الرئيسية تحقيقات مواضيعية “الحق في المعرفة” كوسيلة بناء التماسك داخل المجتمع السوري

“الحق في المعرفة” كوسيلة بناء التماسك داخل المجتمع السوري

ورقة خاصّة تتمحور حول استعادة الحقيقة المفقودة منذ عقود في سوريا

بواسطة wael.m
311 مشاهدة هذا المنشور متوفر أيضاً باللغة: الإنجليزية حجم الخط ع ع ع

1) مقدمة: الكشف عن الحقيقة أثناء أو بعد النزاع أمرٌ مثير للجدل. يحاول المسؤولون والمحامون والصحفيون والعاملون في مجال توثيق انتهاكات حقوق الإنسان الإبلاغ عن الأحداث وفهمها وشرحها، لكنّهم حتماً يواجهون حدوداً في مساعيهم. بالإضافة إلى أنّه عندما تتسم الأطراف بعلاقة معقدة مع الحقيقة، فإن المهمة تزداد صعوبة، مما يضر بالضحايا.

            نالت سوريا استقلالها في العام 1946 ذلك مع الإنسحاب الفعلي للفرنسيين في 1946، وشهدت البلاد عهوداً مختلفة حتى عهد حافظ الأسد، وبعد ذلك ورث بشار الأسد السلطة عن أبيه. وبصرف النظر عن بضع سنوات من الانفتاح خلال الأعوام 1954 حتى العام 1958، اتسمت حقبة ما بعد الاستعمار في سوريا بالاستبداد وانعدام الحريات. وقد برزت بعض الفترات بوصفها تعطي مزيداً من الحرية للمجتمع المدني، ولكن قانون الطوارئ الذي تم سنه في 1963 وألغي فقط في 2011، قد أعاق بشكل منهجي محاولات المجتمع المدني للإزدهار. وقد طغت الدعاية التي تبثها وسائط الاعلام الموالية للنظام على المجتمع السوري، وشلته المخاوف التي تغذيها شهادات السجناء السياسيين الذين يروون قصصهم. لذلك كانت الحقيقة مخفية في معظم الأحيان، وكشفت في أوقات قليلة لإبقاء الخوف بين المجتمع.

لكن الصراع الذي بدأ في عام 2011 في سوريا كانتفاضة تطالب بالمزيد من الحقوق والحريات أعطى حياة جديدة للحقيقة. فقد أصبح للمواطنين مساحة أكبر للتعبير عن رفضهم للنظام وتعلموا ببطء كيفية التعبير عن تجاربهم. كما أصبحت وسائط الاعلام الاجتماعية أداة للإدلاء بشهادات بشأن الأحداث الجارية في سوريا، والدعاية التي لا يزال النظام يستخدمها قد يتم التصدي لها عن طريق روايات مغايرة للمدنيين الذين لم يبقوا في الظلام.

            سوف تقدم هذه الورقة أولاً لمحة عامة عن مكانة الحقيقة في الديمقراطيات، وفي سوريا (أولاً)، قبل النظر في المعنى المتقلب للحق في معرفة الحقيقة وانتهاء بمضامينها العملية (ثانياً)، وسوف تختم الورقة بدراسة بعض الأدوات التي يمكن أن تستخدمها المجتمعات في كشف الحقيقة (ثالثاً).

2) الحقيقة التي طال الخوف منها:

                الحيّز الذي ينبغي إعطاءه للحقيقة في المجال السياسي هو موضوع تأمّل وتخمين. سيتناول هذا الجزء بإيجاز الطريقة التي عكس بها الفلاسفة والدبلوماسيون أهمية الحقيقة في بناء الدولة والديمقراطية، قبل النظر في كيف أن الأنظمة الاستبدادية المتعاقبة في سوريا لم تترك حيزاً لزرع الحقيقة أو حتى للتحقيق فيها.

أ‌-الحقيقة والديمقراطية، علاقة طويلة ومعقدة:

            لقد ألهم “مفهوم الحقيقة ومزايا مسامحة الأكاذيب” المؤلفين منذ زمن طويل. فإن (كانط) الشخصية الأبرز في التنوير والذي كان يثق بالديمقراطية لرفع حالة الانسان، قد أدان بشده أي نوع من أنواع الكذب، ووصفه بأنه غير جدير بالإنسان، وأكد أن أي كذبة ستكون محاولة للكذب على الإنسانية ككل[1].  ومع ذلك، يبدو أن هذا الأمر يشكل وجهة نظر متطرفة وهامشية تماماً. أما الشهير، ميكافيلي، فيرى أن الكذب مباح. بيد أنه من غير المعروف جيداً أن الدبلوماسي الإيطالي لم يروج لأكاذيب كغاية، بل وافق عليها عند الضرورة[2].  الفيلسوفة الألمانية (حنة آرنتظ)، التي كرّست الكثير من عملها لفهم التسلّطية، تأملت في رأيها بشأن الحقيقة في السياسة، ولاحظت بأن “الصدق لم يحسب أبدا من بين الفضائل السياسية”، بل دعمت رأيها أن الأكاذيب ينبغي أن تسامح، لأنها “كثيراً ما تستخدم كبدائل لوسائل أكثر عنفاً، ومن الجدير اعتبارها أدوات غير مؤذية نسبيا في ترسانة العمل السياسي.” [3] 

لا يمكن منع استخدام الأكاذيب قبل حدوثها، بل وقد تكون مفيدة أحياناً. غير أن المسالة الأساسية تكمن في حق وسائل الاعلام، والتي تعتبر أحياناً السلطة الرابعة، أن تبقى قادرة على التحقق. وتنشأ المخاطر الحقيقية للديمقراطية عندما تحتل الأكاذيب الحيز بأكمله وعندما تقوم الدولة بإسكات من يعملون على كشف الحقيقة.

ب‌-الحقيقة في سوريا ما بعد الاستعمار:

            اتسمت حقبة ما بعد الاستعمار في سوريا بالتردد الشديد تجاه الحقيقة. أولاً شهدت سوريا الحرب العربية الإسرائيلية الاولى، ثم تعاقب الانقلابات العسكرية، قبل النظام الشرس لحافظ الأسد، ولاحقاً بشار الأسد. لم يكن هناك سوى فتره قصيرة من الديمقراطية من 1954 إلى 1958.

 أنشا حافظ الأسد، الذي تولى السلطة في 1971، جهازاً حكومياً مفصلاً يهدف إلى السيطرة على الحقيقة. وفي الثمانينات، ورد أن نظام الأسد قتل 10,000 فرداً من المعارضة، وسجن آلافاً آخرين، معتمداً على حزب البعث، والجيش، والأجهزة الأمنية[4].  منذ ذلك الحين، كانت الحقيقة مفهوماً مرفوضاً، كما قال عضو مستقل في البرلمان لليزا وأيدن، في 1996، حيث قال:

“ما يقوله النظام بعيد عن الحقيقة 180 درجة: إنه يجعل نقابة العمال ضد العمال، والاتحاد النسائي ضد النساء، والبرلمان ضد الديمقراطية. لا أحد يصدق الأشياء التي يقولونها، والجميع يعلم أن لا أحد يصدقهم.”[5] 

وكانت الأكاذيب عنصراً نشطاً في الطائفة المحيطة بالأسد، الذي قدم بوصفه “فارس الحرب” و “رجل السلام” في آن واحد، وعلى أنه صيدلي وطبيب ومحامي. وعندما تولى بشار الأسد منصبه، دأب على تقاليد الأكاذيب والرقابة والإرهاب[6].  وبالفعل افتتح خطابه الرئاسي الأول بوعود بالانفتاح على “التفكير الخلاق” و “النقد البناء” و “الشفافية” و “الديمقراطية” التي لم تتحقق أبداً كما هو واضح[7].

            وبالتالي منعت سوريا، منذ استقلالها، الوصول إلى الحقيقة. كما أن الأكاذيب مقرونة بالنظام الاستبدادي منعت المواطنين من المشاركة السياسية وأصبحت الحقيقة في نهاية المطاف باهظة التكلفة بالنسبة للمواطنين العاديين الساعين إليها.

3) أهمية الحقيقة في النزاعات:

اعترافاً بالأهمية الرئيسية للحقيقة كأداة لإرساء الديمقراطية، فقد أسهم النشطاء والباحثون القانونيون والممارسون في إرساء مبدأ الحقيقة كحق. ويصور هذا الجزء الطريقة التي عملوا بها في هذا الاتجاه لخدمة أغراض مختلفة في بعض الأحيان، قبل النظر في التحدي المتمثل في كشف الحقيقة في النزاع السوري ووعوده لأجل المستقبل.

أ- الحق في معرفة الحقيقة:

            يساهم كل من القانون الدولي الإنساني والقانون الجنائي الدولي والقانون الدولي لحقوق الإنسان في إقرار الحق في معرفه الحقيقة. فالمواد 32 و33 و34 من البروتوكول الأول الإضافي إلى اتفاقيات جنيف1977 قد أرست لأول مرة الحق في معرفة مصير الأقارب المفقودين والمتوفيين، ولكن تطبيقها اقتصر على النزاعات المسلحة.

            كما أن نظام روما الأساسي، الذي ينص في المادة 68 (3) علي حق المجني عليهم في المشاركة، كما يعترف بالحق في معرفة الحقيقة. وفي هذا الصدد، فإن قضية لوبانغا كانت خطوة أولية ملحوظة لقول الحقيقة في محكمة دولية[8]. بل بوضوح أكثر، إنّ الحق في معرفة الحقيقة ورد في  المادة 24 (2) في الاتفاقية الدولية لحماية جميع الأشخاص من الاختفاء القسري في العام 2006. وإذ تؤكد حق كل ضحية في معرفة الحقيقة بشأن ظروف الاختفاء القسري، ومصير الشخص المختفي وتطورات ونتائج التحقيق.

            أكد الفقه القانوني، ولا سيما محكمة البلدان الأمريكية لحقوق الإنسان، هذا الحق[9] في وقت لاحق. ومن بين مجموعة من القرارات، اعترف بلانكو-روميرو ضد فنزويلا، والسيد كاستييو-بيوز ضد بيرو بالحق المستقل في معرفة الحقيقة[10].

            ونظراً لأن الحق في معرفة الحقيقة هو مفهوم مراوغ، فإنه يتم تحريكه لخدمة أسباب مختلفة، بمعانيه الدقيقة والمتقلبة، المتعارضة أو التكاملية، والتي تمتد إليها الجهات الفاعلة في القانون الدولي وفقا لآرائها وأهدافها. أحياناً، تعزز هذه التفسيرات المختلفة بعضها البعض وأحياناً أخرى تقوّض بعضها البعض، وفي نهاية المطاف، تسهم جميعها في بلورة المفهوم. هنالك أربعة أسباب استخدمت الحق في معرفة الحقيقة كوسيلة للنضال القانوني. وكان أول من استخدم الحق في معرفة الحقيقة دعما لقضيتهم كانت منظمات ضحايا الاختفاء القسري في أمريكا اللاتينية. وقد اعتمدت أولاً الحق في معرفة الحقيقة من الناحية الأخلاقية، ومن ثم أكدت على الحق القانوني لمعرفة الحقيقة والذي تم الاعتراف به في 2007 باعتماد الاتفاقية الدولية لحماية جميع الأشخاص من الاختفاء القسري. أما معارضو تدابير العفو العامة وقوانين العفو العامة المعتمدة كأداة لصنع السلام من السبعينات وحتى التسعينات، كانوا هم الجهات الفاعلة الثانية التي استخدمت الحق في معرفة الحقيقة لقضيتهم، مما أدى إلى انتشار لجان تقصي الحقائق في أمريكا اللاتينية وأفريقيا والمطالبة بإعادة فتح القضايا الجنائية باسم الحقيقة. والجهات الفاعلة الثالثة التي تشدّد على الحق في معرفة الحقيقة هم الممارسون والباحثون الذين دعوا في أوائل عام 2000 إلى إضفاء الطابع المؤسسي على المجال الجديد الذي سيصبح معروفا باسم العدالة الانتقالية. رابعاً وأخيراً، يدافع عن هذا الحق أيضاً أنصار الحق العام في الحصول على المعلومات والشفافية، ولا سيما المنظمات غير الحكومية مثل منظمة (Article 19) ومبادرة (Open Society Justice Initiative).

            وعلى الرغم من أن تلك الكيانات الأربعة السابقة تعمل جميعها من أجل الحقيقة، إلا ان أهدافها ومبادئها وأراءها تختلف، مما يؤثر على المعنى الذي تنوي إعطاءه لمفهوم الحقيقة، وكيف تتصور الكشف عنها، لا سيما فيما يتعلق بالعفو العام. حيث ينظر إليه البعض على أنه أداة، لها دور تؤديه في الوصول إلى الحقيقة إذا ما استخدم بحكمة، والبعض الآخر ينكره بشدة إذ يرون أن المساءلة هي استمرار الحق في معرفه الحقيقة[11].

            ولذلك، من الضروري للمنظمات غير الحكومية والمؤسسات والجهات الفاعلة أن تفكر في صلاحيتها، وأن تفهم تماماً مفهوم الحق الذي يتمسكون به في معرفة الحقيقة، والعواقب الواسعة النطاق المرتبطة بموقفها.

ب‌-التحدي المتمثل في إثبات الحقيقة في النزاع السوري:

            يدخل الصراع السوري عامه الثامن. ويظهر قلقان في إثبات الحقيقة: أولاً، التأكد من الإبلاغ عن الانتهاكات الجارية حالياً. وثانياً، الحفاظ على الأدلة من أجل احتمالية المساءلة في المستقبل. هنا، تنشا عقبات مختلفة.

أ‌.الدعاية:

            أولاً، تستخدم الأطراف الفاعلة في النزاع التضليل والدعاية كأسلحة حرب. والنظام، كما كان عليه منذ ما يقرب من 50 سنة، يكذب ويستخدم باستمرار وسائل الاعلام، بما فيها الدولية، لنشر الإدعاءات وإنكار انتهاكات القانون الإنساني الدولي مثل استخدام الأسلحة الكيميائية، وبالرغم من ذلك فإن المنظمات غير الحكومية توثق الانتهاكات على نطاق واسع[12].  ويعمل النظام أيضا على رسم صورة القائد الذي يدعمه شعبه، في الوقت الذي، في الواقع، لا يسمح فيه لأحد بالابتعاد عن الخطاب الرسمي[13].  وليس النظام هو الطرف الوحيد في الصراع الذي يغير الحقيقة بشكل كبير. فإن الجماعات المسلحة تستخدم الدعاية بأهداف مختلفة: بما فيها تجنيد المقاتلين وخداع الأعداء والادعاء بوقوع هجمات[14].

            وهناك مفهوم وثيق للدعاية، وهي عبارة “الأخبار الملفقة أو الأخبار الكاذبة”، التي اعتمدها لأول مرة المرشح لرئاسة الولايات المتحدة الأمريكية دونالد ترامب. وبالرغم من أنها تشير على ما يبدو إلى اتجاه/ظاهرة جديدة، إلا أنها في الواقع تستر/تحجب ظاهرة ذات تاريخ طويل، ألا وهي نشر معلومات كاذبة بقصد خداع الجمهور. يرجع آثار استخدام السياسيين للأخبار الملفقة لأول مرة إلى 1475 مع اختراع الصحافة كما نعرفها الآن، إذ تم نشر قصص كاذبة مرافقة لا محالة لتلك الأخبار، وذلك مع اختراع الصحافة المطبوعة[15] في 1439.  ومع ذلك، كان قادة العصور القديمة يتقنون بالفعل فن نشر أخبار كاذبة لأغراض عسكرية، كما فعل اوكتافيان ضد خصمه مارك أنتوني بعد وفاة يوليوس قيصر[16]. أما في الحرب السورية، فإن معظم التقارير الزائفة تنتشر على وسائط التواصل الاجتماعي.

ب‌.المواطن الصحفي:

            ولأن الحرب أصبحت خطيرة للغاية بالنسبة للمراسلين الأجانب من أجل تغطيتها، فقد أصبح المواطنون المصدر الأساسي للإبلاغ عن الأحداث الجارية في سوريا. وقد بدأت المنافذ الصحفية مثل وكالة فرانس برس تدريب الصحفيين الطامحين لإعطائهم المبادئ الأساسية لحرية الاعلام مثل النزاهة والتوثيق[17].  بيد أن عملها لا يزال يعتمد إلى حد كبير على شبكة الإنترنت إذ تتحدث مع المحررين الغرب عن طريق البريد الكتروني أو التطبيقات التي تتطلب شبكة الإنترنت. لقد تضررت البنى التحتية بشدة لا محالة من جراء الأعمال العدائية. ويعتمد المواطنون، حسب منطقتهم، على الاتصالات التركية أو الأقمار الصناعية والتي قد تشكّل بحد ذاتها تحدياً أمنياً آخراً. بالإضافة إلى ذلك، تعرقل الحكومة السورية الاتصالات عبر إجراءات يتخذها للحد من الوصول إلى شبكة الإنترنت، وأعاق لفترة طويلة نشر المعلومات، وزاد النزاع اللجوء إلى مختلف الأساليب، بما في ذلك:

  • المراقبة الجماعية، عبر التعاقد مع شركات أجنبية تسمح باعتراض رسائل البريد الكتروني والإنترنت والاتصالات الهاتفية المتنقلة؛
  • منع الوصول إلى المواقع المتصلة بحقوق الإنسان أو المعارضة؛
  • طلب إزالة محتوى محدد استضافته أطراف ثالثة. وهكذا، فإن الفيس بوك، على سبيل المثال، قد أغلق صفحات المنظمات المحلية غير الحكومية، ولجان التنسيق المحلية، ربما بعد الإبلاغ عن هذه الصفحات بشكل واسع على أنها تنتهك أحكام وشروط الفيس بوك.
  • مقاضاة المستخدمين واحتجازهم.[18]

ت‌. إتلاف الأدلة المرئية:

            أصبح اليوتيوب – Youtube منصة بارزة في الصراع، ويستخدمه كل طرف في النزاع لنشر دعايته، وكذلك يستخدمه المدنيون للإدلاء بشهادتهم بالاعتداءات التي كانوا ضحايا لها.  يعتبر الموقع أداة قوية لتوثيق النزاع الجاري، ومن المتوقع أن يؤدي دورا في المحاكمات على انتهاكات القانون الدولي. ومع ذلك، فقد قامت الشركة بإزالة عدد من ملفات الفيديو التي تصور النزاع بحجة عدم امتثالها لشروط واحكام Youtube. وبالتالي، فقد شهدت وكالة أنباء قاسيون، وبلينغكات، وسوريون من أجل الحقيقة والعدالة، إزالة أشرطة فيديو هامة، تلك التي توثق الصراع، من قبل المنبر مما يعيق العمل الهادف إلى ضمان المساءلة في المستقبل[19].

ث‌. مجتمع يلوم الضحايا

            بالإضافة لصعوبة الوصول إلى الضحايا لجمع الشهادات، فإن الإساءات التي تعرضوا لها تكون أحيانا صادمة ومهينة جداً يجعلهم يعزفون عن الكلام. وينطبق هذا على نوع معين من العنف بصفة خاصة ألا وهو العنف الجنسي القائم على النوع الإجتماعي. والنساء هن الأكثر عرضة لهذه السلسلة من الانتهاكات، التي هي في الواقع ذات شقين: فالنساء لا يعانين من العنف فحسب، بل يعشن أيضاً في مجتمع ذكوري يمنعهن من التأكيد على أنفسهن كناجيات ويسردن الأحداث. ووصمة العار المرتبطة بالعنف الجنسي في سوريا، في الواقع أحد الأسباب الأساسية لنشأة استراتيجية العنف الجنسي في سوريا، تعيق عمل الباحثين والمحاميين والعاملين في مجال الإغاثة الإنسانية لتوثيق الموضوع، وهي جزء من استراتيجية الجهات الفاعلة[20]

ج‌. مفهوم متقلب:

            وأخيرا، فإن المعني المتقلب الذي غلفه الحق في معرفة الحقيقة، والأهداف المتباينة التي ينشدها الأطراف، والضحايا، والمنظمات، إذ أن بعضها يعطي الأولوية للحقيقة، والبعض الآخر المساءلة، قد يتحدى أحيانا النشطاء الذين سوف يتغلبون على تلك الصعوبات من خلال التفكير في أهدافها الرئيسية والطرق التي تختارها لتحقيق تلك الأهداف[21].

ت‌- الحقيقة، فرصة للمستقبل:

            تجد الانتفاضة السورية جذورها في التجاوزات والانتهاكات التي ارتكبها النظام خلال العقود الماضية. والمواطنون الذين أصيبوا بالشلل بسبب خوفهم المستمر من السجن والرقابة الكلية، وفي سوريا تم رفض الحقيقة لفترة طويلة لدعم العائلة المالكة الاستبدادية، مما قاد الشعب إلى الموافقة ضمنيا على تصديق وموافقة الحكومة.

            ولذلك فإن الالتزام بالحقيقة والشفافية فيما يتعلق بالأحداث الماضية، وأيضا فيما يتعلق بالمستقبل، سيكون بدون شك ابتعاداً واضحاً عن الحالة الراهنة. وعلى النقيض من ذلك، فإن الحكومة التي تحجم عن التنقيب في الماضي، من المرجّح أن تنمّي “علاقة تضاد” تجاه الحقيقة، وتنذر بالشؤم في المستقبل، كما هو الحال في تونس[22].

            ولذلك، فان إثبات الحقيقة هو فرصة للنظام الحاكم القادم، للابتعاد بشكل جذري عن طريقة الحكم التي يمكن عزوها إلى بداية عهد حافظ الأسد وتوصيف حقبة ما بعد الاستعمار بشكل كامل، وأخيرا ضمان تغيير الأساليب.

4)كشف الحقيقة:

المسعى الناجح لتقصي الحقيقة ينبغي أن يأخذ في عين الاعتبار الصدمات التي يتعرض لها ضحايا الجرائم الجماعية ومعالجة سبل تقوية رواة الحقيقة. سيتفحص هذا الجزء هذه المسالة وسوف يعكس أداتين قد تصبحان مناهج للحقيقة، ألا وهما المحاكم ولجان الحقيقة.

أ- تقوية الناس لقول حقيقتهم:

            مهما كانت القضية التي تخدمها السعي إلى الحقيقة-مكافحة الاختفاء القسري، والطعن في العفو، وتعزيز مجال العدالة الانتقالية، أو الدعوة إلى مزيد من الشفافية-وإن إطار السعي الحقيقة-المساءلة أو العفو-فإنه من الضروري وضع الناس (الذين يرغبون في ذلك) في صميم العملية، فهم الذين مروا بالانتهاكات ولا شك في أن سردهم للحدث له أهميته. قول الحقيقة يمكن أيضا أن يكون أداة لتوحيد المجتمع، من خلال تبادل القصص المماثلة والأذى المماثل، وغرس الثقة داخل المجتمع الذي تضرر من عقود من الرقابة والتجسس. وقد أعرب المدنيون عن رغبتهم في سرد قصتهم خلال الحرب: فعشرات حسابات التويتر وحالات الفيس بوك أو أشرطة فيديو اليوتيوب كلها تحكي مصير المدنيين المحاصرين في مناطق الصراع[23].  لقد أصبح المدنيون صحفيين، وناجين يشهدون على قول حقيقتهم، وكلهم يضعون أسس قول الحقيقة[24].

            ولتعزيز المدنيين لكي يضطلعوا بهذا الدور، يجب أن ترافقهم المنظمات والمؤسسات غير الحكومية. ويجب على المنظمات غير الحكومية التوثيقية أن تستمع إلى شهاداتهم، وأن تتمسك بالمعايير الدولية أثناء التحقيق وإجراء المقابلات، من أجل أن يكون صوتها ذات صدى واسع، على أمل أن تستخدم هذه الشهادات لاحقا في المساءلة أو لمعرفة عمليات قول الحقيقة. ينبغي على المنظمات الإنسانية غير الحكومية أن تصل إلى الضحايا والشهود وأن تبلغهم بحقوقهم وفرصهم في الإدلاء بشهادتهم أمام المحاكم وفرق التحقيق وربما في وقت لاحق أمام الهيئات المعنية بتقصي الحقائق.

            للمنظمات غير الحكومية المحلية دور هام تؤديه نظراً لشبكتها وتنفيذها داخل سوريا. فهي جزء من المجتمع، وهي أكثر من توظف موظفين محليين، كما ولديها احتياجات مالية أقل، وأيضا لها موقف أكثر دواما لتنفيذ التغيير. بيد أن بوسعها تعزيز دورها بالاستفادة من المنظمات غير الحكومية الدولية بالإضافة إلى وكالات الأمم المتحدة التي ما فتئت تعمل في هذه المواضيع ووضعت مجموعات من أفضل الممارسات بشأن مجموعة من المواضيع مثل توثيق جرائم الحرب والتحقيق في العنف الجنسي والعنف القائم عل نوع الجنس، أو إنشاء لجنة للحقيقة، أو أفضل السبل لتحقيق المساءلة[25]

ب‌-المحاكم ولجان تقصي الحقائق:

            اعتمادا على القضية التي يروجونها من أجل التعبئة نحو الحق في معرفة الحقيقة، فإن النشطاء أو الباحثين أو الممارسين أو المسؤولين سوف يدعمون المحاكم ولجان تقصي الحقائق بحماس أكبر أو أقل.

ت‌-مساهمة المحاكم في كشف الحقيقة:

            يشك أن للمحاكم دور طويل في قول الحقيقة. فأولا، تتصدى المحاكم لإدانة الأفراد أو تبرئتهم، متجاهلة بذلك قضايا أوسع نطاقا، مثل الأسباب الجذرية للنزاع أو الجوانب السياسية للحالات. وثانيا، تنحو المحاكم نحو الجناة، إدانتهم أو تبرئتهم، وتنحو نحو شكر الضحايا.

            غير أن المحكمة الجنائية الدولية قد ابتعدت عن هذا الانقسام لتشمل الضحايا أيضا في إجراءاتها. وفي هذا الصدد، عالجت قضية لوبانغا، بما في ذلك مشاركة 129 من الافراد، إذ عالجت حقيقة الضحايا من خلال عدسة الأضرار التي تعرضوا لها شخصيا أو تعرضت لها أسرهم، وعرضت تجربتهم بالتفصيل[26]. ولذلك فإن أنصار “الإقرار بالذنب” باعتباره شرطاً أساسياً في الحق في معرفة الحقيقة سيدافعون في المقام الأول عن المحاكمات مع التركيز على مشاركه الضحايا.

ث‌- لجان تقصي الحقائق كعامل مساعد في معرفة الحقيقة:

ومن ناحية أخرى، فان للجان تقصي الحقائق ولاية أوسع نطاقا. وتهدف اللجنة، اقتداء بأمريكا اللاتينية في الثمانينات، للتعامل مع أنظمة ما بعد الدكتاتورية وطورت على مدى العقود الماضية أكثر من ثلاثين حاله، والهدف هو إفساح المجال للضحايا لكي يقولوا حقيقتهم ويسهموا في جهود المصالحة داخل المجتمع.

            وقد وصفت لجنة الحقيقة بأنها:

 (1) ركزت على الماضي؛ (2) تم اعدادها للتحقيق في نمط من التجاوزات على مدار فترة من الزمن، بدلا من أحداث محددة؛ (3) هيئة مؤقتة، بقصد الانتهاء من اعداد تقرير عام؛ و (4) مخولة رسميا أو مخولة من الدولة[27].

            ومن الأمور الحساسة تقييم فوائد لجان تقصي الحقائق. وقد يكون النجاح الملموس الذي حققوه في الواقع موجودا في الفرص التي فتحوها والتقدم الذي أحرزوه على أساس العمل الذي قامت به أليات البحث عن الحقيقة. بالتالي، فقد منحت تعويضات للضحايا في عدة بلدان، كما هو الأمر في المغرب، وتنشأ عن لجان تقصي الحقائق أفكار تخرج أحيانا بوصفها إصلاحات مؤسسية.

            ولذلك فإن لجان تقصي الحقائق ستجد على الأرجح دعما من أنصار العدالة الانتقالية، الذين قد يحيدون بدورهم عن موضوع الفرصة المتاحة لمنح العفو.     

5)الخاتمة:

            لقد اتسمت حقبة ما بعد الاستعمار في سوريا بعلاقة معقدة تجاه الحقيقة. وكانت الدعاية والرقابة والسجن السياسي وعبادة الشخصية (الحاكم) هي العادة حتى 2011 وبداية الصراع، مما أعاق فعلياً أي إحساس بالديمقراطية. إن إعادة إقامة علاقة صحية مع الحقيقة والحرية في الإبلاغ والتبليغ، لمعرفة حكاية الشخص، هي فرصة ينبغي للقادة السوريين في المستقبل اغتنامها للابتعاد بشكل جذري عن التقاليد الاستبدادية والتطور نحو مستقبل ديمقراطي.

الكفاح من أجل الحقيقة، تم تسخيره من أجل تحقيق قضايا عديدة، وقد يشكّل ارتباطاً مشتركاً بين جميع المواطنين السورييين بمختلف انتماءاتهم العرقية والدينية والإثنية في مستقبل سوريا.


[1] إيمانويل كانط، أطروحة المبادئ الأساسية لميتافيزيقيا الأخلاق. 1785

[2] نيقولا ميكافيلي، كتاب الأمير. 1513

[3] حانا أرنديت، أسس التوتاليتارية (الشمولية). 1951

[4] ميدل إيست ووتش (المعروف حاليا بهيومن رايتس ووتش)، رفع القناع عن سوريا: قمع حقوق الانسان من قبل نظام الأسد (ملاذ جديد: صحيفة جامعة ييل 1991)

[5] ليزا وأين، السيطرة الغامضة: السياسة، الخطاب، والرموز في سوريا المعاصرة. (شيكاغو، صحيفة جامعة شيكاغو 2015)

[6] Sune Haugbolle, Imprisonment, Truth Telling and Historical Memory in Syria, Mediterranean Politics,13:2 (2008) 261-276.

[7] العقد الضائع: حالة حقوق الانسان في سوريا خلال السنوات العشر الأولى من حكم بشار الأسد. هيومن رايتس ووتش، تموز/ يوليو16، 2010. https://www.hrw.org/report/2010/07/16/wasted-decade/human-rights-syria-during-bashar-al-asads-first-ten-years-power

[8] كلير غاربيت، “الحقيقة والمحاكمة: مشاركة الضحية، والعدالة الإصلاحية، والمحكمة الجنائية الدولية”. صحيفة كونتيمبوراري جاستيس ريفيو: قضايا في العدالة الإصلاحية والاجتماعية والجنائية، 16:2 (2013) 193-213. الحالة في جمهورية الكونغو الديمقراطية في قضية المدعي العام ضد توماس لوبانغا ديلو. ICC-01/04-01/06. الحكم بموجب المادة 74 من نظام التشريع.

[9]ديرموت غرووم، “الحق في معرفة الحقيقة في النضال ضد الحصانة” بيركلي  J. Int’l Law 29:1 (2011)

منشورات ذات صلة

اترك تعليقاً

* By using this form you agree with the storage and handling of your data by this website.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك عدم المشاركة إذا كنت ترغب في ذلك. موافق إقرأ المزيد