خلفية:
بعد مرور أكثر من عام على سيطرة القوات النظامية السورية على الجنوب السوري (الأجزاء الخاضعة لسيطرة فصائل من المعارضة السورية المسلحة و/أو الإسلامية في محافظتي درعا والقنيطرة)، بموجب “اتفاق تسوية”[1]، رصدت “سوريون من أجل الحقيقة والعدالة” عدم قدرة الآلاف من الأسر والعائلات[2] من استخراج بيان وفاة[3] تُثبت واقعة الوفاة[4] لأحد أو بعض أفراد الأسرة/العائلة ممن قُتلوا بفعل قتالهم إلى جانب مختلف الفصائل المسلّحة (المعارضة منها والإسلامية)، و/أو جرّاء العمليات العسكرية بالعموم، و/أو بسبب الهجمات الجوية والبرّية خلال فترة سيطرة الفصائل المسلّحة على الجنوب السوري.[5]
وقد حاولت سوريون من أجل الحقيقة والعدالة، تحديد الأسباب التي أدّت إلى عدم قدرة الأسر والعائلات على الحصول على هذه الوثائق، وبدا أنّها مرتبطة في أحد جوانبها بصدور قرارات شفوية و”غير معلنة” أصدرتها إدارات السجل المدني والأمانات التابعات لوزارة الداخلية السورية[6] في الجنوب السوري في بداية آب/أغسطس 2018، (ومازالت سارية حتى تاريخ إعداد هذا التقرير في بداية شهر أيار/مايو 2020)، منعت فيه استخراج “شهادات وفاة” لأي شخص قُتل بما تمّ وصفه بـ”حادث غير طبيعي”، سواء ممن قُتل أثناء قتاله إلى جانب الفصائل المسلّحة (المعارضة منها والإسلامية)، أو بفعل وقوع المتوفي ضحية عمليات القصف والاقتتال ومخلّفات الألغام وغيرها، حيث تلقّى مخاتير القرى والبلدات في الجنوب السوري، تعليمات بمنع استخراج شهادات وفاة لكل من حدثت بحقه واقعة وفاة في الفترة الممتدة منذ 18 آذار/مارس 2011 وحتى آب/أغسطس 2018، باستثناء من كانت واقعة وفاته بحالة طبيعية[7] لمن هم طاعنون في السن أو لديهم شهود على ذلك، ويُمنع ما دون ذلك.
قالت الخبيرة القانونية لدى سوريون من أجل الحقيقة والعدالة، أنّ هذا القرار الذي ربّما صدر فيما يخصّ الوفيات في مناطق الجنوب السوري فقط، ولم يعمم على مستوى باقي المحافظات السورية، مستدلة على قيام أشخاص آخرين في ريف دمشق مثلاً على القدرة على استكمال إجراءات تثبيت واقعات الوفاة وفق خطوات معينة. |
بحسب (المادة 36 من قانون الأحوال المدنية الصادر بالمرسوم التشريعي رقم /26/ لعام 2007)، فإنّه يقع واجب التبليغ عن حالة الوفاة ومتابعة إجراءات تسجيلها وتوثيق الواقعة رسمياً على عاتق “ورثة المتوفى”، وهم أصول المتوفى من “الأب و الأم” أو فروعه “الأولاد” أو “الزوج أو الزوجة أو أقربائه” كالأخوة والأخوات”، وهي الجهة التي أسماها القانون بالمبلّغ (والمقصود به هو المكلّف بالتبليغ بموجب هذا القانون عن حدوث واقعة أحوال مدنية معينة). وقدّ ألزم القانون المذكور (المبلّغ) بتقديم الشهادة المثبتة لحدوث الواقعة مع وثائقها خلال ثلاثين يوماً من حدوثها إذا وقعت داخل سوريا/القطر وتسعين يوماً إذا وقعت خارج سوريا (الفقرة أ– المادة 14).[8] |
أمّا بخصوص الخطوة الأولى من خطوات تسجيل الواقعة، فقد حددتها (المادة 37 في الفصل السادس/الوفيات)، بالقول:
“تُسجّل الوفاة بموجب شهادة من المختار مرفقة بتقرير طبي يثبت أن الوفاة طبيعية وفي الأمكنة التي لا يوجد فيها أطباء يكتفي بشهادة المختار بأن الوفاة طبيعية.” (يُشار هنا أنّ المادة ذكرت مصطلح الوفاة الطبيعية ولم تكتفِ بمصطلح الوفاة فقط، ولكن لم يأتي القانون على ذكر الوفيات المذكورة في هذا التقرير في الجنوب السوري والتي هي مرتبطة بشكل أساسي بنزاع مسلّح غير ذي طابع دولي).
لقد أدّت النزاع السوري منذ سنوات عديدة وتحديداً في الجنوب السوري، على عدم قدرة آلاف العائلات من القيام إجراءات تثبيت واقعات الوفاة وفق القوانين السورية المنصوص عليها لأسباب عديدة؛ أهمّها خضوع المناطق إلى فصائل ومجموعات معارضة مسلّحة تلاه انسحاب معظم المؤسسات الخدمية المرتبطة بالحكومة السورية، ولعب الخوف الأمني سبباً هاماً آخراً في منع ذوي المقاتلين (على سبيل المثال وليس الحصر) من البدء بتوثيق واقعات الوفاة، خوفاً من الاعتقال أثناء عمليات التنقل إلى المناطق التي تتواجد فيها المؤسسات الخدمية السورية وخوفاً بالمرور بالعشرات من الحواجز الأمنية التي كانت منتشرة في تلك المناطق خلال سنوات النزاع الطويلة، علاوة على نزوح ولجوء مئات آلاف السوريين من أبناء الجنوب إلى دول أخرى التماساً للحماية.
مقدمة:
تورد سوريون من أجل الحقيقة والعدالة في هذا التقرير، إفادة (12) شاهداً/شاهدة، من بينهم نساءُ عجزنَ من استخراج شهادات الوفاة (وبيان الوفاة لاحقاً) لأبنائهنّ وأزواجهنّ في الجنوب السوري.
إلى ذلك، قال الباحث الميداني لدى سوريون من أجل الحقيقة والعدالة، بأنّ آلاف القتلى في الجنوب السوري لم يتمكن ذووهم من استخراج شهادات وفاة لهم، وبالتالي لم يتمكنوا من متابعة الإجراءات القانونية المبتغاة من تثبيت واقعة الوفاة؛ كمعاملات حصر الإرث[9] وونقل الملكيات وغيرها، موضحين بأنّ هنالك أكثر من 17500 شخصاً[10]، كانوا قد قُتلوا في محافظتي درعا والقنيطرة، منذ آذار/مارس 2011، وحتى توقيع اتفاق التسوية في آب/أغسطس 2018، حيث بلغ عدد الرجال القتلى في الجنوب السوري عموماً أكثر من 13000 قتيل، من بينهم أكثر من 5530 مقاتلاً من المعارضة المسلّحة في محافظة درعا وحدها، وأكثر من 5380 مدنياً قضوا نتيجة العمليات العسكرية، كحالات القصف وغيرها.
إنّ عدم قدرة آلاف الأسر والعائلات من تثبيت واقعات الوفاة في الجنوب السوري، له تبعات سلبية، وبشكل خاص على النساء والأطفال، حيث أنّ كثيراً من الأسر في الجنوب السوري اليوم تعيلها امرأة، ما يخلق لهذه الأسر أعباء إضافية في تحصيل حقوق المرأة لأملاك زوجها المتوفى إضافة إلى عدم قدرتها على الزواج مرة أخرى، فقد أصبحت هذه الأسر غير قادرة في استكمال الجوانب القانونية التالية لواقعة الوفاة، وخاصة فيما يتعلق بتحصيل حقوقها في السكن والأرض والملكية الزواج مرة أخرى. |
وفي حين تمّ حرمان الآلاف من الأسر والنساء من استخراج شهادات وفاة لأزواجهنّ وأبنائهنّ في الجنوب السوري تمكن عدد قليل من تلك الأسر من استصدار شهادة وفاة، رغم أنّ ذويهم كانوا قد توفوا نتيجة “فعل غير طبيعي”، حيث قال 3 من شهود العيان للباحث الميداني، من ضمنهم سيدتان، بأنهما نجحتا في استصدار تلك الوثيقة بعد أن عمدتا إلى رشوة عناصر مخفر الشرطة، وتغيير سبب الوفاة وتسجيلها على أنهم توفوا بسبب “المجموعات الإرهابية المسلّحة”، وهو الأمر الذي من شأنه أن يخفي الحقائق التي وقعت في سياقها آلاف انتهاكات حقوق الإنسان في الجنوب السوري وبناء سردية مخالفة للحقيقة.
وبحسب محامين محليين، تمّ التواصل معهم عبر الانترنت، فقد استطاع عدد آخر من المواطنين المتواجدين في الجنوب السوري، باستصدار شهادات وفاة صادرة عن أطباء، وذلك عن طريق سماسرة ومحاميين متعاونين مع الأجهزة الأمنية السورية لقاء مبالغ مالية (كبيرة بالنسبة لدخل الأفراد) تصل إلى ثلاثمئة دولار للتقرير الواحد، وذلك شريطة كتابة سبب وفاة مزّور داخل التقرير مثل (موت بسبب أزمة قلبية أو دماغية ..ألخ). وفي الحالات التي يكون الشخص من المعروفين في المنطقة وممن قتل نتيجة قصف الجيش النظامي السوري، فإنّ الأهالي يضطرون إلى دفع رشاوى من أجل كتابة ضبط شرطة يفيد بأنّ الشخص قتل على يد “المجموعات الإرهابية”.
منهجية التقرير:
اعتمد هذا التقرير في منهجيته على (12) شهادة ومقابلة بالمجمل، حيث قابل الباحث الميداني (6) من مخاتير قرى وبلدات في الجنوب السوري، (1) منهم وافق على الإدلاء بشهادته حول عدم قدرته منح وثائق وفاة لأي أسر كانت وفاة ذويها جرّاء “فعل غير طبيعي”، وذلك تحت طائلة التعرّض لمساءلة قانونية. كما تمّت مقاطعة شهادة عدد من المصادر (منهم نشطاء ومراسلين وإعلاميين سابقين ومراكز سورية تُعنى بتسجيل الخسائر) فيما يخصّ أعداد القتلى عموماً في الجنوب السوري، سواء كانوا من المدنيين أو المقاتلين السابقين في صفوف المعارضة المسلّحة، منذ العام 2011 وحتى تاريخ توقيع اتفاق التسوية.
ولغرض هذا التقرير، التقى الباحث الميداني ب 12 شاهداً/شاهدة، ممن وقعوا ضحية هذا القرار في الجنوب السوري، سرد منهم 8 شهود إفاداتهم حيال القضية، من ضمنهم (6) نساء، فيما رفض أربعة منهنَ منح الموافقة لنشر شهاداتهم حيث تمّ التكتم عليها من قبل سوريون من أجل الحقيقة والعدالة.
يورد هذا التقرير أيضاً، شهادة لأحد موظفي السجل المدني في محافظة درعا، والذي بررّ هذا القرار، على أنه “منعاً للتزوير في ظل ظروف أصبح فيها من غير السهل إحصاء المتوارين أو المطلوبين أو الفارين بطرق غير شرعية”.
يضاف إلى ذلك، تعليقات 3 مستشارات بالقوانين الوطنية لدى “سوريون”، والتي تحدّثنَ حول التبعات السلبية الكبيرة لهذا الحرمان على عائلات وأسر المتوفيين وخاصة النساء والأطفال. ومحامي سوري مقيم في الخارج.
وقد تمّ إجراء المقابلات من قبل الباحث الميداني لدى المنظمة في جنوب سوريا، خلال الفترة الممتدة منذ بدايات شهر كانون الثاني/يناير وحتى نهاية شهر آذار/مارس 2020، حيث تمّ بعضها بشكل مباشر، فيا تمّ إجراء البعض الآخر عبر الانترنت.
-
الإجراءات المتبّعة حالياً في الجنوب السوري لاستخراج شهادة وفاة:
أكدّ (6) من مخاتير قرى وبلدات في الجنوب السوري[11] للباحث الميداني لدى سوريون من أجل الحقيقة والعدالة، عدم قدرتهم منح “شهادة وفاة” لأي شخص نجمت وفاته عن “فعل غير طبيعي”، بناءً على تعليمات وقرارات صادرة عن الجهات المعنية بالأمر[12]، وذلك قبل مراجعة القضاء وتحت طائلة المسؤولية، حيث أفاد مختار إحدى قرى ريف درعا الغربي وقد فضّل عدم ذكر اسمه، لسوريون من أجل الحقيقة والعدالة قائلاً:
“تعدّ قرى وبلدات غرب درعا من أكثر المناطق المنكوبة جرّاء الحرب، فقد سقط خلال سنوات سيطرة المعارضة المسلّحة الآلاف من أبناء المنطقة، سواء أثناء اقتتال الفصائل المحلية فيما بينها أو أثناء سيطرة الفصائل الاسلامية مثل تنظيم داعش/الدولة الإسلامية على المنطقة، أو خلال القتال بين فصائل المعارضة المسلّحة وقوات الجيش السوري والقوات الرديفة. وأمام هذا الكمّ الكبير من الوفيات سواء ممن قُتلوا بالقصف أو جرّاء انفجار عبوات ناسفة أو نتيجة المشاركة في القتال إلى جانب المعارضة المسلّحة ضد الجيش السوري، يُمنع منعاً باتاً منح شهادة وفاة لأي شخص نجمت وفاته عن فعل غير طبيعي وإلا سنتعرض لمساءلة قانونية نحن بغنى عنها.”
وأضاف المصدر حول الإجراءات المتبعة حيال الأمر بالقول:
“يأتي إليّ كل يوم عدّة أشخاص أغلبهم من النساء يدعوني بعطف أن أمنحهم شهادة وفاة كي يتابعوا التزاماتهم القانونية، لكنّ الطريقة القانونية الوحيدة الآن هي أن يقوم ذوي المتوفي بمراجعة القضاء الشرعي[13] حيال ذلك الأمر، وهناك يتم استجواب ذوي المتوفي بشكل روتيني، يأخذ ذلك الاستجواب ثلاث أو أربع جلسات أي بمعدل قرابة ثلاثة أو أربعة أشهر، وذلك حسب ما يقتضي وقت التحقيق وبما يناسب المحقق، وفي حال تمّ دفع بعض المال يتم تسريع الأمر، بعدها يُحال الطلب المقدّم إلى مديرية الناحية التابعة لقيد المتوفي أو مكان سكنه، وبدورها تقوم مديرية الناحية بإحالته لمخفر الشرطة التابع لمكان المتوفي، لكتابة ضبط وإجراء دراسة حول المتوفي وخلفيات مقتله، وفي حال كان المتوفي قد توفي نتيجة فعل طبيعي، يتم إحالة ذوي المتوفي للمختار لمنحهم شهادة وفاة لاستكمال إجراءات الوفاة المعروفة، في حين يتم رفض طلبهم بالحصول على شهادة وفاة إن كان المتوفي قد توفي نتيجة فعل غير طبيعي، مثل أن يكون المتوفي قد قُتل خلال القتال إلى جانب المعارضة المسلّحة، أو نتيجة عمليات القصف أو جرّار عبوة ناسفة أو رصاص طائش.”
تثير العملية التي وردت في شهادة أحد المخاتير مخاوف الأهالي ذوي الصلة بالأمر، خصوصاً حين يكون المُتوفى مقاتل سابق في الفصائل المسلّحة (المعارضة منها والإسلامية)، حيث يخشى ذويه من مساءلة قانونية بحقهم، إذ أكدّ البعض من شهود العيان ممن التقاهم الباحث الميداني لدى المنظمة، أثناء متابعة إجراءات الوفاة عن طريق القضاء، قيام القضاء بإبلاغهم بضرورة مراجعة ذوي المُتوفي لأحد الأفرع الأمنية (في حالات محددة). |
التوصيات:
ينبغي على الحكومة السورية والأجهزة التنفيذية التابعة لها تقديم ضمانات واضحة وحقيقية لآلاف الأسر والعائلات المتردد والخائفة بالبدء بتثبيت واقعات الوفاة من خلال قرار قضائي، دون التدخل في سبب الوفاة، حيث أنّ الإصرار على تسجيل سبب غير حقيقي للوفاة سوف يضيع حقوق آلاف الأسر والعائلات ويمحي حقائق السياق التي وقعت فيه آلاف انتهاكات حقوق الإنسان في سوريا. |
وكان أكثر من 17500 شخصاً[14]، كانوا قد قُتلوا في محافظتي درعا والقنيطرة، منذ آذار/مارس 2011، وحتى توقيع اتفاق التسوية في آب/أغسطس 2018، حيث بلغ عدد الرجال القتلى في الجنوب السوري عموماً أكثر من 13000 قتيل، من بينهم في محافظة درعا وحدها، أكثر من 5530 مقاتلاً من المعارضة المسلّحة كانوا قد قضوا نتيجة المواجهات العسكرية وعمليات الاغتيال المتبادلة، وأكثر من 5380 مدنياً قضوا نتيجة العمليات العسكرية، كحالات القصف وغيرها، حيث أشاروا إلى أنّ معظم هؤلاء القتلى لم يتمكن ذويهم من استخراج شهادات وفاة لهم، وبالتالي لن يتمكنوا من متابعة الإجراءات القانونية المتبعة من عملية الوفاة كمعاملات حصر الارث والملكية وغيرها.
-
شهادات ضحايا نتيجة هذا القرار:
التقت “سوريون من أجل الحقيقة والعدالة” في محافظة درعا 12 شاهداً/شاهدة ممن وقعوا ضحية هذا القرار في الجنوب السوري، سرد منهم 8 أشخاص قصصهم، من بينهم 6 نساء، وقد تمّ الاستعاضة عن الهويات الحقيقية للشهود جميعاً بأسماء مستعارة حرصاً على أمانهم الشخصي.
“منيرة.م” (44 عاماً)، من سكان غرب درعا، أم ومعيلة لستة أولاد، كانت قد خسرت زوجها بعد انخراطه للقتال إلى جانب صفوف المعارضة المسلّحة، وذلك منذ العام 2016 وحتى العام 2018، حيث مازالت محرومة حتى اللحظة من استصدار شهادة/بيان وفاة لزوجها رغم إجرائها “تسوية” مع الحكومة السورية، حيث روت لسوريون من أجل الحقيقة والعدالة قائلة:
“توفي زوجي عام 2018 في آخر المعارك التي دارت ما بين الجيش السوري والمعارضة المسلّحة، ومنذ ذاك الحين وأنا أحاول جاهدة أن أتابع الإجراءات القانونية المتعلقة بحصر الإرث كي أضمن حقوق أطفالي لكن دون جدوى، فبدون شهادة وفاة لزوجي لا يمكن لي الحصول على حقوق أبنائي من ميراث والدهم. أعلم أنّ تهمة الانتماء للمعارضة المسلّحة هي تهمة كبيرة أمام السلطات، لكن ما ذنبي وذنب أطفالي من أن يحرموا من حقوقهم لفعلٍ ارتكبه والدهم الميت، على الرغم أنني أجريت اتفاق تسوية.”
وأضافت “منيرة” قائلة:
“عندما توجهت إلى المختار رجوته أن يكتب في شهادته أنّ زوجي توفي جرّاء حادث سير مثلاً، أو بعد معاناة طويلة مع المرض، لكنه أبدى تخوفه من الفكرة كي لا تلحقه مساءلة قانونية ورفض ذلك تماماً، وأمام هذا الأمر قمت باستشارة محامٍ، لكنني تفاجأت حينما أعلمني في بدايات العام 2020، أنّ القضاء يريد استجوابي عن كيفية وفاة زوجي وأنّ الأمر روتيني، فنصحتني عائلتي بعدم الذهاب، وذلك لخوفهم من تبعات أمنية للقضية، حيث لم أنجح حتى اللحظة في استصدار شهادة وفاة.”
من الواضح أنّ الإجراءات التي تخللها عملية “استجواب” حتى ولو كانت من قبل “قاضي شرعي”، تدفع بأشخاص كثيرين عن العزوف عن عملية التسجيل والبدء بالإجراءات القانونية، وهنا تحتاج العائلات مرة أخرى ضمانات حقيقية من الأجهزة التنفيذية والقضائية بعدم اتخاذ إجراءات غير روتينية في حالات تثبيت واقعات الوفاة.
من المهم الإشارة أيضاً (للمواطنين السوريين) أنّ القاضي الشرعي هو جهة غير أمنية، والمقصود بالاستجواب في هذا السياق المذكور بالشهادة هو طرح الأسئلة من قبل القاضي الشرعي عن زمان الوفاة وكيفية وقوع الوفاة وسبب الوفاة إضافة إلى سماع شهود وطلب بيان حركة من الهجرة والجوازت.
تبرز مشكلتين أساسيتين في هذا السياق، أولاً: خوف الأهالي من تزوير الحادثة وضياع حقوق الضحايا وضياع حقيقة ما حصل، حيث من المستحيل أن يقبل القاضي الشرعي مثلاً تسجيل الواقعة ضد الحكومة السورية في حال كان الضحية قد قتل من قبلها نتيجة انتهاك للقانون الإنساني الدولي.
أمّا المشكلة الأخرى فهي متعلقة بموضوع “بيان الحركة” وهي الورقة التي عادة يطلبها القاضي من أجل معرفة عدم تلفيق الأهل لحادثة الوفاة في حالات سفر الشخص، حيث أنّ ملايين السوريين قد تجاوزا الحدود الدولية لدولتهم بسبب النزاع وهذا يؤدي بطبيعة الحال إلى عدم دقة المعلومات المقدمة من قبل دائرة الهجرة والجوازات بما يخصّ بيان الحركة. |
“فاطمة.م” 30 عاماً، من مدينة الصنمين، أم لثلاثة أطفال، شاهدة ثانية لم تستطع استصدار وثيقة وفاة لزوجها الذي قُتل في العام 2016، نتيجة انفجار لغم أرضي على أطراف المدينة، حيث مازال حرمانها مستمراً حتى لحظة إعداد هذا التقرير في 19 آذار/مارس 2020، وروت في حديثها لسوريون من أجل الحقيقة والعدالة:
“في منتصف العام 2019 قررت استصدار وفاة لزوجي في السجلات المدنية ولكن المختار رفض أن يقوم بإجراءاته بسبب التعليمات الأمنية، فتواصل أحد أقربائي مع مسؤول أمني في المخابرات العسكرية، وطلب توضيحاً، لكنّ الردّ كان:
“لا يمكن في الوقت الحالي استصدار شهادة الوفاة وهذه توجيهات من القيادة العليا وعليكم انتظار عفو رئاسي أو مرسوم بخصوص هذا الأمر.”
أضافت “فاطمة” بالقول:
“استفسرت شخصياً بشكل مكثّف عن هذا الأمر، وعلمت من خلال إحدى قريباتي والتي كان قد توفي زوجها هي أيضاً نتيجة العمليات العسكرية، بأنها وعند وصولها إلى مركز السجل المدني في مدينة إزرع من أجل البدء بإجراءات الوفاة، طلب منها مدير السجل المدني المغادرة ونصحها بعدم الدخول مرة أخرى والسؤال عن موضوع شهادة وفاة زوجها، لأنها قد تعرّض نفسها للمساءلة الأمنية.”
تمنع (المادة 44) من الفصل السادس/الوفيات من (قانون الأحوال المدنية الصادر بالمـرسـوم التشـريعـي رقم /26/ لعام 2007) من دفن أي متوفى بدون شهادة طبية، وأما في الأماكن التي لا يوجد فيها أطباء فتعطى هذه الشهادة من قبل المختار بعد أن يتحقق من أن الوفاة طبيعية. وتلزم المادة نفسها (المخاتير) بإبلاغ السلطات القضائية والإدارية في حال الاشتباه بكون أنّ الوفاة غير طبيعية). ومن المفيد التذكير هنا مرة أخرى على عدم القدرة لآلاف العائلات السورية من اتباع الإجراءات الواردة في “القانون” للأسباب المذكورة المتعلقة بالنزاع والخوف من الاعتقال. |
التوصيات: إصدار تعميم من وزير الداخلية أو من الجهات الحكومة الأخرى المعنية بهذا الأمر (مديرية الشؤون المدنية على سبيل المثال وليس الحصر)، موجّه إلى أقسام الشرطة، ومخاتير المنطقة الجنوبية، ودوائر السجلات المدنية، يتم بموجبه تسهيل معاملات المواطنين المتعلّقة بتثبيت واقعات الوفاة، دون تحديد سبب الوفاة، وإلزام الأطراف بإجراء تثبيت الواقعة ضمن اختصاصاتهم من (تنظيم ضبط شرطة ومن ثم إصدار شهادة وفاة من قبل مخاتير المنطقة ومن ثم تثبيت واقعات الوفاة عند أمانات السجل المدني.
إن إصدار مثل هكذا تعميم، سوف أيضاً يرفع المسؤولية عن المخاتير وعناصر الشرطة في حال البدء باستخراج الأوراق المطلوبة لتثبيت واقعات الوفاة. |
“إسراء.س” 28 عاماً، شاهدة ثالثة من سكان منطقة الجيدور شمال درعا، وكان قد توفي زوجها عام 2017 بانفجار لغم أرضي من مخلّفات الحرب أثناء حراثته أرضه. لم تتمكن “إسراء” حتى هذه اللحظة من استصدار وثيقة وفاة لزوجها المتوفى، حيث قالت في شهادتها لسوريون من أجل الحقيقة والعدالة:
“كان زوجي موظفاً في دائرة الصحة، وقد انقطع عن وظيفته بسبب الحرب كغيره من موظفي البلدة، أنا الآن أم معيلة لأطفاله الـخمسة، ولا قدرة لي على إطعامهم أمام هذا الغلاء الكبير، لذا توجهت لمديرية الصحة، بعدما نصحني أحد المقربين، أن أطالب برواتب زوجي السابقة، وهناك أخبرني الموظفون أنه بحكم المستقيل وأنه من الممكن تحصيل رواتبه السابقة كاملة، لكن بشرط استصدار شهادة وفاة له، وهنا كانت المشكلة، حيث أخبرني مختار الحي بأنّه لا يستطيع منحي شهادة وفاة لأنّ زوجي توفي بفعل غير طبيعي، وبأنّ عليّ مراجعة القضاء من أجل متابعة الإجراءات. الكل نصحني بعدم الدخول في التفاصيل ومتابعة الأمر لأني لن أحصل على نتيجة.”
التوصية: يجب ضمان تطبيق التعميم في حال صدوره في جميع المناطق السورية دون استثناء ويجب عدم التذرع بأي حجة لناحية عدم تطبيقه، ويجب أن يحمل صيغة الإلزامية. |
“منى.ع” 29 عاماً، شاهدة رابعة من مدينة بصر الحرير في ريف درعا الشرقي، لم تتمكن هي الأخرى من استصدار وثيقة وفاة لزوجها والذي كان قد توفي منذ العام 2016، خلال قتاله إلى جانب المعارضة المسلّحة ضد القوات النظامية السورية، ما انعكس سلبياً على حياتها، فعندما تزوجت من شاب آخر في بداية العام 2018، حال عليها تثبيت زواجها الثاني أو استخراج دفتر عائلة، كما تعذّر عليها حتى استخراج وثيقة ميلاد لطفلها حديث الولادة، حيث روت لسوريون من أجل الحقيقة والعدالة في هذا الخصوص قائلة:
ج لأجأجل ال “أخبرني المختار أنه لا يمكن أن يمنح طفلي شهادة ميلاد، لأني مازالت على ذمة زوجي الأول في السجلات المدنية والذي لا يمكن أن تصدر له شهادة وفاة في الوقت الحالي بسبب التعليمات الأمنية التي تمنع إصدار شهادة وفاة لمقاتلين سابقين في المعارضة، كما أخبرني بأنه لا يمكن تثبيت واقعة زواجي الثاني حتى تثبت وفاة زوجي الأول، البعض نصحني بأن أرفع دعوى خلع بحق الزوج الأول في أحد المحاكم الشرعية وبذلك أستطيع أن أثبت زواجي الثاني حتى لا يبقَ ابني مكتوم القيد على أقل تقدير، ولكني إلى الآن لم أحصل على تأكيد بهذا الشأن من أحد المحامين.”
قالت الخبيرة القانونية لدى سوريون من أجل الحقيقة والعدالة فإنّ الزوجة في هذه الحالة لا تستطيع هنا رفع دعوى “مخالعة” هنا، حيث يتطلب ذلك حضور طرفي القضية وبناء على رضاهم أو الموكلين من قبلهم تتم المخالعة (تتضمن في إحجى شروطها تنازل الزوجة عن كامل حقوقها)، وحيث أنّ أحد طرفي القضية متوفي (وهو الزوج)، تنصح سوريون من أجل الحقيقة والعدالة برفع دعوى تثبيت وفاة، حيث تضمن الدعوى الأخيرة ضماناً أكثر لحقوق الزوجة، حيث أنّ الحصول على قرار قضائي بثبيت واقعة الوفاة يعني كونها أرملة، وبالتالي تُعتبر منن إحدى الورثة من الزوج الأول، أمّا إلى حصلت على قرار المخالعة، وهو ما يعني التنازل عن جميع حقوقها، حيث سوف تكون هنا مطلقة ولن تحصل على الإرث مثلاً.
وفيما يخصّ قيام الزوجة برفع دعوى “تفريق” قالت الخبيرة القانونية أنّ الزوجة تستطيع رفع هذه الدعوى حتى بغياب الزوج، ولكنّ عادة ما تاخذ هذه الدعوى وقتاً أطول، تتحول فيه الزوجة بعد القرار إلى “مطلقة” وليست “أرملة” من زوجها المتوفي (في الواقع) والذي ما يزال حياً ضمن السجلات الرسمية. |
في شهادة أخرى أدلى بها، “فادي.ز” (33 عاماً) من محافظة درعا، هو الابن الأكبر لعائلته بعد مقتل والده بسقوط برميل متفجّر على حيهم في مدينة داعل عام 2016، وكان قد تمّ حرمانه أيضاً من الحصول على شهادة وفاة لوالده رغم إجرائه اتفاق تسوية مع الحكومة السورية، حيث قال في شهادته لسوريون من أجل الحقيقة والعدالة:
“جميع الأهالي هنا يعرفون والدي، إنه رجل صالح، لم يتدخّل في شيء، ولم ينحز لأي طرف، ومع ذلك مرّ عام كامل على توقيع اتفاق التسوية، ولم أتمكن من استخراج شهادة وفاة بحقه لمتابعة إجراءات حصر الإرث، حيث رفض المختار منحي شهادة وفاة لوالدي، فأنا بحاجة لها كي أتمكن من بيع سيارة والدي لأتمكن من سداد ديون العائلة المستحقّة على أبي، فهي مسجّلة باسمه ولا أستطيع ذلك قبل أن أجري له شهادة وفاة، لهذا تمكنت من إقناع طبيب في الحي منحي شهادة وفاة، من ثم قمت بكتابة ضبط لدى مخفر المدينة، ثم اتجهت إلى السجل المدني وأعلمني الموظف ألا أتعب نفسي وأقوم بمراجعة القضاء، فخشيت من مراجعة القضاء بعد أن أعلمني قريب لي أنهم هناك سيقومون باستجوابي ومعرفة إن كنت مطلوباً لديهم، أو إن كان بحقّي أي تقارير أمنية أم لا، ولا أريد أن أدخل في تفاصيل لا أعلم ما ورائها. لا أعرف لما كل هذا التعقيد، جارنا توفي بنوبة قلبية قام المختار بمنحه شهادة وفاة على الفور.”
-
استصدار بعض شهادات الوفاة بعد اللجوء إلى الرشوة واتّهام “المجموعات الإرهابية المسلّحة”:
في حين تمّ حرمان العديد من النساء والعائلات من استصدار شهادة وفاة لذويهم بناءّ على تعليمات أمنية، رصد الباحث الميداني، بعض الحالات لعائلات تمكنت من استصدار شهادات وفاة لذويهم والذين قد توفوا نتيجة فعل غير طبيعي، لكن بعد رشوة عناصر الشرطة وتغيير سبب واقعة الوفاة، والادّعاء بأنهم قُتلوا بسبب “المجموعات الإرهابية المسلّحة”.
“خالد.خ” من بلدة النجيح في ريف درعا الشمالي الشرقي، قريب لأحد الشبان الذين تمكنوا من استصدار شهادة وفاة لأخيه، رغم مقتله نتيجة كمين أودى بحياته، خلال انخراطه سابقاً في صفوف القتال إلى جانب تنظيم “جبهة النصرة”، حيث كان قيادياً بارزاً في التنظيم كما كان متزوجاً ولديه أربعة أولاد.
أفاد الشاهد بأنه وعقب قتل الشخص المذكور، عزم شقيقه على الزواج من أرملة أخيه، فقام بإجراء تسوية مع القوات الحكومية السورية عقب سيطرتها على محافظة درعا في العام 2018، وبقي في بلدته، حيث أراد أن يثبت واقعة زواجه وأن يصدر بطاقة عائلية، وقد نجح في ذلك بعد أن دفع أموالاً (تتجاوز 200$) لأحد معقبي المعاملات في مدينة إزرع، والذي قام بدوره برشوة عناصر مخفر الشرطة، وتسجيل أسباب الوفاة على أنها نتيجة انفجار لغم أرضي من مخلّفات المجموعات الإرهابية.
وفي حادثة أخرى بريف درعا الشرقي وتحديداً في بلدة المسيفرة، قابل الباحث الميداني لدى المنظمة سيدتين، وهما من ذوي قتلى اثنين من المعارضة المسلّحة، الأول قضى نتيجة المواجهات مع القوات الحكومية السورية في العام 2015، بينما قضى الآخر نتيجة قصف مدفعي من ذات القوات على بلدة المسيفرة في العام 2013، وكلا السيدتين استطاعتا استخراج شهادة وفاة لولديهما، بحسب ما أفادت به إحدى هاتين السيدتين لسوريون من أجل الحقيقة والعدالة، حيث قالت:
“في بداية الأمر لم نكن نعلم أنّ أسباب الوفاة قد تكون عائقاً أمام الحصول على شهادة الوفاة، لذا نصحني الجميع بعدم ذكر السبب الحقيقي وراء موت ابني، حيث اضطررت لإخبار عناصر مخفر الشرطة، بأنه توفي بحادث سير بدراجة نارية، لكنّ العناصر الموجودين في مركز الناحية طلبوا مني أوراقاً كثيرة ومنها شهادة القيادة وأوراق تثبت ملكية الدراجة وطلبوا الكشف على الدراجة النارية، لذا أخبرت عناصر الشرطة آخر الأمر بأنني أبحث عن سبب لوفاة ابني غير السبب الحقيقي، وقد لاحظت استجابة منهم وتعاطفاً كبيراً، فقال لي أحد العناصر: “لتكن إفادتك بأنّ العناصر الإرهابية قد استهدفت البلدة بقذائف المدفعية وتوفى ابنك على الفور نتيجة لذلك، ولكنك بحاجة لشهود اثنين لإثبات ذلك”، وبالفعل اثنين من أقاربي قدّما لي المساعدة في ذلك وشهدا بما طلبه عنصر الشرطة، وقمنا بكتابة ضبط الشرطة وإحضار تقرير طبي من الطبيب الشرعي حول إصابة ابني قبل الوفاة، وقد دفعت مبالغ مالية لا تقلّ عن 100$ للطبيب الشرعي لقاء كتابة التقرير، وإكرامية لعناصر الشرطة في مركز الناحية، وبعد الانتهاء من الإجراءات في الناحية، قمت بطباعة صورة عن الضبط وقدمته لقيادة الشرطة وبعدها للسجل المدني وأكملت كافة الإجراءات هناك بشكل طبيعي.”
وأضافت الشاهدة بأنّ السيدة الأخرى كانت قد اتبعت ذات الأسلوب حتى استطاعت استخراج شهادة الوفاة لابنها، وبأنّ الحصول على شاهدين اثنين لتأكيد حادثة الوفاة ليس أمراً سهلاً لما يترتب على ذلك من مساءلة أمنية في حال حاول أحد ما التدقيق جيداً بأسباب الوفاة.
“فادية.ذ” 51 عاماً، شاهدة أخرى من بلدة المزيريب غرب درعا، كانت أيضاً إحدى النساء اللواتي بدأن في استصدار شهادة وفاة لابنها الذي توفي عام 2013، حين سقطت قذيفة للجيش النظامي السوري على حيّهم، حيث روت لسوريون من أجل الحقيقة والعدالة حول ذلك قائلة:
“حين رفض المختار منحي شهادة وفاة قمت بمراجعة القضاء، وقبل ذلك استشرت بعض المحامين في الأمر، فأخبرني الجميع ألا أقول بأنه توفي برصاص الجيش السوري وإلا سيتم استجوابي ولن أحصل على نتيجة، وبالفعل قلت أنّ ابني توفي بطلق طائش أثناء ذهابه للدكان، وفي المخفر كرّر المحقق السؤال بالقول (رصاص المسلحين؟) قلت له لا أعلم، حينها نظر إليّ قليلاً ثم قال (أكيد رصاص المسلحين يا خالتي ومن غيرهم)، تداركت الأمر وقلت بخوف (أكيد سيدي)، انتهيت من الجزء الكبير من الإجراءات وأنا الآن بانتظار الدراسة الأمنية التي سيقوم بها مخفر البلدة.”
-
عواقب وخيمة تترتب على الحرمان من استصدار وثائق الوفاة/رأي قانوني:
حملت مواد (قانون الأحوال المدنية للعام 2007) في طياته صيغة الإلزام بتسجيل الواقعات، ومنها واقعة الوفاة، ولم تستثنِ أحد من تسجيل واقعة وفاته نظرياً (من المهم الإشارة هنا إلى أنّ مواد القانون قد أشارت صراحة إلى الأسباب الطبيعية في الوفاة، ويبدو أن تصنيف حالات الوفاة بالجنوب السوري تمّ تصنيفها من قبل المخاتير المعينين من قبل الحكومة السورية وبناء على الأوامر التي وصلت إليهم على أنّها حالات غير طبيعية/انظر المادة 37 في الفصل السادس على سبيل المثال).
تعتقد سوريون من أجل الحقيقة والعدالة، أنّ هنالك أسباباً منطقية دفعت آلاف الأسر والعائلات من العزوف على تسجيل واقعات الوفاة بيان العام 2011 والعام 2018، وعلى رأس تلك الأسباب النزاع القائم في البلاد بشكل رئيسي وتبعاته المباشرة؛ من تشريد قسري ونزوح ولجوء إلى بلدان أخرى وانسحاب المؤسسات الخدمية التابعة للحكومة السورية من تلك المناطق بعد خضوع جزء منها لفصائل معارضة سورية، وأجزاء أخرى لسيطرة تنظيمات إرهابية (مثل جبهة النصرة وجيش خالد بن الوليد المبايع لتنظيم الدولة الإسلامية والمعروف باسم تنظيم “داعش”. |
ولكنّ، من المهم الإشارة هنا أيضاً، إلى أنّه وخلال السنوات الأخيرة قد صدر تعميم من وزير الداخلية السوري إلى مديريات السجل المدني، تناول فيه الأشخاص الذين توفوا في ظل ما تمّ وصفه بـ”الظروف” داخل المناطق الساخنة (ومنها المناطق المحاصرة) أنه وبناء على هذا التعميم يستطيع أن يتقدم ذوو المتوفى المكلفون بتسجيل وفاته بمعروض إلى “المحامي العام” وبعدها يتم إحالة هذا المعروض إلى “قسم الجرائم المشهودة” وبعدها إلى “مخفر الشرطة” حيث يتم تنظيم “ضبط الشرطة” بناء على شهادة اثنين من الأشخاص دون الحاجة إلى الكشف عن جثة المتوفى لعدم إمكانية الكشف عنها بسبب الأوضاع التي كانت في المنطقة وبعدها يؤخذ ضبط الشرطة إلى مختار المنطقة وينظم المختار شهادة الوفاة حتى دون حاجة إلى تقرير طبي ويتم أخذ ضبط الشرطة وشهادة الوفاة إلى أمانة السجل المدني ليتم تثبيت الوفاة بشكل رسمي. (ولم تحقق سوريون من أجل الحقيقة والعدالة من تفصيل سبب الوفاة الذي يتم كتابته في محضر تثبيت واقعة الوفاة).
رغم إيجابية صدور مثل هكذا تعميم من وزير الداخلية السوري، إلاّ أنّ سوريون من أجل الحققة والعدالة مازالت تعتقد باستحالة قدرة آلاف الأسر والعائلات من اتباع الإجراءات الواردة في التعميم نفسه، بسبب الأسباب المذكور آنفاً (النزاع وتبعاته). |
أحياناً، قد تبدو القضية وأنّها متعلّقة بشخص لقى حتفه، ولم يتاثر بذلك أفراد آخرون من أسرته وعائلة بذلك، لكنّ الوقائع على الأرض وفي الحياة العملية تقول غير ذلك؛ حيث إنّ عدم تسجيل واقعة الوفاة خاصة للذكور يُنشأ سلسلة متتالية من الصعوبات التي سواف تواجه تواجه أهالي المتوفى وزوجته وأولاده الذين قد تبقى بعض أمورهم الحياتية مرهونة بالحصول على شهادة الوفاة، فمن الآثار السلبية لعدم تسجيل واقعة الوفاة بالإضافة إلى العبء و الضغط المعنوي الذي يعيشونه، حرمان أهالي المتوفى وزوجته و أولاده من استخراج وثائق أساسية؛ منها على سبيل المثال “وثيقة حصر إرث” له بسبب عدم قدرتهم على الحصول على بيان وفاة الذي يحتاجونه للبدء في معاملة حصر الإرث وبالتالي هذا يؤدي إلى عدم قدرتهم على التصرف بتركة المتوفى وأمواله وعدم قدرتهم على نقل تركته وأملاكه التي آلت إليهم إرثاً بعد وفاته إلى أسمائهم وتسجيلها قانوناً، وتبقى هذه الأملاك معلّقة إلى حين إمكانية الحصول على شهادة الوفاة و ذلك يفقدهم حقهم بالتصرف و التمتع بتلك التركة.
و من الآثار السلبية أيضاً التي تنجم عن عدم القدرة على تسجيل واقعة الوفاة وتنعكس على أولاد المتوفى و زوجته في حال كان الزوج موظفاً أو عاملاً لدى الإدارات والجهات العامة الحكومية، هو عدم قدرتهم على الحصول على مرتب الزوج أو معاشه التقاعدي الذي هو من حقهم بعد وفاته والذي يساعدهم في سد بعض الأعباء المادية الملقاة على عاتقهم، وكذلك عدم قدرتهم الإستفادة من الخدمات والمعونات المالية التي تقدمها بعض الجمعيات الخيرية لأولاد المتوفى الأيتام.
و إن عدم تسجيل واقعة الوفاة يثير أيضاً أمر هام بالنسبة للمرأة وهو حرمانها من الزواج ثانية إذا أرادت ذلك والالتفات إلى حياتها الخاصة بعد وفاة زوجها حيث أنها تبقى على قيود زوجها المتوفى وتبقى رهينة زواج منتهي في الواقع الذي يضطرها إلى اللجوء للطريق القضائي الذي يأخذ وقت لحل تلك الإشكالية.
وأيضاً من الآثار السلبية التي تترتب على عدم تسجيل واقعة الوفاة حرمان الزوجة من استصدار جوزات سفر لأولادها القاصرين والتنقل بهم اذا أرادت السفر في حال لم يكن جد الأولاد أو أعمامهم داخل القطر للإنابة عن الأب في هذا الأمر والحصول على موافقتهم حسب القانون السوري الذي يفرض تلك الموافقة حيث أنها تحتاج إلى وثيقة تثبت وفاة زوجها لتعيينها من قبل القاضي الشرعي وصية على أولادها تسمح لها باستخراج جوازات سفر لهم و الحصول على تأشيرة السفر.
تنصّ (المادة 20) في الفصل الثالث/أحكام التسجيل في السجل المدني، إلى ألزامية تسجيل الواقعات داخل سوريا (بعد انقضاء المدّة القانونية/المقصود بها هنا الثلاثة أشهر/وقبل مرور سنة عليها) بموجب ما أسمته بالمحضر الإداري لدى أمين السجل المدني المختص، فيما قالت الفقرة (12) من تعليمات (المادة 20) إلى وجود فتح “ضبط شرطة” بعد مرور فترة السنة، واستثنت من ذلك الوفيات التي تمّ إثباتها بقرار قضائي. (جميع الحالات المذكورة في هذا التقرير والمشابهة لها، تجاوزت فترة السنة، وعليه فإنّ فتح “محضر إداري” غير وارد كأحد الحلول، فيما يبدو أن الطريق الوحيدة المتبقية هي محاولة استصدار قرار قضائي.
-
تبريرات السجل المدني في محافظة درعا:
يعزو موظفو السجل المدني في درعا هذ القرار، على أنه منعاً للتزوير في ظل ظروف أصبح فيها من غير السهل إحصاء المتوارين أو المطلوبين أو الفارين بطرق غير شرعية، حيث روى أحد موظفي السجل المدني لـ “سوريون من أجل الحقيقة والعدالة”:
“لا يعدّ الإجراء مُجحفاً بحق السكان، فهناك كثر ممن هاجروا بطرق غير شرعية أو المطلوبين بتهم إرهاب وبحقّهم دعاوي حق شخصي، لهذا يحاول البعض التهرب من التزاماتهم القانونية كالتهرب من الخدمة الالزامية مثلاً بمحاولة ذوي الشخص إخراجه من السجلات الحكومية كمتوفي، في حين يتبّين أنّ الشخص خارج البلاد بطريقة غير شرعية، فيما يُعتبر التفافاً حول العدالة بحقّ أشخاص مطلوبين للجهات المختصة. لهذا الأمر تم منع استخراج شهادات وفاة من قبل المختار لمن كانت وفاته بشكل غير طبيعي.”
[1] سيطرت القوات الحكومية السورية على الجنوب السوري (درعا والقنيطرة)، بموجب اتفاق تسوية ما بينها وبين فصائل المعارضة السورية المسلّحة في شهر تموز/يوليو 2018، وقد تمّ هذا الاتفاق على ثلاثة مراحل وبضمانة الشرطة العسكرية الروسية، حيث شملت المرحلة الأولى الريف الشمالي ومنطقة اللجاة في درعا، فيما شملت المرحلة الثانية باقي المحافظة عدا حوض اليرموك (والذي سيطرت عليه القوات النظامية السورية في بداية شهر آب/أغسطس 2018) في حين شملت المرحلة الثالثة محافظة القنيطرة.
[2] الأسرة: المجموعة المؤلفة من الأب والأم والأولاد./العائلة: مجموعة الأسر التي تنتسب إلى أصل واحد.
[3] “بيان الوفاة” هي الوثيقة التي يتم منحها للأسر والعائلات من دوائر السجل المدني و/أو مراكز خدمة المواطن وهي تثبت واقعات الوفاة، أمّا “شهادة الوفاة” وهي الوثيقة التي يحصل عليها المواطن العادي من المشافي أو المخاتير لتثبيت واقعة الوفاة لدى السجلات المدنية.
[4] البيان: وثيقة تصدر عن أمانة السجل المدني لواقعة محددة./الواقعة: كل حادثة أحوال مدنية من ولادة أو وفاة أو زواج أو طلاق وما يتفرع عنها.
[5] سيطرت المعارضة المسلحة على الجنوب السوري منذ نيسان/أبريل 2012 وحتى آب/أغسطس 2018.
[6] وهي مرتبطة مباشرة بإداة الشؤون المدنية، المرتبطة مباشرة بوزارة الداخلية السوري. علماً أنّ هنالك (16) أمانة مرتبطة بمديرية الشؤون المدنية في درعا، و(4) أمانات مرتبة بمديرية الشؤون المدنية في القنيطرة. للمزيد انظر: http://www.civilaffair-moi.gov.sy/site/arabic/index.php?node=5518&cat=14768&.
[7] يقصد بالوفاة الطبيعية، كل وفاة ناجمة عن عارض طبيعي كالوفاة جراء المرض أو الشيخوخة أو ما إلى ذلك، في حين يشار إلى الوفاة غير الطبيعية الى كل وفاة ناجمة عن الاحداث العسكرية في المنطقة منذ سيطرة المعارضة على المحافظة، كالوفاة بالقصف او جراء القتال إلى جانب أحد فصائل المعارضة أو جراء انفجار لغم أرضي أو حتى رصاص طائش.
[8] قانون الأحوال المدنية الصادر بالمـرسـوم التشـريعـي رقم /26/ لعام 2007. موقع وزارة الداخلية التابعة للحكومة السورية. 4 كانون الأول/ديسمبر 2007. (آخر زيارة للرابط: 17 نيسان/أبريل 2020). http://www.syriamoi.gov.sy/portal/site/arabic/index.php?node=55333&cat=1831&.
[9] على سبيل المثال، تتطلب هذه المعاملة في شرطها الأولي (بيان عائلي : للمتوفى).
[10] تشمل هذه الأرقام القتلى من الرجال والنساء والأطفال، ويشكل “تجمّع أحرار حوران” و “مركز توثيق الانتهاكات في سوريا” المصدر الأساسي لهذه الإحصائية.
[11] التقى الباحث الميداني خلال بحثه (6) مخاتير في درعا (3) منهم في حوض اليرموك، و (2) في منطقة الجيدور و(1) في غرب درعا.
[12] قصد الباحث الميداني في عبارة (الجهات المعنية) أي الجهات التي أصدرت قراراتها بمنع منح شهادات وفاة لذوي المتوفي، حيث قال البعض إن تلك القرارات تلقوها شفوية إما عن طريق الجهة الأمنية في البلدة، وبعضهم عن طريق مخفر الشرطة والبعض عن طريق السجل المدني (الأمانات/مديريات الشؤون المدنية).
[13] يجب التمييز ما بين تثبيت واقعة الوفاة عن “طريق القضاء” وما يسمّى بـ”الطريق الإداري” في تثبيت الواقعة، حيث يُقصد بـ”طريق القضاء” أي تثبيت الواقعة من خلال رفع دعوى أمام “القضاء الشرعي” يتم من خلالها الحصول على قرار قضائي يبدأ برفع دعوى “تثبيت واقعة وفاة” يتم من خلاله إصدار حكم محكمة بالواقعة ومنه يتم إلزام الأمانات ودائرات السجل المدني بتثبيت الواقعة. وعادة ما يكون الطريق الإداري هو الأسهل والأقل تعقيداً والأوفر للجهد والوقت، وهو الذي يعتمد على استخراج ضبط شرطة وشهادة وفاة من المختار (كما هو منصوص في القوانين الناظمة).
[14] تشمل هذه الأرقام القتلى من الرجال والنساء والأطفال، ويشكل “تجمّع أحرار حوران” و “مركز توثيق الانتهاكات في سوريا” المصدر الأساسي لهذه الإحصائية.