مقدمة:
لم يبدُ على “خناف عذيب” (30) عاماً أنها سعيدة بنجاتها من قبضة تنظيم الدولة الإسلامية “داعش”، رغم أنها أمضت أكثر من أربعة أعوام مريرة وشاقّة من الاحتجاز مع طفلها لدى عناصر هذا التنظيم المتطرف في العراق وسوريا، فكيف لها أن تشعر بالسعادة وقد رأت بأمّ عينها طفلها “ميتان اسماعيل” (10) سنوات، وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة، خلال رحلة فرارهما من آخر معاقل التنظيم في بلدة الباغوز بريف دير الزور[1]، وتحديداً بتاريخ 19 آذار/مارس 2019، إذ لم يكن في حسبانها أن تفقد طفلها حينما لم يكن يفصل بينها وبين الحرية سوى خطوات، فقد قام عناصر هذا التنظيم باستهدافهما وعدد من النساء الإيزيديات بقذيفة صاروخية قبيل وصولهم إلى مناطق قوات سوريا الديمقراطية، ما أودى بحياة ابنها الأصغر الذي تحمّلت كل القهر والأسى لأجله طوال فترة احتجازهما، وأدى إلى إصابة “خناف” إصابة بليغة في ساقها.
كانت علامات التعب والإنهاك بادية على وجه “خناف”، وهي تجلس على سريرها في إحدى غرف مشفى “روج” في مدينة رأس العين/سري سري كانيه في محافظة الحسكة، حيث التقى بها الباحث الميداني لدى سوريون من أجل الحقيقة والعدالة بتاريخ 15 حزيران/يونيو 2019، واسترجعت له تفاصيل ما جرى معها قائلة:
“كنت أعيش مع زوجي وأولادي الثلاثة حياة بسيطة، قبيل أن يقتحم تنظيم “داعش بلدتي في ” قضاء سنجار” العراقي في آب/أغسطس 2014، حيث قتلوا زوجي بدم ٍبارد، وفقدت أثر اثنين من أبنائي. لا أدري أي مستقبل ينتظرني، ولا أستطيع نسيان اللحظات العصيبة التي مررت بها بسهولة، لكني سأعود إلى سنجار، حتى أتقّفى أثر ولديّ المفقودَين وكلي أملُ أنهما مازالا على قيد الحياة.”
وبحسب الباحث الميداني لدى سوريون من أجل الحقيقة والعدالة، فقد كان قد خرج من بين قوافل المدنيين من بلدة الباغوز، الكثير من النساء والأطفال الإيزيديين، ممن كانوا مختطفين أثناء هجوم التنظيم على قضاء سنجار/شنكال والقرى التابعة لها في العراق، وتحديداً في شهر آب/أغسطس 2014.
1. “كنت أعيش مع زوجي وأولادي حياة سعيدة وبسيطة”:
كانت “خناف عذيب” قد ولدت في قرية “كوجو” التابعة لقضاء سنجار/شنكال في العراق عام 1989، حيث كبرت وترعرعت في قريتها التي يعتمد سكانها بشكل أساسي على الزراعة وتربية الحيوانات، وأتمّت دراستها حتى المرحلة الثانوية، قبل أن تتزوج في الثامنة عشر من عمرها بـ “اسماعيل محل”، والذي ينحدر من ذات القرية.
عاشت “خناف” مع زوجها وأولادها الثلاثة حياة بسيطة وسعيدة، وكان اثنين من أبنائها يرتادان المدرسة الابتدائية، بينما كان زوجها يعمل في الزراعة، واستمرت على هذه الحال حتى شهر آب/أغسطس 2014، حيث انقلبت حياتها رأساً على عقب، وقُتل زوجها، وفقدت أثر اثنين من أبنائها، وذلك بعد دخول تنظيم “داعش” إلى قضاء سنجار، والذي يعتنق سكانه الديانة الإيزيدية كأغلبية.
2. “قتلوا الرجال بدم بارد، وقاموا بسبي النساء والأطفال”:
عقب اقتحام تنظيم “داعش” لقضاء سنجار/شنكال في آب/أغسطس 2014[2]، عاشت “خناف” فصول رعب لن تنساها، حيث قاموا بسبي النساء الإيزيديات بالإضافة للأطفال الصغار، وقاموا بقتل العديد من أبناء المنطقة، ومن بينهم زوجها “اسماعيل محل” 35 عاماً.
سردت “خناف” حجم المأساة التي لاقتها تحت وطأة مقاتلي التنظيم المتشدّد، حيث كانت البداية حينما قتلوا عشرات الرجال الإيزيديين أمام أعين عائلاتهم من النساء والأطفال، ومن بينهم زوجها، وفق ما روت لسوريون من أجل الحقيقة والعدالة، حيث قالت:
“بعد دخول تنظيم “داعش” إلى سنجار/شنكال، هربنا من قرية “كوجو” باتجاه المدينة، لكنّ مقاتلي التنظيم المتشدّد اعترضوا طريقنا هناك واحتجزونا لديهم، وقتلوا كل الرجال بدمٍ بارد، وكان بينهم زوجي “إسماعيل محل”، كما كان بين الضحايا أقرباءٌ لي، بينما احتجزوا النساء والأطفال، وفقدت هناك أثر ابناي الكبيران نتيجة الصدمة والخوف، ولا أدري ماذا حلّ بهما بعد ذلك وحتى الآن، وكل ما أذكره أنني احُتجزت حينها برفقة ابني “ميتان اسماعيل محل” (5 أعوام آنذاك)، وابنة خالي وحماتي، وكافة بنات وأطفال عائلتي، حيث تمّ احتجازنا جميعاً كسبايا”.
3. “كنت أسمع صراخ عدد من البنات أثناء تعرضهنّ للاغتصاب في غرف مجاورة”:
استرجعت “خناف” لحظات شاقة وقاسية، كانت قد عايشتها برفقة طفلها ومئات النساء الإيزيديات والأطفال “السبايا”، عقب نقلهم إلى قضاء تلعفر العراقي من قبل عناصر تنظيم “داعش”، حيث تعرضت خلال هذه الفترة للإهانة والضرب المبرح بالسياط والعصي، والحرمان من الطعام والشراب فترات طويلة على يد عناصر التنظيم المتشدّد، حيث تابعت في هذا الصدد قائلةً:
“جرى نقلنا بادئ الأمر إلى مدرسة في قضاء تلعفر، حيث فُرقت فيها النساء الكبيرات في السنّ عن الفتيات، وتمّ نقلي مع الفتيات إلى غرف في الطابق السفلي، وكنت أسمع خلال هذه الفترة صراخ عدد منهنّ أثناء تعرضهنّ للاغتصاب في غرف مجاورة، وبحمد الله فأنا لم أتعرض للاغتصاب، لكنني تلقيت ضرباً مبرحاً مرات عديدة، لأنني كنت أطلب إطعام ابني الصغير، إذ كان يتم حرماننا من الطعام والشراب لأيام، وإهانتنا باستمرار، لأننا كفار بنظرهم، قبل أن يتم نقلنا إلى الموصل.”
كان قضاء تلعفر العراقي الوجهة الأولى لنقل كافة النساء والفتيات الإيزيديات اللواتي تمّ احتجازهنّ من قبل تنظيم “داعش”، قبل أن تنجح القوات العراقية في السيطرة عليه وتحديداً بتاريخ 31 آب/أغسطس 2017، كأحد آخر معاقل تنظيم “داعش” في العراق.[3]
4. “استعباد وتعنيف جنسي”:
أمضت “خناف” سبعة أشهر قاسية من الاحتجاز برفقة طفلها في العراق، وكان يتم نقلها على الدوام بين تلعفر والموصل، قبل أن يقوم مقاتلو التنظيم بنقلها إلى سوريا، وتحديداً إلى مدينة الرقة، في آذار/مارس 2015، والتي بقيت فيها نحو عامين ونصف العام، وفي هذا الخصوص روت لسوريون من أجل الحقيقة والعدالة بعض تفاصيل ما جرى معها في الرقة قائلةً:
“في آذار/مارس 2015، تمّ بيعي في سوق النخاسة بمدينة الرقة، حيث اشتراني أحد مقاتلي “داعش” السعوديين، وكان اسمه “أبو معاذ”، وقد استعبدني وعملت في بيته كخادمة، إذ كنت أطبخ لعائلته، وأنظف المنزل وأربي أطفالهم، وأفعل كل ما يطلبونه، فقط كي لا يفرقوني عن ابني الصغير، وكانت تتم اهانتي باستمرار من قبل زوجته، التي كانت تصفني بالكافرة وتقول إنه ينبغي علي الصلاة والصوم حتى أكفّر عن ذنوبي، كما كنا نأكل أنا وابني من فضلات الطعام التي تزيد عندهم.”
مازالت “خناف” تسترجع بأسى عمليات البيع المتكررة التي كانت تجري بحقّ النساء الإيزيديات في سوق النخاسة بمدينة الرقة، حيث كانت ابنة خالها واثنتان من صديقاتها، من بين الشابات اللاتي تمّ بيعهنّ مرات عديدة، وتعنيفهن جنسياً ونفسياً، ما دفع إحدى صديقاتها إلى الانتحار بعد أن تناوب مقاتلون من تنظيم “داعش” على اغتصابها، حتى أصيبت بنزيف حاد على حد وصف الناجية.
مع بدء العمليات العسكرية التي قادتها قوات سوريا الديمقراطية بدعم من التحالف الدولي، للسيطرة على مدينة الرقة، وتحديداً بتاريخ 6 حزيران/يونيو 2017، نقل عناصر تنظيم “داعش” “خناف” وابنها إلى بلدة “الباغوز” في الريف الشرقي لمدينة دير الزور، حيث بقيت تعمل كخادمة في منزل “أبي معاذ السعودي”، وكانت زوجته تعاملها بشكل سيء جداً، حيث مازالت تذكر بعض اللحظات التي عاشتها هناك، وتسردها قائلة:
“بعد نقلنا إلى ريف دير الزور ساءت معاملة زوجة “أبي معاذ السعودي” لي أكثر من السابق، وقد كانت هذه المرأة سورية وتنحدر من الرقة، وتبلغ من العمر 30 عاماً، إذ أنها لم تكن تكتفي بإهانتي باستمرار، بل تطور الأمر بها إلى ضربي أيضاً أمام ابني الصغير، وكانت دائماً ما تبرّر ذلك لزوجها بأنني لم أطعها، لكنّ ذلك لم يكن صحيحاً أبداً.”
5. “كانت شظايا الصواريخ تنهال علينا من كل حدب وصوب”:
بقيت “خناف” في بلدة “الباغوز” الواقعة شرق نهر الفرات، والتي كانت آخر معاقل تنظيم “داعش” في سوريا، أكثر من عام ونصف، قبل أن تطلق قوات سوريا الديمقراطية حملة للسيطرة على البلدة، بتاريخ 9 شباط/فبراير 2019، والتي أفضت إلى اعلان إنهاء وجود تنظيم “داعش” العسكري في سوريا، بتاريخ 22 آذار/مارس من العام ذاته.
وصفت الناجية الوضع في بلدة الباغوز قبيل خروجها منها بأنه كان سيئاً جداً، حيث تحدثت في هذا الصدد قائلة:
“كانت بلدة الباغوز تفتقر لأبسط مقومات الحياة، إذ لم يكن يوجد لدينا أي طعام، وكان لدى عناصر تنظيم “داعش” الكثير من الطعام، لكنهم لم يسمحوا لنا بالاقتراب منه، في وقت كثّف فيه التحالف الدولي غاراته الجوية على البلدة والتي كانت تُدكّ ليل نهار بالصواريخ التي كانت تنهال شظاياها علينا من كل حدب وصوب، فيغلبنا الرعب والخوف في كل مرة.”
6. “قتلوا طفلي أمام عينيّ هاتين”:
بدت ملامح وجه “خناف” حزينة، والشحوب بادياً على عينيها المخنوقتين بحرقة الدموع، وهي تروي لنا رحلة هروبها وتحررها من قبضة تنظيم “داعش”، هذه الرحلة التي كلفتها الكثير على حد وصفها، فقد قُتل ابنها الأصغر أمام عينيها، بينما أصيب هي بجروحٍ بليغة، حيث استرجعت قائلة في هذا الصدد:
“لم يكن “أبي معاذ السعودي” يسمح لي بالهرب من بلدة الباغوز، وكان يهددني بقتل ابني في حال حاولت ذلك، لكن مع اقتراب المعارك في البلدة من نهايتها، قال لي اذهبي حيث تشائين، وبتاريخ 19 آذار/مارس 2019، أمهلت قوات سوريا الديمقراطية مقاتلي التنظيم ساعتين ليقوموا بتسليم أنفسهم ويسمحوا بخروج المدنيين، فهربت مع ابني وابنة خالي وصديقة لي، لأنّ الفرصة كانت سانحة للفرار والتحرّر، إذ كان مقاتلو “داعش” مشغولين بالقتال، وقد استمرّت رحلة فرارنا نهاراً كاملاً، فقد وصلنا في الساعة السابعة مساءً إلى أسفل جبل الباغوز، لكن مقاتلي “داعش” أحسّوا بهروبنا، فقاموا باستهدافنا من أعلى الجبل بقذيفة صاروخية، أسفرت عن إصابتي ومقتل طفلي الذي صبرت لأجله لآخر لحظة، فأسعفتني ابنة خالي وصديقتي، إلى حيث تتواجد قوات سوريا الديمقراطية.”
نقلت قوات سوريا الديمقراطية الناجية “خناف عذيب” إلى مشفى روج في مدينة رأس العين/سري كانيه التابعة لمحافظة الحسكة، وكانت قد أصيبت بانقطاع العصب الساقي نتيجة الشظايا، وبقيت في المشفى حتى تتلقى العلاج الفيزيائي، قبل أن يتولى البيت الإيزيدي التابع للإدارة الذاتية في إقليم الجزيرة إيصالها إلى عائلتها في قضاء سنجار/شنكال العراقي في وقت لاحق.
وكانت قوات سوريا الديمقراطية، قد قالت[4] بتاريخ 14 آذار/مارس 2019، بأنّ نحو 3 آلاف شخص، سلموا أنفسهم لها، وغالبيتهم من مقاتلي تنظيم “داعش” ممن كانوا محاصرين في بلدة الباغوز في محافظة دير الزور.
وكان مدير مكتب إنقاذ المخطوفات والمخطوفين الإيزيديين في إقليم كردستان العراق، “حسين قايدي” قد كشف في 28 آذار/مارس 2019، أنهم ومنذ بداية العام 2019، تمكنوا من تحرير 45 إيزيدياً ما بين نساء وأطفال، من داخل سوريا. وأفاد بعدم توافر معلومات حول التقارير التي أفادت بالعثور على مقابر جماعية للنساء الإيزيديات في منطقة الباغوز، إذ قال بأنه لم تحصل الفرق التابعة للمكتب والموجودة في سوريا، على شيء ملموس[5].
————————————–
[1] بتاريخ 9 أيلول/سبتمبر من العام 2017، أعلنت قوات سوريا الديمقراطية عن البدء بمعركة “عاصفة الجزيرة”، من أجل تحرير الريف الشرقي من محافظة دير الزور، وذلك بالتزامن مع حملة أخرى كانت قد شنتها القوات النظامية السورية في الريف الغربي للمحافظة وخط نهر الفرات ضدّ عناصر تنظيم “داعش”، حيث أفضت هذه المعارك إلى السيطرة الكاملة على الريف الشرقي لدير الزور وذلك بتاريخ 22 آذار/مارس 2019.
[2] “داعش يدخل سنجار ويرفع رايته فوق قائمقاميتها”، موقع كتابات، في 3 آب/أغسطس 2014 (آخر زيارة بتاريخ 11 تموز/يوليو 2019).
[3] “الحكومة العراقية تعلن استعادة قضاء تلعفر ومحافظة نينوى بالكامل” موقع البي بي سي، في 31 آب/أغسطس 2017. (آخر زيارة بتاريخ 10 تموز/يوليو 2019). http://www.bbc.com/arabic/middleeast-41106873.
[4] “قوات سوريا الديمقراطية تعلن استسلام 3 آلاف من عناصر تنظيم داعش”، موقع يكيتي ميديا في 14 آذار/مارس 2019. (آخر زيارة بتاريخ 10 تموز/يوليو 2019).
[5] “حزب البارزاني يدعو الحكومة الى التحقق من رؤوس عشرات النساء المذبوحات إنقاذ أطفال ايزيديين من براثن “داعش” داخل سورية”، صحيفة الحياة في 28 شباط/فبراير 2019. (آخر زيارة بتاريخ 10 تموز/يوليو 2019).