مقدمة: مازال الحصار المفروض على الغوطة الشرقية منذ عدة سنوات، يهدد حياة آلاف المدنيين المحاصرين من قبل القوات النظامية السورية ولا سيما الأطفال والنساء منهم، فمع اشتداد ذاك الحصار منذ شهر شباط/فبراير 2017، نتيجة خروج كافة الأنفاق الواصلة مابين العاصمة دمشق ومدن وبلدات الغوطة الشرقية عن الخدمة بسبب المعارك العسكرية الطاحنة، ومارافقه من منع إدخال كافة المواد الغذائية والطبية، تضاعفت أعداد الأطفال المصابين بمرض سوء التغذية[1].
ووفقاً للعديد من الشهادات التي حصلت عليها سوريون من أجل الحقيقة والعدالة في شهر تشرين الثاني/نوفمبر 2017، فإنّ حوالي (150) طفل أصيبوا بمرض سوء التغذية خلال العام 2017 وحده، في حين لاتتوافر أي معلومات دقيقة حتى الآن عن أعداد الأطفال الذين توفوا نتيجة إصابتهم بهذا المرض، إلا أنّ مراسل سوريون من أجل الحقيقة والعدالة أشار إلى وفاة أربعة أطفال خلال شهري تشرين الأول/أكتوبر وتشرين الثاني/نوفمبر 2017، وذلك نتيجة إصابتهم بمرض سوء التغذية، حيث عُرف منهم الطفلة سحر ضفدع والطفل محمد عبد السلام والطفلة سارة من بلدة حمورية.
"تركت ابنتي تموت أمام عينيّ ووقفت عاجزاً أمامها":
الطفلة "سحر ضفدع" من بلدة كفربطنا، توفيت عقب (34) يوماً من ولادتها فقط وتحديداً بتاريخ 22 تشرين الأول/أكتوبر 2017، وذلك عقب إصابتها بمرض سوء التغذية الناجم عن شدة الحصار المفروض على الغوطة الشرقية إضافة إلى سوء الأوضاع المادية التي تعاني منها عائلة الطفلة، وهو الأمر الذي أكده محمد والد الطفلة سحر، حيث تحدّث لسوريون من أجل الحقيقة والعدالة قائلاً:
"ولدت ابنتي سحر ببنية جسدية ضعيفة، نتيجة لما كانت تعانيه والدتها في الأصل من نقص للغذاء، وقُدر لابنتي أن تولد في ظل الحصار الشديد الذي نعاني منه، فحاولنا بشتى الوسائل إنقاذ حياتها، حتى أننا عجزنا عن توفير الغذاء لأمها كي تتمكن من إرضاعها. لقد كان يمكن إنقاذ حياة ابتني لو وُفرّ لها جزء يسير من الرعاية، لكنني عجزت عن فعل أي شيء بما أنني لا أملك المال الكافي، ولا أستطيع شراء ماتحتاجه زوجتي وابنتي. لقد تركت ابنتي تموت أمام عينيّ ووقفت عاجزاً أمام كل مايجري أمامي."
وأضاف والد الطفلة سحر، بأنها مكثت في مركز الحكيم الطبي في بلدة كفربطنا مدة (15) يوماً بغية تلقي العلاج، حيث عمل الكادر الطبي جاهداً على إنقاذ حياتها، إلا أنها كانت تتنفس بصعوبة بالغة في أيام عمرها القصير، بينما كان جسدها هزيلاً للغاية وعظامها بارزة بوضوح، فقد كان وزنها أقل من (2) كغ، حيث تابع قائلاً:
"كل ما أتمناه حالياً ألا يُصاب أطفال آخرين بما أصاب ابنتي سحر وجعلها تفقد الحياة، فلاتوجد كلمات في العالم بأسره يمكنها التعبير عن المأساة التي ألمت بنا."
وأظهر مقطع فيديو نشرته الهيئة السورية للإعلام بتاريخ 22 تشرين الأول/أكتوبر 2017، الطفلة سحر ضفدع وهي تعاني من مرض سوء التغذية وضيق التنفس بينما تظهر بجسد هزيل وعظام بارزة.
صورة تظهر الطفلة سحر ضفدع قبيل وفاتها بتاريخ 22 تشرين الأول/أكتوبر 2017، وذلك عقب إصابتها بمرض سوء التغذية في ظل اشتداد الحصار على الغوطة الشرقية، مصدر الصورة: الهيئة السورية للإعلام.
ومن جهته نشر مركز الحكيم الطبي في بلدة كفر بطنا بتاريخ 24 تشرين الأول/أكتوبر 2017، بياناً وضح فيه حالة الطفلة سحر ضفدع والأسباب التي أدت إلى وفاتها نتيجة إصابتها بمرض سوء التغذية، إضافة إلى سوء الحالة الاجتماعية والفقر المتقع الذي تعاني منه عائلتها بسبب تفاقم الحصار المفروض على الغوطة الشرقية، وذلك باعتبار أنه المركز الذي أشرف على علاج حالتها.
صورة تظهر البيان الصادر عن مركز الحكيم الطبي الذي أشرف على علاج الطفلة سحر ضفدع قبيل وفاتها بتاريخ 22 تشرين الأول/أكتوبر 2017، حيث وضح فيه حالة الطفلة والأسباب التي أدت إلى وفاتها، مصدر الصورة: صفحة الفيس بوك الخاصة بمركز الغوطة الإعلامي.
"مازالت تصارع للبقاءعلى قيد الحياة بجسد هزيل وبنية ضعيفة":
أما الطفلة "رهف حوى" ابنة مدينة دوما التي لم تتجاوز الثمانية أعوام بعد، فقد أصيبت هي الأخرى بمرض سوء التغذية منذ عام 2016، وفشلت جميع المحاولات بعلاجها وإخراجها لتلقي العلاج خارج الغوطة الشرقية، الأمر الذي سبب في تدهور وضعها الصحي، ولازالت رهف حتى هذه اللحظة تصارع للبقاء على قيد الحياة بجسد هزيل وبنية ضعيفة، وفي هذا الصدد تحدّث علي حوى وهو جد الطفلة رهف لسوريون من أجل الحقيقة والعدالة قائلاً:
"قبل عدة أعوام كانت حياة رهف طبيعية للغاية، إلا أنها تعرضت لعدة مآسي في عام 2016، إذ أنّ قذيفة وقعت على منزل عائلتها في مدينة دوما من قبل قوات النظام السوري، الأمر الذي أدى إلى مقتل شقيقتها الصغرى وجدتها وخالها وسبّب تدهوراً في حالتها النفسية، إلى جانب أن والدها كان قد توفي وعمرها عامين فقط، أي أنها ذاقت مرارة اليتم وهي صغيرة جداً، وعندما أصيبت رهف بمرض سوء التغذية، حاولت عائلتها بشتى الوسائل تأمين العلاج لها وتغذيتها بشكل مناسب، كما أنهم حاولوا إخراجها لتلقي العلاج في مشافي العاصمة دمشق إلا أنّ جميع محاولاتهم باءت بالفشل نتيجة الحصار المفروض على الغوطة الشرقية، لكن معاناة حفيدتي رهف زادت مع اشتداد ذاك الحصار وتحديداً منذ سبعة أشهر بسبب منع إدخال الغذاء والدواء، فلم يعد بوسعنا فعل أي شيء لها سوء الدعاء، لكنني أخاف أن يأتي ذلك اليوم ونودع فيه رهف دون أن نقدم لها شيئاً يساعدها على البقاء."
صور تظهر الطفلة رهف حوى، وهي إحدى الأطفال المصابات بمرض سوء التغذية في الغوطة الشرقية، حيث تظهر الطفلة بجسد هزيل وعظام بارزة، مصدر الصورة: صفحة الفيس بوك الخاصة بتنسيقية مدينة دوما.
(150) طفل مصاب بمرض سوء التغذية في العام 2017 وحده:
وفقاً لمراسل سوريون من أجل الحقيقة والعدالة، فقد قامت عدة مراكز طبية داخل الغوطة الشرقية بإجراء إحصائيات تبين من خلالها نسبة الأطفال المصابين بسوء التغذية، وكان من بين هذه المراكز مركز الحكيم للرعاية الصحية، حيث أصدر إحصائية تبين ارتفاع نسب الأطفال المصابين بمرض سوء التغذية، خلال الفترة الممتدة من شهر آذار/مارس 2017، وحتى شهر أيلول/سبتمبر 2017، فكانت عدد الحالات التي تعاني من سوء تغذية بسيط (على جدول Risk) حوالي (2623) حالة، بينما كان عدد حالات الأطفال الذين يعانون من سوء تغذية متوسط (على جدول man) حوالي (1328)، أما الأطفال الذين يعانون من سوء تغذية شديد جداً (على جدول Sam)، فكانوا حوالي (370) طفل.
صورة تظهر الإحصائية التي أجراها مركز الحكيم للرعاية الصحية في الغوطة الشرقية، حول نسب الأطفال المصابين بسوء التغذية خلال الفترة الممتدة من شهر آذار/مارس 2017، وحتى شهر أيلول/سبتمبر 2017، مصدر الصورة: صفحة الفيس بوك الخاصة بمركز الحكيم.
يبلغ تعداد سكان الغوطة الشرقية حوالي (400) ألف مدني، ومنهم (90) ألف عائلة، وحوالي (25) ألف طفل أقل من عمر سنتين، ويرزح معظمهم تحت وطأة حصار خانق بينما يخيم عليهم شبح الجوع، وهو الأمر الذي أكده محمد الدالاتي وهو عضو مجلس الإدارة في جميعة الصحة الخيرية في مدينة دوما، حيث تحدث لسوريون من أجل الحقيقة والعدالة قائلاً:
"إنّ نسبة كبيرة من أطفال الغوطة الشرقية تعاني من سوء تغذية محتمل أو سوء تغذية بسيط، وقد تصل هذه النسبة إلى (70 %)، كما أحصى مركزنا للرعاية بالأطفال حوالي (150) حالة لطفل يعانون من سوء التغذية الشديد خلال عام 2017 وحده، إلا أنه وحتى الآن لاتوجد إحصائيات دقيقة على مستوى الغوطة كلها تقدر أعداد الأطفال مصابين بسو التغذية أو حتى الوفيات منهم، نظراً لنزوح الناس بشكل مستمر من مكان إلى آخر، ومن اللافت الإشارة إلى أنه غالباً مايترافق مرض سوء التغذية مع عوامل أخرى، مثل نقص الأدوية والحالة النفسية السيئة للأطفال نتيجة الحرب والحصار، إضافة إلى تلوث المياه الشديد الذي انتشر في الغوطة الشرقية في الآونة الأخيرة، ناهيك عن غلاء أسعار المواد الغذائية، فربطة الخبز الواحدة تجازو سعرها أربعة دولارات، وهي تعد طعاماً رئيسياً لأهالي الغوطة الشرقية الذين لايجد معظمهم أي فرصة عمل."
وأشار الدالاتي إلى أنّ مرض سوء التغذية لايطال الأطفال فحسب، بل تتعرّض له العديد من الأمهات أيضاً، وعلى وجه الخصوص الأمهات في فترة الحمل، موضحاً بأنّ العديد من الأطفال توفوا فور ولادتهم، بسبب عدم قدرة أمهاتهم على الإرضاع نتيجة معاناتها من مرض نقص التغذية الناجم عن شدة الحصار المفروض على الغوطة الشرقية.
ومن الجدير ذكره أنه وبتاريخ 4 أيار/مايو 2017، كانت الدول الراعية لمحادثات آستانة (روسيا وتركيا وإيران) قد وقعت على مذكرة تفاهم لإقامة مناطق خفض التصعيد في سوريا، حيث شملت تلك المناطق كلاً من الغوطة الشرقية في ريف دمشق، ومحافظة إدلب وبعض أجزاء شمال محافظة حمص، إضافة إلى بعض أجزاء المحافظات المتاخمة لها (اللاذقية، وحماة، وحلب) وبعض أجزاء جنوب سوريا، وكان من أبرز بنودها وقف الاعمال العدائية بين الأطراف المتصارعة وتوفير الظروف لإيصال المساعدات الطبية، ووفقاً لمراسل سوريون من أجل الحقيقة والعدالة فإنّ آخر قافلة مساعدات دخلت إلى الغوطة الشرقية كانت بتاريخ 12 تشرين الثاني/نوفمبر 2017.
وفي تاريخ 22 تموز/يوليو 2017، شارك جيش الإسلام في التوقيع على اتفاقية خفض التصعيد في سوريا، ثم تبعه فصيل فيلق الرحمن بتاريخ 18 آب/أغسطس 2017.
وكانت سوريون من أجل الحقيقة والعدالة، قد أعدت في وقت سابق تقريراً يسلط الضوء على معاناة العديد من المرضى المحاصرين في الغوطة الشرقية وهم ينتظرون السماح بإخلائهم وإخراجهم لتلقي العلاج في مشافي العاصمة دمشق، كما كانت قد أعدت تقريراً آخراً يتناول معاناة أصحاب الأمراض المزمنة بعد أربعة أعوام من الحصار المفروض على الغوطة الشرقية.
[1]وفقاً لأحد أطباء الغوطة الشرقية الذين أجرى مراسل سوريون من أجل الحقيقة والعدالة لقاءاً معه في شهر تشرين الثاني/نوفمبر 2017، فإنّ مرض سوء التغذية هو عدم حصول جسم الانسان على القدر الكافي من المواد الغذائية وقد ينجم هذا المرض عن عدم توافر الغذاء المتوازن.