ونقل رئيس المجلس المحلي لناحية عقيربات “أحمد الحموي” عن مصادر أهلية في المنطقة أن سبب الحرائق يعود إلى خلاف بين مجموعتين من عناصر الدفاع الوطني، الأولى تعود لـ”فاضل.و” والثانية لـ”غزوان.س”، حيث اختلفوا على تقاسم الغرامات/الضرائب/الأتاوات التي ستجنى من الفلاحين، وقاموا بإحراق الأراضي.
من جانبه، قدر المهندس الزراعي “طارق العلي” مساحة الأراضي المحروقة في قرى عقيربات والحانوتة والنعيمية وجب الرمان والخضيرة بـ82 ألف دونم من الأراضي المزروعة بالقمح والشعير والكمون والعدس، إضافة إلى نحو ألف شجرة زيتون، لتبلغ الخسائر بشكل تقديري نحو 75 مليون ليرة سورية.
أما في ريف إدلب الجنوبي الذي سيطرت عليه الحكومة السورية أواخر عام 2017، فقد اندلع حريق كبير يوم 29 أيار/مايو 2019 في قرية الشطيب وانتقل إلى قرى الهوية والرويضة والمريجب والويبدة والمكسر الجنوبي، إضافة إلى حريق آخر نشب في تل عمارة ونباز والمكسر الشمالي، وبحسب مزارع في قرية المكسر فقد بلغت مساحة الأراضي المحروقة 240 ألف دونم من الشعير والعدس ومحاصيل أخرى إضافة إلى أشجار الزيتون التي بلغت 3500 شجرة.
وحول سبب اندلاع الحريق قال أحد الناشطين المحليين -مقيم في قرية المكسر- إن بعض العساكر كانوا يستقلون دراجات نارية أشعلوا النار في المحاصيل في قريتي “الشطيب وحوا” وذلك على مرأى الأهالي، ولم يعلم أحد الدافع وراء هذا العمل، إلا أن بعض الأهالي يعتقدون أن السبب هو رفض المزارعين دفع رشاوى/أتاوات لحواجز المخابرات الجوية والدفاع الوطني لقاء السماح بحصاد الأراضي.
2. حرائق ناجمة عن قصف عشوائي من قوات عسكرية:
احترق ما لا يقل عن 10 آلاف دونم مزروع بالقمح في منطقتي التمانعة وخان شيخون جراء قصف مدفعي وصاروخي عشوائي طال المنطقة يومي 29 و 30 أيار/مايو 2019، وبحسب ما نقل الباحث الميداني لدى سوريون من أجل الحقيقة والعدالة عن أحد المراصد العسكرية المحلية، فإن مصدر القصف كان مصدره من معسكرات بريديج والكبارية وهبيبات والتي تتمركز فيها قوات روسية و”الفيلق الخامس” التابع لهذه القوات.
وفي مدينة الباب شرقي محافظة حلب، قال “مصطفى عكون” إن مئات الهكتارات من الأراضي الزراعية المزروعة بالقمح والشعير والزيتون احترقت بسبب قصف عشوائي، حيث تقع تلك الأراضي على طول 6كم وعمق 4 كم من الجبهة العسكرية من جهة بلدة بزاعة، وذلك يومي 1 و 2حزيران/يونيو 2019.
ثالثاً: الحرائق ومدى تأثيرها على الأمن الغذائي:
تحدثت سوريون من أجل الحقيقة والعدالة مع الخبير والباحث الاقتصادي “سقراط العلو” الذي قال إن الحرائق رغم انتشارها لن تؤثر بشكل مباشر على الأمن الغذائي السوري أو تعرضه لخطر حقيقي، إلا أنها ستؤثر لاحقاً وتساهم بخلق أزمة اقتصادية جديدة، حيث ستسبب ارتفاع أسعار الخبز مستقبلاً وقلة توفره.
ولفت “العلو” إلى أن توقعات الخبراء الاقتصادين تشير إلى أن انتاج القمح هذا العام سيصل إلى 2.7 مليون طن وهو ضعف انتاج العام الفائت، وذلك نظراً للهطولات المطرية، وهذا يعني أن الحرائق التي اندلعت ستكون نتائجها أقل وطأة ولن تسبب أزمة غذائية على مستوى سوريا، كما أن الحكومة السورية قامت بالفعل بالتعاقد مع روسيا لشراء شحنات قمح.
وأشار “العلو” أن سوريا لم تحقق منذ عشر سنوات الاكتفاء الذاتي حيث أن انتاج القمح فيها يصل إلى 1.7 مليون طن من القمح سنوياً في حين أنها تحتاج إلى 2.3 مليون طن لتحقق الاكتفاء.
أما في محافظة إدلب فإن الوضع مختلف، حيث أن الحرائق التي وقعت هناك قد تهدد الأمن الغذائي للمحافظة الواقعة تحت سيطرة “هيئة تحرير الشام” وفصائل عسكرية معارضة. وحول ذلك قال المهندس الزراعي “يحيى تناري” لسوريون من أجل الحقيقة والعدالة إن الحرائق التهمت نحو 50 بالمئة من مجمل الأراضي المزروعة بالقمح، والتي هي قليلة أصلاً، حيث أن الأراضي المزروعة بالقمح في إدلب لا تتجاوز نسبتها 20 بالمئة من أراضي المحافظة، وبالتالي فإن الأمن الغذائي للسكان في إدلب قد يكون مهدداً بالخطر، حيث أن إدلب تعتمد على شراء/ مساعدات نحو 80 بالمئة من حاجتها للقمح.
[1] كل دونم في سوريا يعادل 1000 متر مربع.
[2] كل 1 دولار يعادل 598 ليرة سورية. (17 حزيران/يونيو 2019).