خلفية:
شهدت مناطق مختلفة في الجنوب السوري (محافظتي درعا والقنيطرة تحديداً)، موجة نزوح جديدة، اعتبرها سكان محليون بأنها ربّما تكون الأضخم منذ العام 2014، حيث قدّر ناشطون لسوريون من أجل الحقيقة والعدالة، أعداد الذين نزحوا/ هاجروا من مناطقهم بعد توقيع “اتفاق التسوية”[1]، بأكثر من 25000[2] شاب[3] منذ بداية العام 2019، وحتى لحظة كتابة هذا التقرير في 7 آب/أغسطس 2019. إذ يغادر يومياً محافظتي درعا والقنيطرة ما بين 10- 20 شخصاً على أقل تقدير، بسبب تردي الأوضاع الأمنية والمعيشية، ويتعرّض الأشخاص الراغبين بالهجرة/الخروج/النزوح خلال رحلة التهريب تلك لجميع أصناف الابتزاز، ففي كثير من الأحيان يتم طلب مبالغ مالية ضخمة، تصل أحياناً لأكثر من 3000 دولار أميركي، فضلاً عن تسليم عدد منهم للأجهزة السورية، وذلك من خلال ضباط تابعين لها ومتورّطين في شبكات التهريب تلك.
وبحسب العديد من الشهادات التي حصلت عليها سوريون من أجل الحقيقة والعدالة، فإنّ هنالك قرابة عشرين مهرّباً ينتمون لشبكات تهريب كبيرة ومنظمّة في الجنوب السوري، كما أنّ هنالك ضباطاً برتب مختلفة في الجيش النظامي السوري، يديرون أغلب عمليات التهريب تلك، حيث يقومون بنقل الشبان الراغبين بالهجرة بسياراتهم العسكرية، من خلال مهمات عسكرية وأمنية، يتم من خلالها الانتقال من محافظة درعا إلى إدلب بسهولة.
كما أشار العديد من شهود العيان لسوريون من أجل الحقيقة والعدالة، بأنّ عمليات الهجرة في الجنوب السوري تبدو منظمّة، ويرّجج أنّ القوات الحكومية السورية هي من تقف خلفها، بهدف تفريغ الجنوب السوري من السكان والشباب والنخب، لذا فأنها تلجأ إلى تسهيل عمليات الهجرة/النزوح، وفي نفس الوقت تقوم باعتقال من لديهم لوائح أمنية، إمّا لابتزازهم مالياً من قبل عناصر الأمن السوري، أو تسليمهم للأجهزة الأمنية كنوع من الانتقام.
وقال الباحث الميداني لدى سوريون من أجل الحقيقة والعدالة، بأنّ العديد من الشبان في الجنوب السوري، كان قد تمّ احتجازهم وابتزاز ذويهم خلال رحلة البحث عن حياة أفضل وسلوكهم طرق التهريب، فهناك الكثير من الشبان ممن تمّ اعتقالهم ولا أحد يعلم عن مصيرهم شيئاً، حيث اعتقلت القوات الحكومية السورية أواخر شهر تشرين الثاني/نوفمبر 2018، 12 شاباً من مدينة الحارة وذلك في كمين نصبه لهم حاجز يتبع لفرع الأمن العسكري بالقرب من مدينة زمرين (شمال غرب درعا). كما اعتقلت هذه القوات في 19 حزيران/يونيو 2018، 7 شبان كانوا في طريقهم من درعا إلى مناطق سيطرة المجموعات المناهضة للحكومة في الشمال السوري، حيث تمّ اعتقالهم في ريف حماة الغربي، وهم ثلاثة أشخاص من مدينة الحارة شمال غربي درعا، وأربعة آخرون من بلدتي صيدا والحراك شرقي درعا، حيث مازال مصيرهم مجهولاً حتى لحظة إعداد هذا التقرير في 7 آب/أغسطس 2019.[4]
1. تعدّدت الأسباب والخوف واحد:
لم يكن ما سُمي بـ “اتفاق التسوية” في الجنوب السوري، اتفاقا عادلاً للصلح كما اعتبر الكثير من أبنائه، بقدر ما هو “اتفاق استسلام”، مع وجود ضمانات روسية بعدم التعرّض لأحد بسبب نشاطه المناهض للحكومة السورية، خلال سنوات سبقت الاتفاق، حيث نصّ اتفاق التسوية على عدم التعرّض للأشخاص، وإزالة أسماء المطلوبين/ات، وضمانات بعدم حدوث أي أفعال انتقامية من قِبل الحكومة السورية وأفرعها الأمنية، وعودة مؤسسات الدولة لعملها، والطلاب والموظفين لجامعاتهم ووظائفهم.
إنّ ترهل الدولة وتفشي منظومة الفساد، جعلت أبناء الجنوب السوري وعلى وجه الخصوص الفئات المتوسطة منها، لتكون من أكثر المتشائمين بمستقبل أفضل لهم ولبلادهم، الأمر الذي خلق منظومة فكرية، دفعت العديد من الشبان لاختيار الهجرة/النزوح بدلاً من أي خيار آخر، فتوتر الوضع الأمني وتدهور الوضع الاقتصادي والمعيشي وارتفاع معدلات البطالة وسحب الشبان للخدمة الإلزامية، وانتهاء مهلة التسوية، كلّها أسباب ساهمت بدفع شبان الجنوب السوري إلى الهجرة من البلاد عبر سلوك طرق تهريب محفوفة بالمخاطر.
-
الوضع الأمنيّ:
اتّسم الوضع الأمنّي العام في الجنوب السوري، خصوصاً خلال شهري تموز/يوليو وحزيران/يونيو 2019، بعودة عملية الاغتيالات التي طالت ناشطين ومعارضين سابقين، سواء كانوا عسكريين أو مدنيين، وكذلك انتشار ظاهرة محاولات اغتيال رؤوساء البلديات، واغتيال أشخاص معروفين بولائهم المطلق للحكومة السورية، مثل “المخبرين” وبعض المشايخ ورجال الدين.[5]
كما يشهد الوضع العام انتشار كبير لعمليات الاعتقال، يقوم بها عناصر تابعون للمخابرات الجوية بالدرجة الأولى وفرع الأمن العسكري، بتهمٍ كالتعامل مع اسرائيل، أو تنظيم “داعش” أو “جبهة النصرة/هيئة تحرير الشام”، فضلاً عن العمل في منظمات معارضة كعناصر منظمة “الخوذ البيضاء/الدفاع المدني” وغيرها، كما يتم الاعتقال بحجج دعاوي الحق الشخصي.
وبحسب الباحث الميداني لدى سوريون من أجل الحقيقة والعدالة، فقد قُدّر عدد من اعتقلتهم الحواجز العسكرية التابعة للقوات الحكومية السورية، في النصف الأول من العام 2019، بنحو 96 حالة اعتقال في محافظة درعا، ليصل بذلك عدد المحتجزين منذ تموز/يوليو 2018 وحتى تموز/يوليو 2019، قرابة 692 محتجزًا من أبناء المنطقة، وغالبيتهم من حَمَلَة بطاقات التسوية، ومن بينهم شخصيات عملت سابقًا في المجالس المحلية المعارضة وفي مجال الإغاثة، وقد تمّ تعزيز هذه الإجراءات بزرع عدّة حواجز عسكرية تابعة للقوات الحكومية السورية، على مداخل المدن والقرى في الجنوب السوري، حيث تشير التقديرات إلى انتشار أكثر من 118 حاجزًا عسكرياً في محافظة درعا، وأكثر من 17 حاجزاً في محافظة القنيطرة.
وتمّ توثيق 112 محاولة وعملية اغتيال بعد توقيع اتفاق التسوية في الجنوب السوري، أسفرت عن مقتل 51 شخصًا وإصابة 38 آخرين، من بينهم عاملون سابقون في المجالس المحلية وتسعة قياديين في الفصائل العسكرية ممن وقعوا على اتفاق التسوية، وذلك بحسب العديد من الناشطين الميدانيين في محافظة درعا، يضاف إلى ذلك 25 عملية محاولة اغتيال نفذّها مجهولون في حزيران/يونيو 2019، وقد أدت لمقتل 13 شخصًا وإصابة 9 آخرين، وقد تطابقت هذه الإحصائية مع الإحصائية التي أعدّها مكتب توثيق الشهداء في درعا[6]، والذي كان قد وثق خلال الفترة الواقعة ما بين 1 آب/أغسطس 2018 ولغاية 31 تموز/يوليو 2019، 14 محاولة اغتيال تعرض لها قادة وعناصر سابقون في المعارضة المسلّحة، ما أدى إلى مقتل 12 شخصاً منهم، بالإضافة إلى 77 عملية ومحاولة اغتيال طالت قادة وعناصر من فصائل التسوية ممن التحقوا بالقوات الحكومية السورية بعد الاتفاقية، وقد أدت هذه العمليات إلى مقتل 45 شخصاً منهم، بالإضافة إلى 34 محاولة اغتيال تعرض لها مدنيون وقد أسفرت عن مقتل 16 شخصاً منهم.[7]
-
الوضع الخدمي والمعيشيّ:
ليس الوضع الخدمي والمعيشي في الجنوب السوري بأحسن حالاً، فالسكان المحليون يستشعرون الفرق في الخدمات وتقديم المساعدات، عماّ كانت عليه قبل توقيع اتفاق التسوية، إذ إنّ غياب المنظمات الدولية في تقديم المساعدات والخدمات الإنسانية[8]، واقتصار العمل على منظمة الهلال الأحمر العربي السوري-فرع درعا وفرع القنيطرة مع بعض الجمعيات المحلية التي يقتصر عملها على الدعم النفسي واقامة الندوات. كل ذلك ساهم في تراجع حاد في المستوى المعيشي وانخفاض معدلات الدخل، وتضخم هائل في الأسعار عززّها تدهور سعر صرف الليرة السورية أمام الدولار، يُضاف إلى ذلك تفشي ظاهرة البطالة، فليس هنالك فرص عمل، وتمّ صرف أعداد ضخمة من الموظفين من وظائفهم لأسباب عدّة، بعضها بحجج عدم أداء الخدمة الإلزامية، وبعضها العمل في مؤسسات معارضة للحكومة السورية في سنوات سابقة لاتفاق التسوية[9]، الأمر الذي دفع فئات كبيرة من الشبان للعمل في الزراعة، لكنهم سرعان ما اضطروا لترك العمل في الأرض باكراً، وذلك لارتفاع أسعار المحروقات وصعوبة تسويق المنتجات وكذلك التغير المناخي هذا العام، حيث أدى هطول الأمطار لوقت متأخر في العام 2019، من ايقاع خسارات كبيرة في الموسم الزراعي، كما زاد من تدهور وضعها اندلاع حرائق كبيرة في حقول القمح والشعير والتي يراها بعض السكان المحليون بالمفتعلة دون تحديد الجهات التي قد تقف ورائها.
-
شبح التجنيد الإجباري:
أكثر من 90% من الشبان في الجنوب السوري هم من المتخلّفين عن الخدمة الإلزامية والاحتياطية في صفوف الجيش النظامي السوري، لذا يهاجرون هرباً من أداء هذه الخدمة، ويفضلون سلوك طرق التهريب المحفوفة بالمخاطر، والسبب في ذلك يعود إلى مدة الخدمة الطويلة، إذ من غير المعروف متى سيتم تسريحهم، فضلاً عن زجّ العديد من التحقوا بالخدمة العسكرية على جبهات القتال المشتعلة شمال البلاد، إذ لا تكاد تخلو عائلة في الجنوب السوري من وجود شاب أو اثنين مطلوبين للخدمة العسكرية.
وأفاد الباحث الميداني لدى سوريون من أجل الحقيقة والعدالة، بأنّ هنالك أكثر من 400 شاب من محافظتي درعا والقنيطرة، كانوا قد فرّوا خلال الأشهر الأخيرة من قطعهم العسكرية، بعدما تم زجهم بالقتال في جبهات الشمال.
وحول ذلك تحدّث “محمد. ج” أحد شبان الجنوب السوري، الفارين من الخدمة العسكرية، والذي كان قد التحق بها منذ شهر آذار/مارس 2019، حيث قال في شهادته لسوريون من أجل الحقيقة والعدالة:
“المعارك في الشمال السوري على ضراوتها استنزفت قسماً كبيراً من رفاقي، وكنت أنتظر أن يقوم الضابط المسؤول بمنحي إجازة حتى أتمكن من الهرب، فمن نقاتلهم هم إخوتنا في إدلب، وأنا لا أقاتل إخواني، وبالفعل ما إن حصلت على إجازة حتى لذت بالفرار ولن أعود حتى يتم إلقاء القبض علي.”
-
انتهاء مهلة التسوية:
من بين الأسباب التي دفعت قسماً كبيراً من أبناء الجنوب السوري، للهجرة أيضاً هو انتهاء مهلة التسوية، والتي قد انتهت مهلتها الثانية في حزيران/يونيو 2019، وقد قام مكتب الأمن الوطني التابع للحكومة السورية بتجديد “مهلة التسوية” للمرة الأولى في 24 كانون الأول/ديسمبر 2018، حتى 24 حزيران/يونيو 2019، وذلك بعدما انتهت الشهور الستة الأولى منها.
على إثر ذلك توترت الأوضاع في الجنوب السوري، وارتفعت مطالب بتمديد تأجيل الشبان المتخلفين عن الخدمة العسكرية، وجرت بعض محاولات الاعتقالات لتزيد من الوضع سوءاً، فمع انتهاء المهلة الثانية مثلاً، قام عناصر تابعون للمخابرات الحوية باعتقال بعض عناصر للدفاع المدني في القنيطرة، الأمر الذي دفع عدد كبير من الشبان لترك البلاد واختيار طريق الهجرة.
وبحسب الباحث الميداني لدى سوريون من أجل الحقيقة والعدالة، فقد أصبحت الهجرة خارج البلاد، حديث الشارع لدى الشبان في الجنوب السوري، فلا تكاد تخلو جلسة من الجلسات العائلية من الحديث عن رغبة الجميع بترك البلاد.
وفي استطلاع رأي سريع[10] أجراه الباحث الميداني لدى سوريون من أجل الحقيقة والعدالة، لحوالي 50 شاب في الجنوب السوري لمعرفة مدى رضاهم عن الواقع المعيشي والأمني في مناطقهم بعد توقيع اتفاق التسوية، وعن رغبتهم بالهجرة خارج البلاد، أجاب 46 شاب عن عدم رضاهم عن معيشتهم ورغبتهم بالهجرة خارج البلاد لعيش حياة أفضل، لكن ما يحول دون إقدامهم على الهجرة هو خطورة الطريق، بعد شيوع حالات الخطف والابتزاز وكلفته المرتفعة.، حيث يسلك أبناء الجنوب السوري طريقين للهروب من هذا الواقع وهما:
- طريق إدلب ثمّ تركيا: وهو أكثر الطرق خطورة بالنسبة لأبناء الجنوب السوري، وذلك لبعد المسافة التي تربط الجنوب بالشمال، إذ يضطر الشاب لقطع مسافة تزيد عن (272 كم)، ويقوم المهرب بنقل الشبان من مناطق مختلفة من درعا ومن دمشق وفق اتفاق يتم بين الطرفين.
وفي هذا الخصوص علم الباحث الميداني لدى سوريون أجل الحقيقة والعدالة، من أحد المصادر المحلية، حول رحلة التهريب تلك قائلاً:
“تكلّف عملية نقل الشبان من الجنوب السوري حتى إدلب 2750 دولار أميركي، يضاف إليها 250 دولار للراغبين بدخول الأراضي التركية، حيث يتم نقل الشبان إلى دمشق، ويبيتوا ليلتهم هناك حتى يجتمع الجميع فينطلقوا في اليوم التالي أو الذي بعده، وذلك بعد الاتفاق مع أحد ضباط الجيش السوري.”
“عمر.م” أحد العاملين في شبكة التهريب تلك، أكدّ لسوريون من أجل الحقيقة والعدالة ما سبق قائلاً، وقال بأنه يقوم بالاتفاق مع أحد الضباط في الجيش النظامي السوري، من أجل نقل هؤلاء الشبان إما على دفعات أو دفعة واحدة، مشيراً إلى أنّ هنالك مهربين آخرين يقومون بشراء الحواجز العسكرية التابعة للقوات الحكومية السورية، بمبالغ محددة وهي طريقة كثيرة الخطورة ومثل “اليانصيب” على حد وصفه، وخاصةً عندما يصدف أن يكون الحاجز قد تم تبديله في اللحظة الاخيرة فيتعرض الشبان للخطر.
وأكمل حديثه بالقول:
“يتم إيصال الشبان إلى محافظة حلب، حيث يبيتوا مرة أخرى ليلة أو ليلتان في منزل الضابط الذي نقلهم، إلى أن نكون قد رتبنا كيفية الدخول للأراضي الواقعة تحت سيطرة المعارضة المسلّحة، فنحن نتعامل مع بعض الفصائل العسكرية المعارضة بعد اتفاق على مبالغ نقدية معينة، وعلى هذا الأساس نقوم بإدخال الشبان إلى محافظة ادلب، دون أن يصاب أحدهم بأذى.”
- طريق حمص ثمّ لبنان: وهو طريق يحبذّه من لديه نية الاختباء مؤقتاً من الحرب في سوريا، ولديه أمل بأنّ الأوضاع ستتغير عما قريب، فهو طريق قليل التكلفة مقارنة بطريق إدلب ولا يأخذ الكثير من الوقت، كما أنه أقل خطورة، إذ يكلّف هذا الطريق ما بين 1200- 1400 دولار أميركي للشخص الواحد.
وقد علم الباحث الميداني لدى سوريون من أجل الحقيقة والعدالة من أحد المصادر المحلية في الجنوب السوري، بأنه يتم نقل الشبان الراغبين بسلوك هذا الطريق، من الجنوب السوري إلى دمشق، عن طريق أحد العملاء والذي عادةّ ما يكون رجلاً ذو رتبة عسكرية من الجيش النظامي السوري، ومن ثمّ يتم التوجه بهم إلى حمص، حيث يتم التنسيق مسبقاً مع بعض عناصر من الجيش اللبناني، وبعدها يسير الشبان مسافة لا تزيد عن 200 متر إلى الداخل اللبناني، حيث يكون هناك حافلة بانتظارهم مهمتها نقل الشبان إلى بيروت.
2. “هنا عرفت أنّ الضابط الذي قام بتهريبه عمد إلى تسليمه لأحد الحواجز العسكرية في مدينة حماة”:
“عبد الله.ع” من مواليد بلدة تل شهاب في درعا عام 1987، كان قد حصل مسبقاً على وثيقة تسوية لوضعه، لكن الوضع الاقتصادي السيء وانعدام فرص العمل، إضافة إلى أنّ ممارسات الأمن العسكري في منطقته من استجواب متكرر له، على خلفية نشاطه السابق كعامل إغاثة في إحدى منظمات المجتمع المدني، دفعه لاختيار طريق التهريب باتجاه إدلب ومنها إلى تركيا، حيث تحدّث شقيقه لسوريون من أجل الحقيقة والعدالة في هذا الصدد قائلاً:
“لم يكن قراره في الهجرة مفاجئ للعائلة، فكثرُ هم رفاقه الذين قاموا بالهجرة من البلدة إما باتجاه إدلب أو إلى لبنان، فالوضع هنا لم يعد يطاق، لا عمل ولا أمان، كما أنّ عناصر الأمن باتوا يمارسوا الابتزاز على الشباب كفرض من فروض واجباتهم، فقد كانوا يستدعون أخي على الدوام إلى مقرهم لاستجوابه وكانوا يطلبون منه عنوةً مبالغ مالية كبيرة “لكي يقوموا بشطب التقارير الأمنية عنه” كما يدّعون، فلم يجد أمامه سوى الهجرة والفرار من البلدة كأفضل خيار.”
وأضاف الشاهد في حديثه حول فقدان الاتصال بشقيقه خلال شهر أيار/مايو 2019، حيث قال:
“قام عبد الله بالتنسيق مع بعض المهرّبين، ولم أعرف اسم هذا المهرّب ولا كيف حصل على رقمه، لكنني أذكر أنه قال لي بأنه رجل جيد، وقد قام بتهريب شبان كثر دون أي مشاكل، وفي 14 أيار/مايو 2019، جمع حقيبته الصغيرة وقام بتوديعنا، ولم يحمل أغراضاً كثيرة، حيث قال لنا أنّ الضابط الذي سيقلّه، طلب منه عدم جلب الكثير من الأمتعة، وأنّ هذا الضابط يحمل مهمة باتجاه الشمال السوري لذا لن يتعرض أحد معه للأذى.”
وأشار الشاهد إلى أنه وفي اليوم التالي اتصل شقيقه وفي لهجته تعب، وأنبأ عائلته بأنه وصل إلى مدينة حماه، وطلب منهم تحويل كامل المبلغ المتبقي للمهرّب، وتابع قائلاً:
“سألته حينها هل أنت بصحة جيدة، قال “نعم”، وطلب مني الاعتناء بأمي، وأنا بدوري قمت بتحويل مبلغ 2500 دولار أميركي للمهرب، وبعدها لم يعد هاتف شقيقي يعمل، فحاولت الاتصال به أكثر من مرة دون فائدة، وبعد قرابة أسبوع اتصل بنا شخص وقال إنه من الأمن السوري، وبأنّ مروان محتجز لديه في مدينة حماة، وطلب مني مبالغ مالية ضخمة حتى يقوم بالإفراج عنه، وهنا عرفت أنّ الضابط الذي قام بنقله قام بتسليمه لأحد الحواجز العسكرية في المدينة، فحاولت التفاوض معهم لكنهم أصرّوا على أخذ عشرة ملايين ليرة سورية كي يقوموا بإطلاق سراح أخي، لذا قمنا ببيع قطعة أرض حتى نؤمن باقي المبلغ، بعدها ذهب أبي لمدينة حماة للقائهم، وقام بدفع المبلغ لهم كاملاً لكنهم لم يفرجوا عن أخي، وقالوا لوالدي بأنه سيتم تحويله إلى فرع التحقيق، وحلفوا له أنه بأمان، وسيلتحق بعدها بالجيش فهو متخلّف عن الخدمة الالزامية، ومنذ ذاك اليوم ولا نعلم عنه شيء سوى أنه محتجز في أحد الفروع الأمنية في مدينة حماه، حتى يتم سوقه للخدمة العسكرية.”
3. “كنا ثلاثة أشخاص ومعنا طفل في العاشرة”:
لم يكن “عبد الله” وحده من تعرّض لهذا النوع من الابتزاز والاعتقال، فـ “عامر.م (47 عاماً) وابنه عمر (10 أعوام)، و قريبيه أحمد (32 عاماً) وغيث (28 عاماً) جميعهم من سكان مدينة جاسم (شمال غرب درعا) خاضوا نفس الرحلة باتجاه الشمال السوري وتعرضوا للمخاطر، ولكل واحد منهم سبب في ترك البلد، فقد كان تعرض “عامر” للاستجواب من قبل أجهزة الأمن السورية مراراً وتكراراً، وحتى يتمكن من العودة لوظيفته كمستخدم في إحدى مدارس مدينة جاسم، كان عليه مراجعة فرع فلسطين، لهذا خشي أن يتم اعتقاله فقرر سلوك طريق التهريب في شهر حزيران/يونيو 2019، وحول ذلك تحدّث “غيث.ح” لسوريون من أجل الحقيقة والعدالة قائلاً:
“قررنا ترك البلاد حين رأينا أنّ الحال أصبحت سيئة، فـ “عامر” مطلوب أمنياً، و “أحمد” مطلوب لخدمة الاحتياط، أما أنا فقد كنت متخلفاً عن الخدمة العسكرية، لذا اتفقنا مع أحد المهرّبين على عجل، وقطعنا مسافة كبيرة، وحين وصلنا على مقربة من المنطقة التي سنعبر منها إلى محافظة إدلب، كنا سبعة أشخاص، وكان معنا شابان من منطقة الحجر الأسود بدمشق وآخر من القنيطرة، وكان “عامر” قد أحضر معه ابنه وعمره (10) أعوام، حتى يتمكن من لم شمل زوجته وأولاده بسهولة في حال وصل إلى أوروبا مع ابنه.”
وأضاف “غيث.ح” حول ما جرى معهم لاحقاً خلال رحلة تهريبهم بالقرب من محافظة إدلب، حيث قال:
“طلب منا المهرّب العبور دفعة واحد، لكنّ “عامر” رفض ذلك، واقترح أن نعبر على دفعتين، وبالفعل قمنا بتقسيم أنفسنا إلى مجموعتين، المجموعة الأولى كانت تضم أحمد وشابين من دمشق، فيما كنت أنا وعامر وابنه والشاب من القنيطرة في المجموعة الثانية. انطلقت المجموعة الأولى بعد صلاة الفجر، وبعد حوالي ساعة أخبرنا المهرب أنّ الشباب دخلوا إدلب سالمين، فأصرّ عامر أن يتصل بهم حتى يتأكد بنفسه قبل أن تنطلق مجموعته، فحاول المهرب التملّص من الموضوع، وقال لنا أنه سيذهب ليتأكد من الأمر بنفسه، وبالفعل ذهب ولم يعد، لكنه اتصل بنا وأخبرنا أنّ حاجزاً عسكرياً مفاجئاً يتبع للنظام قام بزرع كمين لهم وقام باعتقالهم.”
وتابع “غيث.ح” بأنّ قريبه “أحمد” كان قد تعرّض للاعتقال من قبل أحد الحواجز العسكرية التابعة للقوات الحكومية السورية قبل عبورهم إلى محافظة إدلب، حيث تبّين لهم لاحقاً أنّ للمهرب يد في تسليمهم، وعلمت عائلته لاحقاً ومن خلال تعيين أحد المحامين، بأنّ “أحمد” محتجز في أحد الأفرع الأمنية بمحافظة حماه.
4. “أخباره انقطعت في الليلة التي كان سيعبر بها الحدود اللبنانية-السورية”:
لم يختلف مصير “طارق. ش” من مواليد ريف القنيطرة الجنوبي عام 1984، عن مصير بقية الشبان، فقد كان قد أجرى “تسوية لوضعه” حتى يتمكن من السفر إلى لبنان من أجل العمل، وبعد أن تعذّر عليه السفر بطريقة نظامية، قرر سلوك طريق التهريب، حيث روى أحد أصدقائه لسوريون من أجل الحقيقة والعدالة قائلاً:
“عندما حاول طارق السفر إلى لبنان بطريقة نظامية، تمّ رفض دخوله عند الحدود السورية-اللبنانية، وطلبوا منه مراجعة الفرع 220 في محافظة القنيطرة، فراجع طارق فرع القنيطرة، وهناك تمّ اتهامه بأنه مسلّح، رغم أنه لم يتدخل بأي نشاط مدني أو عسكري مناهض للحكومة في السنوات التي سبقت اتفاق التسوية، لكنّ المحقق أخبره بأنّ عليه اعتراف سابق بأنه مسلّح، فبقي طارق في منزله ينتظر منحه إذناً للسفر، وبقي قرابة الثلاثة أشهر أو يزيد وهو يراجع الفرع لاستكمال التحقيق وعلى فترات متقطعة، ولمّا فقد الأمل قرر السفر إلى لبنان بطريقة غير شرعية في شهر آذار/مارس 2019، وبالفعل اتصل بمهرب وقاما بترتيب موضوع السفر، ووصل طارق بيروت خلال مدة قصيرة بدون أي مشاكل، لكنّ المشكلة بدأت حين تعرّض والده لحادث سير مرّوع أدخله المشفى وأبقاه في غيبوبة، لهذا قرر طارق العودة لسوريا ليدير شؤون أهله ويرى والده، فعاد من بيروت بطريقة غير شرعية ومع نفس المهرب لكن أخباره انقطعت في الليلة التي كان سيعبر بها الحدود للداخل السوري. لا ندري ما حلّ به، لكنّ الجميع يقول أنّ المهرّب قام بتسليمه للنظام، فأغلب المهرّبين هم ضباط وأشخاص محسوبون على النظام قام بوضعهم النظام حتى يقوموا بإلقاء القبض على المطلوبين.”
————————————-
[1] في شهر تموز/يوليو 2018، سيطرت القوات الحكومية السورية على محافظة درعا، بموجب اتفاق تسوية ما بينها وبين فصائل المعارضة السورية المسلّحة، وقد تمّ هذا الاتفاق على مرحلتين وبضمانة الشرطة العسكرية الروسية، حيث شملت المرحلة الأولى الريف الشمالي ومنطقة اللجاة، فيما شملت المرحلة الثانية باقي المحافظة عدا حوض اليرموك، والذي سيطرت عليه القوات النظامية السورية في بداية شهر آب/أغسطس 2018.
[2] تصحيح؛ في النسخة التي تمّ نشرها بتاريخ 9 آب/أغسطس 2019، تمّ ذكر أنّ الرقم التقديري يبلغ حوالي 40 ألف، وبعد عملية إعادة تقدير ومقاطعة معلومات من قبل الباحثين الميدانيين تبيّن أنّ الرقم التقديري هو أكثر من 25 ألف.
[3] بحسب الباحث الميداني لدى سوريون من أجل الحقيقة والعدالة، فقد هاجر آلاف الشبان من أصل 1,298,752 نسمة في محافظة درعا و قرابة 80,000 في محافظة القنيطرة، علماً أنه غادر الجنوب السوري قرابة 12000 مسلح باتجاه الشمال ممن رفضوا “اتفاق التسوية”.
[4] تصحيح وتحديث، تبيّن أنّ الشباب الـ12 تمّ إطلاق سراحهم بعد حوالي ثلاثة أشهر من اعتقالهم. (إضافة للنسخة المصححة بتاريخ 21 آب/أغسطس 2019).
[5] وكانت سوريون من أجل الحقيقة والعدالة قد أعدّت تقريراً سابقاً حول الفلتان الأمني وانتشار عمليات الاغتيال في محافظة درعا عقب سيطرة القوات الحكومية السورية، وذلك في 25 شباط/فبراير 2019. (آخر زيارة بتاريخ 7 آب/أغسطس 2019). https://stj-sy.org/ar/1195/.
[6]” استمرار عمليات ومحاولات الاغتيال خلال شهر حزيران 2019″، مكتب توثيق الشهداء في درعا، في 1 تموز/يوليو 2019. آخر زيارة بتاريخ 20 آب/أغسطس 2019. http://daraamartyrs.org/?p=19070. (إضافة للنسخة المصححة بتاريخ 21 آب/أغسطس 2019).
[7] “اتفاق الانتهاكات -تقرير العام الأول من اتفاقية التسوية في محافظة درعا”، مكتب توثيق الشهداء في درعا في 3 آب/أغسطس 2019. آخر زيارة بتاريخ 20 آب/أغسطس 2019. http://daraamartyrs.org/?p=19127. (إضافة للنسخة المصححة بتاريخ 21 آب/أغسطس 2019).
[8] رصدت سوريون من أجل الحقيقة والعدالة عمل قرابة 100 مؤسسة مجتمع مدني، تنوعت مهامها ومارست نشاطها في الجنوب السوري منذ نهاية العام 2012 وحتى منتصف العام 2018، وقد تبنت هذه المؤسسات برامج مختلفة في دعم الاحتياجات الإنسانية للمنكوبين في الجنوب السوري، وخارجه أحياناً، لتتلاشى جميعها لاحقاً إما بخروجها من المنطقة أو بحلّ نفسها بُعيد عودة الحكومة السورية.
[9] وكانت سوريون من أجل الحقيقة والعدالة قد اعدت تقريراً آخراً حول عمليات الفصل الجماعية التي طالت 93 مدرساَ في محافظة درعا، دون إعلامهم بالأسباب التي استوجبت ذلك، في 17 كانون الأول/ديسمبر 2018. (آخر زيارة بتاريخ 7 آب/أغسطس 2019). https://stj-sy.org/ar/1093/.
[10] أجري الاستطلاع بتاريخ 19 و20 و21 حزيران/ يونيو 2019، وقد شمل الاستطلاع 50 شاباً (37 شاباً من مناطق مختلفة في درعا و 13 شاباً من مناطق مختلفة في القنيطرة).