الرئيسية صحافة حقوق الإنسانقصص وشهاداتقصص مكتوبة “كنا نتناوب على استنشاق الهواء”

“كنا نتناوب على استنشاق الهواء”

قصة الناجي "يوسف إبراهيم البكور" عقب سبعة أعوام من الاحتجاز في سجون الأجهزة السورية

بواسطة wael.m
588 مشاهدة تحميل كملف PDF هذا المنشور متوفر أيضاً باللغة: الإنجليزية حجم الخط ع ع ع

مقدمة:

على الرغم من خدمته أعواماً طويلة في فرع الأمن الجنائي في محافظة حلب، إلا أنّ ذلك لم يشفع لـ "يوسف إبراهيم البكور" من خطر الاحتجاز على يد الأجهزة الأمنية السورية في العام 2011، فلم يكن في حسبانه أنّ إحضار القليل من الخبز لأهالي مدينته ومسقط رأسه في كفرزيتا، قد يعرّضه للاحتجاز طوال سبع سنوات مريرة وقاسية اختصرها لسوريون من أجل الحقيقة والعدالة في هذه الشهادة التي تمت في أواخر شهر آذار/مارس 2018، حيث استهلّ حديثه قائلاً:

"لم يتم الإفراج عني إلا بعدما دفعت رشوة بقيمة (10) ملايين ليرة سورية للقاضي، وهو ما اضطرني إلى بيع كافة ممتلكاتي من أجل تنفّس الحرية، وقد تمّ ذلك أخيراً بتاريخ 16 آذار/مارس 2018."

أولا: لمحة عن حياة الناجي "يوسف إبراهيم البكور":

"يوسف إبراهيم البكور" من مواليد مدينة كفرزيتا في ريف حماة الشمالي عام (1976)، تطوّع في فرع الأمن الجنائي الكائن في مدينة حلب منذ عام (1995)، وبقي كذلك حتى اندلاع الاحتجاجات في عموم مدن وبلدات سوريا عام 2011، فعلى الرغم من أنه كان عنصراً من عناصر الأمن الجنائي التابع لقوات الحكومة السورية إلا أنّه كان من أوائل الذين خرجوا في المظاهرات التي عمّت مسقط رأسه كفرزيتا آنذاك.

أدى اندلاع الحراك السلمي في بداياته إلى ارتفاع أسعار المواد الغذائية بشكل عام في محافظة حماة وخصوصاً مادة الخبز، وهو ما دفع يوسف إلى إحضار القليل من الخبز من محافظة حلب إلى عدد من العائلات الفقيرة في مدينته كفرزيتا، وفي هذا الصدد تحدّث يوسف لسوريون من أجل الحقيقة والعدالة قائلاً:

"لم يتم الإفراج عني إلا بعدما دفعت رشوة بقيمة (10) ملايين ليرة سورية للقاضي، وهو ما اضطرني إلى بيع كافة ممتلكاتي من أجل تنفّس الحرية، وقد تمّ ذلك أخيراً بتاريخ 16 آذار/مارس 2018."

ثانياً: مجريات التحقيق في فرع أمن الدولة في حلب:

في صبيحة يوم الأربعاء الموافق 30 تشرين الثاني/نوفمبر 2011، تمّ سوق يوسف إلى غرفة التحقيق، حيث استقبله المحقق بالشتائم والضرب على عدة مناطق من جسده، ثمّ قام بكيل الاتهامات إلى يوسف حول تشكيل خلية إرهابية لاغتيال رؤساء فروع الأمن وزعزعة استقرار البلاد إضافة إلى تمويل الإرهاب بالمال، وبدأ يطالبه بالاعتراف بها تحت الضرب المبرح، وفي هذا الخصوص تابع البكور قائلاً:

"حاولت جاهداً إقناعه بأنّ كل التهم الموجهة ضدي لا أساس لها من الصحة، وبأنني مجرد عنصر من عناصر الأمن الجنائي، إلا أنني اعترفت بشيء واحد ولم أكن أعلم أنّ ما قلته سيشكل نقطة انطلاق لحديث آخر مع هذا المحقق، إذ قلت له حرفياً بأنني أقوم أحياناَ بجلب مادة الخبز من أفران محافظة حلب إلى بعض أقاربي في كفرزيتا، حينها توقف قليلاً وقال لي: من يقوم معك أيضاً بتمويل الإرهاب من زملائك العناصر؟ ففوجئت بسؤاله ثم أجبته بحزم: لم يكن معي أحد بل كنت أقوم بذلك دون مساعدة أحد، وبدأ المحقق ينهال عليّ بالضرب ويكرر عليّ سؤاله، وبعد أن عجز عن أخذ أي معلومة طلب من أحد العناصر أن يعيدني إلى الحبس الانفرادي، فقام العنصر بسحلي أرضاً دون أي رحمة، إلى أن وضعني في المنفردة وبقيت على هذا الحال طيلة شهر كامل، وكان يتكرر ذات السيناريو يومياً من تعذيب وحشي وإهانات نفسية، في محاولة منهم كي أعترف بدعم وتمويل ما أسموه العصابات الإرهابية، لكن دون أي فائدة، إلى أن اشتدّ بي الحال ذات مرة وأنا داخل غرفة التحقيق، حيث قررت أن أتحايل على المحقق فقلت له بأنّ هنالك عدداً من زملائي العناصر في فرع الأمن الجنائي ساهموا معي بجلب الخبز من أفران حلب، وثمّ ذكرت له بعض أسماء الضباط، وعلى ما أذكر كانوا عشرة أسماء وقد تعمّدت أن أختار ضباطاً من نفس طائفة المحقق -الطائفة العلوية- وكان قصدي بذلك أن أكشف عن سوء نواياه وأنه يحمل بداخله حقداً مقيتاً لكل من هم من غير طائفته وطائفة رئيس نظامه."

عندما تبادر إلى مسامع المحقق أسماء أولئك الضباط، تغيرت ملامح وجهه واتهم يوسف بالكذب والخداع… إلا أنّ إصرار يوسف على التكتم كان سبباً في مواصلة ضربه وتعذيبه بشكل وحشيّ، إذ أنه كان يتعرض لطريقة الشبح وهو معصوب العينين على مدار يومين متواصلين، حتى أغمي عليه عدة مرات خلال التحقيق، وبعدما وصل به الحال إلى طريق مسدود وأيقن بأنّ المحقق لن يتوقف عن ضربه إلا إذا اعترف، قرر حينها أن يجازف ويخاطر مخاطرة أخيرة علّها تكون مخلصاً له من هذا الجحيم، فقال للمحقق بأنه سيعترف له بأسماء جميع زملائه العناصر والضباط المتورطين معه، وبدأ يسرد له لائحة طويلة من أسماء وضباط وعناصر ومن بينهم أصدقاء مقربين له، إلا أنه هذه المرة سرد له أسماء من طوائف مختلفة، وكان معظمهم من مناطق ريف حماة الشمالي،ومع انتهائه من ذكر الأسماء بدأت ملامح الرضا تتوضح على وجه المحقق بحسب يوسف، حيث تابع يوسف قائلاً:

​"في بداية الأحداث في سوريا كنت معتاداً على متابعة عملي كعنصر يقوم بخدمة وطنه في أحد فروع الأمن الجنائي في محافظة حلب، وكنت أقوم بزيارة عائلتي في كفرزيتا كلّما أتيحت لي الفرصة، كما كنت أستغلّ فرصة تواجدي في كفرزيتا حتى أشارك في المظاهرات السلمية، لكن وبعد نفاذ مادة الخبز من المدينة وصعوبة جلبه من مناطق أخرى، كلفني عدد من الأهالي بجلب الخبز لهم خلال زياراتي المتكررة لكفرزيتا، وخصوصاً أنّ مادة الخبز كانت متوفرة بشكل جيد في محافظة حلب، وفي صبيحة يوم الثلاثاء الموافق 29 تشرين الثاني/نوفمبر 2011، وبينما كنت عائداً من كفرزيتا إلى مكان عملي في محافظة حلب، أوقفتني إحدى نقاط التفتيش التابعة لجهاز أمن الدولة، وطلبوا مني بطاقتي الشخصية، ودون أي سابق إنذار قام مجموعة من عناصرهم باعتقالي وتقييد كلتا يديّ إلى الخلف بواسطة "كلبشات" حديدية، ثمّ توجهوا بي إلى سيارة عسكرية، ولم يوضّحوا لي سبب الاعتقال على الرغم من أنني قلت مراراً بأني عنصراً من عناصر الأمن الجنائي، وبأنني ذاهب لأداء عملي في محافظة حلب، إلا أنهم رفضوا الاستماع لي، واقتادوني بسيارتهم إلى فرع أمن الدولة في محافظة حلب، فقام أحد العناصر بإخراجي من السيارة وأنا معصوب العينين ومقيد اليدين، ثمّ وضعوني داخل سجن انفرادي وبقيت فيه حتى صباح اليوم التالي، ولم أكن أعي حينها حقيقة ما يجري، فعلى الرغم من عملي طوال عقدين من الزمن في فرع الأمن الجنائي، إلا أنني لم أكن على دراية بأنّه يحق لأي عنصر أن يقوم باعتقال أي مواطن دون إعلامه بسبب الاعتقال وتسليمه ورقة رسمية وموقعة بأمر الاعتقال."

ثالثاً: رحلة المعاناة والتنقل بين السجون والأفرع الأمنية:

أمضى يوسف قرابة شهر كامل في فرع أمن الدولة في محافظة حلب، ثم تمّ نقله برفقة عدد من المحتجزين إلى فرع الشرطة العسكرية في محافظة دمشق، فبقي هنالك عدة أيام تعرّض خلالها للتعذيب، وبعدها تمّ معاودة نقله إلى "سجن البالونة" في محافظة حمص، ليُنقل مرة أخرى إلى محافظة حلب وتحديداً إلى مقر الشرطة العسكرية، حيث كانت تنتظره المحاكمة النهائية، وفي هذا الخصوص تحدّث يوسف قائلاً:

"كان رئيس النيابة في محكمة حلب العسكرية هو "يزن الحمصي" وكان ذلك الرجل معروفاً بين السجناء بشدّته وقسوته على السجناء، حيث أنه لا يتصف بأي صفة من صفات القاضي العادل، فقد كان يقوم بإرسال كل معتقل لا يروق له أو يعجبه إلى سجن فرع المخابرات الجوية في دمشق، والمعروف على مستوى سوريا بأنه من السجون التي لا يوجد فيها أي رحمة أو شفقة، ثم تمّ نقلي إلى السجن المدني في حلب، حيث بقيت هنالك حتى تاريخ 17 تموز/يوليو 2015، وكان لي هنالك ذكريات مؤلمة فقد توفي عدد من أصدقائي المعتقلين تحت التعذيب، وأذكر منهم عبد "الرزاق محمد" من محافظة الحسكة و"محمود الشمعة" من البوكمال و"مؤيد الشمالي" من معرة النعمان، ثمّ تمّ نقلي إلى سجن حماة المركزي، وأمضيت هنالك ليلة واحدة، وفي صباح اليوم التالي قاموا بنقلي وسجناء معي إلى سجن عدرا في ريف دمشق."

تنفّس يوسف الصعداء عندما علم بنقله إلى سجن عدرا بريف دمشق، فقد كان موقناً بأنّه سيكون أقل وطأة من بقية المعتقلات، قياساً بعمليات التعذيب الوحشية التي كان يتعرض لها هناك، وبتاريخ 18 تموز/يوليو 2015، دخل يوسف سجن عدرا بريف دمشق، حيث كانت ملامح المحتجزين تختصر قصص المعاناة التي تجرّعوا ويلاتها، وذلك بسبب سوء الخدمات وقلة التغذية والعلاج في الأفرع الأمنية، حيث قال يوسف في هذا الصدد:

"أمضيت عدة أشهر في سجن عدرا، وكان لي داخل هذا السجن الكثير من الذكريات المؤلمة والمشاهد التي لاتزال عالقة في رأسي إلى هذا الحين، حيث كنا نحتجز في غرفة صغيرة يوجد بداخلها أكثر من (30) سرير، وكنا نتقاسم الطعام ونتبادل النوم وأوقات الراحة، والأهم من ذلك كان مدير السجن "نبيل الغجري" من السويداء، يحتكر المواد الغذائية التي كانت تخصص لنزلاء السجن، ويأخذها كلها ثم يبيعها للسجناء بأكثر من عشرة أضعاف قيمتها، فقد كان يبيع ربطة الخبر لنا بأكثر من (1500) ليرة سورية، والسعيد منا من يحالفه الحظ للحصول على رغيف واحد، ولم يتوقف الأمر عن هذا الحد بل تعدى لأبعد من ذلك بكثير، إذ كان يوجد عدد من السجناء وأنا واحد منهم، يقومون باستلام مبالغ مالية بسيطة من عائلاتهم حتى يستعينوا بها على شراء حاجياتهم، ولكن ما إن يصل هذا المبلغ المرسل إلى إدارة السجن، حتى يقوم مدير السجن بأخذ قسم كبير منه قد يصل إلى نصف المبلغ، فأذكر في إحدى المرات كيف قام أحد أقربائي بإرسال مبلغ مالي لي بقيمة (100) ألف ليرة سورية، وكيف قام مدير السجن بأخذ (40) ألف ليرة سورية من المبلغ بحجة مصاريف التحويل."

رابعاً: تنفّس الحرية:

بعد مرور عشرة شهور على احتجاز يوسف في سجن عدرا بريف دمشق، تمّ نقله مع (15) محتجزاً آخراً إلى سجن محافظة السويداء وتحديداً بتاريخ 6 كانون الثاني/يناير 2016، حيث بقي محتجزاً هنالك حتى تاريخ 16 آذار/مارس 2018، وبحسب ما أفاد به فإنّ سجن محافظة السويداء لم يكن أفضل حالاً من بقية السجون والأفرع الأمنية التي تنقلّ بها في حلب وحمص ودمشق، حيث كان له في سجن السويداء نصيب وافر من الإهانات النفسية،فضلاً عن سوء الأحوال في ذلك السجن من كافة النواحي، من منع الطعام والشراب والمستلزمات الطبية التي كان السجناء بأشدّ الحاجة إليها بسبب إصابتهم بالكثير من الأمراض، وتابع محمود قائلاً:

"على الرغم من انقضاء مدة محاكمتي، إلا أنه لم يتمّ الإفراج عني، لذا قمت بإبلاغ قيادة السجن وتمّ إحالتي إلى المحكمة مرة أخرى بواسطة محامٍ مقرب من القاضي، فطلب القاضي مني دفع (10) ملايين ليرة سورية كرشوة حتى يتمّ الإفراج عني، وفي الحقيقة أنا من عائلة بسيطة الحال، ولا أملك مثل هذا المبلغ، فطلبت منهم السماح لي بالتواصل مع عائلتي، فتحدثت معهم وأخبرتهم بالأمر، وطلبت منهم بيع كل ما يمكن بيعه من ممتلكاتي لتأمين المبلغ، وبعد عدة أيام تقدّمت بذلك المبلغ إلى المحامي، والذي بدوره قدمه للقاضي كرشوة، فقام بالتوقيع على إطلاق سراحي من المعتقل بتاريخ 14 آذار/مارس 2018، وبعد المصادقة على قرار إخلاء سبيلي بقيت يومين أنتظر موعد الإفراج عني إلى أن تمّ أخيراً بتاريخ 16 آذار/مارس 2018."

صورة تظهر طلب إخلاء سبيل عن الناجي "يوسف البكور" من سجن السويداء المركزي.
 مصدر الصورة: الشاهد "يوسف إبراهيم البكور".

خرج يوسف من المعتقل وهو يعاني عدة أمراض، ما اضطره إلى إجراء عملين جراحيين في منطقة القلب، وقد بلغت كلفة هذه العمليات حوالي (1000) دولار أميركي، وبسبب شدة القصف على مدينته كفرزيتا من قبل القوات النظامية السورية، اضطر للتوجه إلى بلدة حزانو في ريف إدلب، حيث تزوج هنالك إلا أنه لم يشفَ حتى الآن من الأمراض التي لحقت به خلال تواجده في تلك السنوات الطويلة خلف القضبان.

منشورات ذات صلة

اترك تعليقاً

* By using this form you agree with the storage and handling of your data by this website.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك عدم المشاركة إذا كنت ترغب في ذلك. موافق إقرأ المزيد