اضطرّ محمود إلى دفع رشوة بقيمة 300 ألف ليرة سورية حتى يتمكن فقط من تسجيل طفل واحد من أطفاله في دائرة الأحوال المدينة التابعة للحكومة السورية، وباعتبار أنه واحدُ من الكرد السوريين المجرّدين من الجنسية وتحديداً من "فئة الأجانب"، بقي يحاول مدة شهر كامل إلى أن نجح آخر الأمر، وذلك على عكس ما يحصل مع المواطن العادي الذي لا يحتاج إلا يوماً واحداً لتسجيل أطفاله.
"محمود أحمد خليل" من مواليد بلدة "حاصود" في القامشلي/قامشلو عام (1977) في محافظة الحسكة، متزوج ولديه أطفال، وينتمي لعائلة قسّمها الإحصاء -الذي تمّ في عام (1962)- ما بين "مكتومي القيد" و"مواطنين"، وفي هذا الخصوص روى للباحث الميداني لدى سوريون من أجل الحقيقة والعدالة في شهر آذار/مارس قائلاً:
" أذكر أنّ عمي واثنتين من عماتي كانوا يتمتعون بالجنسية السوريّة، في حين كان والدي وعمي الآخر مجرّدَين من الجنسية، وكان قد تمّ تسجيل عمي وعماتي كأجانب في الإحصاء، إلا أنهم قاموا بمتابعة وضعهم القانوني ودفعوا رشاوي تتراوح ما بين ألفي إلى أربعة آلاف ليرة سورية (في تلك الأيام)، وبهذه الطريقة تمكنوا من الحصول على الجنسية، أما نحن فقد حاولنا الحصول على الجنسية السّورية ما بين عامي (1985 و1990) إلا أننا لم نحصل على أية نتيجة، كما أنّ الأوساط الشعبية كانت تزرع الخوف فينا عبر قولهم بأنّ موضوع الأجانب موضوع سياسي ويجب أن يُحلّ بطريقة سياسية."
كان محمود يدرك تماماً بأنه لن يحصل على شهادة حتى وإن أكمل تعليمه، لذا قرر وإخوانه ترك مقاعد الدراسة، قبل أن يتجاوزوا المرحلة الإعدادية، وفي هذا الخصوص أضاف قائلاً:
"فقط أحد إخواني هو من قرر متابعة الدراسة في مجال الصناعة، وأنهى بعدها المعهد الصناعي، ولم يتم منحه الشهادة طبعاً، فقد كان يود التعلّم فقط، أما بالنسبة لتسجيل أطفالي، فقد كان المتمتعون بالجنسية السّورية يقومون بتسجيل أطفالهم في دائرة النفوس خلال يوم واحد، أما بوصفي مجرّد من الجنسية، فقد كنت أقوم بتوكيل محامٍ من أجل تحقيق ذلك وبقيت أكثر من شهر ودفعت رشاوي بقيمة (300) ألف ليرة سورية، فقط لتسجيل طفل واحد، كما كنت أضطر للذهاب إلى فرع السياسية والشرطة من أجل كتابة ضبط وجلب شهود، بالمختصر عانيت كثيراً من أجل تسجيل طفل واحد."
لم يتسنَّ لعائلة محمود امتلاك أراضٍ زراعية، نظراً لأنهم كانوا مجرّدين من الجنسية ولا يحق لهم تسجيلها باسمهم، لذا اضطر والده للعمل في مجالات مختلفة كصناعة اللبن للبناء وسقاية الأراضي الزراعية، وحينما ترك محمود مقاعد الدراسة ساعد والده في "السقاية" إضافة إلى تربية المواشي، هذه المهنة التي ما زال يزاولها حتى يومنا هذا، وأضاف قائلاً:
"في إحدى المرات، تدهورت حالة والدي الصحية، وكنا نأخذه إلى مدينتي الشام وحلب بقصد العلاج، وكنا نضطر للمبيت في إحدى الفنادق، إلا أنّهم كانوا يطلبون منا ورقة من إدارة شعبة الفنادق، بما أنّ ذلك كان محرّماً علينا أيضاً، لذا كنا نضطر لأخذ والدي المريض معنا إلى شعبة الفنادق، من أجل أن يمنحونا الموافقة، وهذه الحادثة تكررت كثيراً لأنّ والدي كان كثيراً ما يمرض، أما حينما كنا نسافر بواسطة الباصات إلى دمشق بقصد العمل، فقد كانوا يطلبون منا الهوية الشخصية، وعندما كنا نُخرج البطاقة الحمراء الخاصة بالأجانب، كانوا يسخرون منا ويقولون هذه مخصّصة للبقر، لقد كنا نخجل من إبرازها."
لم يفكر محمود بالسفر مطلقاً إلى الخارج، لأنه يعلم مسبقاً بأنّ محاولاته ستبوء بالفشل بما أنه ممنوع من السفر، ويذكر في إحدى المرات كيف حاول والده السفر إلى تركيا، إلا أنّ محاولته لم تأتِ بأي نتيجة، ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد فحسب، فحتى موضوع الزواج كان صعباً عليه للغاية، وخاصة أن العائلات من فئة المواطنين لم تكن تقبل بأولئك المجرّدين من الجنسية، غير أنّ محمود يشير إلى أنهم تجاوزوا هذا الأمر بالزواج من الأقارب، وتابع قائلاً:
"أنتمي لعائلة تتألف من (12) فرداً إضافة إلى والدي ووالدتي، موزعة بين سبعة ذكور وخمسة إناث، عقب إصدار المرسوم رقم (49) في العام 2011 والقاضي بتجنيس الأجانب، حصل معظمنا على الجنسية دون أي صعوبات تذكر، إلا أنّ شقيقتيّ لم تحصلا عليها بعد، وكانا كلّما راجعا دائرة النفوس، يردّ الموظفون بأنّ الأوراق ضاعت وبأنّ عليهما التقدم بالأوراق من جديد، لقد كان لديّ أملُ كبير في أن يتمّ تعويضنا بعد حصولنا على الجنسية، أو أن يتم النظر إلى حالنا على الأقل، لكن للأسف لا الحكومة السورية فعلت ذلك ولا المنظمات الدولية العاملة في المنطقة، فقط تمّ إعفاؤنا من الخدمة العسكرية، ولكن في نظر الآخرين كان مجرد حصولنا على الجنسية أمراً عظيماً."