خلفية: شكّلت أحداث مدينة القامشلي/قامشلو في شهر آذار/مارس 2004، نقطة تحول كبرى في العلاقة ما بين الكرد السوريين والسلطات السورية، فلطالما عانى الكرد السوريون من التهميش والتمييز والإقصاء على يد الحكومات المتعاقبة إلى الحكم في سوريا. وكانت تلك هي المرة الأولى التي يتمّ فيها تنظيم مثل هذه المظاهرات الواسعة في البلاد من قبل الكرد. ولقد أزعجت درجة وعِظم هذا التحرك السلطات السورية، التي ردّت بالعنف المفرط لقمع الاحتجاجات. وفي التعداد الأخير للخسائر، تبين مقتل ما لا يقل عن 36 شخصاً، وأغلبهم من الكرد، وإصابة أكثر من 160 آخرين. وقد احتجزت أجهزة الأمن أكثر من ألفي كردي (الكثير منهم تمّ العفو عنهم فيما بعد)، مع انتشار تقارير عن التعذيب والمعاملة السيئة بحق المحتجزين.[1]
بدأت "أحداث مدينة القامشلي/قامشلو في محافظة الحسكة" تحديداً في يوم الجمعة 12 آذار/مارس عام 2004، أثناء صدامات مباشرة بالحجارة والأسلحة البيضاء ما بين مشجّعي فريق "الفتوة" القادمين من محافظة دير الزور، ومشجّعي فريق "الجهاد" المحلّي، أثناء مباراة لكرة القدم في الدوري السوري، وأدى ذلك إلى تدخل قوات الشرطة والأجهزة الأمنية السّورية والتي فتحت الرصاص الحي على الغاضبين وخاصة من الكرد، وقُتل على إثر ذلك ما لا يقل عن ستة أشخاص. تحولّت فيما بعد، وفي اليوم التالي، وتحديداً بتاريخ 13 آذار/مارس 2004 إلى مظاهرات غاضبة وعارمة في العديد من المدن والمناطق التي كان يقطنها الكرد في عموم سوريا وخاصة في القامشلي/قامشلو وعامودا والدرباسية ورأس العين/سري كانييه وكوباني/عين العرب وعفرين والأحياء الكردية في مدينة حلب (الأشرفية والشيخ مقصود) والأحياء الكردية في مدينة دمشق (وادي المشاريع/إضافة إلى المدينة الجامعية) والقحطانية/تربي سبي والمالية/ديريك وغيرها؛ وتمّ تسميتها فيما بعد بـ "أحدث القامشلي" أو "انتفاضة قامشلو"، حيث سقط قتلى آخرون وعشرات الجرحى ومئات المعتقلين خلال تلك الأيام.
زاد الأمر خطورة استسهال بعض أطراف السلطة إطلاق الرصاص في غير مكان على حشود المواطنين العزل، تبعه اعتقالات عشوائية طالت المئات من الشبان الأكراد، وحصار ظل مستمراً لشهور عديدة -وإن بصورة أقل حدة مقارنة مع الأيام الأولى للأحداث- حول بعض الأحياء والبلدات التي تضم أغلبية كردية. وما زاد الطين بلة الأخبار التي جرى تناقلها عن تسليح القرى والعشائر العربية المتاخمة للقرى الكردية لإطلاق دورها قمعاً وإرهاباً.[2]
وبعكس الأخبار التي وردت في البداية عن ثلاث حالات وفاة لأطفال توفوا دهساً[3] بعد الصدامات المباشرة في الملعب، فقد تبيّن لاحقاً أنّ الخبر كان عارياً عن الصحة، رغم وقوع حالات إطلاق نار على المحتجين في يوم المباراة نفسه أو في الأيام الأخرى التي تلتها.
اختلفت التحليلات حول الأسباب البعيدة لتلك الأحداث، ولكن أشارت العديد من التحليلات آنذاك إلى ارتباطها بشكل وثيق -في أحد أوجهها- بالحرب التي كانت دائرة في الدولة الجارة "العراق"، حيث أفضت الإطاحة بنظام صدّام حسين في العراق في شهر نيسان/أبريل 2003، إلى تنامي إحساس العشائر والقوى السياسية العربية في محافظة دير الزور بالنقمة الشديدة من سياسات الأحزاب الكردية في العراق ويبدو أنّه انعكس سخطاً على الكرد في سوريا والذين يقطن جزء كبير منهم في محافظة الحسكة وتحديداً مدينة القامشلي.[4]
تباينت الإحصائيات ما بين المصادرة الكردية والمصادر الرسمية، حول أعداد القتلى والمعتقلين، ففي حين قالت المصادر الكردية أنّ عدد القتلى الكرد بلغ حوالي 40 شخصاً، قالت المصادر السوريّة الرسمية أنّ العدد بلغ حوالي 25 شخصاً.[5]
أمّأ بالنسبة للمعتقلين، فقد تزامنت أحداث القامشلي مع حملة واسعة من الاعتقالات التعسفية التي طالت المئات من الشبّان الكرد السوريين، ومن بينهم أطفال، قبل أنّ يتمّ إطلاق سراح المئات على دفعات بعد اعتقالهم لفترات مختلفة.[6] لاحقاً، وبتاريخ 30 آذار/مارس 2005، أذاعت وكالة الأنباء السوريّة الرسمية "سانا"، خبر صدور عفو رئاسي عن "جميع الموقوفين" الأكراد الذين اعتقلوا على خلفية أحداث القامشلي عام 2004، موضّحة أنّ عددهم بلغ 312 سجيناً.[7]
عدا عن عمليات الاعتقال العشوائية التي طالت العشرات من الطلاب الكرد في جامعة دمشق، فقد تمّ فصل العديد منهم من الجامعات السّورية بشكل نهائي، ففي تاريخ 18 آذار/مارس 2004، صدرت قرارات من "لجنة تحقيق" مشكّلة من قبل جامعة دمشق، مستندة إلى المادة 134 من اللائحة التنفيذية لقانون تنظيم الجامعات، في فصل الطلاب الكرد بشكل نهائي من الجامعات، الذين بلغ عددهم 21 طالباً وطالبة إضافة إلى العديد من حالات الفصل النهائية من المدينة الجامعية في دمشق.[8]
تسعى منظمة "سوريون من أجل الحقيقة والعدالة" من خلال هذا التقرير إلى توثيق وسرد حيثيات أحداث مدينة القامشلي/قامشلو عام 2004 من جهة، وتسليط الضوء على معاناة العديد من ضحايا هذه الأحداث من جهة أخرى، سواء أولئك الذين تعرّضوا للإصابة خلال هذه الأحداث، فضلاً عن أولئك الذين احتجزوا لفترات مختلفة من قبل الأجهزة الأمنية السورية.
اعتمد التقرير في منهجيته على (13) شهادة ومقابلة بالمجمل، منها (6) مقابلات تمّ إجراؤها بشكل مباشر مع شهود عيان من قبل باحثي المنظمة الميدانيين، إضافة إلى (7) مقابلات تمّ إجراؤها عبر الانترنت مع شهود آخرين، وقد توزعت الشهادات والمقابلات على عدد من المناطق الجغرافية التي يقطنها الشهود، ابتداءً من مدينة القامشلي/قامشلو ومروراً بالدرباسية ورأس العين/سري كانييه والحسكة. إضافة إلى ذلك تمّ الرجوع إلى العديد من التقارير والاقتباس من العديد من المصادر الأخرى والتي قامت بعملية توثيق لتلك الأحداث.
- أحداث القامشلي بعيون سكّان محليين وشهود عيان:
تسبّبت أحداث القامشلي عام 2004، في سقوط العديد من الضحايا الكرد السوريين ما بين قتلى وجرحى، بحسب ما أفاد به العديد من شهود العيان الذين قابلتهم سوريون من أجل الحقيقة والعدالة، فرغم مرور 15 عاماً، إلا أنّ العديد منهم مازالوا يعانون حتى يومنا هذا من تبعات إصاباتهم النفسية والجسدية.
- هل سيعطيك مسعود برزاني قدمه لو أنك فقدت قدمك؟:
"خوشيار رمضان حسين" من مواليد منطقة تربسبيه/القحطانية في محافظة الحسكة عام 1984، وكان قد تعرّض للإصابة بطلق ناري خلال الأحداث التي اندلعت في مدينة القامشلي/قامشلو عام 2004، مما تسبّب له بضرر مستمر سيلازمه طوال حياته، حيث استرجع لسوريون من أجل الحقيقة والعدالة[9] مجريات ما حدث قائلاً:
"بتاريخ 12 آذار/مارس 2004، كنت قد قدمت في إجازة من خدمتي العسكرية، حيث علمت بأنّ هنالك اقتتالاً قد حصل في ملعب القامشلي، وكنت متحمساً للذهاب، لكنّ والدي لم يسمح بذلك، وفي صباح اليوم التالي، علمنا بأنّ مظاهرة كبيرة خرجت لتشييع جنازات القتلى الذين سقطوا في مدينة القامشلي بسبب ما حدث في الملعب، وعلى الفور توجهت وقمت بالانضمام إلى تلك المظاهرة، حيث كنا على مقربة من صوامع الحبوب في المدينة، وأذكر أنّ الحافلات توقفت عن إكمال سيرها بسبب صوت الرصاص ومنها ما كان يرجع، فترّجلت من الحافلة أنا ومن كان معي، وأكملنا سيراً على الأقدام، حيث انضممنا إلى المظاهرة ومشينا معها حتى وصلنا مع الجنازات إلى مبنى الجمارك، وبالقرب من مؤسسة العلف، وأذكر أنه في كل مركز حكومي كان يتواجد مسلّحون وكانوا يطلقون الرصاص، لكننا كنا جميعاً في تلك المظاهرة متحمسّين ودماؤنا فائرة، فكنا نقوم بإسقاط الصور والأعلام التابعة للنظام، ومشينا مع الجنازات حتى وصلنا إلى صوامع الحبوب، حيث بدأ عناصر الأمن بإطلاق الرصاص في الهواء، ووفقا لما شاهدته فلم يتعرض أحد للإصابة أمام الصوامع، ولكن وبعد مضي قليل من الوقت، دخل المتظاهرون إلى الصوامع من جهة الشمال، وبعد مضي نحو نصف ساعة تقريباً، سمعنا صوت الرصاص من خلفنا، فنظر الشبان إلى خلفهم ليجدوا أنّ هنالك سيارة عسكرية قد دخلت من خلفنا إلى مرآب رميلان/مؤسسة حكومية، وبدأت بإطلاق الرصاص على المتظاهرين، فقمنا نحن الشباب بمهاجمة ذلك المرآب، فوقع أحد العساكر على الأرض، وعندما قمنا بمهاجمته اجتمع العساكر علينا، وقاموا بإطلاق الرصاص علينا."
تسبّب إطلاق الرصاص الحي على المتظاهرين، بسقوط العديد من الجرحى، وكان من بينهم فتاة سقطت على الأرض، فعمد "خوشيار" إلى سحبها ثمّ وضعها في أحد المنازل، دون أن يكون في حسبانه أنه قد يتعرض للإصابة هو الآخر، فتم إسعافه إثر ذلك إلى مشفى الرحمة في مدينة القامشلي/قامشلو، لكن وبسبب ازدحام المشفى، تمّ نقله إلى مشفى "نافذ"، حيث أخبره الأطباء هناك بأنّ الرصاصة أصابت "المفصل الحرقفي"، وكانت قد دخلت جوف البطن، كما أصابت القولون والمثانة، وحول ذلك تابع "خوشيار" قائلاً:
"بقيت نحو عشرين يوماً في مشفى نافذ، وعشرين يوماً آخراً في المشفى الوطني، وبالنسبة للآخرين الذين كانوا يعانون من جروح عادية، فكان يتم إسعافهم إلى المنازل، أمّا أنا فقد تمّ إسعافي مع أربعة أو خمسة جرحى آخرين، إلى مشفى الرحمة والذي كان ممتلئاً حينها، وعندما وجدوا أنّ وضعي خطيراً نوعاً ما، قاموا بأخذي إلى مشفى نافذ، وأذكر أنني لم أفقد وعيي في غرفة العمليات، حيث كان أحد أعمامي ضمن طاقم التخدير. وبعدها بيومين تمّ إعلام قطعتي العسكرية بوضعي، وفي المشفى تمّ وضع حارسين أمام باب غرفتي، ولم يكن يسمح لأيّ من المنظمات الحقوقية بدخول غرفتي، ولا حتى لأيّ شخص آخر من دون إذنهم، على اعتبار أنني كنت في فترة الخدمة العسكرية."
مكث "خوشيار" لمدة 20 يوماً في مشفى "نافذ" بمدينة القامشلي/قامشلو، ثمّ تمّ تحويله إلى المشفى الوطني، لكن وقبل أن يصل إلى المشفى الوطني، تمّ اقتياده إلى أحد الأفرع الأمنية، رغم أنّ الأطباء أكدوا للعناصر بأنّ الحالة الصحية لـ "خوشيار" لا تسمح بذلك، حيث تمّ سؤاله في ذلك الفرع، عدّة أسئلة لم يعد يذكرها، ومن ثمّ تمّ نقله إلى المشفى الوطني، وتابع في هذا الصدد قائلاً:
"بقيت في المشفى الوطني مدة 20 يوماً، تمّ استجوابي خلالها من قبل الأجهزة الأمنية السورية، حيث كانوا يسألونني عمّا حدث معي، وفي الحقيقة لم أخبرهم بحقيقة ما حدث معي، والشيء الجيد في الأمر أنّ يوم الحادثة كان يصادف آخر يوم في إجازتي التي مُنحت إياها من الخدمة العسكرية الإلزامية، فقلت لهم بأني كنت متوجهاً لقطع تذكرة قطار لي حتى أعود إلى قطعتي العسكرية، لأنّ حركة الحافلات كانت قد توقفت حينها، فاتّهموني بالكذب حينها، إلا أنني قلت لهم: إذاً اكتبوا تقريركم على هواكم وكما تشاؤون"، وبالفعل كتبوا تقريرهم، وبعد مدة قدرها 20 يوماً، قاموا بتحويلي إلى سجن دير الزور العسكري، وكنت حينها أمشي بعكازة ولم أكن أستطيع السير جيداً على قدمي، فالرصاصة كانت قد أصابت القولون والمثانة والحالب والمفصل الحرقفي، وبقيت في سجن دير الزور العسكري لمدة يومين، ثمّ أخذوني بالزيّ العسكري إلى مدينة حلب، حيث بقينا هنالك ليلة، ثمّ أمضيت ليلة أخرى في سجن "البالونة" في حمص، وبعدها أخذوني إلى الشرطة العسكرية في حي القابون بمدينة دمشق، وبعدها عاودوا نقلي إلى سجن مشفى تشرين، ليس داخل المشفى نفسه، وإنّما كان هنالك سجن تابع للمشفى يحوي مرضى، ثم قاموا بنقلي مرة أخرى إلى مدينة درعا ومنها إلى بلدة الصنمين، وبعد كل هذه التنقلات تعرّض مفصلي لأذى كبير، وكان معي جريح آخر (لن أذكر اسمه) وأذكر أنه من شدّة الإصابة التي تعرّض لها، كان قولونه/أحشاؤه ظاهرة في الخارج وكان خروجه أي تبرزه يتم في كيس، حيث قال له الأطباء أنّ القولون يجب أن يبقى مدة شهر إلى شهرين في الخارج حتى يتحسن القولون ثم يعاد إلى مكانه."
وصل "خوشيار" برفقة المصاب الآخر إلى سجن دير الزور العسكري، حيث طلب العناصر منه نزع ملابسه حتى يتجهزوا للضرب، فقام صديقه المصاب بإظهار أحشائه للعناصر آملاً أن يمرّا دون عقاب، إذ سبق لهما أن تعرضا للضرب طيلة تنقلهما من سجن إلى آخر، كما أصابهما القمل في سجن البالونة في حمص، وعندما وصل "خوشيار" إلى قطعته العسكرية في محافظة درعا، كان وضعه الصحي قد ازداد سوءً يوماً بعد يوم، ولم يمنحه قائد الفوج العسكري الإذن بالتحويل إلى المشفى، رغم أنه كان عاجزاً عن تناول الطعام كما كانت العمليات التي أجريت له في مدينة القامشلي/قامشلو، قد تضرّرت خلال فترة تنقله بين الأفرع الأمنية، وتابع "خوشيار" قائلاً في هذا الصدد:
"كنت لا أزال في غرفة العمليات، عندما قاموا بنقلي من المشفى الوطني، وأذكر أنهم عندما قاموا بنقلي إلى سجن دير الزور، اعترض والدي وعمد إلى الشجار معهم، حيث طلب منهم أن يتم نقلي بسيارة إسعاف إلى دير الزور، وأن يكون هنالك دوريتان لمرافقتي، وأخبرهم بأنه سيتكفّل بكامل نفقات ومصاريف هاتين الدوريتين من طعام ووقود وغير ذلك، ولكنهم لم يوافقوا على ذلك، فتطاول أحدهم على والدي، وقال له: "نحن سنأخذ ابنك من هنا إلى المشفى العسكري بدير الزور، ومن هناك سنأخذه بسيارة إسعاف إلى حلب"، ولكن للأسف الشديد أياً من ذلك لم يحدث، حيث كان يتم نقلي بالسيارات العسكرية، مع المسجونين والفارين والمتهمين بارتكاب الجرائم، أما الأمر الآخر الذي أذكره بهذا الصدد، هو أنني كنت بحاجة ماسّة إلى نقل الدم في المشفى الوطني، فقدم اثنان من أصدقائي، وتبرع أحدهما لي بدمه، لكن ولدى خروجهما من باب المشفى تمّ إلقاء القبض عليهما من قبل الأجهزة الأمنية السورية، حيث مكثا في السجن حوالي الشهر تقريباً، كما أذكر أنني عندما تعرّضت للإصابة، رأتني اثنتان من خالاتي وأنا أسقط أرضاً، لذا قدمتا للبحث عني في المشافي، واعتقدتا أنه وعلى اعتباري عسكرياً فلابدّ أنه تمّ أخذي إلى المشفى الوطني، فتوجهتا إلى هناك ولكنهما مُنعتا من الدخول من قبل العساكر، وقيل لهما أنه لا جرحى في المشفى، ووجّه العساكر فوهات أسلحتهم باتجاههما، وقالوا لهما: "إذا لم تذهبا من هنا سنطلق الرصاص عليكما"، إلا أنهما بقيتا حتى خرج أحد الأطباء وأخبرهما بأنّ المشفى تمّ تفريغه وتجهيزه فقط لاستقبال حالات الجرحى من العساكر فقط."
بعد طول انتظار، وافق قائد الفوج العسكري على تحويل "خوشيار" إلى مشفى المزة العسكري في مدينة دمشق، حيث كان الأطباء يماطلون فيما يخص التعامل مع حالته الصحية، علماً أنها كانت تتجه إلى التدهور، كما كانت كليته اليسرى على وشك التوقف، فتمّ نقله على إثر ذلك إلى مشفى حرستا العسكري، حيث عاينه أحد الأطباء، وكان جيداً على حد وصف "خوشيار"، فقد اهتمّ بحالته الصحية، وقام بتسجيل كامل معلوماته الصحية، وأشار إلى المعاملة السيئة التي تعرّض لها في مشفى المزة العسكري، فعمد الطبيب إلى التواصل مع اللجنة الطبية في قطعته العسكرية، وأخبرهم بأنّ "خوشيار" يعاني من حالة صحية خاصة، وبأنه كان قد تعرّض للتعذيب خلال فترة تنقله بين السجون، كما أخبرهم بأنه بقي عشرة أيام وهو يتنقل بين منطقة القدم حيث يقيم أحد أخواله، وبين مشفى المزة العسكري، ففي كل صباح كان يأتي إلى المشفى فيخرجون له بمئات الطلبات والعراقيل، وفي النهاية لا يقبلون إيواءه في تلك المشفى، وتابع "خوشيار" قائلاً:
"أذكر بأنّ قائد الفوج العسكري لم يوافق على تحويلي إلى مشفى المزة العسكري، إلا بعد أن جاء والدي ووالدتي إلى القطعة العسكرية وقاما بترجّي العميد، وفي مشفى حرستا العسكري بقيت مدة طويلة وصلت إلى قرابة الثمانية أشهر، وبعدها قامت اللجنة الطبية بتقديم طلب لتسريحي، وقالت بأنّني لم أعد قادراً على الخدمة العسكرية أي أنني أصبحت معاقاً تقريباً، ولكنّ المسؤول عن قطعتي العسكرية لم يوافق على تسريحي، وأذكر بأنه كان يتم طلبي للتحقيق، كل 15 و20 يوماً وبقيت على هذا الحال لمدة عام كامل، وكانت هذه التحقيقات تتم أغلب الأحيان في مركز عسكري يقع بالقرب من منطقة جسر الرئيس في مدينة دمشق، ناهيك عن العديد من المضايقات والإزعاجات التي تعرّضت لها من قبل العناصر والضباط في قطعتي العسكرية، ففي إحدى المرات ذهبت من أجل طلب إجازة، فكان هنالك حوالي 5 ضباط مجتمعين وقالوا لي: "يا عسكري ماذا فهمت من حالتك هذه، هل سيعطيك مسعود برزاني أو عبدالله أوجلان قدمه إذا فقدت أنت قدمك."، وأذكر أنني رددت عليهم متسائلاً: "ما علاقة عبدالله أوجلان أو مسعود برزاني بهذه القصة"، وحينها قاموا بتوجيه الشتائم لي وقالوا: اذهب في طريقك قبل أن نزعجك أكثر من ذلك"، واستمرّت التحقيقات معي، حتى جاء تسريحي الإجباري، لكنهم لم يقوموا بتسريحي إلا بعد شهرين من تسريح رفاقي الذين كانوا معي."
أشار "خوشيار" إلى أنّه عانى الأمرّين طوال فترة التحقيق معه، وخاصةً أنّ حالته الصحية لم تكن جيدة، وكان يقف على قدم واحدة ويتكأ على عكازة، بينما كان المحققون يتهمونه بإحراق الدوائر الحكومية، مع سؤاله بشكل متكرر فيما إذا كان منتمياً لحزب ما، ومن هم أصدقاؤه، وأضاف حول هذا قائلاً:
"كان يجب أن تكون مدّة خدمتي العسكرية عامين وشهر، ولكنني أمضيت عامين وثلاثة أشهر، حتى انتهى التحقيق معي، وأذكر بأنني عندما ذهبت مع رفاقي لأستلم ورقة تسريحي، لم أجد اسمي بين المسرّحين من الخدمة العسكرية، وكنت أفكر حينها بالهرب، لكنّ عائلتي لم تسمح لي بذلك، فقد كنت متخوفاً من أن يحتفظوا بي عندهم، أو يلصقوا بي تهماً أو جرماً كجريمة قتل أحد العساكر أثناء الأحداث، كما أنّ وضعي الصحي لم يكن مستقرا أيضاً، وحتى مفصلي الحرقفي كان بحاجة إلى عملية، لكنّ الأطباء كانوا يقولون لي بألا حاجة للعملية طالما أنني أستطيع السير على قدم واحدة."
لا زال "خوشيار" يعاني حتى يومنا هذا من تبعات إصابته، فقد أصبح عاجزاً عن السير لمسافة طويلة ولم يعد بوسعه حمل الأوزان الثقيلة، ورغم الموافقة على تسريحه من الخدمة العسكرية، إلا أنّ التحقيق استمرّ معه من قبل أحد الفروع الأمنية، وتابع "خوشيار" في هذا الخصوص قائلاً:
"في العام 2008، حسمت أمري وقررت الرحيل عن سوريا بسبب حالتي الصحية أولاً وكذلك الوضع الأمني، فلم يعد لديّ أمل بأن يتحسّن الوضع الكردي في البلاد. وما أودّ ذكره، هو أنّ التحقيقات التي جرت معي كانت صعبة للغاية، ناهيك عن العديد من المضايقات التي تعرّضت لها عائلتي، كلما أرادت زيارتي في المشفى الوطني، كما أذكر أنّ أحد الحقوقيين العرب الذين جاؤوا لزيارتي، اضطرّ إلى التخفي بزيّ الممرضين والأطباء حتى يتمكن من دخول المشفى."
الشاهد "خوشيار رمضان حسين"، مصدر الصورة: الشاهد نفسه.
- "كان هنالك شاب انشطر وجهه إلى قسمين بفعل الرصاصة":
"حسين سلوم" شاهد آخر كان قد تعرّض للإصابة خلال أحداث الملعب التي جرت في مدينة القامشلي/قامشلو عام 2004، وهو من مواليد مدينة القامشلي/قامشلو عام 1987، كما أنه أحدد الكرد السوريين المحرومين من الجنسية بموجب الإحصاء الاستثنائي الذي أجرته الحكومة السورية عام 1962[1]، وتحديداً من فئة الأجانب، حيث ما زالت إحدى الطلقات النارية التي تلّقاها من قبل عناصر الأمن السوري، مستقرّة في جسده حتى يومنا هذا، إذ استرجع لسوريون من أجل الحقيقة والعدالة[2] ما حدث قائلاً:
"كنت متواجداً في المنزل، عندما سمعت بأنّ اقتتالاً كان قد حصل ما بين المشجعين الكرد وأولئك القادمين من دير الزور، وبأنّ الحكومة كانت قد ساندت مشجّعي فريق الفتوة في الهجوم على الكرد، وأنّ هنالك أطفالاً سقطوا قتلى بسبب التدافع، وكما أنّ هناك آخرين أصيبوا بجروح، وفي ذلك اليوم، شاهدت أعداداً غفيرة من الناس وهي تخرج إلى الشوارع من منطقة العنترية، حيث قالوا أنّ واحداً أو اثنين من الأطفال الذين قتلوا في الملعب هم من منطقة العنترية، حيث خرج أهالي الأطفال الضحايا وانضمّ إليهم أهالي الحي، وقمت بالمقابل بالانضمام إلى هذه الجموع، وفي ذلك الحي كانت هنالك لافتات لحزب البعث العربي وصور للرئيس السابق "حافظ الأسد"، وأذكر أننا قمنا بتكسيرها وتمزيقها، ثمّ توجهنا بعدها إلى صوامع الحبوب، حيث كان يتواجد هناك عدد من أفراد الشرطة، فقام الناس برشقهم بالحجارة، إلا أنهم ردّوا عليهم بالرصاص، وعلى الفور قمنا بالابتعاد عن مصدر الرصاص، ثمّ توجهنا إلى محطة القطارات، وكانت جموع الناس مستاءة، فقام بعض الشبان بالدخول إلى المحطة، حيث أخرجوا سيارة عسكرية، قالوا أنها لمدير المحطة فقمنا بتكسيرها، كذلك قمنا بتمزيق صور الرئيس وأعلام وشعارات حزب البعث والدولة، كما كانت هنالك بعض أجهزة الكومبيوتر أيضاً قمنا بتكسيرها أيضاً، ثمّ قمنا بالتوجه إلى أقرب مخفر في حي العنترية، ودخلنا المخفر ولم يكن أي عنصر بداخله، وكانت ملابس الشرطة معلّقة، ويبدو أنّ عناصر الشرطة قد ارتدوا لباساً مدنياً وخرجوا من المخفر، فقمنا بإحراق المخفر وخرجنا بعدها إلى الشارع العام، ومنه توجهنا إلى سوق المدينة."
وصل "حسين" مع جموع الناس المتظاهرين إلى مؤسسة العلف في مدينة القامشلي/قامشلو، ومرآب "رميلان"/مؤسسة حكومية، وفوجئوا عندما لم يجدوا أي عناصر بداخلها، فعمدت هذه الجموع إلى تكسير السيارات في المرآب، كما قاموا بإضرام النار في مؤسسة العلف، ومن ثمّ عاد الناس إلى منازلهم، واستحضر "حسين" ما حدث قائلاً:
"في اليوم التالي وتحديداً بتاريخ 13 آذار/مارس 2004، كنت قد استيقظت ووجدت المدينة وكأنها في يوم القيامة، فقد كان معظم الناس في الشوارع، ولم يبقَ أحد في بيته إلا بعض أولئك الموالين للحكومة السورية، فالجميع خرج إلى الشارع العام باتجاه السوق مجدداً وكنت بصحبتهم، وفي طريقنا قمنا بإضرام النار في مؤسسة العلف، وأكملنا طريقنا باتجاه السوق، حيث تجاوزنا مبنى الجمارك، وعلى مقربة من إحدى الكازيات هناك، ظهرت من إحدى الشوارع الفرعية، سيارة يستقلّها عناصر بلباس عسكري، ويحملون روسيات، وعندما لمحنا هذه السيارة قمنا برشقها بالحجارة، فقامت بالاحتماء بإحدى الجدران، فقمنا برشقها مجدداً بالحجارة، فردّوا علينا بالرصاص الحي، وكان هنالك شاب قريب مني تلّقى رصاصة في وجهه، وانشطر وجهه إلى قسمين بفعل الرصاصة، حيث تشكّلت حفرة في وجهه، وعلى الفور قمنا بالفرار، وكان باب أحد المنازل مفتوحاً فطلب منا صاحب المنزل الدخول للاحتماء، فدخلنا وكان صاحب المنزل عربياً، وفوجئنا عندما رأينا المنزل وهو يغصّ بالناس الهاربين من الأمن، وأراد صاحب المنزل أن يقدّم إليّ بعضاً من الشاي، لكنّ صديقي أخبرني بأنّ علينا أن نخرج لأنّ العسكر قد ذهبوا من المنطقة، فخرجنا لنجد أنّ الشاب الذي تلّقى رصاصة في وجهه، سقط أرضاً بعد ثلاث خطوات، فذهبنا لنجدته حيث أدخلناه إلى أحد المنازل ولا أعلم ما حصل له بعدها."
عاد "حسين" أدراجه باتجاه مبنى الجمارك في مدينة القامشلي/قامشلو، إذ رأى جموع المتظاهرين وهم متخفين في الزوايا بينما كان عناصر الأمن متحصنين في ذلك المبنى، حيث كان المتظاهرون يرشقون المبنى بالحجارة في حين كان عناصر الأمن يردون بإطلاق الرصاص الحي باتجاه المتظاهرين، ما تسبّب بوقوع البعض من الجرحى، ويذكر "حسين" بأنّ مبنى الجمارك كان مكوناً من ثلاثة طوابق، ولم يجرؤ أحد من الناس على الاقتراب من المبنى، لذا كانوا يكتفون برشق عناصر الأمن بالحجارة، دون أن تؤثر فيهم، وتابع قائلاً:
"قمت مع بعض الشبان بالقفز فوق جدار مبنى الجمارك، وتوجهنا إلى الداخل محاولين فتح الباب بأجسادنا، وكنا نريد الوصول إلى أولئك العسكر الذين كانوا يرمون الناس بالرصاص، وبينما كنت أحاول مع بعض الشبان فتح باب الجمارك بجسدي، عندها تلقيت رصاصة في ظهري، وأحسست بأنّ نفسي قد انقطع واسوّدت الدنيا في عيني، فقام الشبان بسحبي إلى خلف مبنى الجمارك، حيث أمكننا الاحتماء هناك فلم يكن بإمكان العساكر أن يطلقوا الرصاص علينا هناك، إلى أن استعدت أنفاسي قليلاً، فخرجت من باحة مبنى الجمارك، تحسسّت ظهري بعدها، وإذ به ينزف، وكانت هنالك فتاة بجانبي صرخت قائلةً بأنّ هذا الشاب قد جُرح أيضاً، لكنني قلت لها: "لا لا إنها مجرد قطعة زجاج أصابت يدي"، ولم أفصح لهم عن حقيقة جرحي لكوني كنت متخوفاً من أن يأخذوني إلى إحدى المشافي الحكومية، حيث كان يقال حينها بأنّ عناصر الأمن يجهزون على الجرحى هناك، فرجعت إلى المنزل بعدها، وقفت أمام المرآة وحاولت أن أرى ما حصل لظهري، فوجدت بأنه قد نزف دماً كثيراً، لكن قميصي كان قد التصق به، فأوقف النزف قليلاً، وشاهد أفراد أسرتي أيضا ماً حصل لظهري، فسألني والدي عما حصل لي، فقلت له: "لا أعرف، أعتقد أنها مجرد قطعة زجاج قد أصابتني"، إذ لم أجرؤ على إخباره بأنها رصاصة، ووالدي المسكين كان عليه أن يصدق ذلك، لأنه لم يكن هنالك مكاناً ليسعفني إليه، فقام أهلي بعدها بتضميد جراحي، وفي ذلك اليوم لم يعد أحد قادراً على الخروج من منزله، حيث تمّ إعلان حظر التجوال، وكانت الدوريات والشرطة إذا ما شاهدت أي شخص كردي في الشارع تقوم باعتقاله، سواء فعل شيئاً أم لم يفعل، وبالنسبة إلى ظهري كنت أشكّ في البداية أنها طلقة، ولكنّ الجرح شُفي بعد عدّة أيام، فقلت لنفسي ربما لم تكن رصاصة ونسيت الأمر بعدها حتى بعد خروجي من سوريا إلى السويد في العام 2011."
في شهر آب/أغسطس 2018، شعر "حسين" بآلام في صدره، وعلى الفور توجه للعلاج، حيث أخبره أحد الأطباء بأنّ صدره سليم، لكنّ هنالك قطعة من المعدن موجودة في ظهره، وسأله الطبيب فيما إذا كان قد تلّقى أية إصابة أو رصاصة في ظهره، وحينها استرجع "حسين" ما حدث معه في العام 2004، وتحديداً قبيل خروجه من سوريا إلى السويد، وتابع قائلاً:
"سألت الطبيب عمّا إذا كانت هنالك حاجة لإخراج الرصاصة، فأخبرني بأنّ إخراجها قد يسبّب لي آلاماً عندها، كما أخبرني بأنّ الحظ حالفني، لأنّ الرصاصة اصطدمت بالعظام ويبدو أنّ عظامي قوية، فلو أنها اخترقت العظام لكانت دخلت إلى القفص الصدري وكانت ستصبح مميتة عندها.
- "كان عناصر الأمن يصوّبون نحونا بقصد إصابتنا":
لم يكن "محمد أمين حمزة" أفضل حالاً من "حسين" فقد تعرّض هو الآخر للإصابة بطلق ناري خلال أحداث الملعب في مدينة القامشلي/قامشلو عام 2004، وينحدر "محمد أمين" من مدينة القامشلي/قامشلو من مواليد عام 1986، حيث مازالت تبعات إصابته ترافقه حتى يومنا هذا، وفي هذا الخصوص استحضر لسوريون من أجل الحقيقة والعدالة[12]، مجريات اليوم الذي تلا أحداث الملعب، حيث قال:
"بتاريخ 13 آذار/مارس 2004، شاركت في التظاهرات التي خرجت احتجاجاً على ما حدث في ملعب القامشلي قبيل يوم واحد، وبينما كنا بالقرب من صوامع الحبوب، رأينا سيارة عسكرية تضمّ عناصر من قوات الهجانة[13]، وأذكر بأنّ العناصر كانوا قد ترجّلوا من السيارة، وقاموا برمينا (بالرشاش) بشكل عشوائي، ولا أذكر التوقيت بالضبط، لكن أعتقد أنّه كان حوالي (11:30) صباحاً أو شيئاً من هذا القبيل، وقد كانوا يصوّبون نحونا بقصد إصابتنا، وبالنسبة لي، فقد أصبت بطلق ناري في مؤخرة رأسي، حيث استقرّت الرصاصة بالقرب من العين اليمنى، ولا تزال مستقرة في رأسي حتى يومنا هذا، وأذكر أنني حين تعرّضت للإصابة، لم أكن متيّقناً من أنها رصاصة، فقد كان البعض من الصغار يحملون الجطل (أداة من المطاط ومثبتة على عصا مقوسة)، وظننت أنّ حجرة ما أصابتني، فقد كان الألم طفيفاً، ولم أدرك أو أتوقع أبداً أنها قد تكون رصاصة، لكن عندما لمستُ رأسي وجدت أنه ينزف دماً، وبدأت قدماي بالتنمل، وكذلك ذراعاي، وخارت قواي ولم أعد أشعر بشيء بعدها، حتى بعد مرور شهر و15 يوماً، حيث تمّ نقلي إلى مشفى الرحمة، وأذكر أنّ يدي اليمنى كانت مقيدة إلى السرير، كي لا أستطيع الهرب، وكانت هنالك عسكرياً على يميني وآخر على يساري، كما أذكر أنه لكثرة ما أعطوني أدوية انفجرت معدتي، كما حققوا مع والدي وكانوا يسألونه عن سبب خروجي في المظاهرات ضدهم، وبعد أن استفقت من الغيبوبة كنت آخر من يخرج من المشفى (من المصابين في تلك المظاهرات)، وكانت حالتي الصحية صعبة جداً، فبدأوا بعلاجي فيزيائياً، واستمروا بهذا العلاج لمدة ستة أشهر تقريباً، واستطعت بعدها تحريك أطرافي اليسرى، أمّا اليمنى فلم أكن أحركها بشكل جيد، إذ ما زلت أعاني حتى يومنا هذا من ضعف الحركة في أطرافي اليمنى."
عقب خروجه من المشفى، جاء عناصر لسوق "محمد أمين" إلى الخدمة العسكرية على الرغم من سوء حالته الصحية، ولم ينجح في الحصول على التسريح، إلا بعد جهد وعناء طويلين على حد وصفه، فقد تطلّب منه ذلك التوجه إلى مدينة الحسكة كي يكمل أوراقه، حيث أخبره الموظفون هناك بأنّ عليه التوجه إلى محافظة دير الزور، وبعدها إلى مدينة دمشق، ويذكر "محمد أمين" بأنّ عرقلة أموره وصعوبة حصوله على التسريح، لربما كانت نتيجة كونه أحد الجرحى الذي سقطوا خلال أحداث مدينة القامشلي/قامشلو، حيث علّق على ذلك بالقول:
"لم يبق لي مستقبل في سوريا، فعقب تسريحي من الخدمة العسكرية، حاولت البحث عن أي عمل، لكن الجميع كان يخبرني بأنّ اسمي خُطّ تحته باللون الأحمر، وقالوا لي أنني لن أستطيع العمل لأجل ذلك، لذا حسمت أمري وقررت التوجه إلى النرويج."
في بداية العام 2012، قرر "محمد أمين" الرحيل عن سوريا إلى النرويج، وكله أمل أن يتلقى العلاج هناك، لكن خيبة الأمل كانت كبيرة عندما أخبره الأطباء بأنهم لم يتمكنوا من علاجه، وبأنّ الرصاصة ستبقى مستقرّة في رأسه، موضحين له بأنّهم لو قاموا بإخراجها، فمن الممكن أن يصاب بشلل تام، وأن تتضرّر قدماه ويداه بشكل كامل.
- "علمنا أنّ عدد الضحايا القتلى كان حوالي أربعة وأعتقد أنّ العدد صار ستة":
"حمزة همكي" شاهد آخر من مواليد مدينة توكل/جل آغا في محافظة الحسكة عام 1986، ويعمل كإعلامي، كما أنه الكرد السوريين المحرومين من الجنسية وتحديداً من فئة الأجانب، حيث قال لسوريون من أجل الحقيقة والعدالة، بأنه كان شاهداً على أحداث الملعب التي جرت في مدينة القامشلي/قامشلو عام 2004، حيث روى[14] في هذا الخصوص قائلاً:
"حينما وصلنا الملعب البلدي في يوم 12 آذار/مارس 2004، كانت هنالك أزمة كبيرة، وكان هناك ناس كثيرون، كما كانت المباراة قد بدأت أو أوشكت على البدء، وأستطيع القول أنّنا كنا حوالي 300 شخصاً خارج الملعب، وكنا قد اشترينا للتو بطاقاتنا للدخول، وفي ذلك الوقت كان الجميع يأتي لحضور المباراة من عموم المنطقة، فقد كان هناك منافسة كبيرة، وماهي إلا لحظات حتى وجدنا أنّ هناك جلبة/أصوات عالية مترافقة مع ضوضاء غير طبيعية، تأتي من داخل الملعب، وكنا نحاول النظر من خلال الناس لنرى ما يحصل، فقالوا لنا بأنّ اشتباكات كانت قد نشبت بين الجمهور في الملعب، وعلى الفور قام الحراس بإبعادنا قليلاً، وحاولوا فتح باب الملعب، لكن ومن كثافة الناس في الداخل والخارج، لم يعد هنالك أي منفذ للدخول أو الخروج وأذكر بأنّني شاهدت العشرات من الناس وهم مصابين في رؤوسهم، إثر ضربهم الحجارة، وقد علمت لاحقاً من أحد أصدقائي بأنّ جماهير فريق الفتوة حين قدموا إلى الملعب، قاموا بملئ عبوات الماء/ترمز، بالحجارة السوداء، قبل أن يصلوا الملعب، حيث تمّ ضرب جماهير فريق الجهاد عن بعد بهذه الحجارة، وبعد حوالي 15 دقيقة، جاء عدد من عناصر حفظ النظام، وكانوا يرتدون اللباس الأسود، وقاموا أولاً بطردنا، فاتجهنا نحو شارع القوتلي بالقرب من الملعب، ثمّ عدنا مرة أخرى أمام الملعب، فعاودوا طردنا مرة أخرى، وحصلت مشكلة بيننا وبينهم حتى أننا أمطرناهم بالحجارة، وفي هذه الأثناء خرج الناس من الملعب، فافترقنا أنا وصديقي، وأضعنا بعضنا البعض في تلك الأزمة، والمشكلة ازدادت وكبر حجمها، إلى أن عدت إلى عملي في أحد فنادق مدينة القامشلي، وكان الوقت قد صار مساءً بعد المغرب تقريباً."
حين عاد "حمزة" إلى عمله، علم بأنّ صديقه "سليمان"