الرئيسية تحقيقات مواضيعية “مُحرّم شرعاً وممنوع قانوناً”… سوريا ومُعضلة التبنّي

“مُحرّم شرعاً وممنوع قانوناً”… سوريا ومُعضلة التبنّي

عائلات سوريّة تلجأ إلى تبنّي أطفال أيتام ومجهولي النسب سّراً في ظل تنامي أعداد هؤلاء الأطفال من منذ بدء النزاع في سوريا وغياب وجود إطار قانوني لأي حل

بواسطة communication
2.9K مشاهدة تحميل كملف PDF هذا المنشور متوفر أيضاً باللغة: الإنجليزية حجم الخط ع ع ع

لم تكن “همرين” تعلم أن الطفلة؛ حديثة الولادة، التي قد وجدتها أمام باب منزلها في مدينة الرقة، فجر أحد الأيام عام 2015، هي ابنة امرأة كانت هاربة من أحد مقاتلي تنظيم الدولة الإسلامية “داعش”، قبل أن تقوم هي وزوجها، المحرومين من الإنجاب بتبني الطفلة سراً، التي بّلغت الآن عمر السادسة، والتي تعتقد حتى يومنا هذا أنهما والديها الحقيقيان (البيولوجيان ).

بعد أكثر من عشرة أعوام من عدم الإنجاب، لم ترفض همرين “هدية الله لها ولزوجها” كما وصفت، وهما لا يعرفان حتى الآن والدي الطفلة الحقيقيين، كما لم يجرؤا في حينها على البوح بالقصة، خوفاً من انتقام التنظيم منهما، إذ استذكرت تلك اللحظات لـ “سوريون من أجل الحقيقة والعدالة” قائلةً:

“استفقنا فجراً على صوت بكائها، إذ كان أحدهم قد وضعها أمام باب منزلنا ورحل، ولم تكن قد مرت سوى أيام قليلة على ولادتها، فقمت بجلبها إلى المنزل والاعتناء بها، قبل أن يسمع زوجي في اليوم التالي أثناء جلب الحليب لها، أن مقاتلي داعش يبحثون عن امرأة هاربة منهم برفقة طفلتها حديثة الولادة، فلم نجرؤ على البوح بالحقيقة، وقررنا تبني الطفلة، وإخبار من نعرفهم بأنها ابنتنا، ذلك بعد أشهر من عدم الخروج من المنزل، حتى لا يبدو الأمر غريباً”.

سجلت “همرين” وزوجها الطفلة على اسميهما في السجل المدني السوري، بعد تسميتها والادعاء بأنها ابنتهم، ذلك لأن القانون السوري لا يجيز التبني استناداً لأحكام الشريعة الإسلامية، حالها كحال الكثير من العائلات السورية التي تبنت أطفالاً ونسبتهم إليها قانونياً، للسبب ذاته.

يتبع رجال الدين المسلمون فتاوى قديمة على أن التبنّي محرّم في الإسلام مستندين إلى الآية الكريمة: “ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدين ومواليكم وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمّدت قلوبكم وكان الله غفورا رحيما” (الأحزاب 5). ​​وتتكلم الآية التي سبقتها من سورة الأحزاب: “وما جعل أدعياءكم أبناءكم“، عن قصة محددة تدور حول “زيد بن حارثة” مولى السيدة خديجة، الذي منحته للرسول بعد زواجها منه، وكان “زيد” حينها في الثلاثين من عمره ومن شدّة تعلقه بالرسول صار يدعى “زيد بن محمد”، ومن هنا أتت كلمة أدعياء أي الذين يدعون باسم شخص آخر وينسبون أنفسهم له، وما أتى بعدها من طلاقه لزوجته “زينب بنت جحش” وزواج الرسول منها.

لذا ونتيجة تحريم التبني في معظم الدول الإسلامية، وضع ما سُمي بنظام الكفالة؛ وفيه يعيش الطفل مع عائلة جديدة ولكن يمنع إطلاق اسم أبيه بالتبني عليه.

ومع تعلمه/ا القراءة والكتابة، وخاصة ما بين عمر 6 و 8 سنوات، يبدأ الطفل الذي تمّ كفالته بالتساؤل حول سبب اختلاف اسم والده المستخدم في الأوراق الرسمية والمدرسة وشهادة الميلاد عن اسم الأب الذي يعيش معه بالمنزل! ولا مفرّ عندها من إخباره بالحقيقة، رغم ما قد يترتب على معرفته بذلك من صدمات نفسية وعاطفية، وبكونه مجهول النسب أو أن أهله قد تخلّوا عنه أو أنه أتى نتيجة علاقة “غير شرعية”. وفي هذه الحالة، قد تأخذ علاقته مع “عائلته” شكلها الحقيقي كنوع من التصدّق والعطف على طفل يتيم غريب وليس كأحد الأبناء.

أيضاً، تقوم القوانين في الدول التي تعتمد نظام الكفالة بحرمان هؤلاء الأطفال من الميراث من العائلة التي تكفلّتهم بما فيه راتب الوالدين التقاعدي، بحيث يعودون بلا معيل عند وفاة الأهل مهما كانوا أغنياء.

ويوافق القانون السوري الشرع في منع التبني وتغيير الأنساب، حيث أن الأطفال “مجهولي النسب” يسجلون في دائرة النفوس في “خانة مستقلة” إلى حين إقرار أهلهم بنسبهم، وإحضار الثبوتيات اللازمة، أو يبقى الطفل “لقيطاً/مجهول النسب” من الناحية القانونية ويأخذ اسماً ولقباً منفصلين، في حين يسمح القانون ذاته فقط للكاثوليك والسريان الأرثوذوكس بالتبني وفق شروط محددة.

وبدلاً عن التبني، أوجد القانون السوري مراكز الرعاية، التي تخصص ملفاً لكل طفل، يُذكر فيه مكان إيجاده وعمره، ويُخصّص له اسم ولقب، في حال لم يعرف نسبه، ويسجل في السجل المدني.

لكن، ونتيجة عدم اقتناع الكثير من الناس بتحريم التبني، وعدم اعترافهم بالقوانين التي تمنعه فقد اضطّروا للتزوير، عن طريق استخراج شهادات ميلاد من قابلات أو أطباء يدّعون فيها أن عملية الولادة قد تمت بالمنزل ويتم فيها تسجيل أسماء الوالدين بالتبني كوالدين حقيقيين، ويتم إحاطة هذه العملية بأقصى درجات السرية لأنها غير قانونية وقد تقود إلى السجن، ولكن الوالدين يقبلان بهذه المخاطرة لأنها تؤمّن لطفلهما المُتبنى حماية دائمة من المجتمع ونظرته السلبية والقوانين التي يرونها ظالمة، إذ لا ذنب للطفل فيها.

وتنفرد تونس بأنها البلد الوحيد في المنطقة العربية التي أباح قانونها التبني بحيث يحظى الطفل بفرصة العيش مع عائلته الجديدة التي تسجّل معلوماتها في أوراقه الثبوتية، مع الاحتفاظ بنسخة من شهادة ميلاده الأصلية إذا قرر في المستقبل البحث عن عائلته البيولوجية. وفي النموذج التونسي، هناك نظام التبني لمن يرغب، بالإضافة لنظام الكفالة لمن يرى أن الدين يأمره بذلك، وبهذا تقدم تونس الطريق الذي يجب أن تسير عليه بقية الدول الإسلامية.

  1. مقدمة:

أسهمت المتغيرات العسكرية والاجتماعية في سوريا، منذ بدء النزاع في عام 2011، في تنامي ظاهرة الأطفال الأيتام ومجهولي النسب أو الأطفال الذين تمّ التخلّي عنهم من قبل ذويهم، حيث تزايدت أعدادهم في المناطق الخارجة عن سيطرة الحكومة السورية بشكل أساسي، سواء بسبب الزواج من مقاتلين أجانب لم تحدد هوياتهم بدقة، أو بسبب الزواج من مقاتلين محليين قُتلوا لاحقاً، وتعذر إيجاد وثائقهم أو تسجيل واقعات زواجهم بسبب فقدان الوثائق أو موت الأبوين كليهما، أو لأسباب أخرى خلفتها ظروف النزاع كالنزوح والتشرد وغيرها.

وكشف فريق “منسقو استجابة سوريا” العامل في مناطق شمال غرب سوريا الخاضعة لسيطرة المعارضة السورية المسلحة، عن وجود نحو مئة وثمانية وتسعين ألف يتيم، من أصل مليون وأربعمئة وخمسين ألف طفل يعيشون في شمال غرب سوريا (محافظة إدلب وريف حلب الغربي وريف حماة الغربي)، بحسب أحدث إحصائية صدرت بتاريخ 28 كانون الأول/ديسمبر من العام 2020.[1]

وبحسب “اتحاد رعاية الأيتام” الذي أقام ملتقاه الأول في إسطنبول في 25 أيار/مايو 2016، والذي تمّ بمشاركة 23 منظمة تعنى برعاية الأطفال الأيتام السوريين، فإن عدد الأطفال السوريين الأيتام داخل سوريا وخارجها يبلغ 800 ألف طفل، 90 بالمئة منهم غير مكفولين، مشيرةً إلى أن عدد الأطفال الذين تمت كفالتهم لا يتجاوز 25  ألف طفل فقط، في حين ظل أكثر من 112  ألف طفل بلا كفالة لدى المنظمات المتواجدة في الملتقى فقط.[2]

وتصنف الأمم المتحدة الأطفال غير المصحوبين والمنفصلين عن ذويهم والمقيمين مع مقدمي الرعاية من كبار السن أو ذوي الإعاقة، بين الفئات الأشد ضعفًا، التي هي بأمس الحاجة للمساعدة، إذ “قد يواجه الأطفال مخاطر محددة بسبب العمر والنوع الاجتماعي والإعاقة والتصورات الاجتماعية للطفولة“.

ويكون الأطفال الذين يعيشون في أماكن مزدحمة، مثل مراكز الإيواء الجماعية ومع الأسر المضيفة، أكثر عرضة للعنف المنزلي، حسبما ذكر تقرير مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية للحاجات الإنسانية في سوريا عام 2019، الذي أشار إلى أن المحافظات السورية جميعها أبلغت عن انفصال الأطفال عن ذويهم في 46% من الحالات المقيمة في الداخل السوري، نتيجة موت أو اختفاء مقدمي الرعاية، أو التجنيد أو الزواج المبكر.

ولكثرة أعداد الأطفال اليتامى ومجهولي النسب في سوريا، وعدم وجود من يعيلهم، وبسبب تحريم التبني في القانون السوري، وكذلك نظرة المجتمع السلبية لهؤلاء الضحايا ولمن يسعى إلى رعايتهم وتبنيهم، حاولت “سوريون من أجل الحقيقة والعدالة” اعداد هذه الورقة/التقرير والاستماع لشهادات عائلات قامت بتبني أو كفالة طفل/ة مجهول/ة الأبوين، ذلك بهدف تناول مشكلة الأطفال الأيتام في سوريا، وبالأخص مجهولي النّسب منهم، الناجمة عن الحرب المستمرة منذ أكثر من عشر سنوات. بالإضافة إلى التحقق من مدى توفر الحماية القانونيّة لهم بموجب القوانين السورية وعلى ضوء الواقع المجتمعي السوري، وكذلك القوانين والأعراف الدولية بهذا الخصوص وصولاً إلى تصوّرات للحلول التي تستهدف تمتّع أولئك الأطفال بالحماية والرّعاية التي يستحقونها بصفتهم بشراً ذو حقوق لا يمكن انكارها وكرامة إنسانية من الواجب احترامها.

  1. المنهجية والتحدّيات:

تلخصت منهجية الورقة هذه على إجراء مقابلات ميدانية مع أشخاص وعائلات قاموا سراً بتبني أطفال مجهولي الأبوين، أو قاموا بكفالتهم كون التبني ممنوع في القانون السوري، وقد تم اعتماد السرية التامة في هذه المسألة، حيث كانت المنظمة حريصة على عدم ذكر الأسماء الحقيقية للأطفال ولمن يقومون بتبنيهم أو رعايتهم، نظراً لحساسية هذه المسالة في المجتمع السوري، وكذلك حرصاً على عدم تعرض المسؤولين عن رعاية هؤلاء الأطفال للمساءلة القانونية والمجتمعية.

والهدف من هذه الشهادات الحية هو توصيف الواقع الموجود على الأرض وتسليط الضوء على هذه المسألة، التي يخشى الكثير من السوريين الخوض فيها ويتم تجاهلها بدون مبرر، ومن ثم تحليل القانون السوري، وبيان طرق معالجته لهذه المسألة، وبيان الحلول المتاحة لتجنب هؤلاء الضحايا من خطر تركهم بدون رعاية عائلية وبدون وثائق أحياناً.

وبسبب حساسية هذا الملف كما ذكرنا، امتنع عدد من الشهود الآخرين الذين قابلتهم المنظمة عن الإدلاء بشهاداتهم حول حضانة أو تبني الأطفال الموجودين في كنفهم، إما خوفاً من “فضحهم” أمام المجتمع الرافض لهذا الأمر، أو من المساءلة القانونية من قبل الحكومة السورية، وقيامها بإلغاء اسم الطفل/ة الضحية من البطاقة الأسرية (العائلية) للأسرة المُتبنية، أو خوفاً من الجماعات الإسلامية المتشددة في بعض المناطق الخاضعة لسيطرتها، كون التبني يعتبر مُحرماً في الشريعة الإسلامية.

  1. التوصيات:

أسهم النزاع السوري الممتد منذ أكثر من عشر سنوات، وما رافقه من قتل للمدنيين وتدمير للمدن والبلدات والممتلكات وتهجير للسكان، داخل البلاد وخارجها، وانحلال الكثير من الروابط الاجتماعية وانهيار القيم، ووفاة الكثير من الآباء والامهات الذين تركوا أطفالاً صغار كان من الصعب التعرف على نسبهم في الكثير من الحالات، في تنامي ظاهرة الأطفال الأيتام ومجهولي النسب أو الأطفال بدون مرافقين أو الذين تخلّى عنهم ذووهم. وقد تزايدت أعداد هؤلاء الأطفال في المناطق الخارجة عن سيطرة الحكومة السورية، سواء بسبب الزواج من مقاتلين أجانب لم تحدد هوياتهم بدقة، أو بسبب الزواج من مقاتلين محليين قُتلوا لاحقاً، وتعذر إيجاد وثائقهم أو تسجيل واقعات زواجهم بسبب فقدان الوثائق أو موت الأبوين كليهما، أو لأسباب أخرى خلفتها ظروف النزاع كالنزوح والتشرد. وبما أن القانون السوري لا يجيز التبني، فلابد من البحث عن حلول بديلة لمعالجة هذه الحالة التي ستخلف آثاراً كارثية على السوريين في قادم الأيام، إن لم تتم معالجتها بشكل قانوني سليم، لذلك ترى المنظمة بأنه من المفيد التركيز على بعض الخطوات العملية، والتي قد تكون ضرورية للتوصل لتلك الحلول، ويمكن تلخيصها بالتالية:

أ. تكثيف منظمات المجتمع المدني لجهودها في سبيل تثقيف المجتمع السوري، وتوعيته بأن هؤلاء الأطفال هم ضحايا هذه الحرب وليسوا مذنبين، وبالتالي ينبغي توفير الرعاية لهم، والتشجيع على ضرورة كفالة أو تبني هؤلاء الضحايا من قبل الأسر الراغبة بذلك، وتنشئتهم في جو عائلي سليم معافى.

ب. ضرورة سن تشريع يناسب الحالة السورية الراهنة، ويعالج قضية الأطفال مجهولي النسب أو الذين تم التخلي عنهم، تزامناً مع إجراء استشارات مجتمعية شاملة لكل الأطياف.

ت. ضرورة رفع الوصمة الاجتماعية و معالجتها من كافة النواحي، لا سيما القانونية منها، من خلال إلغاء كافة القوانين التي تساهم في ترسيخ هكذا مفهوم سلبي بالإضافة إلى سن قانون يعاقب كل من يصف هؤلاء الضحايا بأنهم عار على المجتمع، وكذلك كل من يتعامل مع من يتولى تربيتهم على هذا الأساس.

ث. تقديم الدعم لكل من يتولى تربية هؤلاء الضحايا، كنوع من التشجيع وكذلك لمساعدة الأسر الراغبة في التربية في تأمين متطلبات الطفل الضحية.

ج. ضرورة تعديل قانون الأحوال الشخصية السوري أو سَن قانون يسمح بالتبني ويعترف به قانونياً كخطوة أولى في خلق اطار من خلاله يمكن معالجة هذه المسألة، أسوةً بباقي دول العالم، مع ترك الخيار للأشخاص الراغبين باتباع نظام الكفالة.

ح. الالتزام الكامل ببنود الاتفاقية الدولية لحماية الطفل لعام 1989، وتعديل القوانين المحلية بما يتناسب معها، بدون استثناء، مع ضرورة رفع التحفظ عن المواد المشار اليها في هذا التقرير والتي امتنعت سوريا عن الالتزام بها.

 

لقراءة التقرير كاملاً وبصيغة ملف PDF يُرجى الضغط هنا.

____

[1] التركيبة السكانية في شمال غرب سوريا، منسقو استجابة سوريا، بتاريخ 28 كانون الأول/ديسمبر 2020. (آخر زيارة للرابط: 28 شباط/فبراير2022) https://www.facebook.com/1967928126585232/posts/4114145781963445/

[2] الأطفال الأيتام والمنفصلون عن أسرهم نتيجة الحرب في سوريا، شبكة جيرون الإعلامية، بتاريخ 13 تشرين الثاني/نوفمبر 2017. (آخر زيارة للرابط: 28 شباط/فبراير2022). https://www.geiroon.net/archives/101477#go-to-content.

منشورات ذات صلة

اترك تعليقاً

* By using this form you agree with the storage and handling of your data by this website.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك عدم المشاركة إذا كنت ترغب في ذلك. موافق إقرأ المزيد