ملّخص تنفيذي:
ازدادت مؤخراً حالات “التخلي” عن الأطفال حديثي الولادة بشكل ملحوظ في مناطق مختلفة من محافظة إدلب وريف ريف حلب الشمالي الخاضعة لسيطرة تنظيمات وفصائل معارضة مختلفة، حيث سجّلت سوريون من أجل الحقيقة والعدالة العثور على ما لا يقلّ عن (40) حالة لأطفال حديثي الولادة كان قد تخلى عنهم ذووهم، وذلك خلال عامي 2018 والنصف الأول من العام 2019، ورجّح الباحثون الميدانيون لدى المنظمة بأنّ يكون العدد أكبر من ذلك بكثير، ولا سيما أنّ هنالك حالات حدثت في أماكن بعيدة، وواجهوا صعوبة في توثيقها.
كما تنوعت الظروف التي تمّ التخلي عن هؤلاء الأطفال من خلالها، فبعضهم تمّ وضعهم على قارعة الطريق، ضمن أكياس مخصصة للقمامة أو ضمن حقائب مخصصة للسفر، فيما تمّ رمي البعض الآخر بينما كان الحبل السري ما زال معلّقاً بهم. وتمّ تسجيل وفاة (12) أطفال رضّع كان قد تمّ رميهم في محافظة إدلب، بسبب تأخر العثور عليهم إضافة إلى قساوة الظروف الطبيعية التي عُثر عليهم فيها.
وبحسب العديد من الشهادات التي حصلت عليها سوريون من أجل الحقيقة والعدالة، فإنّ أبرز الأسباب التي ساهمت في تزايد هذه الحالات -سواء كان ذلك في مدن وبلدات محافظة إدلب أو في مناطق ريف حلب الشمالي- هو عامل الفقر الذي تعاني منه مئات الآلاف من العائلات وخاصةً في مخيمات النزوح المنتشرة في البلاد، والذي يقف حائلاً أمام قدرتها على تربية هذا الطفل/ة ورعايته/ا، يضاف إليه سبب آخر وهو انتشار ظاهرة تزويج القاصرات من مقاتلين أجانب مجهولي الاسم والنسب وخاصةً في محافظة إدلب، الأمر الذي دفع بالعديد من الفتيات إلى رمي أطفالهنّ بعد مقتل أزواجهنّ، وخاصةً أنّ لا قدرة لهنّ على رعايتهم، إضافة إلى أنّ هذا الطفل سيظلّ بدون قيود مدينة.
وقدّ حذرّ الباحثون الميدانيون لسوريون من أجل الحقيقة من عواقب خطيرة ومصائر مجهولة لأولئك الأطفال الذين تخلت عنهم عائلاتهم وبقوا على قيد الحياة، حيث تتمثل هذه المخاطر في حرمانهم من حقّ التعلم وعدم الحصول على أوراق ثبوتية، وحتى الحصول على الجنسية لاحقاً، إضافة إلى أنّه لا يوجد ضمانات لحماية هؤلاء الأطفال من الاستغلال في المستقبل، مثل إرسالهم إلى سوق العمل تحت السن القانونية، أو تجنيدهم ضمن فصائل جهادية، فضلاً عن الاضطهاد المجتمعي الذي قد يتعرضون له باعتبار أنهم “أطفال لقطاء”، وسط غياب أي جهود من الجهات المسؤولة في المنطقتين؛ ففي محافظة إدلب الخاضعة بمعظمها لسيطرة هيئة تحرير الشام، بادرت بعض العائلات إلى كفالة عدد من الأطفال حديثي الولادة، ريثما يتم الكشف عن مصيرهم، وحتى هؤلاء غير قادرين على تسجيل الأطفال الذين قاموا بكفالتهم في دوائر النفوس المحلية، باعتبار أنّ التبني “محرّم” في الدين الإسلامي، كما أنهم غير قادرين على تسجيلهم في الدوائر الحكومية الرسمية في محافظة حماه، لأسباب تتعلق بخوفهم من الاحتجاز على أيدي الأجهزة الأمنية السورية، وبالنسبة الأطفال الذين لم يتم كفالتهم أو رعايتهم من قبل إحدى العائلات، فقد بادر بعض الناشطون والمنظمات الخيرية لوضعهم في دور للأيتام والعجرة من أجل تقديم الرعاية لهم، حيث قال ناشطون حقوقيون للمنظمة، بأنهم حاولوا التواصل مع مديرية التربية التابعة لحكومة الإنقاذ من أجل الحصول على موافقتها لضمان دخول هؤلاء الأطفال إلى مقاعد الدراسة مع تقدمهم في السن، إلا أنّ الأخيرة لم توافق سوى على حضورهم إلى مقاعد الدراسة كطلاب مستمعين.
كما قال الباحث الميداني لدى سوريون من أجل الحقيقة والعدالة، بأنّ هنالك أصوات بدأت تتعالى في مدينة إدلب من أجل تجنيد الأطفال الذين تمّ التخلي عنهم من قبل عائلاتهم، فخلال شهر حزيران/يونيو 2019، تطرّق خطيب الجامع في مسجد “أبو ذر” في إدلب المدينة، إلى ضرورة تجنيد هؤلاء الأطفال منذ الصغر باعتبار أنهم من الممكن أن يتحولوا إلى مقاتلين أشّداء في المستقبل، مستشهداً بحكاية “الظاهر بيبرس”، والذي أصبح قائداً عظيماً للجيوش على حد وصفه، على الرغم من أنه مجهول النسب.
ولا يختلف الحال كثيراً في مناطق ريف حلب الشمالي[1]، حيث أفاد العديد من شهود العيان للمنظمة، بأنّ لا يوجد في هذه المناطق أي مؤسسات مختصة برعاية وتنظيم شؤون “الأطفال اللقطاء” وبأنّ دور الجهات المسؤولة يقتصر على وضع هؤلاء الأطفال في عهدة من يود كفالتهم، على أن يكون هذا الكفيل ذو سمعة حسنة بين الناس، إضافة إلى القدرة على تسجيل هؤلاء الأطفال ضمن سجلات دوائر النفوس المحلية في مناطق ريف حلب الشمالي، كي يتاح له الحصول على بعض الحقوق كحق التعلم في المناطق التي وجدوا فيها.
وبحسب الباحثين الميدانيين لدى سوريون من أجل الحقيقة والعدالة، فإنّ الأطفال الذي تخلت عنهم عائلاتهم، ليسوا وحدهم مهددين بخطر انعدام الجنسية، بسبب صعوبة الوصول إلى الدوائر الحكومية الرسمية في المناطق الخاضعة لسيطرة الحكومة السورية، والخوف من الاعتقال، بل إنّ الأمر ينطبق على الأطفال معروفي النسب في مناطق محافظة إدلب وريف حلب الشمالي، وللأسباب ذاتها، وستقوم سوريون من أجل الحقيقة والعدالة بإعداد تقرير يسلّط الضوء على هذه القضية خلال الأشهر القادمة.
وكانت منظمة الأمم المتحدة للطفولة “اليونيسيف” قد قالت في بيان صحفي لها صدر بتاريخ 11 آذار/مارس 2019، بأنّ عام 2018، كان الأكثر فتكاً بالنسبة لأطفال سوريا، حيث تطرق البيان إلى مصير أطفال المقاتلين الأجانب في سوريا والذي ما زال غير واضحاً. ودعت فيه الدول الأعضاء إلى تحمل مسؤولية الأطفال، سواء من مواطنيها أو المولودين لأشخاص من رعاياها، واتخاذ التدابير لكي لا يتحول هؤلاء الأطفال إلى أطفال دون جنسية.[2]
1. حالات التخلي عن الأطفال “بالجملة” في محافظة إدلب:
مع بداية العام 2018، شهدت محافظة إدلب الخاضعة بمعظمها لسيطرة هيئة تحرير الشام، تزايداً في حالات “التخلي عن الأطفال حديثي الولادة” في عموم مناطق المحافظة، حيث وثق الباحث الميداني لدى سوريون من أجل الحقيقة والعدالة، ما لا يقلّ عن (21) حالة لطفل تمّ رميهم في الشوارع وأمام المباني السكنية والمساجد، خلال العام 2018 وحده، من بينهم (8) أطفال فارقوا الحياة، بسبب تأخر العثور عليهم وإسعافهم إلى المراكز الطبية، إضافة إلى البرد القارس، والذي قلل فرصهم في النجاة، وقد شمل انتشار هذه الظاهرة العديد من مناطق محافظة إدلب، مثل قرى وبلدات (أطمة وأريحا وتل منس وأرمناز، والبارة ومشمشان) وغيرها الكثير من القرى.
منذ بداية العام 2019، وحتى شهر تموز/يوليو من العام نفسه، قام الباحث الميداني لدى سوريون من أجل الحقيقة والعدالة بتوثيق ما لا يقلّ عن (8) حالات لأطفال ورضّع، تمّ العثور عليهم على قارعة الشوارع في مدن وبلدات (أريحا ومعرة مصرين وسراقب وحارم ومعرة مصرين وسلقين وإدلب المدينة)، من بينهم (4) أطفال توفوا بسبب تأخر العثور عليهم والظروف التي تمّ رميهم بها، إذ أنّ بعض الأطفال كانوا قد وضعوا ضمن أكياسٍ القمامة، فيما تمّ وضع بعضهم الآخر ضمن حقيبة للسفر.
كما نوه الباحث الميداني لدى سوريون من أجل الحقيقة، بأنه لم يستطع توثيق كافة الحالات في محافظة إدلب، نظراً لأنها حدثت في أماكن بعيدة، مرّجحاً بأنّ العدد قد يكون أكبر من ذلك بكثير.
وحول أسباب ازدياد هذه الحالات، تحدّثت الباحثة في علم الاجتماع “فاطمة الأحمد” لسوريون من أجل الحقيقة والعدالة، بأنّ انتشار مثل هذه الحالات يعود لأسباب عدة أبرزها عامل الفقر الذي أصبحت تعاني منه العديد من العائلات بسبب ظروف الحرب، وعدم قيام الجهات المسؤولة بإصدار قانون يحمي من يقوم/تقوم بتسليم نفسه/نفسها إن كان رجلاً أو امرأة في حال اعترف برميه للطفل، ولا سيّما أنّ هذا الأمر له حساسيته بمجتمعنا، حيث يعتبر هذا بمثابة العار ويهدد حياة والدة الطفل في حل تمّ كشف أمر المرأة، خاصة إن كان نتيجة علاقة غير شرعية، كما أنّ ضعف الوعي والثقافة هو أحد الأسباب التي ساهمت في ازدياد هذه الحالات، والأهم من ذلك هو انتشار ظاهرة تزويج الفتيات من مقاتلين أجانب مجهولي الاسم والنسب، فالعديد منهنّ تلجأن للتخلي عن أطفالهنّ، وخاصة بعد مقتل أزواجهنّ وعدم قدرتهن على إعالة أطفالهنّ، وتابعت قائلة:
“إنّ تزايد حالات التخلي عن الأطفال يشكّل اليوم أزمة إنسانية أخلاقية اجتماعية، تتمثل بإزهاق روح إنسان بريء لا ذنب له، وفي حال كتب لهذا الطفل النجاة والعيش في المجتمع، فإنه سيعيش بمصير مجهول تماماً، وهو بذلك فاقد لنسبه وهويته الاجتماعية التي يتمتع بها الأطفال الشرعيون، ما يجعل الطفل يعيش في حالة فقدان للهوية واضطهاد مجتمعي.”
2. العثور على طفلة ضمن حقيبة للسفر في جرجناز بريف إدلب:
إحدى الحوادث التي وقعت في محافظة إدلب كانت بتاريخ 15حزيران/يونيو 2019، حيث عثر “خالد أبو خطاب” أحد أهالي بلدة جرجناز، على طفلة رضيعة وُضعت ضمن حقيبة للسفر، وكان قد تمّ رميها على قارعة الطريق، حيث تحدّث لسوريون من أجل الحقيقة والعدالة حول هذه الحادثة قائلاً:
“بينما كنت في طريق عودتي إلى القرية برفقة طفلي وشقيقي، فوجئنا بحقيبة سفر سوداء مرميةً عند مدخل القرية، فشعرنا بالخوف من هذه الحقيبة بسبب انتشار العبوات الناسفة، ولم نجرؤ على الاقتراب منها في البداية، وقررنا المغادرة فوراً، فابتعدنا قليلا عنها، إلا أنّ الفضول جرّني للعودة إليها، حيث كانت الحقيبة نصف مغلقة، وعندما بدأت بتحريكها سمعت بكاء طفل صغير، ففتحنا الحقيبة لنشاهد طفلة صغيرة تبلغ من العمر أسبوعاً تقريباً، وكانت تلبس قميصاً صغيراً، فحملتها وذهبت بها للمنزل، وبعدها أخبرت قسم الشرطة في البلدة المجاورة بالحادثة، حيث تمّ فتح ضبط بالحادثة، وتمّ إجراء فحص طبي للطفلة.”
من باب التعاطف، قررت عائلة “خالد” رعاية الطفلة وكفالتها، حيث سارعت زوجة “خالد” إلى الاعتناء بها وإرضاعها وأطلقت عليها اسم “هبة”، كما أنها أصبحت فرداً من أفراد عائلتها، بحسب ماروت الزوجة لسوريون من أجل الحقيقة والعدالة في هذا الصدد:
“نحاول أن نرعى هذه الطفلة وكأنها طفلتنا وربما أكثر، وقد أسميناها بهذا الاسم لأنها هبة من الله لعائلتنا، لكننا لم نستطع تسجيل هذه الطفلة على خانتنا أو نمنحها الأوراق الرسمية، فالجميع على دراية بصعوبة التسجيل في الدوائر الرسمية الحكومية، وهذا الأمر يثير قلقي للمصير الذي قد تعيشه هذه الطفلة في المستقبل، ومن المؤكد أنني سأواصل رعايتها حتى تكبر، وسأخبرها بأنّ والديها قتلا نتيجة قصف طال منزلها، فلا أريد لها أن تعرف شيئاً حول وضعها ضمن حقيبة للسفر.”
3. “لا يكاد يمرّ شهر دون العثور على حالة أو حالتين لأطفال تمّ التخلي عنهم”:
لم تكن هذه الحادثة الأولى من نوعها في محافظة إدلب، فقد كان قد سبقها حوادث عدّة في العام 2019، بحسب ما أفاد به أحد الناشطين الإعلاميين في محافظة إدلب، والذي قال لسوريون من أجل الحقيقة والعدالة، بأنّ هنالك أكثر من (10) حالات لأطفال رضّع تمّ رميهم على قارعة الطرق في مناطق المحافظة، وذلك منذ بداية العام 2019، وحتى لحظة إعداد هذا التقرير في 1 تموز/يوليو 2019، مشيراً إلى أنّ بعضهم فارق الحياة، في حين قامت عدد من العائلات بكفالة بعضهم الآخر، حيث تحدّث حول إحدى الحوادث التي وقعت في مدينة سلقين مع بداية العام 2019، قائلاً:
“لا يكاد يمرّ شهر دون العثور على حالة أو حالتين لأطفال تمّ التخلي عنهم في محافظة إدلب، ففي ساعات الصباح الأولى من يوم 29 كانون الثاني/يناير 2019، عثر أحد الأهالي في مدينة سلقين على طفلة حديثة الولادة وملفوفة بقطعة قماش بيضاء ومرميةً أمام أحد المنازل، وقد تمّ نقلها الى إحدى النقاط الطبية من أجل تقديم العلاج لها، حيث كادت الطفلة أن تفارق الحياة نتيجة البرد القارس، وقد تمّ تقديم الإسعافات الأولية لها، ومن ثمّ قامت إحدى العوائل بكفالتها، وتربيتها، المشكلة أنّ هذه الطفلة ليس لها أي رواق ثبوتية، ولا نعرف إن كانت ستحصل على تلك الأوراق في المستقبل، بسبب خطورة الأوضاع الأمنية وصعوبة تسجيلها في المناطق الخاضعة لسيطرة قوات النظام، ومن حسن حظ هذه الطفلة أن قامت إحدى العائلات بكفالتها ورعايتها.”
“أبو محمد.م” أحد أهالي مدينة سلقين، سارع للتوجه إلى المركز الطبي من أجل كفالة هذه الطفلة، حيث أخبره الأطباء بضرورة الانتظار ل 24 ساعة، ريثما يتم إجراء الفحوصات الطبية اللازمة لها، حيث تحدّث لسوريون من أجل الحقيقة والعدالة قائلاً في هذا الصدد:
“قمت بكفالة هذه الطفلة على الرغم من أنني والد لثلاثة أطفال، وعلى اعتبار أنّ وضعي المادي جيد إلى حد ما، فأنا أمتلك دكاناً لبيع المواد الغذائية في المدينة، وتعيش الطفلة حالياً بصحبتنا في المنزل وهي بصحة جيدة، كما أنني أطلقت عليها اسم “أسماء”، وأصبحت جزءً من عائلتي، فما ذنب هذه الطفلة إن كانت قد ولدت في ظل الحرب والظروف القاسية التي نعيشها، فكيف لنا أن نتخلى عن الإنسانية الموجودة داخل كل شخص منا، لكن ما يؤرقني أكثر هو أنني لم أستطع تسجيلها لا في دوائر النفوس المحلية، باعتبار أنّ التبني محرّم، ولا حتى في الدوائر الحكومية الرسمية بسبب صعوبة السفر إلى المناطق التي تسيطر عليها قوات النظام، لذا فإنّ الطفلة وحتى هذه اللحظة لا تملك أي أوراق ثبوتية.”
4. مصير مجهول وإجراءات قاصرة:
يعرّف القانون السوري[3] الطفل اللقيط على أنه “الوليد الذي يعثر عليه ولم يعرف والداه”، ودائماً ما يحدث التباس بين الطفل اللقيط والطفل مجهول النسب، فالفرق بين الحالتين، أنه غالباً ما يكون والد الطفل “اللقيط” يحمل جنسية الدولة التي عثر على الطفل فيها، أما مجهول النسب يكون والده من جنسية أجنبية وأمه سورية، دون وجود أيّ إثبات على الزواج بعد اختفاء الزوج بحسب الناشط الحقوقي “محمد نور حميدي” من مدينة أريحا بريف إدلب، والذي أفاد لسوريون من أجل الحقيقة والعدالة، بأنّ مصير العديد من الأطفال الذين تمّ التخلي عنهم، مازال مجهولاً حتى اللحظة وخاصةّ مع ازدياد مثل هذه الحالات في محافظة إدلب، وعدم اتخاذ الجهات المسؤولة أي إجراءات للحد من هذه الحالات، باستثناء بعض الجهود الفردية المبذولة من قبل بعض الناشطين، للتواصل مع مديرية التربية التابعة لحكومة الإنقاذ في محافظة إدلب، من أجل قبول هؤلاء الأطفال ونيلهم حقّ التعلم، حيث أشار إلى أنه وبعد الأخذ والرد لم توافق المديرية سوى على جعلهم طلاب مستمعين في المدارس، مع عدم القدرة على منحهم الشهادة على اعتبار أنهم غير مسجّلين في دوائر النفوس المحلية، كما أشار إلى أنّ بعض المنظمات الخيرية تسعى للاعتناء بهؤلاء الأطفال، من خلال وضع الأطفال الذين لم يتمّ كفالتهم من قبل عائلات، في أماكن تقدّم لهم الرعاية والتعليم، مثل دور العجّز أو دور الأيتام في مناطق المحافظة، لافتاً إلى أنّ الجهود مازالت مستمرة من قبل بعض الناشطين الحقوقيين، للتواصل مع إحدى المنظمات التابعة للأمم المتحدة، من أجل إقامة مأوى لهؤلاء الأطفال يقدم لهم الرعاية، ويؤمن لهم المستقبل.
وبحسب الباحث الميداني لدى سوريون من أجل الحقيقة والعدالة، فإنّه وفورَ العثور على الأطفال حديثي الولادة ونقلهم إلى المراكز الصحية في الكائنة في مدن وبلدات محافظة إدلب، يقوم الكادر الطبي بتقديم الإسعافات اللازمة لهم، حيث يبقون في هذه المراكز لعدّة أيام، ومن ثمّ تسارع بعض العائلات التي فقدت أطفالها خلال الحرب أو تلك التي لم تكن قادرة على الإنجاب، إلى كفالة هؤلاء الأطفال، حيث يتم توثيق حالة الطفل لدى مخفر المنطقة أو المحكمة الشرعية، والتي تقوم بدورها بتسليم الطفل إلى من يود كفالته، في الوقت الذي يغيب فيه دور الجهات المسؤولة عن اتخاذ أي إجراءات من أجل الحد من انتشار هذه الحالات في مناطق المحافظة، كإنشاء دار رعاية معين، أو قدرة العائلات على تسجيل هؤلاء الأطفال ولو في دوائر النفوس المحلية، باعتبار أنّ التبني مرفوض من وجهة نظر الدين الإسلامي.
5. تزايد حالات التخلي عن الأطفال في مخيمات ريف حلب الشمالي:
لم تكن محافظة إدلب وحدها، من شهدت ازدياداً ملحوظاً في حالات التخلي عن الأطفال، بل كانت لمناطق ريف حلب الشمالي، نصيب من هذه الحالات، حيث تشابهت الأسباب التي أدت إلى انتشار هذه الحالات في هاتين المنطقتين، وكان من أبرزها عامل الفقر الذي تعاني منه العديد من العائلات، والذي وقف حائلاً أمام قدرتهم على تربية هذا الطفل وتنشئته، بحسب العديد من شهود العيان الذين تحدثت إليهم سوريون من أجل الحقيقة والعدالة.
فمع بداية العام 2017، ظهرت حالات التخلي عن الأطفال، في عموم مناطق ريف حلب الشمالي، مثل (جرابلس ومارع وأخترين وصوران) لكنها لوحظت بشكل أكبر في مدينة اعزاز والباب والقرى المحيطة بهما، ولا سيما المنطقة المتاخمة للحدود التركية، والتي تتركز فيها المخيمات، لكن سرعان ما بدأت هذه الحالات بالازدياد شيئاً فشيئاً، مع اتساع المنطقة الجغرافية التي تسيطر عليها فصائل “الجيش الوطني” المدعوم من تركيا، فمع دخول العام 2018، ازداد عدد الأطفال اللقطاء بشكل ملحوظ، وبلغ عدد الحالات التي تمّ توثيقها من قبل الباحث الميداني لدى سوريون من أجل الحقيقة والعدالة، بما لا يقلّ عن 7 حالات لأطفال تمّ رميهم على قارعة الشوارع، وما لا يقلّ عن ثلاث حالات منذ بداية العام 2019 وحتى لحظة إعداد هذا التقرير في 1 تموز/يوليو 2019، وقد تمّ وضع بعضهم في ظروف قاسية، فبعضهم وجد بالقرب من مجرى للصرف الصحي بلا أي ملابس، في حين وجد البعض الآخر، بينما كان الحبل السري لا زال موجوداً عليهم.
في صبيحة يوم 6 حزيران/يونيو 2019، عثر الشاب “مصطفى أبو أحمد”/اسم مستعار، على طفل لم يتجاوز عمره الساعات، وهو مرميُ تحت شجرة الزيتون على الطريق الواصل ما بين مخيم الحرمين ومدينة اعزاز بريف حلب الشمالي، حيث أفاد “مصطفى” لسوريون من أجل الحقيقة والعدالة حول هذه الحادثة قائلاً:
“كانت آثار الدماء تغطي وجه ذلك الطفل، فحملته سريعاً بين يدي، وتوجهت به إلى أقرب نقطة طبية، وهناك تمّ تنظيف الدماء عن وجهه وتمّ نقله إلى مشفى الهلال الأزرق قرب معبر باب السلامة، ليتم فحصه والتأكد من صحته ووضعه في الحاضنة ريثما تأتي الشرطة، بعدها أخبرت الشرطة بالحادثة والتي بدورها فتحت تحقيقاً بالأمر لمعرفة ملابسات رمي هذا الطفل، ومحاولة معرفة والديه الحقيقين ولكن دون جدوى، فقد كان مصيره كمصير باقي أقرانه لا أحد يعرف من قام برمايته، وقد تكفّل برعاية هذا الطفل مهجرّ من مدينة حمص.”
وفي حادثة أخرى، كان قد عثر أحد أهالي ريف حلب الشمالي، على طفلة رضيعة، تمّ رميها بجانب مجرى للصرف صحي وتحديداً بالقرب من مخيم “الريان” في ريف حلب الشمالي، وذلك في صبيحة يوم 25 كانون الثاني/يناير 2019، وفي هذا الخصوص تحدّث “خديحة.م” إحدى النساء التي تولت رعاية هذه الطفلة برفقة زوجها، حيث تحدّثت لسوريون من أجل الحقيقة والعدالة في هذا الصدد قائلاً:
“روى لي زوجي، بأنه وبينما كان متجهاً إلى العمل، تناهى إلى مسامعه بكاء طفلٍ ينبعث من الجانب الأيمن للطريق، فتوقف قليلاً، واستنشق رائحة كريهة تنبعث من المكان، باعتبار أنّ هنالك مجرى للصرف الصحي، وإذ بطفلة صغيرة مغطاة بغطاء صغير دون لباس، وكان الحبل السري مازال موجوداً عليها، فتوجه بالطفلة فوراً إلى مشفى الأهلي في مدينة إعزاز، حيث قام الطبيب بقطع الحبل السري وتفقّد وضعها الصحي، حيث قدّر عمرها بثلاث ساعات، فتعاطف زوجي مع حالة هذه الطفلة وقرر تربيتها، على الرغم من أنه متزوج مني ومن امرأة أخرى ولديه 5 أطفال، لكنني وللأسف غير قادرة على الإنجاب، وعلى الفور توجه بالطفلة إلى السجل المدني وسجّلها على كنيته، وأطلق عليها اسم آمنة، وأذكر أنّ زوجي حينما دخل إلى المنزل وبيديه هذه الطفلة، شعرت بسعادة غامرة وحزنت عليها حينما سمع قصتها، وهي اليوم تبلغ من العمر خمسة شهور، وسأبقى أعتني بها حتى تكبر، لكن لا أدري إن كنت سأخبرها بقصتها أم لا، فمن حقها أن تبحث عن والدتها الحقيقة، ولكن لا أريد أن أخسر كلمة أمي التي ستناديني بها عندما تكبر.”
6. سوء الأحوال المعيشية ساهم في انتشار حالات التخلي عن الأطفال في مناطق سيطرة القوات الحكومية:
ومن اللافت ذكره بأنّ المناطق الخاضعة لسيطرة الحكومة السورية كانت قد شهدت ازدياداً في حالات التخلي عن الأطفال، حيث تداولت العديد من المواقع الإعلامية في شهر آذار/مارس 2019، ازدياد حالات التخلي عن الأطفال حديثي الولادة في دمشق وريفها، بسبب تردي الأوضاع وتدهور الحالة المعيشية، خلال سنوات النزاع السوري، حيث كانت قد تداولت وسائل إعلامية محلية نبأ ترك والد لرضيعته أمام بوابة مسجد الثقفي في حي القصاع بمدينة دمشق، حيث تمكنت الشرطة من إلقاء القبض عليه لاحقاً، واعترف أمامها أنّ ما دفعه لذلك هو سوء الأحوال المعيشية وعدم قدرته على تأمين العلاج والطعام لها.[4]
كما كان قد صرّح مصدر قضائي لصحيفة الوطن المقرّبة من الحكومة السورية في العام 2018، بأنّ عدد الأطفال مجهولي النسب المسجّلين كان قد بلغ خلال سنوات النزاع السوري، نحو 300 طفل، كاشفاً أن عدلية دمشق تستقبل حالة كل شهرين، وقال المصدر في تصريحه للصحيفة، بأنه وفي حال تمّ العثور على “طفل لقيط” يتم تنظيم الضبط من مخفر الشرطة وبدوره يحيله إلى النيابة العامة، التي تحيل الطفل اللقيط إلى المركز المخصص في وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل، ومن ثمّ يتم فحص الطفل طبياً والتأكد من حالته الصحية ومن ثم يتم تسجيله في السجل المدني الذي يختار له الاسم والوالدين والنسب، مؤكداً أنه يتمتع بكامل حقوقه المدنية وأنه لا يجوز أن يطلّع أحد أنه مجهول النسب سوى السجل المدني. [5]
وأفادت المستشارة القانونية لدى سوريون من أجل الحقيقة والعدالة، بأنّه وفي ظل استمرار النزاع السوري وما يصحبه من فقر وتشرّد وتدني في مستوى المعيشة على كافة السبل الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، فقد ظهرت الكثير من حالات رمي الأطفال الحديثي الولادة والتخلي عنهم من قبل عائلاتهم في مناطق عدّة من سوريا، فحتى وإن تكفل أحد برعايتهم، إلا أّنّ العديد منهم لا قدرة لديهم على تسجيلهم بشكل رسمي أو الحصول على أوراق ثبوتية، وهو ما يعني حرمان الطفل من كافة الحقوق المدنية، والحرمان من حياة طبيعية تراعي إنسانيتهم وطفولتهم، وخاصةَ أنّ التبني ممنوع ولأسباب أخرى حسب المنطقة والجهة المسيطرة عليها .
وأضافت بأنّ مجلس الشعب السوري كان قد ناقش في العام 2018، مشروع القانون المتعلق برعاية مجهولي النسب، والذي يتضمن 57 مادة قانونية، حيث كان الهدف منه ضمان حقوق مجهولي النسب كافة، والحفاظ على مصالحهم والمساواة بينهم وبين أقرانهم الآخرين في الحقوق والواجبات جميعها، وحمايتهم من التعرّض للإساءة أو التمييز أو العنف أو الضرر الجسدي أو المعنوي أو الاستغلال أو المعاملة اللإنسانية أو الإهمال، حيث جاء في المادة الثالثة من هذا المشروع أنّ هذا القانون سيطبق على الوليد أو الطفل الذي لم يتم السابعة من عمره، ويعثر عليه ولم يثبت نسبه ولم يعرف والداه، أو ضلّ الطريق ولا يملك القدرة على الإرشاد إلى ذويه لصغر سنه أو لضعف عقله أو لأنه أصم أو أبكم، وجاء في المادة الرابعة من المشروع أنّ على الوزارة الالتزام بالإشراف على رعاية مجهول النسب وكفالته وتعليمه حتى يستطيع الاعتماد على نفسه، وتشير المادة الخامسة إلى أنّ دور الرعاية الحكومية لمجهولي النسب في المحافظات، يتم حسب الحاجة، وبقرار من وزير الشؤون الاجتماعية والعمل، حيث تكون الوزارة مسؤولة عن الرقابة والإشراف على إدارتها وكفاءة نشاطاتها.[6]
وقالت بأنّ هذا المشروع مازال قيد المناقشة ولم يُقرّ بعد، على الرغم من الحاجة الملّحة له في هذه الفترة، وخاصةً مع تزايد أعداد الأطفال المشرّدين، مع التحفظ على بعض مواده التي تحتاج إلى تعديل.
وأشارت إلى أنّ هذا القانون يجب أن يتضمن إلغاء كلمة “لقطاء” والاستعاضة عنها بمجهولي النسب، كما لفتت إلى ضرورة تعديل قانون الأحوال الشخصية من خلال السماح بالتبني، والسعي لتعديل قانون الأحوال المدنية السوري، من خلال إضافة البصمة الوراثية على الهوية المدنية، للرجوع لها ومعرفة الأبوين الحقيقين للأطفال مجهولي النسب، وبالتالي الحد من هذه الظاهرة.
7. توصيات ومقترحات:
إلى الجهات الأمنية المسؤولة في المناطق الخاضعة لسيطرة المعارضة المسلّحة والمنظمات الإنسانية المعنية بالأمر:
-
- يجب توثيق حالات التخلي عن الأطفال التي تحدث في مناطق المعارضة المسلّحة بشكل رسمي من قبل المنظمات الإنسانية المعنية بالأمر على الأقلّ.
- يتوجب على الجهات المسؤولة سنّ تشريعات وقوانين لضمان حقوق هذا الطفل، وأن ترعاه من خلال إنشاء مراكز خاصة لتربيته والتأكد من حصوله على كافة حقوقه.
- يجب على الجهات المسؤولة السماح بتسجيل هؤلاء الأطفال في المجالس المحلية أو مراكز النفوس، لضمان حصولهم على أوراق ثبوتية مستقبلاً ولو كانت محلية.
- متابعة سير حياة هؤلاء الأطفال مع تقدمهم في السن، من أجل ضمان عدم تعرّضهم لأي انتهاكات كانت، ومحاولة تقديم المساعدة لهم بشكل دوري، من خلال تشكيل لجان تشرف على مراقبة سير حياة هذا الطفل لدى الكفيل وفرض شروط على الكفيل تضمن حق الطفل في الحصول على كافة المقومات الطبيعية للحياة.
—
[1] يسيطر على هذه المناطق الجيش الوطني المدعوم من تركيا، حيث كان قد سيطر على مدينتي عفرين وجنديرس إبان عملية “غصن الزيتون” في 22 كانون الثاني/يناير 2018، فيما تمّت السيطرة على مدينتي جرابلس والباب خلال عملية “درع الفرات” بتاريخ 5 أيلول/سبتمبر 2016، وأبز الفصائل المشكلة للجيش الوطني المدعوم من تركيا هي الجبهة الشامية وفرقة السلطان مراد وعاصفة الشمال واحرار الشرقية.
[2] ” مع دخول الحرب عامها التاسع فإن سنة 2018 تعتبر الأكثر فتكاً بالنسبة للأطفال في سوريا”، منظمة الأمم المتحدة للطفولة (اليونيسيف) في 11 آذار/مارس 2019. (آخر زيارة بتاريخ 9 تموز/يوليو 2019). https://www.unicef.org/ar/%D9%85%D8%B9-%D8%AF%D8%AE%D9%88%D9%84-%D8%A7%D9%84%D8%AD%D8%B1%D8%A8-%D8%B9%D8%A7%D9%85%D9%87%D8%A7-%D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%A7%D8%B3%D8%B9-%D9%81%D8%A5%D9%86-%D8%B3%D9%86%D8%A9-2018-%D8%AA%D8%B9%D8%AA%D8%A8%D8%B1-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D9%83%D8%AB%D8%B1-%D9%81%D8%AA%D9%83%D8%A7%D9%8B-%D8%A8%D8%A7%D9%84%D9%86%D8%B3%D8%A8%D8%A9-%D9%84%D9%84%D8%A3%D8%B7%D9%81%D8%A7%D9%84-%D9%81%D9%8A/%D8%A7%D9%84%D8%A8%D9%8A%D8%A7%D9%86%D8%A7%D8%AA-%D8%A7%D9%84%D8%B5%D8%AD%D9%81%D9%8A%D8%A9.
[3] للمزيد من الاطلاع على المرسوم التشريعي رقم 107 لعام 1970 والخاص برعاية وتنظيم شؤون الأطفال اللقطاء بموجب القانون السوري، يرجى الاطلاع على هذا الرابط:
[4] ” التخلي عن الأطفال حديثي الولادة… الحالات تتزايد في دمشق وريفها والعلاقات غير الشرعية هي السبب الأبرز” موقع الحل السوري، في 26 آذار/مارس 2019. (آخر زيارة بتاريخ 26 حزيران/يونيو 2019). https://7al.net/2019/03/26/%D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%AE%D9%84%D9%8A-%D8%B9%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D8%B7%D9%81%D8%A7%D9%84-%D8%AD%D8%AF%D9%8A%D8%AB%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D9%88%D9%84%D8%A7%D8%AF%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%AD%D8%A7%D9%84/.
[5] “300 طفل مجهولي النسب مسجلون خلال الأزمة … مجهول النسب يتمتع بحقوقه المدنية ولا يجوز إفشاء سره إلا أمام القضاء”، صحيفة الوطن السورية في 19 آذار/مارس 2018. (آخر زيارة بتاريخ 26 حزيران/يونيو 2019). http://alwatan.sy/archives/143738.
[6] “مجلس الشعب يتابع مناقشة مشروع قانون مجهولي النسب”، وكالة سانا، في 12 حزيران/يونيو 2018، آخر زيارة بتاريخ 9 تموز/يوليو 2019، https://www.sana.sy/?p=766785 .