الرئيسية صحافة حقوق الإنسان بين الخطاب الإصلاحي والقمع الفعلي: كيف تعاطت “هيئة تحرير الشام” مع احتجاجات إدلب

بين الخطاب الإصلاحي والقمع الفعلي: كيف تعاطت “هيئة تحرير الشام” مع احتجاجات إدلب

في محاولة لقمع الحراك في شمال سوريا عمدت "الهيئة" إلى استخدام العنف المفرط ضد المتظاهرين/ات وتنفيذ اعتقالات تعسفية واسعة

بواسطة communication
207 مشاهدة تحميل كملف PDF هذا المنشور متوفر أيضاً باللغة: الإنجليزية حجم الخط ع ع ع
  1. خلفية:

بتاريخ13  أيلول/سبتمبر 2024، شهدت محافظة إدلب بشمال غرب سوريا موجة احتجاجية واسعة النطاق، شملت مدينة إدلب، وكل من مناطق كللي، وبنش، وقورقانيا، وكفرتخاريم وأرمناز في ريف المحافظة، وامتدت المظاهرات إلى مناطق في ريف حلب الغربي.

تأتي هذه الاحتجاجات استمراراً لحراكٍ شعبي بدأ منذ نحو سبعة أشهر، وتحديداً في أواخر شباط/فبرار 2024، ضد “هيئة تحرير الشام” وقائدها “أبو محمد الجولاني”، وكلاهما على قوائم الإرهاب، مطالبةً بإسقاط الأخير. وأسست “الهيئة” بقيادة “الجولاني” في كانون الثاني/يناير عام 2012، تحت مسمى “جبهة النصرة لأهل الشام” التابعة لتنظيم “القاعدة” الجهادي العالمي.

وتسيطر “الهيئة” على مناطق واسعة في شمال غرب سوريا، وتتوزع بين محافظة إدلب ومناطق في ريف محافظتي حلب واللاذقية. ويعيش في محافظ إدلب وحدها، أكثر من 4.5 مليون شخص أغلبهم من النازحين، بحسب منظمة “أطباء بلا حدود”.

في إدلب، تهيمن “الهيئة” على الجوانب العسكرية والأمنية، من خلال جناحها العسكري و”جهاز الأمن العام”، وكذلك الخدمية والإدارية، عن طريق واجهتها المدنية، “حكومة الإنقاذ السورية”. وقد توصلت “الهيئة” إلى حالة السيطرة هذه عام 2019، بعد أن أزاحت منافيسيها من الفصائل العسكرية الأخرى في المنطقة.

رافقت حالة الهيمنة، تضييق أمني وإداري وقانوني في محاظة إدلب، وسط انتهاكاتٍ حقوقية كثيرة بحق السكان لم تطلها المحاسبة، واقتصر الرد عليها من قبل المدنيين بمظاهراتٍ قليلة خلال السنوات الماضية، كانت أكبر مطالبها رحيل “الهيئة” عن إدلب، دون المساس بـ”الجولاني”، وردت عليها “الهيئة” باعتقال بعض الناشطين المشاركين دون مذكرات قضائية، أو المنتقدين على وسائل التواصل الاجتماعي، أو بإطلاق نار لتفرقة المجتمعين.

دون رد فعل مدني ملحوظ على الانتهاكات، اقتصرت المعارضة لحكم “الهيئة” على النواحي الإيديولوجية، ومن قبل “حزب التحرير”، والذي “يروج لخطاب يدعو إلى إعادة الخلافة الإسلامية”. واجهت “الهيئة” نشاط الحزب بحملات اعتقال مكثفة عام 2023، غالباً ما تبعتها مظاهرات لنساء المعتقلين طالبن فيها بالإفراج عن أزواجهن وايضاً “بإسقاط الجولاني”.

من الداخل، بقيت سلطة “الهيئة” مستقرة أيضاً، حتى بدأت بسلسة من الاعتقالات ضد أمنيين وقياديين بارزين في صفوفها في الربع الثاني من عام 2023، بتهمة “العمالة للخارج وإساءة التواصلات”. وكان من بين المعتقلين قياديها العراقي السابق “أبو ماريا القحطاني”، والذي احتجزته لمدة 6 أشهر قبل أن تفرج عنه في آذار/مارس 2024، ليقتل بعدها في نيسان/أبريل 2024، في انفجار حزام ناسف في إحدى المضافات في مدينة سرمدا، بريف إدلب. جاء الإفراج عن “أبو ماريا القحطاني” وغيره من المعتقلين بعد رضوخ “الجولاني” لضغط من أنصارهم ضمن “الهيئة”، لاسيما وأن حملة الاعتقالات كانت قد وصفت بأنها “خشية أو استباقا لانقلاب كان يجهز له القيادي العراقي”. وكان “القحطاني” مسؤول “الهيئة” عن ملف التواصل مع الجهات الخارجية، مثل فصائل “الجيش الوطني السوري/المعارض”، وكذلك صفقات تبادل الأسرى مع الحكومة السورية وغيرها من أطراف النزاع.

عملت “الهيئة” على إغلاق ملف “العمالة” في شباط/فبراير 2024، وتعهد “الجولاني” بمحاسبة من ارتكبوا تجاوزاتٍ بحق المعتقلين، ومنها “التعذيب”. غير أن الاضطرابات الداخلية في “الهيئة” والاعتقالات، مع غياب الإحصائيات عن عدد المعتقلين أو المفرج عنهم، حملت بذور الاحتجاجات الأحدث المناهضة لـ”الهيئة”، والتي بدأت مع اكتشاف عائلة مقتل ابنها بتاريخ 24 شباط/فبراير 2024، بسبب التعذيب في سجن تابع لـ”الهيئة”، بعد اعتقاله لنحو 10 أشهر لذات التهم. كان الضحية، عبد القادر الحكيم، المدعو بـ”أبو عبيدة تل حديا”، عنصراً في فصيل “جيش الأحرار”، الذي يتلقى دعم عسكري من “الهيئة”، كونه أحد الفصائل المنضوية في غرفة عمليات “الفتح المبين التي تديرها. وقد اعتقل “أبو عبيدة” من قبل “جهاز الأمن العام” التابع للهيئة في أيار/أبريل 2023، بسبب خلافاتٍ مع أحد فصائلها الذي سيطر وقتها على ريف حلب الشمالي، ورفضه دخول عناصرها إلى قريته، تل حديا، لاعتقال أشخاص منها، بحسب ما قالت مصادر لموقع “عنب بلدي”.

وبحسب الموقع ذاته، رفضت عائلة الضحية إقامة مراسم عزاء دون جثة، فأرشدتهم “الهيئة” إلى موقع القبر بمنطقة الشيخ بحر، بريف إدلب الغربي، حيث دفنت الشاب. نقلت مجموعة عسكرية من “جيش الأحرار” الجثة، شيعتها في عدة مناطق من ريف إدلب، وأعادت دفنها شرقي المدينة. تخللت التشييع هتافات ضد “الهيئة” وقائدها، وساد الغضب بأوساط أهالي تل حديا وريف حلب الجنوبي عموماً، خاصةً “بعد أن تبيّن أن الهيئة جهّزت قبراً وشاهدة باسم الشاب وتاريخ وفاته بوقت حديث، أي بعد فضح مصيره”.

امتدت حالة الغضب إلى مناطق أخرى في إدلب، لتتحول في الـ25 من شباط/فبراير 2024 إلى حراك احتجاجي ضخم، تمثل بسلسة من المظاهرات كل يوم جمعة، كانت أولها مظاهرة في دوار مدينة سرمدا الرئيسي. وفيما كانت مجمل المظاهرات مدنية سلمية تماماً، تم اختراق بعضها من قبل جماعات لها أهداف محددة، مثل “حزب التحرير”.

في هذا التقرير، تتناول “سوريون” الاحتجاجات ومطالب المتظاهرين في مناطق سيطرة “الهيئة”، ورد الأخيرة على التحرك المدني غير المسبوق؛ بالاستناد إلى ستة مقابلات مع ناشطين ومتظاهرين ينحدرون من أو يقيمون في إدلب؛ تعرض اثنان منهما للاعتقال على خلفية نشاطهم السلمي. خلال أخذ موافقتهم المستنيرة، اطلع جميع من قابلناهم على الطبيعة الطوعية للمقابلة وطرق استخدام المعلومات التي شاركوها، ومن ضمنها نشر هذا التقرير؛ آثروا جميعهم عدم مشاركة أسمائهم أو أية تفاصيل قد تدل على هوياتهم خوفاً من أعمال انتقامية قد تطالهم من الأجهزة الأمنية التابعة لـ”الهيئة”؛ وعليه استخدمت “سوريون” أسماء مستاعرة للإشارة إليهم.

فيما وثقت “سوريون” سابقاً، ضلوع “الهيئة” بعمليات إخفاء قسري أيضاً على خلفية تهم “العمالة” أو ضد منتقديها، طالت إحداها ناشطاً اعتقل عام 2015 وظل مصيره مجهولاً حتى عام 2021، حين علمت عائلته أنه محتجز في أحد سجون “الهيئة” بإدلب.

  1. أسباب الاحتجاجات ومطالبها؟

سلط النشطاء والمتظاهرون، اللذين قابلتهم “سوريون” لغرض هذا التقرير، الضوء على الوضع تحت سيطرة “الهيئة” في مدنهم، ومجموعة الممارسات القمعية التي طالت السكان في كل منطقة، والتي شكلت حالة تراكمية دفعت بالأهالي للإحتجاج. من مدينة كفر تخاريم، قال حازم العبد الله،[1] أحد نشطاء الحراك، أن أسباب المظاهرات تعود لعام 2019، بعد أن انتزعت “الهيئة” السيطرة من “فيلق الشام”، واستأثرت بالجوانب الأمنية والعسكرية والخدمية والإغاثية والمؤسساتية، مضيفاً:

فأصبحت تمارس ضغوط كبيرة بحق أبناء المدينة الذين مانعوا سيطرتها في بداية دخولها، من اعتقال بعض الشخصيات الثورية التي عارضت دخولهم والسيطرة، وحرمان من دعم مادة الطحين للأفران، التحكم بمياه المدينة (مياه الشرب، من خلال قطع المخصصات عن الحارات والمنازل التي سكنها معارضون)، إغلاق المؤسسات التي انشأت ثورياً (أي بعد خروج المدينة عن سيطرة قوات الحكومة السورية) والتي كان هدفها تقديم الخدمات للساكنين، إغلاق جامعة الطب البشري التي كانت تضم حوالي 600 طالب، فقد لأنها  تتبع للحكومة السورية المؤقتة وغيرها الكثير”.

يقول حازم أن الأهالي لم يقاوموا الانتهاكات خوفاً من الاعتقال،  ولكن التحركات الأخيرة في مدن إدلب الأخرى دفعت بهم للمطالبة بحقوقهم، لتشهد المدينة أول مظاهرة بتاريخ 8 آذار/مارس 2024، طالب المتظاهرون خلالها بـ:

“إلغاء الضرائب المفروضة على الجميع، إنهاء سلطة المكتب الأمني على عوائل المدينة، حل جهاز الأمن العام، وتشكيل مجلس شورى داخلي ضمن مدينة كفرتخاريم للتشارك في حل أمور المدينة و المشاركة في إدارتها”.

وقد فرضت “الهيئة”، من خلال “حكومة الإنقاذ”، إتاواتٍ باهظة، تحت مسمى  الضرائب أو الرسوم، على مجموعة من القطاعات في مناطق سيطرتها غير آبهة بالظروف المادية والمعيشية المتردية التي يعاني منها السكان والنازحون على حدٍ سواء، وشملت الضرائب قطاعات البناء، الشحن والحوالات والصرافة، النظافة، واستيراد الأدوية، انتاجها وتخزينها.

أضاف حازم أن المتظاهرين لم يتعرضوا لأي اعتداءات من قبل أمنيّ “الهيئة”، ولكن:

“أتاني شخص في مساء اليوم ذاته (مساء المظاهرة الأولى)، وهو من المقربين من أحد عناصر جهاز الأمن العام، وقال أن من المشاركين في المظاهرة عناصر من الهيئة وقاموا بتصوير عدة أشخاص شاركوا بالمظاهرة، ليتكون لديهم معلومات عن رؤوس الحراك في المدينة، و أخبرني أن صورتي من بين الصور الملتقطة … وبعد سماعي لهذه المعلومات، قررت أن أتوارى عن الأنظار نسبياً، وأن أقوم بالعيش خارج منزلي خوفاً من غدر هيئة تحرير الشام من اعتقال أو خطف أو قتل حتى”.

وتشابهت دوافع المحتجين في مدينة مدينة أريحا بإدلب، حيث تحدث مصعب حداد،[2] أحد نشطاء الحراك، عن الأسباب التي دفعت بالأهالي إلى الشوارع، قائلاً أن “الهيئة” منذ أن سيطرت على المدينة، فرضت نظامها على كافة المؤسسات ووضعت شروطاً تعجيزية على العمل فيها، واستبدلت الموظفين السابقين بأشخاص مقربين أو موالين لها لتستطيع فرض أحكامها بما يتماشى مع مصالحها، وفرضت ضرائب طالت “أدنى مقومات الحياة”، كما أنها:

“قامت من خلال مكتبها الأمني، باعتقال عدة أشخاص ثوريين قد ناهضوا وعارضوا دخولها حين سيطرت على مدينة أريحا، وهم من الأشخاص الثائرين، الذين لهم صراع طويل مع نظام الأسد”.

خرجت المظاهرة الأولى في أريحا بتاريخ 4 آذار/مارس 2024، ووفقاً لمصعب طالب خلالها المحتجون:

” بالإفراج عن المعتقلين بشكل كامل، وإلغاء الضرائب على المدنيين المتواجدين تحت سيطرة الهيئة، وفرض حصانة خاصة للنشطاء والصحفيين وتحريرهم من الرقابة الأمنية التي تمارسها الهيئة”.

هذا ويتعرض الصحفيون والإعلاميون لاستدعاءات متكررة من قبل “جهاز الأمن العام” بغرض التحقيق بنشاطهم الإعلامي، وفي بعض الحالات للاحتجاز من قبل حواجز “الهيئة” المنتشرة في المحافظة، بحسب ما وثقته “سوريون” بداية عام 2024.

نوه مصعب أن الاحتجاجات لم تشهد أية أعمال عنف أو هجوم مباشر في البداية، حيث اكتفت “الهيئة” بإرسال وفود وأعيان شعبية مؤيدة لها إلى المتظاهرين لتسمع مطالبهم، مضيفاً: “ولكن كان دور اللجان والوفود محدود، لا يستطيعون أن يحققوا مطالبنا”.

وبدوره قال المتظاهر سعيد يحيى، وهو عامل بناء مهجر من حماه إلى مدينة جسر الشغور،[3] أن المدينة شهدت أولى المظاهرات بتاريخ 3 أيار/مايو 2024، وأن ما دفع الأهالي للاحتجاج، بالإضافة إلى قبضة “الهيئة” المشددة عسكرياً وأمنياً ومؤساساتياً، هو:

“زجها بعوائل مقاتليها في هذه المنطقة سواء المهاجرين أو السوريين، فنتج عن ذلك عدة مشكلات بيننا و بينهم، على كافة المستويات المدنية. حيث كانوا يقومون بتوجيه جميع الاغاثات من المنظمات لعوائل مقاتليهم، دون مراعاة أمور تهجيرنا وحاجتنا، بالإضافة الى استعلاء العناصر على المهجرين تحديداً ومضايقتهم بكافة السبل، تحت ذريعة لقد بعتم بلادكم وأتيتم إلينا، و تهم كثيرة أخرى … بالإضافة إلى تسلط المكتب الامني للهيئة في مدينة جسر الشغور على المدنيين، حيث كان أمير المكتب الأمني يدعى (أبو الأشبال المهاجر)، قد قام بعدة عمليات اعتقال وإخفاء وقتل لأشخاص مدنيين تحت زريعة تنفيذ الحكم الشرعي على الأرض”.

وخرجت أول مظاهرة من مدينة بنش في شهر شباط/فبراير 2024، مدفوعةً بممارسات “الهيئة” الجائرة منذ أن سيطرة على المدينة “بقوة السلاح”  كما يقول راضي صالحة،[4] أحد نشطاء الحراك، الذي أضاف أن “الهيئة”، بعد فرضها هيمنتها العسكرية:

“التفت حول المؤسسات المدنية الثورية، فقامت بالغائها بشكل كامل .. لتستبدل هذه المؤسسات بمكاتب ودوائر تتبع بشكل مباشر لحكومة الإنقاذ .. مما خلق حالة فوضى وانقسامات داخلية… وأيضاً كان للهيئة دور كبير في اعتقال عدد كبير من أبناء مدينة بنش، عبر جهازها الأمني الممثل بجهاز الأمن العام، فكانت تقوم باعتقال أي صوت يخرج و يغرد خارج سربها أو أفكارها، عن طريق استخدام اتهامات ملفقة ضد الشخص لتتمكن من سجنه و تعذيبه في سجونها، فاعتقلت الكثير خلال هذه السنوات، منهم من خرجوا و منهم لا توجد عنه أخبار الى الأن”.

يقول راضي أن أهالي المدينة رضخوا لكافة شروط الهيئة خوفاً من من “بطشهم و اجرامهم اللا محدود”، إلى أن داهم أمني الهيئة منزل أحد نشطاء المدينة “لأسباب مجهولة” وقاموا بضرب إحدى النساء في المنزل، فانتفض الأهالي وقاموا بطرد العناصر، لتنضم بعدها المدينة إلى الحراك في باقي مناطق إدلب. لم تمارس الهيئة أي عنف ضد متظاهري بنش في البداية، ولكنها أرسلت تهديداتٍ شفهية، وفقاً لراضي، الذي قال:

“اكتفت بإرسال رسائل شفهية عن طريق أعيانها ومؤييدها بأنها سوف تتدخل أمنياً في حال استمرت هذه الفوضى في المنطقة وأنها سوف تضرب بيد من حديد على كل من يعطل حياة المدنيين المؤسساتية، وأن المظاهرات أصبحت مرخصة، وأي مظاهرة دون ترخيص رسمي من الهيئة، سيتم التعامل مع المتظاهرين امنياً وقضائياً”.

وبحسب راضي، نفذت “الهيئة” التهديدات وتحولت إلى استخدام العنف والقوة المفرطة ضد المتظاهرين خلال مظاهرة ضخمة بتاريخ 17 أيار/مايو 2024؛ وهو تحول شهدته كافة نقاط التظاهر حول إدلب خلال الشهر ذاته.

  1. التحول إلى العنف:

بغرض وضع حد للاحتجاجات، تبنت الهيئة خطاباً “إصلاحياً” في البداية، حيث أعلن رئيس المجلس الأعلى للإفتاء في “الهيئة”، عبد الرحيم عطون، في بيانٍ نشر بتاريخ 1 آذار/مارس، عن سبعة  خطوات لتناول ملف المعتقلين، شملت تعهداً بزيارة السجون، إصدار عفو عام عن المعتقلين وتشكيل “لجنة قضائية” للنظر نظر في حقوق المفرج عنهم، وفيما تعرضوا له، ومحاسبة المتورطين في تجاوزات بحقهم.

بعدها بأربعة أيام، بتاريخ 5 آذار/مارس، أصدرت “حكومة الإنقاذ” مرسوم عفو عن مرتكبي الجرائم، الذي قضى بالإفراج عن فئات من المعتقلين وفق شروط واستثناءات محددة. وقال وزير الداخلية في الحكومة، محمد عبد الرحمن، أن الوزارة أخلت سبيل 420 سجيناً، بمقتضى المرسوم، متعهداً بإخراج آخرون شملهم العفو.

وبتاريخ 6 آذار/مارس، عقد “مجلس الشورى العام” و”حكومة الإنقاذ”، لقاء مع ممثلين عن الحراك، حضره “الجولاني”، وقال فيه: “إن من الواجب على أي سلطة الاستماع إلى مطالب الناس وتنفيذ المحقة منها”، مضيفاً: “لسنا متمسكين بأي شيء على الإطلاق، أسهل شيء أن نترك السفينة تسير لوحدها”. وفي الـ13 من آذار/مارس، دعا “الجولاني” “مجلس الشورى” إلى “إجراء انتخابات مبكرة، وإعادة النظر في القانون الانتخابي وآلياته، بما يضمن توسيع التمثيل للإهالي”.

وفي ذات الشهر، بتاريخ 23 آذار/مارس، أعلن “مجلس الشورى” عن تأسيس ثمان لجان موزعة على المناطق في “المحرر” كافة، مدعياً أنها عقدت اجتماعاتٍ مع الأهالي وحلت “25 بالمئة من القضايا التي وردتها”.

وبتاريخ 8 أيار/مايو 2024، أعلن بعض النشطاء المستقلين عن تشكيل “تجمع الحراك الثوري” في والذي كان الغرض منه، وفقاً للناشط حسن فواز،[5] المهجر إلى إدلب المدينة من جوبر في دمشق، توحيد الصف والمطالب والأهداف، وكذلك حماية الحراك من الفوضى والاستغلال من قبل أحزاب “تريد ركوب الشارع وحرف البوصلة من جديد”، مضيفاً أن التجمع جاء رداً على:

 “تجاوب بسيط و خجول من الهيئة، حيث قامت بالإفراج عن بعض المعتقلين الذين كانوا قد سجنوا من أجل قضايا لا تمس الهيئة أو الرأي العام بشكل مباشر، وكانت هنالك جلسات حوارية مخجلة مع شخصيات تتم دعوتها فقط للتطبيل للهيئة، دون دعوة رموز الحراك أو أحد وجهائه، بنية التهميش، وتلميع صورة الهيئة أمام الإعلام والعالم … أدت هذه التصرفات الاستفزازية إلى اتساع رقعة المعارضين المتظاهرين ضدها، وخلق حالة احتقان شعبي جديدة في المنطقة”.

تلا ذلك تغيراً واضحاً في خطاب “الهيئة” اتجاه المحتجين، حيث عمدت إلى استخدام القوة المفرطة في قمع المتظاهرين، بدايةً من مظاهرة في إدلب المدينة بتاريخ 14 أيار/مايو 2024، فانتشرت فيديوهات على وسائل التواصل الاجتماعي، ظهر فيها عناصر ملثمين ومسلحين، تبين لاحقاً انتمائهم إلى “إدارة الأمن العام” في وزارة الداخلية التابعة لـ”حكومة الإنقاذ”، يعتدون بالضرب على المتظاهرين، الذين تعرض عدد منهم لإصابات.

في اليوم التالي، بتاريخ 15 أيار/مايو، وصف “الجولاني” الاحتجاجات بأنها “حالة تجاوزت حدها الطبيعي”، وأن “المطالب قد انحرفت عن مسارها الحقيقي”، قائلاً: “حذرنا سابقاً أن أي مساس بالمصالح العامة، والقواعد العامة للمحرر هو تجاوز لخطوط حمراء. ستتحرك السلطة لمواجهة هذا الأمر“. فيما هدد وزير الداخلية في “حكومة الإنقاذ”، محمد عبد الرحمن، المتظاهرين بـ”الضرب بيد من حديد على كل يد تريد العبث في أمن وأمان المحرر وجره إلى الفتنة”.

وفي اليوم نفسه، شهدت مدينة جسر الشغور اعتداءت على المتظاهرين خرجوا من جامع “الجسر الكبير” باتجاه الساحة الرئيسة في المدينة، والتي وصفها، سعيد، مؤكداً أن المتظاهرين حملو أعلام الثورة ولافتات لم تحمل أي منها شتائم، ليفاجؤوا بقدوم رتل من “جهاز الأمن العام”:

“قام العناصر باطلاق النار بالهواء لتفريق المظاهرة … بالاضافة لاستخدامهم الهروانات المطاطية والعصي الخشبية، ووصل بهم الحال إلى إطلاق قنابل غاز مسيلة للدموع … وعندما أصبحت الفوضى كبيرة، تقدمت سيارات مكافحة الشغب والمدرعات الأمنية متوجهة بشكل مباشر إلى المتظاهرين … حيث قامت مدرعة بدهس شخصان أمام عيني، كانا هاربين من عناصر الهيئة، فقامت المدرعة بدهسهم ورميهم على الأرض على بعد عدة أمتار، وقام على الفور العناصر باعتقالهم ووضعهم بالفانات”.  

قال سعيد أن العناصر اعتقلوا عدداً من المظاهرين، وحاولوا اعتقال ابن أخيه القاصر (14 عاماً) بعد ضربه، موضحاً:

“سببوا له كسر في القدم بسبب ضربه بالعصي الخشبية. عندما قاموا بتكبيله لاعتقاله، هجم المتظاهرون على العناصر الخمسة، فهربوا مسرعين ليختبؤا خلف السيارات الخاصة بهم، ليأتي بعدها تعزيزات أمنية كبيرة انتشرت في المنطقة وفرضت طوقاً امنياً بعد هروبنا جميعاً”.

تلت تصريحات “الجولاني” و”حكومة الإنقاذ”، مجموعة من الإجراءات المشددة في الـ17 من أيار/مايو 2024، حيث بدأ الجهاز الأمني والجناح العسكري في “الهيئة” بفرض طوق أمني في إدلب المدينة، من خلال نشر الحواجز وتقييد حركة السكان، قبيل ساعات من مظاهرات يوم الجمعة، ومنعوا المدنيين من المدن الأخرى من الدخول إليها إلا وفق استثناءات، تشمل بشكل رئيسي عائلات عناصر “الهيئة”.

وفي ظل التصريحات، تكرر مشهد العنف في جل المناطق التي شهدت احتجاجات، ومن بينها مدينة بنش، خلال مظاهرة بتاريخ 17 أيار/مايو 2024. تحدث عنها راضي:

“تجاهلنا كل هذه التهديدات … وخرجنا في مظاهرة ضخمة فما كان من الهيئة سوى ان تتدخل أمنياً بشكل سريع، وتقوم بالهجوم على المتظاهرين عبر جهاز الأمن العام، فقامت بضرب المتظاهرين وتعذيبهم جسدياً في الطرقات، وقامت بإطلاق القنابل الغازية المسيلة للدموع، وايضاً قامت عبر مدرعاتها بدهس عدد كبير من المتظاهريين المدنيين، بالإضافة لمحاولات دهس أخرى للمصورين والصحفيين وكان من بينهم الصحفي (عمر حاج قدور)”.

أضاف راضي أن جهاز الأمن اعتقل سبعة أشخاص يومها، وكرر ذات الاعتداءات في المظاهرة التي شهدتها المدينة بتاريخ 27 أيار/مايو 2024، وهو ما دفع المحتجين للتظاهر مساءً فقط، ووفق جدول عفوي دون التصريح عن موعد التجمعات.

وفي الـ29 من أيار/مايو 2024، نشرت السفارة الأمريكية في سوريا، على حسابها في منصة “X”  بياناً، قالت فيه: “نحن ندعم حقوق جميع السوريين في حرية التعبير والتجمع السلمي، بما في ذلك في إدلب. نحن نستنكر أسلوب الترهيب والوحشية على غرار النظام الذي تمارسه هيئة تحرير الشام ضد المتظاهرين السلميين وهم يطالبون بالعدالة والأمن واحترام حقوق الإنسان”.

  1. اعتقالات تحت غطاء قضائي:

 وبتاريخ 24 أيار/مايو، شنت الأجهزة الأمنية التابعة لـ”الهيئة” حملة اعتقالات ضد عدد من النشطاء المنخرطين بتنظيم الحراك، بموجب “مذكرات قضائية”، التي تناولها وزير الداخلية في بيان تصعيدي آخر ضد المتظاهرين. حيث اتهم محمد عبد الرحمن، المتظاهرين بأنهم شجعوا “على حمل السلاح والأحزمة الناسفة”، مضيفاً، “فكان لابد لنا من عرض الأمر على النائب العام الذي بدوره أعطى الإذن بتوقيف عدد من الشخصيات المتسببة بهذا الأمر وسيتم إحالتهم للقضاء المختص أصولاً”.

وسبق لجوء الهيئة للقضاء، كما قال عدد من مصادر التقرير، إقدامها على اعتقالات عديدة بحق متظاهرين أو ناشطين منخرطين بتنظيم الحراك، وكان من بينهم، الناشط حسن، الذي اعتقل بتاريخ 27 أيار/مايو 2024 من منزله بإدلب من قبل عناصر مسلحين وملثمين وتصحبهم عربات عسكرية. بقي حسن معتقلاً لمدة 12 يوماً تقريباً، قضاها في منفردة في الفرع 107، بمنطقة بابسقا والذي يشرف عليه مسؤول الملفات الأمنية الداخلية “أبو أحمد الحلبي”. يقول حسن:

 “وبتاريخ 9 حزيران 2024، أتى إلي السجان و قام بإغلاق عيني وتكبيل يداي بحزامة بلاستيكية، و توجه بي إلى مكتب أسد السنة (معاون الحلبي)، وقال لي “الافراج عنك يقف على توقيع منك على أن تلتزم منزلك وأن لاتشارك أو تخطط لأي أعمال او مظاهرات ضد هيئة تحرير الشام وأن لا تقوم بنشر أفكار تضعف من وهن المسلمين في المناطق المحررة”، وغيره من هذا الكلام المكتوب في الورقة التي لم استطع قرائتها كاملةً، فما كان مني إلا أن اوقع لكي اتخلص من قبضتهم، وأعود لعائلتي بأسرع وقت”.

تبين لحسن لاحقاً، أن عملية الإفراج تلت محادثات بين أعيان من دمشق وإدلب مع عدد من قيادات الهيئة.

أما وسيم محمد،[6] متظاهر من مدينة كللي، فكان قد اعتقل خلال مظاهرة سبقت تحول “الهيئة” إلى استخدام العنف بشكل معلن، والذي قال أنه شارك بالحراك بسبب “ضرب عناصر الهيئة وأمنييها لزوجات المنتسبين لحزب يسمى حزب التحرير”، مضيفاً أنه اعتقل، مع عدة شبان آخرين، خلال مظاهرة خرجت بتاريخ 7 أيار/مايو 2024 وفقاً لما يذكر، وأن المظاهرة هوجمت من قبل عدة سيارات تابعة لـ”جهاز الأمن العام” التي قام عناصرها بضرب النساء الحاضرات وتكسير اللافتات:

“في حين اعتقالي، هاجمني أربعة اشخاص ملثمين و بدأوا بضربي و تكسير الاذاعة الصوتية. وقام أحد العناصر بتكبيل يداي بحزامة بلاستيكية، ووضع على رأسي غطاء كبير لم أعد أرى منه شيء، و وضعوني ضمن أحد الفانات و قاموا بضربي ضرباً عنيفاً، إلى أن وصلنا فرع 103 أمنية، الخاص بالمهام الأمنية التابع لجهاز الامن العام”.

في الفرع، تعرف وسيم على ثمانية أشخاص، قائلاً أن العناصر استدعو ثلاثة منهم وأخذوهم إلى وجهة غير محددة؛ وبقي ثلاثتهم معتقلين حتى تاريخ إجراء المقابلة. وقال أنه استدعي إلى التحقيق في اليوم الثاني من اعتقاله، حيث تم استجوابه من قبل شخص ملثم، فيما قام ملثم آخر بتصويره، مضيفاً أنه تعرض للضرب لأنه لم يخبر المحقق عن الجهة التي عملت على تنسيق المظاهرات في مدينته ومصدر تمويلها:

“فقام برن جرس كان على مكتبه، و قال لعنصر ابعث لي الشباب، فدخل عنصران قاما بإلقائي أرضاً ووضعوا مربطاً على قدماي، وبدأوا بضربي بشكل عنيف وهستيري، إلى أن تورمت قدماي … فقلت للمحقق :”اعترف بالذي تريده، فقط أوقف التعذيب عني!”، فطلب من العناصر التوقف عن تعذيبي، و إعادتي إلى الكرسي. فقال: “تكلم من يمولكم؟”. فقلت له: “اقسم لك انني شخص مدني، لا اتبع لحزب التحرير ولا اتبع لاي فصيل””.

بعد جلسة التحقيق، أخذ السجان وسيم إلى منفردة معصوب العينين، وبقي فيها حتى تاريخ الإفراج عنه في 28 أيار/مايو 2024، أي بعد ما يقارب 21 يوماً على اعتقاله. وكان هذا الاعتقال الثاني لوسيم من قبل أجهزة “الهيئة”، حيث سبق وأن استدعي بداية عام 2024 إلى مقر المكتب الأمني الخاص بالمدنيين في مدينة سرمدا، فاقتيد مكبل اليدين ومعصوب العينين من ورشة الحدادة الخاصة به، لتخلفه عن دفع الضريبة التي فرضتها “الهيئة” منذ عامين على الورشات الصناعية، والتي بلغت قيمتها 2000 دولار سنوياً.

ساهمت الاعتقالات المتزايدة والإجراءات المشددة بانحسار رقعة الحراك خلال الأشهر التالية، كما أعلن “تجمع الحراك الثوري”، بتاريخ 18 تموز/يوليو 2024، عن قبوله بمبادرة “الوفاق”، قائلاً أنه صادق عليها “حقناً للدماء” على الرغم من عدم رقيها لتطلعات المحتجين.

غير أن المظاهرات بدأت تستعيد الزخم في أيلول/سبتمبر، مع تسجيل أكثر من 10 نقاط تظاهر في الـ13 من الشهر، والتي أتت رداً على استخدام الأجهزة الأمنية التابعة لـ”لهيئة” القوة المفرطة ضد متظاهرين اجتمعو وسط إدلب في الـ10 من الشهر، ما أدى إلى إصابات في صفوفهم، بالإضافة إلى اعتقال عدد من النشطاء المشاركين.

وفي تقريرها الأحدث، الصادر بتاريخ 12 آب/أغسطس 2024، تطرقت لجنة التحقيق المستقلة بشأن سوريا إلى المظاهرات في إدلب، ووثقت مجموعة من عمليات الاعتقال والاحتجاز والتعذيب في سجون “الهيئة”، بالإضافة إلى أربع عمليات إعدام لمحتجزين، منوهةً إلى أن المحتجزين لم يكن لديهم تمثيل قانوني، فيما جرى إخضاعهم لإجراءات قضائية محاطة بالسرية. ونوهت اللجنة إلى أن هذه الأفعال قد ترقى إلى “مستوى جرائم حرب”، مضيفة أن لديها “أسباب معقولة تدعو إلى الاعتقاد بأن أعضاء هيئة تحرير الشام ربما ارتكبوا أفعالاً ترقى إلى درجة الإخفاء القسري”.

_____________________________________________________________________________________________________

[1] خلال مقابلة عبر الانترنت أجراها باحث في “سوريون من أجل الحقيقة والعدالة” بتاريخ 17 حزيران/يونيو 2024.

[2]  خلال مقابلة عبر الانترنت أجراها باحث في “سوريون من أجل الحقيقة والعدالة” بتاريخ 23 حزيران/يونيو 2024.

[3] خلال مقابلة عبر الانترنت أجراها باحث في “سوريون من أجل الحقيقة والعدالة” بتاريخ 17 آب/أغسطس 2024.

[4] خلال مقابلة عبر الانترنت أجراها باحث في “سوريون من أجل الحقيقة والعدالة” بتاريخ 25 حزيران 2024.

[5] خلال مقابلة عبر الانترنت أجراها باحث في “سوريون من أجل الحقيقة والعدالة” بتاريخ 19 حزيران/يونيو 2024.

[6] خلال مقابلة عبر الانترنت أجراها باحث في “سوريون من أجل الحقيقة والعدالة” بتاريخ 18 آب/أغسطس 2024.

منشورات ذات صلة

اترك تعليقاً

* By using this form you agree with the storage and handling of your data by this website.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك عدم المشاركة إذا كنت ترغب في ذلك. موافق إقرأ المزيد