ما زالت النتائج الكارثية لزلزال 6 شباط/فبراير 2023، الذي أصاب سوريا وتركيا لم تكشف بعد بشكل كامل، لكن وبحسب الإحصاءات الأخيرة فقد تسبب الزلزال بموت أكثر من (50) ألف شخصٍ، منهم ما لا يقل عن 5900 شخص في عموم سوريا، وآلاف من السوريين/ات الآخرين المقيمين/ات في تركيا.
وما زال عدد المفقودين/ات غير معروف ولكنه يقدر بالآلاف. وبحسب الأمم المتحدة، فقد بلغ إجمالي عدد المتأثرين بالزلزال في سوريا حوالي 9 مليون، منهم 2.5 مليون طفل.
ربما كان من أسوأ ما خلفته هذه الكارثة هو مأساة الأطفال الذين فقدوا ذويهم وباتوا يتامى. فسوريا التي تعاني من 12 سنة من الحرب، تحوي أصلاً حوالي 1.2 يتيم في عموم محافظاتها، ودور الرعاية فيها تحمل فوق طاقتها. ومع ازدياد حجم التشرد والنزوح واللجوء، باتت قضية التعرف على نسب اليتامى الصغار ورعايتهم مسألة أكثر تعقيداً، خاصة بعد الزلزال الذي أصاب بشكل كبير مناطق مسكونة بالمهجّرين.
لا يسمح القانون السوري بتبني اليتامى، إلا أن المرسوم التشريعي رقم 2 لعام 2023 (الذي صدر في شهر كانون الثاني/يناير المنصرم والمتعلق بتنظيم شؤون الطفل مجهول النسب ورعايته) يسمح بالرعاية البديلة للطفل، وبحسب المادة 3 منه يعد بحكم مجهول النسب “الطفل الذي يضل الطريق ولا يملك المقدرة على الإرشاد عن ذويه لصغر سنّه أو ضعفه العقلي أو لأنّه أصم أبكم لا يحاول أهله استرداده”. ويشمل هذا الأطفال الذين فقدوا عائلاتهم في الزلزال ولم يتمكنوا من التعريف بأنفسهم أو بنسبهم.
قد يحل هذا المرسوم جزءاً صغيراً من المشكلة إذ يعطي الفرصة للأطفال مجهولي النسب بالحصول على أسرة كفيلة، إلا أنه يترك وراءه عدداً كبيراً من الأطفال اليتامى معروفي النسب الذين يحتاجون للرعاية النفسية والجسدية وللاهتمام والحب خاصة بعد ما تعرضوا له من صدمة وألم وفقد أثناء الزلزال وبعده. وعليه، لابد من إيجاد سبل قانونية بديلة تساعد على حماية الأطفال السوريين الذين فقدوا ذويهم، وتؤمن لهم الرعاية اللازمة، وهو ما يتطلب إصدار تشريعات جديدة تحقق الغاية المطلوبة.
تؤكّد “سوريون من أجل الحقيقة والعدالة” أن سوريا بحاجة إلى سَنّ قانون يسمح بالتبني ويعترف به قانونياً كخطوة أولى لمعالجة مسألة الأطفال اليتامي ومجهولي النسب، أسوةً بباقي دول العالم، مع ترك الخيار للأشخاص الراغبين باتباع نظام الكفالة.
1. خلفية عن المرسوم التشريعي رقم 2 لعام 2023:
بتاريخ 14 كانون الثاني/يناير 2023، أصدر الرئيس السوري بشار الأسد المرسوم التشريعي رقم (2)، والمتعلق بتنظيم شؤون الطفل مجهول النسب ورعايته.[1]
تألَّف المرسوم من 54 مادة موزعة على تسعة فصول تتضمن تعريفات للمصطلحات الواردة في المرسوم، وأهدافه ونطاق تطبيقه. كذلك قدمّ المرسوم شرحاً عن “الهيئة المستقلة الناظمة لشؤون الأطفال مجهولي النسب” ومهامها وصلاحياتها وعلاقة الأطفال بها.
يذكر المرسوم أيضاً ضمن مواده الإجراءات الواجب اتباعها عند العثور على الطفل كالتبليغ والفحص الطبي والتسجيل، كما يشرح مسألة إلحاقه بعائلة بديلة أو بدار رعاية.
عند إطلاع “سوريون” على المرسوم، وجدت أنه لم يحمل ما هو جديد فعلياً، باستثناء إنشاء هيئة مستقلة مالياً وإدراياً مختصة بمتابعة شؤون الأطفال مجهولي النسب وتحمل اسم “بيوت لحن الحياة”.
كما أنّه جاء بصيغة تجميع لبعض المواد والنصوص القانونية السابقة التي تنظم قضية الأطفال مجهولي النسب، ومن أبرز هذه القوانين: (1) المرسوم التشريعي رقم 107 لعام 1970 الخاص بـ”اللقطاء” و (2) المرسوم التشريعي رقم 26 لعام 2007 (قانون الأحوال المدنية)، الذي نظم في بعض مواده الإجراءات المتعلقة بالعثور على اللقيط وتسجيله (المادة 29).
أيضاً، اقتبس المرسوم الجديد من مراسيم تشريعية سابقة، منها (3) تعديلات قانون الأحوال المدنية بخصوص “اللقيط”، والصادرة بالمرسوم التشريعي رقم 69 لعام 2012، والذي أجاز منح “اللقيط” الذي تجاوز الثامنة عشر من عمره نسبة الأسرة الحاضنة.
وأخيراً، التزم المرسوم الجديد بما نصّ عليه المرسوم التشريعي 70 لعام 2012، (الخاص بإجراء تعديلات على قانون الأحوال المدنية)، والذي نص على وجوب استبدال كلمة “لقيط” لتصبح “مجهول النسب”.
وكانت “سوريون من أجل الحقيقة والعدالة” قد وثقت في تقرير جديد لها ما لا يقل عن (100) حالة تخلي عن الأطفال في عموم سوريا خلال عامي 2021 و 2022.
2. المرسوم الجديد ينتهك الحق في حرية المعتقد ويميّز بين المواطنين/ات على أساس الجنس والدين:
تحمل بعض مواد هذا المرسوم تمييزاً واضحاً بين المواطنين/ات، سواء على أساس الدين أو/و على أساس الجنس والنوع الاجتماعي، كما تقيّد حرية المعتقد والدين لدى الأطفال وتفرض عليهم ديناً محدداً دون غيره.[2]
فعلى سبيل المثال، تنص المادة (22) من المرسوم على أن الطفل مجهول النسب يُعدُّ “مُسلماً ما لم يثبت خلاف ذلك”[3]. فجاء هذا النص السابق مطلقاً وغير مقيّداً، ولم يُحدد الأمور التي تجعل الوضع “خلاف ذلك”، عدا على أنّه فرض على الطفل ديناً معيناً، وحرمه من حقه في حرية اختيار دّينه لاحقاً، رغم أنّ الدستور السوري لعام 2012 يضمن في طياته حرية المعتقد لجميع السوريين/ات (المادة 42).
أيضاً تنص المادة 34 (ب) من المرسوم على أنه يُشترط في الأسرة البديلة (إن كانت زوجاً وزوجة) طالبة الإلحاق “أن يكون الزوجان مُتحدين في الدين مع الطفل مجهول النسب”.
وفي هذه الحالة لا يمكن للعائلات غير المسلمة أن تكون عائلات بديلة لرعاية الطفل مجهول النسب الذي تمّ تسجيله مسلماً بالأساس، مما يعني عملياً حرمان غير المسلمين من فرصة رعاية الأطفال مجهولي النسب، وهو ما يشكّل تمييزاً واضحاً وصارخاً بحق السوريين/ات غير المسلمين، ويتناقض مع نص المادة (33) من الدستور السوري لعام 2012، التي تقول بأن “المواطنون متساوون في الحقوق والواجبات، لا تمييز بينهم في ذلك بسبب الجنس أو الأصل أو اللغة أو الدين أو العقيدة”.
هذا وتنص المادة 34 (ج) من المرسوم، على أنه يُشترط في الأسرة البديلة (إن كانت زوجاً وزوجة) طالبة الإلحاق ألّا يقل سن الزوجين عن ثلاثين عاماً، وألا يكونا قد تجاوزا الخامسة والخمسين عاماً.
ثم تنص المادة 35 على أنه يشترط في الأسرة البديلة (بحال كانت امرأة لا زوج لها) طالبة الإلحاق “ألا يقل عمرها عن أربعين عاماً إذا كانت المرأة غير متزوجة، أو ألا يقل عن ثلاثين عاماً إذا كانت المرأة مطلقة أو أرملة غير قادرة على الإنجاب”.
تعتقد “سوريون”، بأن لا مبرر لهذا التمييز بالعمر بين الزوجين والمرأة الوحيدة، وبين المرأة الوحيدة العازبة أو المطلقة أو الأرملة، لأن الأهمية هنا عملياً يجب أن تتمحور حول القدرة على الإعالة وتقديم الرعاية المطلوبة للطفل/ة مجهول/ة النسب بغض النظر عن الحالة الاجتماعية للمرأة.
كما أن المادة المذكورة تشترط بالنسبة للمرأة غير المتزوجة ألا يقل عمرها عن 40 عاماً، وألا يزيد عمر المرأة بكل الأحوال عن 50 عاماً، أي أن المرسوم (وبشكل غير مباشر) يعتبر المرأة جديرة برعاية الطفل خلال هذه الأعوام العشر فقط ويجبرها على اتخاذ قرار الرعاية خلالها. خاصة أن المادة 37 تنص على أنه بحال توفي أحد الزوجين، أو وقع الطلاق أو التفريق بينهما، وطلب الطرف الآخر الاستمرار في إلحاق الطفل مجهول النسب، يبت مجلس إدارة “بيوت لحن الحياة” باستمرار الرعاية دون التقيد بشرط العمر.
ولا بد من الإشارة إلى أن المرسوم لم يمنح الرجل غير المتزوج الحق في إلحاق الطفل مجهول النسب مهما كانت ظروفه، بينما منح هذا الحق للمراة، وهذا أيضاً نوع من التمييز الغير مبرر والمحظور في الدستور السوري كما ذكرنا آنفاً.
3. نصوص مبهمة ونقاط أساسية غائبة:
جاءت أغلب مواد المرسوم 2 لعام 2023 مطلقة غير محددة ولا مقيدة. فعلى سبيل المثال، لم يذكر المرسوم آلية واضحة محددة المعايير لمراقبة التزام الأسرة البديلة برعاية الطفل، وما هي الإجراءات التي سوف يتم اتخاذها في حال عدم التزام الأسرة البديلة بمعايير غير موجودة أساساً.
وفي مثال آخر، كان من الأفضل تحديد المادة 34 (ز) بشكل أدق، حيث تشترط المادة قدرة الوالدين البديلين “على الإنفاق على الطفل مجهول النسب” ولكنها لا تذكر أي معايير تحدد ذلك، مثل الدخل الشهري أو الأصول.
عدا عن أنّ المادة 32 من المرسوم تنصّ على أن الطفل مجهول النسب الذي لم يتجاوز السابعة من العمر يلحق بأسرة بديلة، بينما من بلغ السابعة فما فوق فيلحق بمؤسسة رعاية. وليس واضحاً ما هو الأساس الذي تم بناءاً عليه تحديد عمر السابعة للأطفال كحد أقصى لإلحاقهم بأسرة بديلة، وكان من الأنسب لمصلحة الطفل ترك المدة مفتوحة ما دام لم يتجاوز الثامنة عشر من عمره.
كما أن هناك بعض النقاط التي كان يُنتظر من القانون الجديد الناظم لشؤون الأطفال مجهولي النسب مراعاتها. على سبيل المثال لا الحصر، تنص المادة 10 من المرسوم على مهام مجلس إدارة “بيوت لحن الحياة”، ولكن لا تندرج تحت هذه المهام فقرة خاصة بواجب العمل على تأمين أسر حاضنة مناسبة لمجهولي النسب، وكان من الأفضل لمصلحة الأطفال أن تكون هذه المسؤولية من ضمن أولويات عمل المجلس.
أيضاً تطرقت المادة 8 لإنشاء قاعدة بيانات وطنية موحدة وشاملة لكافة معلومات الأطفال مجهولي النسب، وكان من الواجب وضع قواعد واضحة لحماية أمن وسرية قاعدة البيانات هذه كأحد الأولويات.
كذلك وانطلاقاً من أهمية توافق القرارات مع صحة الطفل النفسية والجسدية، كان من الأفضل أن يكون من ضمن أعضاء مجلس الإدارة خبير/ة متخصص/ة بصحة الأطفال إلى جانب من سماهم القانون في المادة 11 (أ) وهم: أحد أصحاب الخبرة والاختصاص والكفاءة في مجال عمل بيوت لحن الحياة رئيساً، مدير السياسات الاجتماعية في وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل عضواً، خبير قانوني عضواً، خبير في شؤون الطفولة عضواً، ممثل عن أحد المنظمات غير الحكومية المعنية بالطفل عضواً. من الأمثلة أيضاً ما تنص عليه المادة 29 حول عدم توريث الطفل مجهول النسب، وكان من الأولى إعطاء الحق للطفل بالوراثة من أسرته البديلة بعد مضي فترة معينة من الرعاية.
4. المرسوم أداة لتحسين صورة الحكومة السورية:
تعتقد “سوريون” أن التوقيت الذي صدر فيه المرسوم، إضافة إلى العديد من الثغرات الموجودة، تشي بأنّ توقيت وشكل صدروه كان لتحقيق مكاسب سياسية، خاصة أنّ صدر بعد نحو شهرين من انتخاب سوريا نائباً لرئيس المؤتمر الدولي لرعاية الطفولة المبكرة والتربية 2022 – الذي أقامته منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو) في أوزباكستان (طشقند). وقبل يوم واحد من انعقاد جلسة لمجلس الشعب المختص أساساً بسَنّ القوانين، بينما يفترض أن صلاحية رئيس الجمهورية في سوريا للتشريع هي صلاحية احتياطية يُمارسها للضرورة وخارج أوقات انعقاد جلسات مجلس الشعب.
وحيث أنّ المرسوم لم يأتِ بجديد سوى إنشاء هذه الهيئة المستقلة، فقد عزز هذا الشيء رأي “سوريون” القائل بنية الحكومة السورية التحايل على بعض العقوبات والإجراءات الأحادية القسرية، ومحاولة الحصول على تمويل خارجي لهذه الهيئة.
وأخيراً، فإنّ توقيت إصدار المرسوم ربّما يشير إلى رغبةً من الرئيس السوري بشار الأسد في تحسين صورته الإعلامية أمام المجتمع الدولي، وليس بهدف الاستجابة لمشكلة الأطفال مجهولي النسب وتحسين واقعهم الخدمي أوالاجتماعي في البلاد بالفعل، عدا عن نقطة وجود مناطق شاسعة من الجغرافية السورية خارج سيطرة الحكومة السورية، وهو ما سيقف حاجزاً أمام تطبيق هذا المرسوم فيها.
[1] عرّف المرسوم في المادة 1 مجهول النسب كالآتي: “الطفل الذي يُعثر عليه ولم يعرف والداه أو لم يثبت نسبه”.
[2] تنص المادة 14 (1) من اتفاقية حقوق الطفل لعام 1989 على أنه ” تحترم الدول الأطراف حق الطفل في حرية الفكر والوجدان والدين”.
[3] حيث إن المواد 20 و21 و22 من هذا المرسوم مأخوذة حرفيا من الفقرة د من المادة 29 من القانون رقم 13 لعام 2021.