الرئيسية تحقيقات مواضيعية بين عباءة داعش وعهد قسد.. كيف تغيرت أحوال مسيحيي الرقة ودير الزور؟

بين عباءة داعش وعهد قسد.. كيف تغيرت أحوال مسيحيي الرقة ودير الزور؟

مخاوف مستمرة رغم غياب القيود على ممارسة الشعائر الدينية

بواسطة bassamalahmed
505 مشاهدة تحميل كملف PDF هذا المنشور متوفر أيضاً باللغة: الإنجليزية حجم الخط ع ع ع
صورة خاصة بسوريون من أجل الحقيقة والعدالة تُظهر سكاناً محلّيين من مدينة الرقة يمشون أمام متجر لبيع أشجار أعياد الميلاد.

نينار خليفة

أيامٌ قاسيةٌ، ولحظاتٌ مريرةٌ، يستذكرها مسيحيو الرقة ودير الزور الذين عاصروا سيطرة تنظيم الدولة الإسلامية- داعش على المنطقة عام 2013، وإعلانه لاحقاً تأسيس “الخلافة الإسلامية” بمناطق واسعة في سوريا والعراق.

فمنذ ذلك الحين انطفأت بهجة أعيادهم وتفرّق شمل أسرهم، ولم يبقَ من الكثير من بيوتهم وكنائسهم غير الركام، ولم يغب عن أذهانهم ما شهدوه من عمليات تمييز وتضييق، فضلاً عن مشاهد قطع الرؤوس والإعدامات الجماعية والخطف والاعتقال.

ممارساتٌ كانت كفيلة بدفع غالبيتهم نحو مغادرة المنطقة تاركين بيوتهم وأحلامهم ومواطن حنينهم، بحثاً عن أوطان بديلة توفّر لهم الأمن والاستقرار والمستقبل لأبنائهم، أما من لم يملك خيار الرحيل فبقي محتضناً مآسيه ومحاولاً التأقلم مع صعوبات العيش.

الجزية أو اعتناق الإسلام:

يروي جوزيف (اسم مستعار)، المنحدر من بلدة المنصورة بريف الرقة، ما عاناه المسيحيون من مضايقات في أثناء سيطرة داعش على المحافظة التي مثّلت المعقل الأبرز للتنظيم في سوريا.

فقد فَرضَ التنظيم عليهم دفع الجزية المالية، وصادر كنائسهم ومنعهم من إقامة صلواتهم فيها، بالإضافة إلى تحويل بعضها لمقرات عسكرية أو سكن لعناصره، فضلاً عن فرض النقاب على نسائهم ومنعهم من الخروج بلباسهم الاعتيادي.

وقد صادر التنظيم خلال فترة سيطرته على الرقة الملكيات العقارية التي لم يتواجد أصحابها فيها كافة، بما في ذلك البيوت والمحلات، إذ كان يعطي البيوت لعناصره، ويقوم بتأجير المحلات عن طريق البلدية، وفقاً لجوزيف.

ويضيف جوزيف الذي لا يزال يعيش في الرقة، أن “معظم العائلات المسيحية خرجت منها ولم يتبقَّ فيها إلا القلة القليلة المتمثلة بأصحاب المهن وبعض مالكي الصيدليات والمحلات وكبار السن الذين لم يستطيعوا اللجوء إلى أماكن أخرى بسبب الأوضاع المالية الصعبة التي مروا بها”.

ويتابع بهذا الصدد، أن “هؤلاء هم في الغالب أفراد وليسوا عائلات، يعملون في الرقة لأن سوق العمل فيها جيد نوعاً ما، في حين أن عائلاتهم تقيم في مناطق النظام، أو الحسكة والقامشلي، أي المناطق التي تعتبر أكثر آمناً لهم”.

وحول عودة بعض الأهالي المسيحيين إلى الرقة بعد خروج التنظيم منها، يشير الشاب العشريني إلى أنه، “لا يمكن تسجيل عودة حقيقة للعائلات المسيحية للرقة، وإنما يقتصر الأمر على بعض الأفراد من أصحاب المهن والأشغال، الذين عادوا لممارسة أعمالهم بشكل دائم، أو لإدارة أملاكهم بشكل مؤقت”.

وتمكن العائدون من استعادة أملاكهم التي نهبها التنظيم سابقاً، أو تدمّر جزء منها جراء القصف الذي تعرضت له، مع حرية التصرف بها سواء كان بيعاً أو تأجيراً، إذ تدير لجنة تابعة لمجلس الرقة المدني هذا الملف، وفق ما يوضح جوزيف.

ورغم ما شهدته أحوال مسيحيي الرقة من تحسّن في أعقاب سيطرة قوات سوريا الديمقراطية (قسد) بدعم من التحالف الدولي عليها وطرد داعش منها في تشرين الأول/أكتوبر 2017، إلا أنهم لا يقيمون أي شعائر دينية، ويوضح جوزيف بهذا السياق، أن”هناك كنيسة واحدة بجانب حديقة الرشيد تم ترميمها من قبل مجلس الرقة المدني، لكن لم يقم فيها أي قداس ديني في موسم الأعياد هذا”، مضيفاً أن مسيحيي المدينة “على الأغلب لا يجرؤون على الذهاب للكنيسة خوفاً من أن يكونوا هدفاً لخلايا داعش النائمة”.

ويشير إلى أن موسم أعياد الميلاد ورأس السنة يشهد سفر “معظم الأشخاص لمناطق تواجد عائلاتهم للاحتفال معهم، باستثناء كبار السن الذين يعيشون وحيدين في الرقة منذ بداية الأحداث الدامية التي مرت بها عام 2013”.

كانت الرقة ودير الزور المحافظتين الأسوأ حظاً على مسيحيي سوريا، بعد سيطرة تنظيم داعش الذي خيّر المسيحيين بين دفع الجزية وقبول تقييد ممارسة شعائرهم الدينية وإلا واجهوا القتل أو قبلوا باعتناق الإسلام، ما أدى إلى هجرة شبه تامة للمسيحيين.

وفي بيان نشره التنظيم على الإنترنت، قال إنه سيمنح الحماية للمسيحيين في حال وافقوا على شرطيه السابقين.

وطالب التنظيم المسيحيين الأثرياء بدفع جزية تساوي 14 غراماً من الذهب الخالص، والمسيحيين من الطبقة الوسطى دفع نصف هذا المبلغ، والفقراء منهم دفع ربعها.

وأكد التنظيم أنه لن يسمح للمسيحيين بترميم الكنائس، أو دق أجراسها، أو الصلاة خارجها، أو إظهار الصليب أو رسمه على أي شيء.

صورة رقم (1) – نساء من السكان المحليين من مدينة الرقة يمشون أمام متجر لبيع أشجار أعياد الميلاد.

حكم الرعب:

يصف علي (اسم مستعار)، 33 عاماً، طالب جامعي، وهو من سكان حي البدو في مدينة الرقة، ما شاهده من معاملة تمييزية بحق المسيحيين في أثناء فترة سيطرة تنظيم الدولة على المنطقة.

ويلفت إلى عدم إعطاء المسيحيين حريتهم في كافة المناطق التي سيطر عليها التنظيم، “إذ تم فرض النقاب والخمار على النساء المسيحيات، وإلزام الرجال بارتداء الجلابيب وإطلاق اللحى، كما فرض عليهم دفع الجزية، وحُرموا من ممارسة طقوسهم الدينية وأُقفلت الكنائس.”

خضعت العائلات المسيحية في الرقة إبان سيطرة تنظيم داعش عليها لدورة تعريفية من قبل عناصره، حول كيفية التعامل مع المسلمين، والحقوق والواجبات المفروضة عليهم كمسيحيين، استمرت سبعة أيام.

ويتحدث علي عن ممارسة عناصر التنظيم رقابة مشددة على الأفراد، إذ “كانوا يراقبون الجميع، وبالنسبة لهم أي شخص ليس معهم فهو ضدهم، ويتم وضع أي شخص له تواصل خارجي تحت المراقبة، مشيراً إلى منع “استخدام الإنترنت إلا في بعض المحلات”، بينما “أصبح استعمال وسائل التواصل الاجتماعي مقتصراً على أماكن خاصة، كما منعوا مشاهدة التلفاز، وأي شخص يكون محل شك بالنسبة لهم يتم تفتيش جواله وإذا احتوى على أي شيء مخالف لقوانينهم يتم اعتقاله”.

ويضيف الطالب الجامعي أن التنظيم تعامل مع “أي شخص يقوم بتوصيل معلومات حول التنظيم لجهات خارجية على  أنه عميل وقد تصل عقوبته إلى حد القتل، سواء كان مسلماً أم مسيحياً”، فيما يتم وضع اليد على ممتلكات “كل شخص كان يخرج من مناطق سيطرة التنظيم سواء كان بيتاً أم محلاً تجارياً أم سيارة”.

وكان علي شاهداً على حادثة اعتقال عناصر التنظيم سيدة مسيحية تعمل كصيدلانية رغم التزامها بجميع الأوامر المفروضة من قبلهم، ولم يتمكن أحد من معرفة سبب اعتقالها، لكن يُعتقد أنها كانت مسألة أمنية، وفق ما يوضح، ودامت فترة الاعتقال لأزيد عن عشرة أيام تم التحقيق معها خلالها ومن ثم الإفراج عنها.

وفي حادثة أخرى، شهد علي اعتقال وتعذيب نقيب كان ضمن صفوف الجيش السوري من قبل عناصر التنظيم، ولم يفرجوا عنه حتى أعلن إسلامه وغير اسمه، وبعد خروجه من السجن قام بالسفر خارج البلد، وفق ما يؤكد.

قالت لجنة التحقيق الدولية المستقلة بشأن الجمهورية العربية السورية، في تقرير أصدرته تحت عنوان: “حكم الرعب: الحياة في ظل الدولة الإسلامية في العراق والشام في سوريا”، بتاريخ 14 من تشرين الثاني/نوفمبر 2014، إن المدنيين، بمن فيهم الرجال والنساء والأطفال والأقليات الإثنية والدينية الذين ظلوا في المناطق التي يسيطر عليها تنظيم داعش كانوا يعيشون في حالة من الرعب.

وقام التنظيم بعرقلة ممارسة الحريات الدينية، وحرية التعبير، وحرية التجمع، وحرية تكوين الجمعيات، وهي كلها حريات يكفلها القانون الدولي. وعندما كان التنظيم يحتل مناطق تقطنها مجتمعات متنوعة إثنية ودينية كانت الأقليات تُرغم إما على الذوبان أو الهروب، وطبّق التنظيم سياسة فرض عقوبات تمييزية مثل الضرائب أو تغيير الدين بالإكراه على أساس الهوية الإثنية أو الدينية مع تدمير المواقع الدينية والقيام منهجياً بطرد مجموعة الأقليات، ومع انتشار داعش في شرق سوريا استمر الهجوم علـى المسيحيين وأماكن عبادتهم، وتم توثيق التحويل القسري لعدة مسيحيين آشوريين إلى الإسلام.

وأكدت اللجنة أن هجوم داعش على الكنائس والصروح والمباني التاريخية المخصصة للدين والثقافة ولا تحتوي على أي أهداف عسكرية يمثل “جريمة حرب”.

حال المسيحيين بعد داعش:

يشير الصحفي المنحدر من الرقة، عبدالله الخلف، إلى أنه لا توجد إحصائيات رسمية لعدد المسيحيين المتبقين حالياً في المحافظة، لكنه ينقل عن مصادر محلية من الأهالي قولهم إن عددهم لا يتجاوز المئة شخص، بينما يرى آخرون أنه أقل من 60 شخصاً.

ويلفت إلى أن نسبة قليلة من مسيحيي الرقة عادوا إليها بعد خروج تنظيم داعش منها، بينما توزّع الباقون على مناطق سيطرة النظام في حلب وحمص واللاذقية ودمشق وغيرها، وهاجر آخرون إلى لبنان وأرمينيا ودول أوروبية.

ويؤكد الخلف أنه لا توجد أي حالات تضييق على المسيحيين حالياً من قبل سلطة الإدارة الذاتية التابعة لقوات سوريا الديمقراطية أو من أي طرف آخر، لكن معظم مسيحيي المدينة، وهم أفراد بقيوا من أجل إدارة أعمالهم، لا يمارسون شعائرهم الدينية بانتظام كما كانوا سابقاً، وفي أعياد الميلاد يسافرون للاحتفال مع أسرهم وأقاربهم المقيمين في حلب واللاذقية والحسكة وغيرها.

ويبين أنه كانت توجد في مدينة الرقة قبل الحرب ثلاث كنائس، وهي سيدة البشارة للروم، والشهداء للأرمن الكاثوليك، ومدرسة الحرية للأرمن الأرثوذوكس، وقد تعرضت كل من الأولى والثانية للدمار الكلي بسبب استهدافهما بغارات جوية من التحالف الدولي عام 2017، إذ كان تنظيم داعش يتخذهما كمقرات له.

وتمّ مؤخراً إعادة إعمار كنيسة الشهداء فقط، من قبل مجلس الرقة المدني، وبتمويل من فريق منظمة حراس بورما الأحرار (فري بورما رينجرز).

من جانبها تؤكد وفاء باشا، وهي سيدة مسيحية تتبع للطائفة الأرثوذكسية، عدم وجود أي قيود على ممارسة الشعائر الدينية، وتقول واصفة أوضاع المسيحيين الحالية، “نحن نعيش اليوم في الجنة، في الأمان، نمارس طقوسنا”، وتضيف، “قمنا بتزيين شجرة كبيرة في مدينة كوباني، حيث ساعدتنا الإدارة الذاتية بشكل كبير بتوفير رافعات وكهرباء وكل ما احتجناه له”، معربة عن أمنياتها أن “يدوم الأمان والسلام دائماً وأبداً لنا ولإخواننا المسلمين ولجميع أهالي شمال شرق سوريا”.

صورة رقم (2) – مسيحيون سريان خلال قداس الأعياد في كنيسة السيدة العذراء للسريان الأثوذكس في مدينة القامشلي بمحافظة الحسكة.

في 17 من تشرين الأول/أكتوبر 2017، أعلنت قوات سوريا الديمقراطية (قسد) سيطرتها على كامل مدينة الرقة بدعم من “التحالف الدولي” الذي تقوده الولايات المتحدة الأمريكية، واستطاعت طرد تنظيم الدولة الإسلامية من أحد أهم معاقله في سوريا، وذلك بعد معارك ضده ضمن حملة أطلقت عليها اسم غضب الفرات.

لكن المعارك مع التنظيم استمرت حتى 23 آذار/ مارس 2019، وهو تاريخ إعلان واشنطن القضاء عليه في سوريا بعد طرده من آخر معاقله في الباغوز بريف دير الزور الشرقي.

ورغم الإعلان عن إنهاء نفوذ التنظيم شرقي سوريا، لا يزال يثبت حضوره في الميدان السوري من خلال تنفيذ هجمات عسكرية واسعة، تقوم بها خلاياه النائمة خاصة في منطقة البادية السورية الممتدة بين محافظتي حمص ودير الزور، إلى جانب هجمات متفرقة في دير الزور والرقة وحمص.

ولا يزال التحالف الدولي يلاحق قياديي التنظيم وينفذ عمليات لاعتقالهم، وخلال عام 2022 أجرت القوات الأمريكية 313 عملية ضد التنظيم في سوريا والعراق، وفق بيان صادر عن القيادة المركزية الأمريكية نشرته في 29 من كانون الأول/ديسمبر 2022.

وقالت القيادة المركزية في بيانها إنها قوضت قدرة تنظيم الدولة على توجيه الهجمات، وقضت على العديد من القادة، من ضمنهم أمير التنظيم وعشرات القادة الإقليميين.

وكانت واشنطن أعلنت عن قتلها زعماء التنظيم في سوريا، ماهر العكال، أبو إبراهيم الهاشمي القرشي، أبو الحسن الهاشمي القرشي، الذين خلفوا أبو بكر البغدادي، الذي قتلته القوات الأمريكية أيضاً في عملية خاصة شمالي سوريا.

مسيحيو الجزيرة نحو الزوال:

الناشط المدني “غاندي سعدو” يروي ما تعرّض له مسيحيو الجزيرة السورية من انتهاكات على يد تنظيم داعش أدت إلى تناقص أعدادهم بشكل كبير.

فقد عانى المسيحيون الذين عاشوا تحت سيطرة داعش في الرقة ودير الزور كغيرهم من الأهالي من انتهاك الحقوق الأساسية والحريات العامة ومنها حق التعبير عن الرأي، ووضع الحدود على اللباس والعمل، بالإضافة إلى حرمانهم من ممارسة شعائرهم الدينية بحرية كاملة، ومن الاحتفال بالأعياد الخاصة بهم. وقد تقلّصت أعدادهم في هذه المناطق بشكل كبير بسبب وجود تهديدات دائمة مثل حالات الخطف.

ويشير سعدو إلى أن عدد المسيحيين في الرقة ودير الزور قليل جداً في الأصل مقارنة مع بقية مناطق الجزيرة مثل الحسكة، والخابور، والقامشلي، وديريك والتي كان يوجد فيها كثافة مسيحية جيدة، بحسب تعبيره.

أما المنطقة التي تعرّض فيها المسيحيون للانتهاك الأكبر على يد تنظيم الدولة، وفق رأيه، فهي الخابور، إثر الاجتياح الكبير الذي طال كامل القرى الجنوبية، والتي يقارب عددها 15 قرية آشورية سريانية عام 2015. إذ تم خطف سكانها بشكل كامل إلى مناطق غير معروفة، عقبها مفاوضات بين الكنيسة والأحزاب الآشورية من جهة وقادة داعش من جهة أخرى، ليتم الإفراج عن غالبية المختطفين مقابل دفع فدية،، لكن تم إعدام ثلاثة منهم، ولا يزال مصير عدد من المختطفات مجهولاً حتى الآن، وكان ذلك الانتهاك الأكثر قسوة إذ نسف الوجود الآشوري في الخابور بشكل كامل.

ويشبّه سعدو الوجود المسيحي حالياً في المنطقة بحركة نزوح اليهود من الجزيرة في سبعينيات القرن الماضي، أي أنه يسير نحو الزوال بشكل كبير جداً، “إذ لا تولي الكنائس أهمية للأشخاص المسيحيين المتبقين في الرقة ودير الزور تحديداً، وليس لترميم كنيسة في الرقة أي أثر على الوجود المسيحي هناك”، ويعتقد  الناشط المدني أنه من الصعب عودة أي مسيحي إلى مناطق الرقة ودير الزور، حتى ضمن الظروف الحالية.

ففي الرقة دُمرت الكثير من الملكيات العقارية بسبب الاشتباكات التي دارت بين داعش وقسد، والقصف بالطائرات وراجمات الصواريخ فضلاً عن التفجيرات التي نتجت عن ألغام خلّفها التنظيم وراءه، وقد تحولت هذه الأملاك إلى خراب، و”من تمكن من بيع ملكياته بسعر زهيد باعها، أما من لم يتمكن فقد تركها وغادر، فبالنسبة له إنقاذ أرواح العائلة أهم بكثير من موضوع الملكيات”، وفق ما يشرح سعدو.

بحسب تقرير أصدره معهد الأمم المتحدة للبحث والتدريب في آذار/مارس 2019، يوجد في محافظة الرقة 3326 مبنى مدمراً بشكل كلي، و3962 مبنى مدمراً بشكل بالغ، و5493 مبنى مدمراً جزئياً، ليكون مجموع المباني المتضررة 12781 مبنى.

وتوزع الدمار على مختلف المدن والقرى التابعة للمحافظة.

ويعتبر “سعدو” أن للإدارة الذاتية التابعة لقسد “ملفاً مؤسفاً” بما يخص الحفاظ على الملكيات الخاصة بالمهاجرين، أو حتى الذين فقدوا أوراقهم الثبوتية بعد تدمير السجل العقاري التابع للنظام السوري خلال الحرب، سواء من المسيحيين أو من مكونات المجتمع الأخرى.

وثقت منظمة سوريون من أجل الحقيقة والعدالة، في تقرير أصدرته بشهر كانون الأول/ديسمبر 2020، استيلاء لواء الشمال الديمقراطي التابع لـ قسد على أكثر من 80 منزلاً في مدينة الرقة، في الفترة ما بين شباط/ فبراير وكانون الأول/ ديسمبر من نفس العام. ونقلت المنظمة عن شهود عيان تأكيدهم استيلاء قسد على عشرات المنازل في أحياء مختلفة من مدينة الرقة، منها 80 منزلاً في حي مساكن الشرطة وحده، بهدف إسكان عناصر اللواء وعائلاتهم فيها.

وكان أصحاب هذه المنازل قد اضطروا للنزوح إلى مناطق سورية أخرى، أو الهجرة خارج البلاد في أثناء سيطرة داعش على المحافظة، وما تلاها من عمليات عسكرية قام بها التحالف الدولي، ليفاجؤوا عند عودتهم بوجود عائلات تتبع للواء الشمال الديمقراطي داخل منازلهم.

صورة رقم (3) – صورة عامة لكنيسة السيدة العذراء للسريان الأثوذكس في مدينة القامشلي بمحافظة الحسكة.

ما مخاوف المسيحيين المتبقين في المنطقة؟

يرى سعدو أن الأهالي الذين يعيشون بمنطقة الجزيرة يتقاسمون المخاوف الأمنية المتمثلة بنشوب أية حروب محتملة سواء بين قسد والنظام السوري، أو بين قسد وفصائل المعارضة المسلحة، بالإضافة لمخاوف من التدخلات الخارجية التركية خاصة، وتهديدها المستمر بإنشاء ما يسمى بالمنطقة الآمنة بعمق 30 كم داخل الأراضي السورية.

ويضاف إلى ذلك مخاوف تتعلق بالحياة المعيشية، في ظل التضخم الحاصل وانهيار سعر صرف الليرة السورية وانتشار البطالة وقلة فرص العمل.

كما يعبر أهالي الجزيرة عن قلقهم بشأن العملية التعليمية، لأن الإدارة الذاتية تفرض مناهج خاصة بها وهي غير معترف بها رسمياً، ويلفت سعدو  إلى أن الإدارة الذاتية تطالب خلال العامين الأخيرين المدارس الخاصة بالطوائف السريانية اعتماد تدريس مناهجها مهددة بإغلاقها في حال عدم التزامها بذلك، وهو ما ترفضه الطوائف المسيحية لأن هذه المناهج غير معترف بها، فأي شخص يأخذ شهادة الثانوية من هذه المدارس لا يمكنه إكمال تعليمه في أي جامعة داخل سوريا أو خارجها.

ويضيف سعدو أنه حتى من لم يكن يفكر في السفر إلى خارج البلاد، فإن هذه النقطة الحساسة جداً، ستجبره على التفكير بالهجرة، خوفاً على مستقبل أبنائه وبناته التعليمي.

●      احتضنت محافظة دير الزور الآلاف من المسيحيين الأرمن منذ عام 1916 في أعقاب المجازر التي تعرضوا لها على يد العثمانيين خلال الحرب العالمية الأولى، وعلى مدى عقود لم يكن هناك تمييز بين المسيحيين والمسلمين ولم يسجل التاريخ أي حالة اعتداء أو خلاف حصل بسبب الدين.

●      دفع الحصار الخانق الذي مارسه النظام السوري على أحياء مدينة دير الزور، واستخدامه العنف بحق المدنيين، خاصة خلال الاجتياح العسكري الثاني في حزيران/ يونيو 2012، العائلات المسيحية أسوة ببقية سكان المدينة، إلى مغادرتها والنزوح إلى مدن سورية أخرى مثل دمشق وحمص وحلب والحسكة أو اللجوء إلى دول غربية، وتزامنت الموجة العظمى من تهجير العائلات المسيحية مع قصف النظام المكثف على حي الرشدية ذي الغالبية المسيحية.

●      بعد سيطرة داعش عام 2014 على دير الزور، غيّر اسمها ليصبح “ولاية الخير“، لأنّ اسمها الأول يشير إلى الدين المسيحي، لا سيما كلمة “دير”، بحسب اعتقاده، وقد باتت المحافظة شبه خالية من المسيحيين.

●      بُعيد فك الحصار عن  دير الزور واستعادة أحيائها من سيطرة التنظيم، عادت بعض العائلات بقصد الاطلاع على أحوال ممتلكاتهم.

●      أُقيم أوّل قداس في شهر شباط/فبراير من عام 2018 في كنيسة السيدة العذراء للسريان الأرثوذكس، بعد خمس سنوات من الانقطاع، أقامه الرئيس الأعلى للكنيسة السريانية الأرثوذكسية، البطريرك مار أغناطيوس أفرام الثاني، بحضور عدد من المسيحيين العائدين للمدينة وبمشاركة رجال دين مسلمين.

الإدارة الذاتية تتعهد بتوفير شروط عودة المسيحيين:

رئيس مكتب شؤون المنظمات في مجلس الرقة المدني، سامر الناشف، يصف من جانبه وضع المسيحيين المتبقين في الرقة ودير الزور بالطبيعي جداً والمستقر، إذ لا يواجه السكان في مناطق سيطرة الإدارة الذاتية أي مضايقات لأسباب إثنية أو دينية أو عرقية أو طائفية، بحسب تعبيره.

وقد شهدت تلك المناطق عودة كثير من العوائل المسيحية بعد تحريرها من تنظيم داعش، إذ توفر الإدارة الذاتية الشروط الملائمة لعودة المهجرين من المسيحيين وغيرهم إلى مناطق سيطرتها، وفق ما يفيد الناشف، مضيفاً، “إنها إدارة لكل الشعوب، وأحد مناهجها الأساسية في ميثاقها أخوة الشعوب، وبالتالي فهي تعطي أولوية لعودة المهجرين من أهلنا المسيحيين والآشوريين ومختلف الإثنيات والقوميات والديانات الأخرى إلى مناطقهم الخاضعة لسيطرتها”.

ويوضح الناشف أن الإدارة الذاتية تعمل على توفير المسكن والدعم الإغاثي لتسهيل عودة المهجرين، مبيناً أنه، “يوجد في الرقة أبنية ملك اجتماعي (تضامن وتكافل)، ففي حي الثكنة على سبيل المثال يوجد بناءان تابعان لجمعية السريان فيهما عدة شقق جاهزة، ومنها ما هو بحاجة تأهيل أو ترميم حتى تصبح صالحة للسكن بشكل جزئي، وقد سكنتها بعض العوائل المسيحية التي عادت ووجدت بيوتها مدمرة”.

وفيما يخص تأمين الاحتياجات وتقديم المساعدات الإنسانية، يؤكد المسؤول المحلي أن للمسيحيين أولوية لدى المنظمات الدولية والمحلية، أسوة بباقي المهجرين والمتضررين من الحرب، مضيفاً أنه “بحسب معايير مكتب شؤون المنظمات، يكون دائماً للمهجر أو النازح أو المتضرر من الحرب أولوية بالمساعدات الإنسانية، وهو ما يتم مع أخوتنا المسيحيين والأقليات الأخرى القومية أو الدينية”.

وحول تفضيل نسبة كبيرة من مسيحيي المنطقة عدم العودة إليها، يرى الناشف أن السبب ربما يرجع لأنهم ذاقوا الويلات في أثناء سيطرة داعش وأصبح لديهم تخوف من أي منطقة كان يتواجد فيها، لا سيما في ظل وجود خلايا نائمة تابعة للتنظيم، كما يمكن أن يكون السبب أنهم وجدوا الأمان في المناطق التي لجأوا إليها وتوافرت لهم شروط حياة أفضل في المهجر، فسوريا تتصدر قائمة أخطر الدول في العالم.

مصير الملكيات العقارية:

ويؤكد الناشف أن أملاك المسيحيين الذين اضطروا لتركها ولم يتمكنوا من العودة إليها مصانة وفق قانون حماية وإدارة أملاك الغائب الذي أصدرته الإدارة الذاتية عام 2020، فالمسيحي مالك العقار يمكنه إدارة أملاكه من خارج البلد عن طريق توكيل أحد من أهل المنطقة، بمعنى أنه إذا كان يمتلك منزلاً أو محلاً تجارياً وهو مسافر خارج البلد يمكن أن يوكل جاره على سبيل المثال ليقوم بتأجيره أو بيعه أو استثماره وأن يحصل على مردود مادي منه.

ولم ينفِ الناشف حدوث حالات صادرت خلالها الإدارة الذاتية ملكيات المهجّرين، أو تم شغلها من قبل عائلات أخرى، إلا أنه يرجعها إلى وجود “تجاوزات فردية”، فبعض الأهالي عندما عادوا إلى بيوتهم وجدوا أشخاصاً يقيمون بها، وهم لم يستملكوها بل أقاموا فيها فقط، وهو ما يسمى “غصب عقار”، وفي مثل هذه الحالات، بمجرد أن يقدم المالك دعوى إلى النيابة العامة في المحكمة التابعة للإدارة الذاتية تأخذ الإدارة فوراً إجراء بأن يعود الملك لصاحبه بعد أن يقدم الأوراق الثبوتية، بحسب قوله.

ويبيّن الناشف أنه حتى في حال كانت الأوراق الثبوتية قد تعرضت للحرق أو الإتلاف، يمكن أن يشهد خمسة أشخاص من أهالي الحي القديمين أن هذا الشخص هو صاحب العقار فتصدر المحكمة قراراً بإخلاء المنزل من قبل أي جهة كانت، ويتم تسليمه لصاحبه مباشرة.

صورة رقم (4) – مسيحيون سريان خلال قداس الأعياد في كنيسة السيدة العذراء للسريان الأثوذكس في مدينة القامشلي بمحافظة الحسكة.

استراتيجية إفراغ المنطقة من المسيحيين:

يقدر محاضر قسم السياسات الشرق أوسطية في جامعة إكستر ببريطانيا، سامر بكور، عدد العائلات المسيحية في الرقة قبل سيطرة تنظيم داعش عليها بحدود 1500 عائلة، يشكلون 1% من مجمل سكان المدينة، نصفهم من الروم الأرثوذوكس والنصف الآخر من سائر الطوائف المسيحية الأخرى.

وقد فرّ معظمهم بعد أن بدأ التنظيم بمهاجمة الكنائس وإحراقها والتضييق عليهم، إلى تركيا وأوروبا وخاصة ألمانيا وهولندا، إذ لا يتجاوز عدد العائلات المسيحية المتبقية في الرقة حالياً العشرين عائلة.

ويوضّح بكور أن سياسة تنظيم داعش مع الطائفة المسيحية في الرقة كانت قد رُسمت من خلال قانون “عقد الذمة في الشام بين الدولة الإسلامية ونصارى ولاية الرقة”، الذي سنّه التنظيم في شهر شباط/فبراير من عام 2014، وقد قام بفرض الجزية  عليهم، ومصادرة منازل وملكيات أبناء الطائفة المسيحية والأرمن في الرقة ومنطقة عين عيسى، وإحراق عدة كنائس في مدينتي تل أبيض والرقة أو احتلال مبانيها. وقد نظر التنظيم إلى المسيحيين على أنهم جزء من “الغرب الكافر”، معتبراً أن ولاءهم  له مزيف، فكان يدعو مسيحيي الرقة بين الفينة والأخرى إلى الدين الإسلامي ضمن بيان ما أسماه اجتماع “أهل الذمة”.

أما فيما يخص محافظة دير الزور، يُقدّر بكور عدد المسيحيين فيها قبل عام 2011 بـ 3000-5000 مواطن، كانوا يتركزون في ثلاث مدن، البوكمال، والميادين ودير الزور.

وتوزعت نسبة كبيرة من المسيحيين داخل مدينة دير الزور في حيي القصور والرشدية، وضمّت المدينة خمس كنائس هي، كنيسة شهداء الأرمن للأرمن الأرثوذكس، كنيسة مريم العذراء للسريان الأرثوذكس، كنيسة الأرمن الكاثوليك، كنيسة السريان الكاثوليك، كنيسة يسوع الملك للآباء الكبوشيين (اللاتين)، إضافة إلى عشرات العائلات المسيحية التي تنتمي لمختلف الطوائف، لكن بعد سيطرة داعش على المدينة ومشاهدة حجم الدمار الذي تعرضت له الكنائس لا سيما كنيستي مريم العذراء ، وشهداء الأرمن، وسرقة آثارها، وحرق كتبها، وتهديد أهلها بتغيير دينهم، والذي ترافق مع سوء الأوضاع المعيشية، لجأ جميع أبناء الطائفة المسيحية في المدينة للخارج، فتوجه أكثر من 30% منهم لتركيا وأوروبا، أما البقية فقد نزحوا لبقية المحافظات السورية وخاصة الساحل.

ولم يكن مسيحيو مدينة البوكمال أفضل حالاً، فقد أصدر قاضي الهيئة الشرعية التابعة لجبهة النصرة قراراً يقضي بهدم الكنيسة الوحيدة في المدينة بشكل كامل، بعدما كانت قد هُدمت جزئياً بسبب القصف.

وعندما سيطر تنظيم الدولة على المنطقة لم تختلف ممارساته عن جبهة النصرة، فقد استولى على أملاك أتباع الديانة المسيحية الذين نزحوا سابقاً من المدينة، وكتب على جدران الممتلكات عبارة “ملك للدولة الإسلامية”.

أما في الميادين، فقد نزح جميع المسيحيين لأن التنظيم كان قد خيّرهم بين دفع الجزية التي لا طاقة لهم بها، أو الخروج من المناطق الخاضعة لسيطرته.

“قام تنظيم داعش بقطع رقاب الرجال والنساء والأطفال، وإطلاق النار عليهم ورجمهم في البلدات والقرى الواقعة شمال شرقي سوريا، وهو يستخدم ممارسة التكفير، إذ يعلن أحد الأشخاص مارقاً لكي يبرر الهجوم على أي شخص أو مجموعة يعتبرها تحدياً لسيطرته.

وكثير من الذين تم إعدامهم كانوا متهمين بالانتماء إلى إحدى المجموعات المسلحة الأخرى أو التعاون مع الحكومة السورية، وفي البيانات العامة التي تصدر قبل عمليات الإعدام كان يُطلق على هؤلاء الأشخاص صفة كفار”.

لجنة التحقيق الدولية المستقلة بشأن الجمهورية العربية السورية

خطورة التغيير الديموغرافي الحاصل:

يرى بكور أن حوادث دير الزور والرقة أعطت انطباعاً بأن هذه المناطق لم تعد آمنة للأقليّة المسيحية المقيمة، خاصة بعد موجة المضايقات والهجمات التي قام بها بعض عناصر التنظيمات المسلحة على أفراد الطائفة.

ويشير إلى أن تهجير المسيحيين من الرقة ودير الزور، لم يهدف إلى القضاء على المدنيين أو معاقبتهم فحسب، بل اُستخدم أيضاً لفرز السكان حسب الولاء والانتماء، فالنزوح الاستراتيجي اتّبع منطقاً مختلفاً من حيث التطهير ومنطق العقاب، إذ ارتبط بهويات الناس وولاءاتهم، كما أن الحرب الأهلية الطائفية في تلك المناطق عززت الانتماءات المحلية الضيقة.

ويضيف أن التغيير الديموغرافي المتمثل بتهجير المسيحيين أبرز أيضاً استراتيجية حرمان عودة النازحين وغيرها من القوانين الكفيلة بتقييد رجوعهم، من خلال تدمير الممتلكات وغيرها من الأساليب الطردية، وهي إحدى الظواهر التي عكست تأثيرها على السوريين لارتباطها إنسانياً وسوسيولوجياً بمفهوم الوطن، ونظراً لما لها مـن آثار مستقبلية خطيرة على الهوية الديموغرافية السورية.

ويتابع أن العنف برز في المناطق التي تواجه تغييرات هيكلية كبيرة وانهياراً للدولة في شمال شرق سوريا، وقد شهدت بعض هذه المناطق هجمات طائفية وتطهيراً عرقياً يعود إلى القوى المسيطرة في تلك الحقبة.

ويوضح المحاضر أن التغييرات الديموغرافية التي حدثت في هذه المحافظات كانت على أساس المنطق العرقي أو الطائفي.

ويختم بكور حديثه بالقول، “إنها كانت حرب الديموغرافية الصامتة ضد ما بقي من آخر أقليات المسيحيين في تلك المحافظات”.

منشورات ذات صلة

اترك تعليقاً

* By using this form you agree with the storage and handling of your data by this website.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك عدم المشاركة إذا كنت ترغب في ذلك. موافق إقرأ المزيد