مقدمة: لقد دخل الصراع السوري لتوه عامه الثامن، دون إحراز أي تقدم تجاه إيجاد حل سياسي له. وتجري حالياً محادثات سلام، تقودها الأمم المتحدة وروسيا على التوالي، لكنها لم تحقق أي نجاح يذكر. وكشفت الجولة الأخيرة من المحادثات التي رعتها الأمم المتحدة، والتي عقدت في فيينا خلال شهر كانون الثاني/يناير 2018، عن عدم رغبة النظام السوري في تقديم أي تنازلات في سبيل إنهاء الصراع الدائر في البلاد[1] ، في حين أن محادثات سوتشي، التي رعتها روسيا حليفة النظام السوري، لم تشجع الرئيس الأسد على القبول بالتسوية[2]. أياً يكن فإن هذه المفاوضات ليس لها أي تأثير على حياة المدنيين، الذين ما زالوا أول ضحايا الصراع[3].
تهدف هذه الدراسة إلى تسليط الضوء على ما يمكن أن تنطوي عليه أي اتفاقية سلام تتعلق بجانب معين اتسم به الصراع السوري منذ بدايته.
في الواقع، لقد تم الإبلاغ عن قائمة طويلة من الانتهاكات منذ بداية النزاع، كالقصف العشوائي، واستخدام الأسلحة الكيميائية، ومنع وصول المساعدات الإنسانية والتهجير القسري. ولكن سنركز في هذا الدراسة الورقة على موضوع الاعتقال السياسي واعتقال المدنيين.
وثقت التقارير استخدام الاعتقال من قبل جميع أطراف النزاع في سوريا كوسيلة للمعارضة الصامتة، أو لزرع الخوف بين السكان أو لمعاقبة المنشقين.
وقد وُثقت بعض الانتهاكات المتعلقة بعمليات الاعتقال، كالاعتقالات التعسفية والتعذيب والعنف الجنسي والجنساني والقتل، والتي تم ارتكابها في صراعات سابقة مماثلة وانتهت أخيراً بإيجاد حل سياسي.
وبالتالي، فإن هذه القضية ذات شقين:
أولاً، كيف تتم اتفاقيات الإفراج عن السجناء، وثانياً، هل هذه الاتفاقيات تنص على آليات مساءلة تعنى بالتجاوزات المرتكبة بما فيها تلك التي تم ارتكابها أثناء فترة الاعتقال؟
على الرغم من أن كل صراع ينفرد بحيثياته كأسبابه الجذرية والجهات الفاعلة المشاركة فيه، ومستوى التزامه بالقانون الدولي ودرجة الاستعداد السياسي لإنهائه، فإن دراسة التجارب الأجنبية يمكن أن ترشدنا وتساعدنا في فهم ديناميكيات مفاوضات السلام.
ولذلك ستقدم هذه الدراسة نظرة عامة على الأحكام التي تتناول قضية السجناء في سياق نزاعات عدة، من ضمنها إيرلندا الشمالية وأوغندا وموزامبيق وكولومبيا وجنوب أفريقيا والبوسنة. أولاً، ستتناول المقالة السبب الرئيسي لإطلاق سراح المعتقلين. وثانياً، سيتحول الموضوع إلى دراسة عملية المساءلة في اتفاقيات السلام، انطلاقاً من جدلية السلام مقابل العدالة.
- توثيق الانتهاكات المرتكبة في المعتقلات السورية:
إن قضية المعتقلين في سوريا لم يسبق لها مثيل. إنه لمن الملفت أن يكون السبب في إشعال المظاهرات في سوريا فعلياً هو اعتقال وتعذيب مدنيين في درعا عام 2011، ومنذ ذلك العام، ارتكبت معظم أطراف النزاع انتهاكات في سياق عمليات الاعتقال.
لقد استخدم النظام السوري نظام الاعتقالات الجماعية حتى من قبل بداية النزاع[4]. حيث أن نشوب الحرب لم يؤد إلا إلى تسارع وتيرة قيام النظام بسجن الأفراد دون وجود أي سبب لذلك سوى تعبيرهم عن رأيهم، والقيام بعملية كبيرة للاعتقال المنظم للمعارضين، وأيضاً ارتكاب العديد من الانتهاكات للقانون الدولي، المتضمنة لجرائم ضد الإنسانية كالقتل والاغتصاب، والعنف الجنسي والتعذيب منذ بداية النزاع[5].
وبدورها فقد ارتكبت جماعات مسلحة، مثل تنظيم الدولة الإسلامية وجبهة النصرة، انتهاكات ترقى إلى جرائم الحرب وجرائم ضد الإنسانية، بما في ذلك عمليات الاختطاف والتعذيب والإعدام دون محاكمة للمدنيين والمقاتلين الأسرى[6] ، وكذلك بالنسبة لفصائل المعارضة المسلّحة[7]. وبالنسبة للقوات الكردية، كقوات حماية الشعب وقوات الأسايش، التي احتجزت بشكل تعسفي معتقلي الرأي والمعارضين السياسيين[8].
- الطريق إلى السلام:
إن بناء السلام هو أمر في غاية الأهمية. ومن الواضح أن الأطراف الفاعلة المنخرطة في القتال تتكبد خسائر كبيرة في سبيل الوصول إلى هدف أبعد والذي من الممكن أن يكون إقليميًا أو أيديولوجيًا أو ماليًا، لذلك فإن لدى المفاوضين مهمة حساسة حتى يتمكنوا من إيجاد حل سياسي للنزاع، تتمثل في أن يظهروا للأطراف المتحاربة أنه في حال إنهائهم للنزاع سيحققون مكاسب أكثر من حال استمرارهم فيه.
2.1 ما هي أهداف اتفاقيات السلام؟
إن لكل عملية سلام أهدافها الخاصة، وتحديد الهدف مسبقاً هو شرط أساسي لبدئها. والذي ممكن أن يكون إنشاء برامج نزع السلاح، أو تسريح المقاتلين وإعادة إدماجهم، أو إقامة جلسات حوار بين الأطراف المتحاربة أو إجراء انتخابات[9].
2.2 كيف يمكننا أن نقدم على اتفاقيات السلام؟
كل نزاع له ظروفه وحيثياته الخاصة به، والتي غالباً ما تكون معقدة، ولذلك فمن المهم جداً أن يجري المفاوضون وصانعوا السلام تحليلاً شاملاً لحيثيات النزاع قبل الانخراط مع الأطراف المشاركة فيه. ويمكن أن يتضمن هذا التحليل تقييماً لسياق النزاع، والتمعن في المظالم الأساسية والمرونة الاجتماعية – المؤسسية، وتحديد القوى المحركة للصراع والعوامل المبررة، وأخيراً بيان فرص زيادة حدة الصراع أو التخفيف منه[10].
ويتم تقسيم العملية في كثير من الأحيان على عدة مراحل، والتي هي مرحلة ما قبل التفاوض، مرحلة التفاوض، ومرحلة التنفيذ.
تبدأ عملية وقف الأعمال العدائية في كثير من الأحيان ببناء الثقة، والتي تتمثل في معالجة القضايا الأسهل لخلق بيئة ملائمة لإجراء مزيد من المفاوضات، حتى قبل النظر في الأسباب الجذرية للصراع[11].
2.3 كيف نصل إلى اتفاق؟
هناك طريقتان للتوصل إلى اتفاق يتم اتباعهما عادة. حيث يميل الوسطاء غالباً إلى تفضيل النهج التدريجي، حيث تتم مناقشة القضايا الأسهل والاتفاق عليها أولاً قبل الوصول إلى القضايا الأصعب، وهكذا… بيد أن هناك نهجاً آخر قد أثبت فعاليته أيضًا، وهذا النهج يتمثل في تأجيل الاتفاق النهائي إلى أن تتم مناقشة كل الأمور والاتفاق عليها من قبل الطرفين. وعندها سيقوم النهج الذي اختاره الأطراف والوسطاء بدوره بتوجيه العملية برمتها.
2.4 في أي مرحلة تدخل قضية تحرير المعتقلين؟
إن إطلاق سراح المعتقلين هو أمر شائع في اتفاقيات السلام. حيث تضمنت 77 اتفاقية سلام تم إبرامها بين عامي 1980 و 2006، 26 فقرة تتعلق بإطلاق سراح المعتقلين. إذ يمكن لهذه القضية أن تدخل في مراحل مختلفة من المفاوضات ويمكن أن تكون أيضا ًشرطاً مسبقاً لها أو أن تكون كتدبير لبناء الثقة بين الطرفين، أو كهدف نهائي. وفي أغلب الأحيان، يتم إطلاق سراح المعتقلين كإجراء أولي، أو كمرحلة مبكرة من عملية السلام، وغالباً ما يعتبر حافزاً لإنهاء العنف.[12]
لكن إطلاق سراح المعتقلين يمكن أيضاً أن يكون بمثابة استراتيجية أكثر شمولية تهدف إلى تحقيق مصالحة دائمة. وفي مثل هذه الحالات، تتضمن الاتفاقية في كثير من الأحيان مراسيم عفو تتزامن مع الإفراج عن المعتقلين، كما كان الحال في اتفاق السلام لعام 1992 المبرم في موزامبيق، واتفاقات لوساكا لعام 1994 بين حكومة أنغولا والاتحاد الوطني للاستقلال التام لأنغولا (يونيتا UNITA)[13]. في هاتين الحالتين، ركزت اتفاقيات السلام على المصالحة وإعادة إدماج المقاتلين السابقين.
وفي كولومبيا، التي مزقها الصراع لأكثر من خمسين عاماً، ما أدى إلى مقتل أكثر من 200000 شخص، والتهجير القسري لـ 5 ملايين آخرين، واختطاف حوالي 36000 شخص[14]. كانت قضية السجناء في مقدمة عملية السلام، وكانت السبب الجدلي الذي دفع الكولومبيين إلى معارضة العفو الممنوح لسجناء القوات المسلحة الثورية الكولومبية (فاركFARC)، وبالتالي رفض الاتفاق الذي أبرم عقب استفتاء 2 أكتوبر/تشرين الأول 2016.[15] والذي صادق عليه الكونغرس في وقت لاحق، وشمل سلسلة من مراسيم العفو عن عناصر القوات المسلحة الثورية المعتقلين على أسس سياسية، وتم تنفيذه عن طريق سلسلة من التشريعات. لم يكن التنفيذ سلساً دائماً، وقد أخرت الحكومة في بعض الأحيان إطلاق سراح السجناء الذين اضربوا عن الطعام للمطالبة بتطبيق اتفاق السلام.
كان الإفراج عن المعتقلين مثار جدل في إيرلندا الشمالية أيضًا. فقد اشترطت اتفاقية الجمعة العظيمة لعام 1998، التي وضعت حداً “للاضطرابات”، المستعرة منذ عام 1963، على أن يتم إطلاق سراح جميع المعتقلين السياسيين في غضون عامين. وكانت هذه الخطوة عبارة عن حافز للتوصل إلى اتفاق سلام. ولهذه الغاية، فقد استبعد نص مرسوم العفو عن المعتقلين، عناصر المجموعات التي تعارض عملية السلام أو التي تواصل الانخراط في العمليات المسلحة، ولكن النص ظل مرناً بما يكفي لإشراكهم إذا قرروا الدخول في عملية السلام. وقد أتت هذه الاستراتيجية ثمارها، حيث قررت جميع المجموعات باستثناء واحدة المشاركة في المفاوضات.[16]
لماذا قد تنجح هذه التجربة في سوريا؟ وثقت عدة تقارير استخدام قضية الإفراج عن المعتقلين كجزء من الصفقات المبرمة في البلاد. حيث كشفت سوريون من أجل الحقيقة والعدالة في عام 2017 عن حدوث 37 صفقة على الأقل تشمل إطلاق سراح معتقلين مدنيين.[17] وهذا يؤكد أن جميع الأطراف المتحاربة تمتلك أسرى، وهو دليل على أن وجود المحفز هو ما يدفع الأطراف المتحاربة إلى التفاوض بشأن شروط الاتفاقيات.
لماذا قد لا تنجح؟ يختلف سياق النزاع في سوريا اختلافًا جذريًا عن “الاضطرابات” التي حصلت في إيرلندا الشمالية. ففي حين أن الدولة في إيرلندا الشمالية اعتقلت السجناء السياسيين الذين شاركوا بشكل فعلي في العمليات المسلحة، يستخدم النظام والجماعات المسلحة في سوريا الاعتقال على نطاق واسع ضد المدنيين. وقد اعتمدت العملية في إيرلندا الشمالية قرار الإفراج عن المعتقلين كعملية مقايضة مقابل وقف العمليات المسلحة. وقياساً على ذلك، فإن هذا يتطلب من الجماعات المسلحة في سوريا أن تكون مهتمة فعلاً ولديها رغبة قوية في رؤية المدنيين محررين لكي تضع حداً لعملياتها العسكرية. على الرغم من أن الجماعات المسلحة قد شاركت في الماضي في عمليات لتبادل الأسرى لإطلاق سراح مدنيين، فإن حجم الانتهاكات التي ارتكبتها جميع أطراف النزاع في سوريا تحتاج بالتأكيد لخطوة أكبر من الإفراج عن المعتقلين لوضع حد للنزاع.
2.5 توصيف السجناء السياسيين في المعتقل:
في حالات النزاعات المسلحة غير الدولية، من السهل على سلطة الاحتجاز التلاعب بتوصيف المعتقلين كالادعاء أنهم على صلة بالنزاع أم لا. على سبيل المثال، خلال “اضطرابات” إيرلندا الشمالية، اتبعت الحكومة البريطانية سياسة واعية تهدف إلى نزع الطابع السياسي عن المعتقلين وتجريد دوافع احتجازهم من الصبغة السياسية، باستخدام وسائل خفية وغير ملحوظة كإلباسهم زياً موحداً. وضع قانون إيرلندا الشمالية لعام 1991 اعترافاً قانونيًا صريحًا بالطبيعة الخاصة للسجناء السياسيين، مصنفاً إياهم تحت بند الإرهاب، بتهمة “استخدام العنف لأغراض سياسية“.
ومن ناحية أخرى، لم تعترف جنوب أفريقيا بوجود السجناء السياسيين. ولكنها في الحقيقة قامت بفصلهم عن سجناء القانون العام في ظروف مماثلة لتلك التي حدثت في إيرلندا الشمالية.
وهذا بدوره، يؤثر على عملية السلام عندما يتعلق الأمر بالتعامل مع قضية إطلاق سراح السجناء. إذ يمكن أن تستبعد سلطات الاحتجاز السجناء السياسيين من قائمة السجناء المفرج عنهم من خلال إسقاط هذه الصفة عنهم.
كيف يمكن تطبيق ذلك على الوضع السوري؟ إن النظام السوري لديه سجل حافل بالمراوغة والكذب حيال الانتهاكات التي ترتكبها صفوفه والتي يحاول جاهداً إخفاءها. ولذلك يجب أن تولي أي اتفاقية سلام تنص على إطلاق سراح المعتقلين اهتماماً خاصاً بتوصيف السجناء الذين يتم الإفراج عنهم كجزء من عملية السلام، من أجل إشراك جميع المدنيين الذين يعتقلهم النظام بشكل تعسفي، ولا تترك أي مجال للمزاعم الكاذبة التي تعتمد تبرير الحرمان من الحرية على أساس القانون العام دون ربطه بالصراع. ويمكن تنفيذ ذلك، أولاً: عن طريق ضمان الإفراج عن جميع السجناء المحتجزين بناء على القوانين المحلّية السورية التي تنتهك القانون الدولي. وثانياً: عن طريق توفير إقامة محاكمات عادلة لجميع المعتقلين الذين تتطلب أوضاعهم ذلك، تحت إشراف مراقبين محايدين.
من ناحية أخرى، يجب مراقبة الجماعات المسلحة عن كثب، حيث أن أوضاعهم مختلفة عن وضع النظام فهم ليس لديهم بنى تحتية ثابتة يمكن زيارتها ومشاهدتها بسهولة مثل السجون.
- بين سوء المعاملة في الاعتقال واتفاقيات السلام: جدلية السلام مقابل العدالة:
إن النظر في قضية الإفراج عن المعتقلين خلال إبرام اتفاقيات السلام، يطرح قضية موازية وهي المساءلة على الانتهاكات العديدة التي ارتكبتها الأطراف المتحاربة ضد هؤلاء المعتقلين.
إن الجدل بين صناع السلام والقانون الدولي يتمثل في كثير من الأحيان في إظهار أن هناك تناقض بين قضيتي السعي إلى تحقيق العدالة والسعي إلى تحقيق السلام، وأنه من غير الممكن التوفيق بينهما. إن هذه الفكرة تعزز من قبل وسطاء صنع السلام الذين يتدخلون أولاً في الإطار الزمني للسلم والعدالة ويخشون أن تقوض توقعات العدالة الدولية جهودهم لإنهاء الصراعات. وعلى نفس المنوال، فغالباً ما كان السعي إلى تحقيق العدالة من قبل المحكمة الجنائية الدولية (ICC) عرضة للانتقاد على أنه يعوق السعي إلى السلام[18]. ويؤكد المفاوضون على أن مهمتهم صعبة بالفعل كما هي، ولا تتحمل أن تعاني أي عقبة إضافية.
يمكن أخذ وجهات النظر هذه بعين الاعتبار إذ من غير الممكن تجاهلها. ولكن التقييم الصريح للمخاطر التي يشكلها تحقيق العدل على تحقيق السلام يجب أن يتجاوز مجرد الإزعاج الذي يمثله شبح الملاحقات القضائية على المفاوضين في اتفاقيات السلام، وأن يدرك الآثار الطويلة الأمد المترتبة على إفلات مرتكبي الانتهاكات من العقاب في مجتمعات ما بعد الصراع.
وفقا لهذا المنظور، فإن الثمن الذي يدفع في حالة إفلات المذنبين من العقاب أعلى من ذلك الذي يدفع في تطبيق العدالة.
فالمجتمعات التي لا يحاكم مرتكبي الجرائم فيها والتي تفتقر إلى نظام قضائي للتعامل مع الانتهاكات المرتكبة أثناء النزاعات، تدفع ثمناً أعلى على المدى الطويل. وبالإضافة إلى ذلك فيبدو أن هناك مبالغة في النظر إلى تأثير الملاحقات القضائية أو غياب مراسيم العفو على مفاوضات السلام، حيث أنه في العديد من الحالات لم يؤد هذان العاملان إلى وضع حد للمفاوضات[19].
بل على العكس، فإن التهديد بالملاحقات القضائية أثبت في بعض الأحيان أنه حافز فعال للتوصل إلى تسوية. كذلك كان الحال في أوغندا، حيث وافقت القيادة العسكرية لجيش الرب للمقاومة على أن تشارك بشكل فعال في عملية السلام عندما بدأت المحكمة الجنائية الدولية بإصدار أوامر اعتقال[20].
أخذت معضلة السلام مقابل العدالة في وقت لاحق منعطفاً مثيراً للاهتمام عندما دعا شعب الأشولي إلى إنشاء آلية عدالة تقليدية وتمكن من ذلك[21]. شعب الأشولي هو شعب قسمه النزاع، حيث أنه من جهة تعرض للاضطهاد من قبل جيش الرب للمقاومة، ومن جهة أخرى تم تجنيد أطفاله قسراً من قبل المتمردين وأصبحوا مرتكبين لهذه الجرائم.
لماذا قد تنجح هذه التجربة في سوريا؟ إن المجتمع السوري معتاد على آليات العدالة التقليدية. فقبل نشوب النزاع، حكمت شبكة واسعة من العدالة التقليدية مسائل مثل قانون الأسرة وقانون الملكية[22]. وهذه الذهنية يمكن أن تكون مواتية لإنشاء آليات عدالة تقليدية.
لماذا قد لا تنجح؟ إن السياق في سوريا يبدو أكثر تعقيدًا مما كان عليه في أوغندا، حيث كانت الأطراف المتحاربة آنذاك محددة ومعروفة بشكل واضح. ولكن في الوضع السوري وعلى مدى السنوات السبع الماضية، كانت الأطراف الفاعلة في الصراع السوري تتغير بشكل مستمر وتتضاعف. وكان من الصعب تعقب أهداف هذه الأطراف وأيديولوجياتها وأعضائها، مما جعل تنظيمها أكثر صعوبة. وبالإضافة إلى ذلك، فقد تأثرت التركيبة السكانية بشكل كبير بالنزاع، مما أجبر الطوائف المختلفة على العيش معاً، في حين تتطلب آليات العدالة التقليدية دراسة معمقة للأطراف الفاعلة. وأخيراً، فإن المجتمع السوري تقليدياً هو مجتمع أبوي، وأي آلية تقليدية قد تفشل في تحقيق العدالة في بعض الجرائم المرتكبة أثناء الاعتقال، ولا سيما جرائم العنف الجنسي والجنساني، وبالتالي في إرساء أسس مجتمع متساوٍ.
وفي كولومبيا، كانت ظاهرة الاعتقالات والاحتجازات التعسفية متفشية في البلاد، حيث كانت ترتكبها الجماعات المسلحة في الغالب[23]. ولكن الاتفاق الذي وقعته الأطراف في تشرين الثاني/نوفمبر 2016 كان مميزاً بالطريقة التي تناول بها قضية المساءلة وفي محاولته تغطية قضايا تحقيق السلام والعدالة في آن واحد. فقد أنشأ آلية مساءلة معقدة تتضمن شبكة من العقوبات التقليدية والبديلة، فضلاً عن الهيئات القضائية وغير القضائية.
وتتكون “اتفاقية العدالة” من لجنة البحث عن الحقيقة والتعايش وعدم التكرار، ووحدة خاصة للبحث عن الأشخاص المفقودين والاختصاص القضائي الخاص من أجل السلام (SJP) والذي يتضمن هيئات قضائية، تتداول بشأن القضايا التي يتم تقديمها للمحاكمة، بالإضافة إلى محكمة سلام تتعامل مع “الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان والقانون الإنساني” التي ارتكبها مقاتلو “القوات المسلحة الثورية لكولومبيا (فارك)”.
ويفرض الاتفاق أيضاً مجموعة من العقوبات على الجناة، استناداً إلى اعترافاتهم بالجرائم التي ارتكبوها والتزامهم بالتعاون مع الاختصاص القضائي الخاص من أجل السلام، وتبدأ العقوبات من 8 سنوات من تقييد الحرية إلى 20 سنة سجن[24]. وستعمل المحكمة بالتوازي مع نظام العدالة الجنائية العادي، الذي لا يزال مؤهلاً للتعامل مع الجرائم المرتكبة أثناء النزاع أو كجزء منه، وكذلك مع المحكمة الجنائية الدولية، التي فتحت استجوابا أوليًا بشأن ادعاءات الانتهاكات المرتكبة كجزء من النزاع. وفي 15 مارس 2018 عند افتتاح الاختصاص القضائي الخاص من أجل السلام، وافق 6.094 من رجال العصابات على المثول أمام المحكمة.[25]
لماذا قد تنجح هذه التجربة في سوريا؟ إن اتفاق السلام الذي تم التفاوض عليه في كولومبيا يضع حداً لنزاع عميق الجذور يحمل أوجه تشابه مع الصراع الدائر حالياً في سوريا. إن النزاع في كولومبيا نشب أصلاً بسبب التمييز البالغ في النظام الاقتصادي الذي يفضّل النخبة، والذين كان معظمهم من أصل إسباني، على حساب الطبقات الأفقر. فقامت القوات المسلحة الثورية الكولومبية (فارك) بحمل السلاح في نهاية الستينيات بهدف تأسيس حكومة ماركسية. ولكن جلب الصراع لاحقاً ميليشيات شبه عسكرية من اليمين المتطرف، وتطور إلى حرب متعددة الجبهات.
ويمكن مقارنة ذلك إلى حد ما بالوضع السوري، حيث اندلع الصراع في مجتمع شديد الانقسام، حيث كانت سياسات الحكومة تعطي أفراداً من الطائفة الأقلية العلوية امتيازات مفرطة[26]. بدأ الصراع على شكل مظاهرات سلمية تهدف إلى المطالبة بمزيد من الحرية، وتدهور في مواجهات عسكرية معقدة، مبنية على تحالفات متقلبة. وعليه فقد تدعم أوجه التشابه هذه افتراض نجاح إدراج عملية مساءلة في اتفاقية سلام كخطوة مبدئية في سوريا.
لماذا قد لا تنجح؟ أولاً، على الرغم من الثناء المحيط بالاتفاق والآمال التي يبعثها، فإن تنفيذه سيكون المعيار الوحيد لنجاحه. فبعد مرور عامين تقريباً على توقيعه، لم ينفذ بشكل كامل ولم يحقق السلام الذي كان يأمله الكثيرون[27]. ثانياً، إن اتفاق السلام جاء نتاج رغبة سياسية من الطرفين لإنهاء النزاع. بدأت هذه العملية في عام 2010 وسعت إليها جميع الأطراف.
لا يختلف السياق السوري كثيراً، حيث أنه لا يبدو أن الأطراف الفاعلة تفكر في إجراء مفاوضات في الوقت الحالي.
في البوسنة، تم توقيع اتفاقية دايتون فعلياً بعد إنشاء المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة. وشكك المراقبون أساساً في فرصة إنشاء محكمة عندما كان النزاع لا يزال مستمراً، مما أدى إلى عودة جدلية السلام مقابل العدالة إلى الواجهة والتأكيد على أن السعي إلى تحقيق العدالة يكون على حساب مفاوضات السلام[28]. ولكن في النهاية لم تؤثر إدانة الشخصيات الرئيسية في الصراع، بمن فيهم كاراديتش وملاديتش، على سير العملية أو على التوقيع على اتفاقية دايتون للسلام[29].
لماذا قد تنجح هذه التجربة في سوريا؟ تشترك النزاعات البوسنية والسورية في بعض أوجه التشابه التي تجعل المقارنة بين السياقين مناسبة. فقد كانت الحرب البوسنية متجذرة بعمق في الأسباب العرقية والدينية. في حين أن الصراع السوري بدأ من المطالبة بمزيد من الحرية، إلا أنه في وقت لاحق أخذ منحاً دينيًا عرقيًا، مدفوعًا باستراتيجية اتبعها النظام لتقسيم المعارضة. بالإضافة إلى ذلك، فإن بعض السلطات القضائية الأوروبية تمارس فعلياً اختصاصها الدولي وتحاكم الأفراد المشتبه في ارتكابهم جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في سوريا، كما كان الحال عندما بدأت المحكمة الجنائية الدولية ليوغسلافيا عملها في الوقت الذي كان لا يزال النزاع فيه قائماً. وتبين اتفاقية دايتون أن هذه المحاكمات لا تعوق بالضرورة عملية السلام.
كما أن الاتفاق هو بمثابة تذكرة طيبة بأنه حتى في الحالات التي يبدو فيها أن الأطراف والقادة المتحاربين ليس لديهم دافع لوضع حد للنزاع، فإن عملية السلام الموجهة بشكل جيد يمكن أن تؤتي ثمارها. في وقت العملية، كان عزت بيغوفيتش في موقع القوة ولم يكن لديه دافع كبير للتسوية، لكنه اضطر إلى القيام بذلك عندما وافق كل من ميلوشيفيتش وتودجمان[30]. بالإضافة إلى ذلك، فإن كفاءة المفاوضين كثيراً ما يتم الإشادة بها وتعتبر أنها لعبت دوراً رئيسياً في نجاح العملية[31]. وبالمثل، في سوريا ، في الوقت الراهن ، يبدو أن الأطراف المعنية ، والنظام السوري على وجه الخصوص لن يحققوا من التسوية سوى مكاسب ضئيلة. ويبدو أن النظام السوري المدعوم من روسيا وإيران ليس لديه أدنى شك في تفوقه العسكري وحتى في شرعيته ليكون على رأس البلاد، الأمر الذي يتناقض مع عملية السلام.
لماذا قد لا تنجح؟ إن الأمل في التوصل إلى حل سياسي للنزاع في الوضع الحالي في سوريا ضئيل جداً. فالنظام السوري المدعوم من روسيا وإيران، استعاد معظم أراضيه وعزز ثقته بنفسه خلال سيره على هذا الطريق. ولاتزال محادثات السلام مستمرة منذ عدة سنوات، حيث تجري حاليا عمليتا سلام، تقودها بالترتيب الأمم المتحدة وروسيا على التوالي ، ولكن كلتا المبادرتين عاملي لم يحققا بالنتيجة أي تقدم أو نجاح يذكر.
الخلاصة:
إن القاء نظرة عامة على التجارب الأجنبية في سياقات مختلفة مثل أنغولا وموزامبيق وإيرلندا الشمالية وكولومبيا وجنوب أفريقيا والبوسنة تدل على أنه لا يوجد دليل مفصل لتحقيق السلام والعدالة. ففي كل من هذه الحالات، ربما يكون صانعوا السلام قد قاموا باستذكار تجارب سابقة، كما فعلنا نحن للتو، وتوصلوا إلى عملية السلام الخاصة بهم وفقاً لتحليلهم الخاص للصراع.
ومع ذلك، يمكننا أن نحدد العوامل الرئيسية التي تلعب دورًا بنجاح عمليات السلام، والتي قد تكون حاسمة في التفاوض على الأمور المعقدة مثل إطلاق سراح السجناء والمساءلة وهي:
• وجود رغبة سياسية في التفاوض من قبل جميع أطراف النزاع.
• وجود الآليات التقليدية للعدالة.
• كفاءة الوسطاء.
تمتلك سوريا شبكة قوية من العدالة التقليدية التي يمكن الاستفادة منها في إجراء عملية سلام تعترف بضرورة عملية المساءلة، رغم أن هذه الشبكة بحاجة إلى إعادة ترسيخ نظراً للتغيرات الديموغرافية التي خلفها النزاع.
تجمع جولتي المحادثات اللتان ترعاهما كل من الأمم المتحدة وروسيا على التوالي، صانعي السلام من ذوي الخبرة. وعلى وجه الخصوص مبعوث الأمم المتحدة للسلام دي ميستورا الذي يتمتع بمهارات عالية في مجال مفاوضات السلام والذي يجب أن يحصل على الأدوات التي تسمح له بإيجاد الحافز المناسب لجلب الأطراف إلى طاولة المفاوضات، والامتناع عن المبالغة في تقدير تأثير المساءلة على عملية السلام والعمل للوصول إلى اﻟﺴﻼم اﻟﺪاﺋﻢ ، اﻟﺬي ﻻ ﻳﻤﻜﻦ ﺗﺤﻘﻴﻘﻪ إﻻ ﺑوجود اﺳﺘﺮاﺗﻴﺠﻴﺔ ﻣﺴﺎءﻟﺔ ﻗﻮﻳﺔ.
هذه المقالة هي الجزء الأول من دراسة أعدّتها منظمة سوريون من أجل الحقيقة والعدالة كجزء من مبادرة أطلقتها حملة “أنقذوا البقية” من أجل رفع الوعي تجاه قضية المعتقلين والمفقودين في سوريا وبناء استراتيجية شاملة.
[1] باتريك وينتور:” المبعوث الأممي يتوجه إلى حضور محادثات السلام السورية على الرغم من المقاطعة” موقع صحيفة الغارديان، 30 كانون الثاني/يناير 2018.
[2] كنده مكية وماريا تسفيتكوفا: “اختتام محادثات سوريا في روسيا وتجاهل مطالب رئيسية للمعارضة“، رويترز، 30 كانون الثاني/يناير 2018.
[3] مجزرتين في معرة النعمان وحاس عقب مؤتمر سوتشي “للحوار الوطني“، سوريون من أجل الحقيقة والعدالة 27 شباط/فبراير 2018.
[4] “الحق في المعرفة” كوسيلة بناء التماسك داخل المجتمع السوري، سوريون من أجل الحقيقة والعدالة،9 نيسان/أبريل 2018.
[5] لو تكلم الموتى: الوفيات الجماعية والتعذيب في المعتقلات السورية، هيومن رايتس ووتش، 16 كانون الأول/ديسمبر 2015.
المسلخ البشري: عمليات شنق وإبادة جماعية في سجن صيدنايا، منظمة العفو الدولية، 7 شباط/فبراير 2017.
[6] “التعذيب كان عقوبتي”: عمليات الاختطاف والتعذيب والإعدام بإجراءات موجزة تحت حكم الجماعات المسلحة في حلب وإدلب، سوريا، منظمة العفو الدولية، 5 تموز/يوليو 2016.