مقدّمة: مع بداية العام 2018 شهدت عدة مدن وبلدات في الغوطة الشرقية بريف دمشق، إلقاء “مناشير ورقية” من قبل -قوات الحكومة السورية بشكل خاص- وذلك تحديداً في شهري كانون الثاني/يناير وشباط/فبراير 2018، وقد حملت هذه المناشير في طياتها تهديداً للمدنيين المتواجدين فيها، ومحاولات يمكن تفسيرها على أنّها دفع الناس إلى ترك قراهم ومدنهم، في سيناريو مشابه لما حصل في مدينة حلب في العام 2016. فبتاريخ 19 شباط/فبراير 2018 أعلن وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف بأنّ “تجربة تحرير حلب قابلة للتطبيق في الغوطة الشرقية”.
الجدير بالذكر أنّ المناشير التي تمّ إلقاؤها في الغوطة الشرقية تزامنت مع القصف الوحشي الذي تعرّضت له مدن وبلدات الغوطة، تخللها ارتكاب العشرات من جرائم الحرب وقصف الأهداف المدنية والمرافق الطبّية والاستخدامات المتكررة لمواد كيميائية وسامّة.
وبحسب الباحث الميداني لدى سوريون من أجل الحقيقة والعدالة، فقد تمّ إلقاء عدد كبير من المناشير عشية/قبل بعض العمليات العسكرية أو بالتزامن معها، وعلى وجه الخصوص خلال الحملة العسكرية الأخيرة[1] التي بدأتها القوات النظامية السورية على عموم مدن وبلدات الغوطة الشرقية اعتباراً من تاريخ 18 شباط/فبراير 2018، وكان قد سبق لها إلقاء عدد من المناشير الورقية على تجمعات المدنيين في الغوطة الشرقية، وذلك خلال تصعيدها العسكري السابق الذي بدأته بتاريخ 29 كانون الأول/ديسمبر 2017، والذي جاء بالتزامن مع إعلان حركة أحرار الشام الإسلامية عن انطلاق المرحلة الثانية[2] من معركة “بأنهم ظلموا”.
وكثيراً ما يلقي الجيش النظامي السوري منشورات فوق المناطق التي يسيطر عليها تنظيم داعش أو جماعات المعارضة المسلحة الأخرى. وعادة ما يكون لهذه المنشورات وظيفة مزدوجة، فهي من ناحية تحذر من هجوم وشيك سوف يشنه الجيش السوري، ومن ناحية أخرى تهدد بالموت أولئك الذين لا يستسلمون أو الذين لا يقومون بإخلاء منطقة معينة.
بتاريخ 18 شباط/فبراير 2018، تعرضت مدن وبلدات الغوطة الشرقية إلى واحدة من أعنف الحملات العسكرية التي شنتها القوات النظامية السورية وحلفاؤها، إذ أنها عمدت إلى استخدام أنواع عديدة من الأسلحة مستهدفة من خلالها تجمعات المدنيين في تلك المناطق، سواء من خلال الطيران الحربي أو المروحي أو المدفعية الثقيلة، وهو ما تسبّب في وقوع العديد من الضحايا المدنيين بين قتلى وجرحى[3]، وبحسب الباحث الميداني لدى سوريون من أجل الحقيقة والعدالة، فقد تجاوز عدد القتلى منذ بداية هذه الحملة وحتى تاريخ إعداد هذا التقرير أكثر من (400) قتيل مدني، كما كانت سوريون من أجل الحقيقة والعدالة، قد أعدت في وقت سابق تقريراً بعنوان “كأنها القيامة“، وقد تناول هذا التقرير الأحداث المتواترة الأخيرة في الغوطة الشرقية.
وخلال هذه الحملة وتحديداً بتاريخ 22 شباط/فبراير 2018، قام الطيران المروحي التابع للقوات النظامية السورية بإلقاء عدة مناشير ورقية على تجمعات المدنيين في مدينة دوما[4]، وهو الأمر الذي أكده أسامة النبكي وهو أحد الناشطين في مدينة دوما، حيث تحدث قائلاً:
“في تمام الساعة (5:23) مساءً، وبينما كانت إحدى الطائرات المروحية تقوم بإلقاء البراميل المتفجرة على مدينة دوما، قامت ذات الطائرة المروحية بإلقاء عدة مناشير على مناطق مأهولة بالسكان في المدينة، مثل منطقتي “العالية” و”المنارة”، فدفعني فضولي إلى الإمساك بإحدى تلك المنشورات، ومن ثمّ عدت مسرعاً إلى القبو للاحتماء من القصف. للوهلة الأولى أصابتني موجة من الضحك والاستهزاء، لأننا بتنا على يقين بأنّ النظام ليسا صادقاً أبداً، كما بتنا على يقين بأنّ إلقاءه لهذه المنشورات ما هو إلا من باب الحرب النفسية لإرغامنا على الاستسلام. لقد تضمنت هذه المنشورات عبارات توحي بالتهديد الصريح والمبطن، علماً بأنّ النظام يعتبر كل من يتواجد في الغوطة الشرقية مجرد حاضنة شعبية للمسلحين، وهم بنظره إرهابيون.”
وتابع النبكي بأنّ تلك المنشورات أثارت لدى أهالي مدينة دوما نوعاً من الاستهزاء، فكيف يمكن للقوات النظامية السورية التي لم تسمح للعديد من الحالات الإنسانية بتلقي العلاج خارج الغوطة الشرقية، أن تسمح لآلاف المدنيين بالخروج الآمن، وأضاف قائلاً: “كان الأولى بالنظام أن يتوقف عن قصف نسائنا وأطفالنا الذين يقبعون داخل منازلهم، إلى جانب أنه قتل الآلاف منهم بسبب سياسة الحصار التي ينتهجها، ومنعه إدخال الغذاء والدواء إلى الغوطة الشرقية، ومن المعروف أنّ جميع أهالي الغوطة الشرقية هم من الثائرين والرافضين لحكم النظام الذي قام باعتقالهم وتشريدهم على مر أعوام، ولسنا ساذجين حتى نأتمن طرف النظام بعد كل ماجرى، بل بات من الواضح لنا بأنّ جلّ مايريده هو تهجيرنا وإبعادنا عن المكان الذي ولدنا فيه.”
صور تظهر جانباً من المناشير الورقية التي تمّ إلقاؤها من قبل الطيران المروحي التابع للقوات النظامية السورية على مدينة دوما، وذلك بتاريخ 22 شباط/فبراير 2018، مصدر الصورة: ناشطون إعلاميون من مدينة دوما.
بتاريخ 11 آذار/مارس 2018 ألقت القوات الحكومية السورية مناشير على مدينة دوما بريف دمشق، تخبر الناس فيها أنّها حددت معابر من أجل خروج الناس إلى مناطق خاصّة “بخروج آمن”.
صورة (1) تُظهر أحد المناشير الورقية التي تمّ إلقاؤها على مدينة دوما بتاريخ 11 آذار/مارس 2018. مصدر الصورة: أهالي ونشطاء من المدينة.
صورة (2) تُظهر أحد المناشير الورقية التي تمّ إلقاؤها على مدينة دوما بتاريخ 11 آذار/مارس 2018. مصدر الصورة: أهالي ونشطاء من المدينة.
صورة ت(1) تُظهر أحد المناشير التي تمّ إلقاؤها على مدينة دوما بتاريخ 3 آذار/مارس 2018، وهي عبارة عن استمارة فارغة خاصة “بتعهّد” للمقاتلين الذين يوافقون على رمي أسلحتهم وتسليم نفسهم للقوات النظامية السورية.
صورة (2) تُظهر منشوراً آخراً تمّ إلقاؤه على مدينة دوما-الغوطة الشرقية بتاريخ 3 آذار/مارس 2018، وبحسب مضمون المنشور فهو بمثابة “وثيقة رسمية” تعتبر من يحملها بحكم الواقفين عن قتال الجيش النظامي السوري. مصدر الصورة: أهالي ونشطاء من ودما.
وقد نشرت صفحات محسوبة على الحكومة السوري مقاطع فيديو تُظهر إلقاء الحوامّات العسكرية منشورات على مدن وبلدات الغوطة الشرقية بريف دمشق.
كما نشرت المعرّفات الرسمية لوكالة سانا الرسمية للأخبار، أخبار و فيديوهات عن إلقاء منشورات على مدن وبلدات الغوطة في بداية شهر آذار/مارس 2018.
صورة (1)
صورة (2)
صورة (3)
الصور (1) و (2) و (3) مأخوذة من مقاطع فيديوهات والموقع الرسمي لوكالة سانا الأخبارية الرسمية
وفي تاريخ 29 كانون الأول/ديسمبر 2017، بدأت القوات النظامية السورية وحلفاؤها بحملة قصف عنيفة على عموم مدن وبلدات الغوطة الشرقية، وذلك بالتزامن مع إعلان حركة أحرار الشام الإسلامية عن المرحلة الثانية[5] من معركة “بأنهم ظلموا”، وكان لمدينة حرستا[6] النصيب الأوفر من ذلك القصف، إذ لم تتوقف القوات النظامية السورية وحلفائها عن استخدام مختلف أنواع الأسلحة في قصف المدينة، سواء من خلال الطيران الحربي أو المدفعية الثقيلة، وهو ماتسبّب في وقوع العديد من الضحايا المدنيين مابين قتلى وجرحى، كما أنّه دفع بالعديد من أهالي الغوطة الشرقية إلى الاحتماء داخل الأقبية خوفاً من عمليات القصف العنيفة.
وكانت سوريون من أجل الحقيقة والعدالة قد أصدرت تقريراً مفصلاً عن هذا التصعيد تحت عنوان (مجازر مروّعة من قبل الحلف السوري/الروسي في الغوطة الشرقية عشية مؤتمر سوتشي “للحوار الوطني“)، الذي جاء عشية عقد مؤتمر سوتشي “للحوار الوطني” بتاريخ 29 و 30 كانون الثاني/يناير 2018.
وخلال هذه الحملة وتحديداً بتاريخ 7 كانون الثاني/يناير 2018، قام الطيران الحربي التابع للقوات النظامية السورية بإلقاء عدة مناشير على الأحياء السكنية في مدينة حرستا، وهو الأمر الذي أكده “محمد عباس-اسم مستعار” لأحد نشطاء مدينة حرستا، حيث تحدث قائلاً:
“في تمام الساعة (2:00) ظهراً، قام الطيران الحربي التابع للنظام، بإلقاء أحد الصواريخ على المدينة، لكن هذه المرة لم نسمع له أي صوت انفجار، ولمّا حاولنا الصعود للتأكد مما جرى، لم ننجح في ذلك فالنظام لم يهدأ عن قصف المدينة مطلقاً، وبعد حوالي الأربع ساعات تقريباً، تمكنا من الصعود ورأينا عدة مناشير ملقاة على الأرض، وكان بعضها يحمل عبارات مبهمة وغير واضحة، فبعضها كان يخاطب المسلحين وبعضها الآخر كان يحوي كلمات عامة لم تميز بين أحد.”
واعتبر عباس بأنّ هذه المناشير الورقية ماهي إلا تهديد مبطن للعديد من المدنيين المتواجدين داخل مدينة حرستا، واستدلّ بذلك على حملة القصف العنيفة التي سبقت إلقاء تلك المناشير واستهدفت تجمعات المدنيين في المدينة، مشيراً إلى أنّ هذه الحملة العسكرية للقوات النظامية السورية خلفت عشرات القتلى والجرحى من المدنيين، جلّهم من الأطفال والنساء، وتابع قائلاً:
“النظام السوري قام بإلقاء تلك المناشير على حي “صمصم” في مدينة حرستا، هذا الحي المعروف بأنه واحد من أكثر الأحياء اكتظاظاً بالسكان، ولا يتواجد فيه أي مقر أو فصيل عسكري، ولو أراد النظام مخاطبة المسلحين، كان الأولى به أن يلقي مناشيره على جبهات القتال، كما أنّ النظام السوري كان قد تعمد إلقاء هذه المناشير بعد حملة قصف ممنهجة، وذلك من أجل إيصالنا إلى مرحلة الانهيار النفسي والجسدي، دافعاً إيانا إلى الاستسلام والانقياد لمطالبه، لكن عندما رأى العديد من أهالي مدينة حرستا هذه المناشير انتابهم شعور بسخفها، لأنّ من يرمينا بشتّى أنواع القذائف ليل نهار ويمنع عنا الغذاء والدواء، كما أنه يمنع المرضى من الخروج لتلقي العلاج لن يرحمنا مطلقاً ولن يسمح لأحد أن يعيش بسلام.”
صور تظهر مجموعة من المناشير الورقية التي ألقيت على مدينة حرستا بتاريخ 7 كانون الثاني/يناير 2018، مصدر الصورة: صفحة دمشق الآن الموالية للقوات الحكومية السورية.
الإطار القانوني:
سوف تنظر هذه الوثيقة في الإطار القانوني لهذه البلاغات ومدى توافقها مع القانون الإنساني الدولي. وستركز بوجه خاص على ما يلي:
1 كون الإنذار بوقوع هجوم وشيك مطلوباً أم لا بموجب قواعد مبدأ الاحتراز ومدى توافقه مع هذه القواعد.
2 ما إذا كان الوعد بممر آمن واردا في بعض المنشورات وترقى إلى نية الغدر.
3 ما إذا كان التهديد بقتل أولئك الذين لا يستسلمون يشكل انتهاكا لقاعدة حظر الأمر بعدم إبقاء أحد على قيد الحياة.
مبدأ الاحتراز:
يتطلب مبدأ الاحتراز توخي الحذر الدائم لتجنيب المدنيين والمواقع المدنية[7] أثناء القيام بالعمليات العسكرية. وتحقيقا لهذه الغاية، يجب اتخاذ جميع الاحتياطات الممكنة أثناء العمليات العسكرية[8]. يهدف هذا المبدأ إلى تجنيب الأشخاص والمواقع، التي هي ليست أهدافاً مشروعة للهجوم[9]، الآثار الغير مباشرة للنزاع، أو على الأقل التخفيف منها إلى الحد الأدنى.
تعتبر القوانين الاحترازية شرطاً أساسياً يجب أن تلتزم به الأطراف المتنازعة من أجل احترام المبادئ والقواعد الأخرى المتعلقة بسير العمليات القتالية.[10] ولا يمكن تطبيق المبدأ الأساسي الذي ينص بأن تميز الأطراف المتحاربة في جميع الأوقات بين السكان المدنيين والمقاتلين إلا إذا اتخذت أطراف النزاع خطوات للتحقق من طبيعة الهدف الذي هم على وشك استهدافه.[11] في الوقت ذاته، إن القواعد المتعلقة بالاحتياطات هي استكمال لمبدأ التمييز المذكور أعلاه ومرتبطة بقواعد التناسب. في حال تم استهداف منطقة عسكرية وتم أخذ مبدأ التناسب بعين الاعتبار، أي بمعنى أن الخسائر غير المباشرة والمتوقعة في الأرواح البشرية هي قليلة بالنسبة للفائدة العسكرية الملموسة والمباشرة المتوقعة من هذا الهجوم، مع ذلك يجب اتخاذ التدابير الاحترازية.
إن أركان “المبدأ الاحترازي” قد وردت في اتفاقية لاهاي[12] 1907، وقواعد لاهاي[13] 1907، وفي اتفاقية جنيف الرابعة[14]، ولكن هذا المبدأ لم يصغ بشكل صريح إلا في المادتين 57 و 58 من البروتوكول الإضافي الأول لاتفاقيات جنيف. وينظم البروتوكول الإضافي الأول النزاعات ذات الطابع الدولي، وبالتالي لا صلة له بالنزاع السوري.
بيد أن المبدأ الاحترازي، كما أكدته المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة في قضية كوبريشكيتش ، يشكل جزءاً من مجموعة القوانين الدولية الإنسانية العرفية وينطبق على جميع أطراف النزاع حتى في النزاعات المسلحة غير الدولية.
ورد محتوى القواعد العرفية المتعلقة بالاحتراز في المواد من 15 إلى 24 من دراسة اللجنة الدولية للصليب الأحمر بشأن القانون الدولي الإنساني العرفي. إنّ الجهة التي تخطط للهجوم وتتخذ قرار شنه ملزمة باتخاذ جميع الاحتياطات الممكنة قبل[15] وأثناء جميع مراحل الهجوم[16]. و ينطبق الالتزام نفسه كذلك على طرف النزاع الذي يتعرض للهجوم فيما يتعلق بالسكان المدنيين الخاضعين لسيطرته[17]. وعلى وجه الخصوص، يجب على الطرف الذي يتعرض للهجوم أن يتجنب قدر الإمكان، وضع الأهداف العسكرية داخل المناطق المكتظة بالسكان أو بالقرب منها، وأن يبعد المدنيين والأعيان المدنية الخاضعة لسيطرته عن الأهداف العسكرية.[18]
الالتزام الاحترازي والذي هو الموضوع الأساسي لهذه الورقة هو الالتزام بالإنذار المسبق الفعال بالهجمات التي قد تمس بالسكان المدنيين، إلا إذا لم تكن الظروف تسمح بذلك.[19]ووفقا للممارسات التي تتبعها الدول، لا يلزم التحذير عندما يكون عامل المفاجأة حاسماً للهجوم، أو بصورة أعم عندما يمكن للإنذار أن يعرض نجاح الهجوم أو أمن القوات للخطر.[20] نظرياً، قد يعتبر إلقاء المنشورات تحذيراً من حدوث هجوم وشيك، إنذاراً مسبقاً يتماشى مع مبدأ الاحتراز بيد أن التحذير يجب أن يكون فعالاً أيضاً. ولكي يكون التحذير فعالاً يجب أن يكون محدداً وفي التوقيت المناسب بما فيه الكفاية كي يستطيع السكان المدنيين التصرف على أساسه.[21]
ومن جهة أخرى، حتى لو افترضنا أن الإنذارات دقيقة ومتوافقة مع تطبيق مبدأ الاحتراز، فإن اعتمادها لا يمكن أن يبرر انتهاكات قواعد القانون الدولي الإنساني الأخرى.[22] أي أن تقديم الإنذار المسبق لا يعني ان الهجوم القادم سيكون مشروعاً بموجب معايير أخرى من قواعد القانون الدولي الإنساني[23]. وعلى وجه التحديد، فإن مجرد عدم مغادرة المدنيين للمكان الذي سيتم استهدافه بعد الإنذار لا يلغي بحد ذاته كونهم محصنين ضد الهجمات بموجب القانون الدولي الإنساني.[24] وفي الحال الذي توجه فيه الإنذارات إلى مدنيين في منطقة محاصرة، يبقى الطرف المهاجم خاضعاً للالتزام بعدم استخدام التجويع كوسيلة من وسائل الحرب[25] والسماح بإيصال المساعدات الإنسانية.[26] وبالإضافة إلى ذلك يجب ألا يتسبب بالنزوح القسري للأشخاص الذين يغادرون بعد الإنذار بالهجوم ما لم يكن النزوح لضرورة عسكرية حتمية أو لضرورة ضمان سلامة السكان المدنيين[27].
وفي سياق النزاع في غزة، طرحت الحجة القائلة بأن المدنيين الذين لا يغادرون بعد الإنذار يصبحون بمثابة دروع بشرية طوعية، وبالتالي يصبحون أهدافاً عسكرية مشروعة[28]. هذه الحجة مرفوضة في معظم الحالات لأنه في المقام الأول وبموجب القانون الدولي، فإن المدنيين غير ملزمين بالمغادرة بعد تلقيهم الإنذار[29]. ثانياً، لا يصبح المدنيون أهدافاً مشروعة إلا في حال شاركوا مباشرة في الأعمال القتالية.[30] ورغم أنه من الصحيح أن المدنيين الذين يكونون كدروع بشرية طوعية يمكن اعتبارهم مشاركين بصورة مباشرة في الأعمال القتالية[31]، فإن عدم ترك منطقة حربية بعد الإنذار لا يشكل دليلا كافياً على تصنيف المدنيين بأنهم دروع بشرية طوعية.[32]إنه من الصعب جداً البرهنة على حتمية وجود نوايا عدوانية وراء مثل هذا القرار، وفي حالة الشك، يتم اعتبار المدنيين بأنهم مجرد مدنيين ولا يمكن استهدافهم بشكل مباشر.[33]
وأخيرا، فإن المدنيون الذين لا يغادرون بعد التحذير يستمرون بالاستفادة من التدابير الاحترازية الأخرى الواجب اتخاذها من قبل المهاجم، أو أن تتخذ كقاعدة للمحاسبة على انتهاكات للقانون الدولي الإنساني[34].
تحذيرات غامضة ومبهمة:
التحذيرات الواردة في المنشورات التي تلقيها الحكومة السورية غامضة جداً لدرجة أنها لا يمكن أن تشكل إنذاراً مسبقاً فعالاً ويمكن القول ان مفعولها الوحيد هو بث الرعب بين السكان المدنيين، منتهكة بذلك الحظر العرفي لنشر الرعب بين المدنيين.[35]
الغدر:
يعرف البروتوكول الإضافي الأول الغدر بأنه “تعتبر من قبيل الغدر الأفعال التي تستثير ثقة الخصم مع تعمد خيانة هذه الثقة والتي تدفع الخصم إلى الاعتقاد بأنه له الحق في الحماية أو أن عليه التزاما بمنح الحماية طبقا لقواعد القانون الدولي التي تطبق في النزاعات المسلحة” ومنع الغدر غير مدرج في البروتوكول الإضافي الثاني، الذي ينظم المنازعات ذات الطابع غير الدولي، ولكنه يشكل قاعدة من قواعد القانون الدولي الإنساني العرفي ويمكن تطبيقه أيضا في سياق النزاع السوري.[36]
في مرات عديدة، وعدت منشورات الحكومة السورية بالمرور الآمن لأي شخص يقوم بالاستسلام وبصورة أعم لأي شخص لا يحمل سلاحاً. ويبدو أن صياغة المنشورات توحي بأن المقاتلين الذين يستسلمون سيعاملون كأفراد وضعوا أسلحتهم جانبا ومحميين وفقا[37] لذلك. وتوحي أيضاً بأن المدنيين الذين لا يحملون سلاحاً لن يصابوا بأذى.إعطاء الأمان لفرد ما ، أي إيهامه أنه خاضع للحماية التي يكفلها له القانون الدولي الإنساني سواء كان للمدنيين أو المقاتلين الذين وضعوا أسلحتهم، ومن ثم إستهدافهم، يشكل انتهاكا لقانون منع الغدر[38]. وعلاوة على ذلك، وعملا بالمادة 8 (2) (هـ) ‘ 9 ‘ من نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، يشكل السلوك نفسه جريمة حرب في نزاع مسلح غير دولي.
الأمر بعدم إبقاء أحد على قيد الحياة:
حظر الأمر بعدم إبقاء أحد على قيد الحياة هو شرط مسبق يحكم تطبيق جميع قواعد الحماية التي ينص عليها القانون الإنساني الدولي. وأي ضمانات للمعاملة الإنسانية، وأي قاعدة بشأن الرعاية المقدمة للمصابين والمرضى، وأية ضمانات قضائية ستظل حبرا على ورق إذا كانت النزاعات تقوم على أساس الأوامر التي تقضي بإبادة العدو[39]. والحظر ورد أولاً في المادة 23 من قواعد لاهاي 1907 وورد بعدها في المادة 4 من البروتوكول الإضافي الثاني[40]. ولا ينطبق البروتوكول الإضافي الثاني علي النزاع السوري لأن سوريا ليست طرفا في البروتوكول. غير أن حظر الأمر بعدم إبقاء أحد على قيد الحياة يشكل الآن جزءاً من القانون الدولي الإنساني العرفي وهو ملزم أيضا لسوريا[41]. ويشكل الأمر بعدم إبقاء أحد على قيد الحياة انتهاكا خطيرا للقانون الدولي الإنساني ويمثل جريمة حرب في نزاع مسلح غير دولي وفقا للمادة 8 (2) (ه) ‘ 10 ‘ من نظام روما الأساسي.
ويشمل الحظر كلاً من الأمر أو تهديد الخصم بعدم إبقاء أحد على قيد الحياة والقيام بالأعمال العدائية على هذا الأساس[42]. كما أن القيام بأعمال عدائية على أساس عدم إبقاء أحد على قيد الحياة ينتهك أيضا المادة 3 المشتركة بين اتفاقيات جنيف لأنها ستؤدي إلى قتل الأشخاص الذين وضعوا أسلحتهم[43]. ولا تشترط هذه القاعدة أن يستخدم أطراف النزاع أولاً الوسائل غير الفتاكة ضد هدف مشروع، أو إلقاء القبض أو الاحتجاز قبل محاولة القتل[44]. غير انها تحظر على أطراف النزاع ان ترفض إنقاذ أرواح المقاتلين الأعداء إذا استسلموا أو وضعوا أسلحتهم جانبا[45]. ووفقا للجنة الدولية الصليب الأحمر، فإن هذه القاعدة تتطلب أيضاً -عندما تسمح الظروف بشكل معقول بذلك- أن يُعطى الخصم الذي يسعى إلى الاستسلام، الفرصة بأن يقوم بذلك[46]. ويتبع ذلك أن أساليب الحرب اللي تحسب على أساس الإبادة الكاملة للقوات المعارضة، بما في ذلك الجرحى والمرضى والذين يحاولون الاستسلام، تشكل انتهاكا لحظر الأمر بعدم إبقاء أحد على قيد الحياة.[47]
إن المنشورات التي تلقي بها الحكومة السورية على المناطق التي تسيطر عليها الجماعات المسلحة عادة ما تقدم لهم فرصة للاستسلام. ومع ذلك، فإنها أيضاً تنص صراحة (أو ضمنا في بعض الأحيان) على أن عدم استسلام الشخص سيعرضه للقتل على الفور. وهذا النهج يتنافى مع الشرط الذي يقضي بأن تظل القوات المهاجمة متقبلة لإعلان استسلام الخصم إذا سنحت الفرصة لذلك[48]. وعلاوة على ذلك، فإنه يشكل انتهاكا للحظر الأمر أو التهديد بالأمر بعدم إبقاء أحد على قيد الحياة.