-
ملخص تنفيذي:
شهدت الأشهر الثلاثة الأخيرة تصاعداً ملحوظاً في وتيرة الاعتداءات التركية في الشمال السوري، حيث استهدفت مسيرة تركية سيارتين بريف مدينة القامشلي في محافظة الحسكة، أوائل آب/أغسطس 2023. أسفرت صواريخ المسيرة عن مقتل أربعة عناصر وجرح اثنين آخرين من “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد)، كانوا جميعهم متوجهين إلى منازلهم لقضاء إجازتهم الشهرية.
شكّلت تلك الضربة استمراراً لنمط واسع من الاستهدافات في مناطق سيطرة “الإدارة الذاتية في شمال وشرق سوريا”. حيث فصلت أربعة أيام فقط هذه الضربة عن أخرى شنتها مسيرة تركية في بلدة تل رفعت، بريف حلب الشمالي، وذلك بتاريخ 30 تموز/يوليو 2023، أوقعت حادثة القصف هذه أضراراً مادية بالمنزل المستهدف على أطراف البلدة.
فيما أدى استهداف لمسيرة تركية أخرى، بتاريخ 27 تموز/يوليو 2023، إلى مقتل ثلاثة عناصر من “قوات سوريا الديمقراطية”، جراء القصف على سيارتين على الطريق بين قريتي تل معروف وخزنة، بريف القامشلي/قامشلو الجنوبي.
وفي إحصائية لضربات المسيرات التركية غطت الأعوام 2021 و2022 و2023 حتى الثلث الأول من آب/أغسطس، رصدت “سوريون من أجل الحقيقة والعدالة” ما لا يقل عن 92 اعتداءً، أدّت إلى مقتل 83 شخصاً على الأقل، وجرح 55 آخرون على الأقل. وسط سكوت شبه تام من قبل المجتمع الدولي.
كان من بين القتلى: 21 مدنياً؛ بينهم 3 من موظفي الإدارة الذاتية. بالإضافة إلى 5 عناصر من “قوات الأمن الداخلي” (الأسايش)، و 7 عناصر من “وحدات حماية الشعب” (YPG)، و 8 عناصر من “وحدات حماية المرأة” (YPJ)، و 33 عنصراً من “قوات سوريا الديمقراطية”، و 3 كوادر من “حزب العمال الكردستاني” (PKK)، و عضواً من “حزب الاتحاد الديمقراطي” (PYD)، و كادراً من الحزب الشيوعي التركي، و 4 عناصر من قوات الحكومة السورية.
أما الجرحى، فكان من بينهم: 37 مدنياً. بالإضافة إلى 9 عناصر من “قوات الأمن الداخلي” (الأسايش) و عنصران من “وحدات حماية الشعب” (YPG) و 4 عناصر من “قوات سوريا الديمقراطية”، و 3 عناصر من قوات الحكومة السورية.
كان من أبرز ضربات المسيرات التركية الأحدث، استهداف بتاريخ 20 حزيران/يونيو، لسيارة تقل موظفين من “الإدارة الذاتية”، في قرية بياندور شرقي القامشلي/قامشلو، أودى بحياة ثلاثة اشخاص، وتسبب بإصابة رابع.
عقب الاستهداف، نشرت “الإدارة الذاتية” بيان إدانة، قالت فيه أن تركيا “لم تتوانَ يوماً في وعيدها وتهديدها وضربها واستهدافاتها للمدنيين والبُنى التحتية لمناطق الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا منذ بداية الأزمة السورية على مرأى ومسمع المجتمع الدولي” مضيفةً أن الاستهدافات دليل على “وجود تفاهمات وسياسات مشتركة بين مجموعة (أستانة) والحكومة التركية.”
حدث هذا الاستهداف بالتزامن مع اليوم الأول من الجولة ال 20 من محادثات “أستانة” في سوريا، والتي عُقِدت خلال 20-21 من حزيران/يونيو 2023؛ حيث تنخرط فيها تركيا كأحد الدول الثلاث الضامنة “لخفض التصعيد”، إلى جانب كل من روسيا وإيران.
وفي الجولة الأخيرة من المحادثات، والتي أقصيت منها السلطات في شمال شرق سوريا كما جرت العادة، عبرت الدول الضامنة عن رفضها “كل محاولات خلق حقائق جديدة على الأرض ، بما في ذلك مبادرات الحكم الذاتي غير المشروعة بذريعة مكافحة الإرهاب”، بحسب البيان الختامي المشترك للجولة.
من الجدير بالذكر، أن تركيا لم تكن الدولة الضامنة الوحيدة التي “خرقت” مضامين محادثات “أستانة” الهادفة إلى “خفض التصعيد” في سوريا. فبالتزامن مع اليوم الأول من محادثات الجولة ال 20 أيضاً، قصف الطيران الحربي الروسي، منطقة الحرش وأطراف الشيخ بحر قرب مدينة إدلب، شمال غربي سورية. أوقعت الغارات التي استهدفت المنطقة، الخاضعة لسيطرة “هيئة تحرير الشام”، أضراراً مادية كبيرة في ممتلكات المدنيين.
استمر التصعيد الروسي في شمال غرب سوريا بعد انتهاء المحادثات، حيث جددت الطائرات الحربية الروسية غاراتها الجوية على ريف إدلب، بتاريخ 25 حزيران/يونيو 2023. أسفرت الغارة الروسية، عن مقتل 9 أشخاص بينهم عمال ومزارعون، وجرح 61 آخرون على الأقل، تواجد أغلبهم في سوقٍ للخضراوات على أطراف مدينة جسر الشغور في ريف إدلب الغربي.
فيما كانت الغارة تتمة لسلسلة من الضربات الجوية الروسية والقصف المدفعي المشترك مع قوات الحكومة السورية على إدلب وريفها وحلب في شمال سوريا. وثقت “سوريون” ما بين عامي 2021 و2023، 10 غارات روسية على إدلب وحلب، أدت إلى مقتل 36 شخصاً على الأقل، أغلبهم مدنيون، وإصابة 88 آخرون.
كما سجلت “سوريون”، 84 حادثة قصف مدفعي وصاروخي خلال الفترة الزمنية ذاتها، أدت إلى مقتل 45 شخصاً على الأقل في إدلب، وجرح 56 غيرهم، ومقتل 38 شخصاً على الأقل، وجرح 92 آخرون، في ريف حلب الشمالي والغربي، هذا وتشترك في بعض الهجمات على مناطق في ريف حلب الشمالي، “وحدات حماية الشعب” و قوات من “الحكومة السورية” المتمركزة في منطقة الشهباء.
هذا وتواصل الطائرات الحربية الروسية استهداف إدلب، على الرغم من أنها لا زالت خاضعة لتهدئة بموجب اتفاق موسكو، الذي وقعته كل من روسيا وتركيا في آذار/مارس 2020.
في هذا التقرير، تورد “سوريون من أجل الحقيقة والعدالة” تفاصيل استهدافين لمسيرات تركية في شمال شرقي سوريا، وتداعيات الضربات على حياة المدنيين في المنطقة، وتكشف كذلك عن تفاصيل الغارة الجوية الروسية في إدلب، متطرقةً لحالة عدم الاستقرار والمخاوف التي تحكم إدلب بسبب عمليات القصف المتكررة.
يستند هذا التقرير إلى 6 مقابلات أجراها باحثون ميدانيون في “سوريون”، بشكل فيزيائي أو عبر الإنترنت، مع خمسة مصادر في شمال شرق سوريا، من ضمنهم شهود وناجون من اعتداءات المسيرات التركية في المنطقة، بالإضافة إلى مصدر في إدلب، روى تفاصيل الغارة الجوية الروسية على سوق الخضار.
بالإضافة إلى المقابلات، تمت مراجعة مجموعة من المصادر المفتوحة التي كتبت وأوردت مواد بصرية عن ضربات المسيرات التركية وغارات الطيران الحربي الروسي، والتي تم التحقق من المعلومات الواردة فيها واستخدام العديد منها، لاسيما في تحليل الأدلة البصرية الذي أجراه خبير التحقق الرقمي في “سوريون” عن الغارة الجوية الروسية، التي استهدفت سوق الخضار بإدلب بتاريخ 25 حزيران/يونيو 2023.
-
رأي قانوني:
تتقاطع عدة منظومات قانونية عند تحليل الهجمات بالطائرات المسيّرة داخل سوريا وفقاً للقانون الدولي، وأهمها القانون الدولي الإنساني المنطبق خلال النزاع المسلح، سيادة الدول ومنظومة الدفاع عن النفس وفقاً للمادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة، وأحكام القانون الدولي لحقوق الإنسان ذات الصلة.
-
القانون الدولي الإنساني:
تشهد سوريا عدّة نزاعات مسلحة دولية وغير دولية متوازية ومنها النزاع المسلح غير الدولي القائم بين تركيا من جهة و”قسد” ووحدات حماية الشعب ووحدات حماية المرأة من جهة أخرى، والنزاع المسلح غير الدولي بين فصائل الجيش الوطني وهيئة تحرير الشام من جهة والقوات السورية والروسية من جهة أخرى.[1] ينطبق القانون الدولي الإنساني على النزاع المسلح غير الدولي ويحكم ممارسات أطراف هذا النزاع بغض النظر عن اعتراف أحد أو كل الأطراف بحالة النزاع، أو بتبريرات المشروعية أو عدم المشروعية، أو بإعطاء الحالة تسميات أخرى مثل مكافحة الإرهاب أو الدفاع عن النفس. طالما تتوفر المعايير اللازمة والمتعارف عليها لتصنيف النزاع على أنه غير دولي، تنطبق أحكام القانون الدولي الإنسانية التعاقدية والعرفية ذات الصلة. ومن هذه المعايير مستوى تنظيم المجموعات المسلحة من غير الدولة المنخرطة في النزاع، حدة وأمد العنف، والنطاق الإقليمي داخل الدولة أو عبر الحدود.[2]
يقع على عاتق أطراف هذا النزاع المسلح واجب احترام قواعد القانون الدولي الإنساني ومبادئه وخاصة الضرورة العسكرية، التمييز، التناسب، والاحتياط في كافة أعمالهم العسكرية. وفيما يتعلق باستخدام الطائرات المسيرة عن بُعد، فليس هناك في القانون الدولي الإنساني ما يحظر استخدامها أو يعتبرها بحد ذاتها من وسائل أو أساليب الحرب المحظورة، حيث أنها لا تُعتبر أسلحة عشوائية أو تسبب معاناة مفرطة أو آلاماً لا مبرر لها. وبالتالي فإن استخدامها خاضع لمبادئ القانون الدولي الإنساني وفي مقدمها التمييز، وذلك على قدم المساواة مع استخدام أي وسائل أو أساليب حرب أخرى مثل القصف المدفعي أو الهجمات الجوية من قبل القوات الروسية كما هو وارد في التقرير.
كما هو ثابت كأحد الأعراف الدولية، فإن الأهداف العسكرية فقط هي التي يجوز استهدافها خلال النزاع المسلح، سواء كانت أفراداً أو أعياناً. وعلى أطراف النزاع التمييز دائماً بين المدنيين والعسكريين/المقاتلين، وبين الأهداف العسكرية والأعيان المدنية. وتنطبق هذه القاعدة على أي هجوم بغض النظر عن أسلوبه أو وسائله، ومن ذلك الطائرات المسيرة عن بعد. فعندما يتم استخدام هذه المسيرات في الأعمال العدائية، يجب ألا يتم استخدامها لاستهداف الأفراد المدنيين أو الأعيان المدنية.
على المتحكمين بهجمات الطائرات المسيرة عن بُعد أن يتأكدوا أن المستهدَفين يستوفون المعايير اللازمة لاعتبار استهدافهم مشروعاً وفق القانون الدولي الإنساني. وبالتالي يجب أن يكونوا إما أعضاء مقاتلين منتظمين في صفوف المجموعات المسلحة المنظمة من غير الدول المنخرطة في النزاع،[3] أو أن يكونوا مدنيين يشاركون مشاركة مباشرة في الأعمال العدائية وخلال مشاركتهم فقط.[4] وكي يتم تصنيف الأفراد المستهدَفين كأعضاء منتظمين في مجموعة مسلحة منظمة وفق المعنى الوارد في المادة 1(1) من البروتوكول الإضافي الثاني، يجب أولاً التذكير أن “مصطلح مجموعة مسلحة منظمة يشير بشكل حصري إلى الجناح المسلح أو العسكري لطرف من غير الدولة: قواته المسلحة بالمعنى الوظيفي“.[5] إن عدم اعتماد هذا التمييز من قبل الجهة المهاجمة يفتح الباب على شرعنة استهداف أي شخص لمجرد انتمائه السياسي أو دعمه غير المرتبط بالأعمال العدائية لطرف من غير الدولة خلال النزاع المسلح غير الدولي. بناء على ذلك، يجب أن ينحصر الاستهداف ضد من تثبت عضويته المنتظمة في المجموعة المسلحة المنظمة، وهذه العضوية – وفقاً للجنة الدولية للصليب الأحمر – تتميز بوظيفة قتالية مستمرة وتتطلب اندماجاً مستمراً في المجموعة المسلحة المنظمة كجزء من القوات المسلحة للطرف من غير الدولة في النزاع المسلح غير الدولي.[6]
ومن المعروف أنه كلما ازداد تنظيم المجموعة المسلحة من غير الدولة من حيث الهيكلية والتراتبية والقيادة المسؤولة، ازدادت احتمالية أن تكون العضوية المنتظمة فيها أكثر وضوحاً من ناحية – على سبيل المثال – الزي الموحد، الشارات المميزة، نوعية الأسلحة، نقاط التواجد أو الخدمة، القيادات المعروفة، وغير ذلك مما يميز هؤلاء الأعضاء بوظائفهم القتالية المستمرة عن أي أفراد آخرين لا يجوز استهدافهم وفقاً لمبدأ التمييز في القانون الدولي الإنساني. مع استيفاء معايير العضوية هذه، يجيز القانون الدولي الإنساني استهداف هؤلاء الأعضاء في أي وقت، خلافاً لجواز استهداف أفراد آخرين قد يشاركون بشكل مباشر من وقت لآخر في الأعمال العدائية، حيث يمكن استهدافهم فقط خلال تلك المشاركة. وبالتالي، فإن أي أفراد يقومون بأدوار غير قتالية وإن كانت انعكاساً لانتماء أو ميل أو دعم خدمي عام لمجموعة مسلحة منظمة لا يجوز استهدافهم، لأن هذا التمييز يمثل أحد ركائز حماية المدنيين التي تعتبر جوهر القانون الدولي الإنساني، الأمر الذي أيده المقرر الخاص المعني بحالات الإعدام خارج نطاق القضاء، ميدانياً أو تعسفاً في دراسته حول قضية “القتل المستهدف”.[7]
بناءً على ذلك، لا يمكن تبرير استهداف المسيّرات لموظفين في الإدارة الذاتية أو أي أفراد آخرين لا تنطبق عليهم التصنيفات الواردة أعلاه، وقد يرقى مقتلهم ليكون جريمة حرب.[8] وعلى الرغم من أن استهداف أعضاء “قسد” أو غيرها من المجموعات المسلحة من غير الدولة قد لا يكون مخالفاً لمبدأ التمييز، إلا أن الجهات المستهدِفة لا تزال ملزَمةً بتطبيق مبدأي التناسب والاحتياط عند كل هجوم. فلا يكفي أن يكون الهجوم موجهاً ضد هؤلاء الأعضاء، ولكن يجب أن يتم الأخذ بعين الاعتبار أن الأضرار الجانبية للأعيان المدنية والإصابات العرضية للمدنيين يجب ألا تفوق الميزة العسكرية المحددة والمباشرة المتوقعة من الهجوم. وعلى الرغم من أنه ليس هناك معادلة حسابية محددة لقياس الأضرار الجانبية مقارنة بالميزة العسكرية المتوقعة، على الجهة المهاجمة أن تراعي الآثار الفورية وبعيدة الأمد على المدنيين وأن تتخذ كافة الاحتياطات الممكنة اللازمة لتقليل الضرر. فعلى سبيل المثال، على الرغم من جواز استهداف أعضاء في “قسد” في سيارتهم بواسطة طائرة مسيرة، على الجهة المهاجِمة أن تبحث عن وتقيّم وسائل أو أساليب أخرى لاستهدافهم تحقق لها نفس الميزة العسكرية بأضرار أقل بحق المدنيين، كأن تستهدفهم في منطقة غير مكتظة بالسكان. وتجدر الإشارة هنا إلى أن استخدام الطائرات المسيرة بإمكاناتها التقنية المتطورة والمعقدة قد يعتبر مؤشراً على توفر الإمكانات العسكرية والتكنولوجية لجمع المعلومات المؤكدة ولرصد وتقييم الأضرار المتوقعة بحق المدنيين وبالتالي اختيار الوسائل والأساليب البديلة الأقل ضرراً.[9]
-
سيادة الدولة والدفاع عن النفس:
قبل تناول هاتين المنظومتين المتداخلتين، لا بد من التأكيد مجدداً على أنهما يندرجان في سياق قانون مسوغات الحرب (jus ad bellum) وبالتالي لا يجب أن تؤثر أيّ من معطياتهما على نفاذ قانون الحرب (jus in bello) المتمثل بشكل رئيسي في القانون الدولي الإنساني كما ورد أعلاه، ويبقى السؤال حول مشروعية استهداف الأفراد والأعيان بواسطة الطائرات المسيرة محصوراً في تطبيق أحكام هذا القانون.
حسب المادة 2(4) من ميثاق الأمم المتحدة، يحظر على الدول استخدام القوة على أراضي دولة أخرى. ووفقاً لهذه المنظومة، يمكن ألا يُعتبر “القتل المستهدف” على أراضي دولة أخرى انتهاكاً لسيادتها في حال وافقت على ذلك، أو في سياق استخدام الدولة المهاجِمة هذه القوة كدفاع عن النفس وفق المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة في حال كانت الدولة التي يقع الاستهداف على أراضيها هي المسؤولة عن هجوم عسكري ضد الدولة المهاجِمة أو أنها غير راغبة أو غير قادرة على وقف هجوم عسكري ضدها.
وبغض النظر عن الجدل حول ما إن كان حق الدولة في الدفاع عن نفسها باستخدام القوة على أراضي دولة أخرى ينطبق في حالة الهجوم العسكري من قبل مجموعة مسلحة من غير الدولة،[10] من الثابت أن تفعيل هذا الحق يحتاج لإثبات أن “الهجوم العسكري” قد تجاوز عتبة عالية من المعايير، حيث لا يمكن اعتبار أن الهجمات المتقطعة ومنخفضة الحدة تصل إلى العتبة التي يمكن للدولة المتعرضة لهذه الهجمات أن تخرق مبدأ عدم استخدام القوة الذي يعتبر قاعدة عرفية من خلال تفعيل الحق في الدفاع عن النفس.[11] وبناءً على ذلك، فإن الذرائع الوقائية للأمن القومي لا ترقى لتكون مبرراً مشروعاً لتفعيل الحق في الدفاع عن النفس من خلال استخدام القوة على أراضي دولة أخرى.[12]
وفي كل الأحوال، لا يمكن لادعاءات الدفاع عن النفس أن تكون مبرراً للدولة المهاجِمة لانتهاك أحكام القانون الدولي الإنساني خلال الهجوم. في رأيها الاستشاري المثير للجدل،[13] اعتبرت محكمة العدل الدولية أن التهديد أو استخدام الأسلحة النووية ينتهك عموماً القانون الدولي الإنساني، ولكنها لا تستطيع أن تستنتج مشروعية أو عدم مشروعية هذا التهديد أو الاستخدام في حالات الدفاع عن النفس القصوى حيث يكون بقاء الدولة بحد ذاته على المحك.[14] بناءً على هذا الرأي، فإن قيام أي دولة بتفعيل هذا الاستثناء فائق المحدودية في أي ظرف تدعي فيه الدفاع عن النفس يعادل شرعنة إهمال والتخلي عن أحكام القانون الدولي الإنساني. تخضع تدابير الدفاع عن النفس لمبدأ التناسب الذي يفرض على الدول استخدام القوة بشكل دفاعي فقط وللمستوى الضروري للغايات الدفاعية لصد الهجوم الذي بسببه تم تفعيل الحق في الدفاع عن النفس.[15]
-
خلاصة:
في النزاعات المسلحة المتوازية في سوريا، يعتبر القانون الدولي الإنساني المنظومة القانونية الرئيسية التي يجب الالتزام بها من قبل جميع الأطراف، بالإضافة إلى أحكام القانون الدولي لحقوق الإنساني التي يجب أن تستمر في النفاذ حتى في حالات النزاع المسلح. وبالتالي، فإن تفعيل النظام القانوني للدفاع عن النفس لا يلغي أو يحل محل أو يجيز تجاوز القانون النافذ خلال النزاع المسلح. عدا عن ذلك، إن ادعاءات حماية الأمن القومي والتصدي الوقائي لما يسمى بـ”الإرهاب” لا تعتبر مبرراً قانونياً لاستخدام القوة على أراضي دولة أخرى كونها لا تستوفي معايير الخطر والحدة المطلوبين لتفعيل الحق في الدفاع عن النفس واستخدام القوة.
وفي النظر إلى الممارسات التي يعرضها التقرير، يجب أن يبقى التركيز على أن استخدام الطائرات المسيرة عن بعد وغيرها من وسائل وأساليب الحرب من قبل تركيا وروسيا يجب أن يخضع لأحكام القانون الدولي الإنساني، خاصة مبادئ التمييز والتناسب والاحتياط. إن استهداف الأفراد على أساس انتماءاتهم السياسية أو وظائفهم المدنية لصالح جهة من غير الدولة يعتبر مخالفاً لجوهر القانون الدولي الإنساني الذي يهدف لحماية المدنيين من خلال تمييزهم عن المقاتلين. كما أن استهداف الأعيان المدنية لمجرد الشك في استخدامها لأغراض عسكرية دون الحد المطلوب من معايير التناسب والاحتياط يعرّض منظومة قوانين الحرب بأكملها لخطر الانتهاك من قبل جميع الأطراف ويكبّد المدنيين إصابات وخسائر لا مبرر لها.
لقراءة التقرير كاملاً يرجى الضغط هنا
[1] للاطلاع على تصنيف النزاعات المسلحة في سوريا والأطراف المنخرطة فيها:
Geneva Academy, RULAC, Syria (Available at: https://www.rulac.org/browse/conflicts/non-international-armed-conflicts-in-syria ; https://www.rulac.org/browse/conflicts/international-armed-conflict-in-syria ; https://www.rulac.org/browse/conflicts/military-occupation-of-syria ; https://www.rulac.org/browse/conflicts/military-occupaton-of-syria-by-israel ).
[2] For further details, see: Lindsay Moir, The Law of Internal Armed Conflict, Cambridge University Press (2002).
[3] See: International Institute of Humanitarian Law, The Manual on the Law of Non-International Armed Conflict, San Remo (2006), p. 4.
[4] للاطلاع على تحليل وتوجيهات تفصيلية بخصوص المشاركة المباشرة في الأعمال العدائية، انظر:
Nils Melzer, Interpretive Guidance on the Notion of Direct Participation in Hostilities under International Humanitarian Law, ICRC (2009) (Available at: https://www.icrc.org/en/doc/assets/files/other/icrc-002-0990.pdf).
[5] Nils Melzer, Interpretive Guidance on the Notion of Direct Participation in Hostilities under International Humanitarian Law, ICRC (2009), p. 32 (Available at: https://www.icrc.org/en/doc/assets/files/other/icrc-002-0990.pdf).
[6] Ibid. p. 34.
[7] Human Rights Council, Report of the Special rapporteur on extrajudicial, summary or arbitrary executions, Study on targeted killings, A/HRC/14/24/Add.6 (28 May 2010), p. 21.
[8] ميثاق روما المؤسس لمحكمة الجنايات الدولية، المادة 8.2.c.i.
[9] Michael N. Schmitt, Precision Attack and International Humanitarian Law, 87 International Review of the Red Cross 445 (Sept. 2005).
[10] Legal Consequences of the Construction of a Wall in the Occupied Palestinian Territory, Advisory Opinion, I.C.J. reports 2004, p. 136, para. 139.
[11] Armed Activities on the Territory of the Congo (Democratic Republic of the Congo v. Uganda), Judgment, I.C.J. Reports 2005, p. 168, paras. 106-147.
[12] Armed Activities on the Territory of the Congo (Democratic Republic of the Congo v. Uganda), Judgment, I.C.J. Reports 2005, p. 168, para. 143.
[13] See, for example: Christopher Greenwood, The Advisory Opinion on Nuclear Weapons and the Contribution of the International Court to International Humanitarian Law, International Review of the Red Cross, No. 316, p. 65 (1997).
[14] Legality of the Threat or Use of Nuclear Weapons, Advisory Opinion, I.C.J. Reports 1996, p. 226, paras. 95-97.
[15] Legality of the Threat or Use of Nuclear Weapons, Advisory Opinion, I.C.J, Dissenting Opinion of Judge Higgins, para. 5.