تطالب “سوريون من أجل الحقيقة والعدالة” الحكومة السورية الحالية والمستقبلية بتجريم محاولات دمج لغات وثقافات الأقليات في بوتقة لغوية أو قومية واحدة. في الوقت ذاته، نطالب أيضاً الدولة التركية، كقوة احتلال، بحظر التدابير والتغييرات المؤسسية التي تقيد حق الأقليات اللغوية في تعلم واستخدام لغاتها الأم في الحياة اليومية.
مقدَّمة من قِبَل: “سوريون من أجل الحقيقة والعدالة” في 31 آذار/مارس 2023
بالإستناد إلى إعلان الأمم المتحدة المتعلق بحقوق الأشخاص المنتمين إلى أقليات قومية أو إثنية وإلى أقليات دينية ولغوية، وغيرها من المعايير والتشريعات الوطنية والإقليمية والدولية ذات الصلة، بما في ذلك القرار 76/168 الذي اعتمدته الجمعية العامة للأمم المتحدة في 16 كانون الأول/ديسمبر 2021، تقدم “سوريون من أجل الحقيقة والعدالة” هذه المداخلة.
تسلط هذه الوثيقة الضوء على حالة حقوق الأشخاص المنتمين إلى أقليات قومية أو إثنية وإلى أقليات دينية ولغوية في الجمهورية العربية السورية (سوريا)، بالتركيز على الأقلية الكردية وحقوقها اللغوية؛ سواءً في المناطق التي تسيطر عليها الحكومة السورية، أو المناطق التي تحتلها الحكومة التركية.[1]
يجعل تنوع الأقليات في سوريا واللغات المختلفة التي يتحدثونها من البلاد فسيفساء فريدة من الثقافات المتعددة. على الرغم من ذلك، يتجاهل الدستور السوري النافذ (دستور عام 2012) حق المكونات غير العربية في التحدث بلغاتهم الأم؛ حيث نص في “المادة 4″، المنسوخة من الدستور السابق، على أن “اللغة العربية هي اللغة الرسمية للدولة”. بينما منح اللغة العربية هذه السمة الحصرية، فشل الدستور في الاعتراف بحق الأقليات السورية في استخدام لغاتهم الأم أو نقلها إلى أجيالهم الجديدة من خلال التعليم. على هذا النحو، فإن الدستور يخلق عدم مساواة بين مكونات الشعب السوري، حيث يفضل الأكثرية ويتجاهل غيرها من المجتمعات الموجودة، خلافاً لما ينص عليه في الفقرة الثالثة من “المادة 33”: “المواطنون متساوون بالحقوق والواجبات”.
يثير هذا التناقض سؤالاً مفصلياً، كيف للمواطنين أن يتمتعوا بحقوق وواجبات متساوية في ظل عدم وجود حق للمكوّنات غير العربية في تعلم أو التعليم بلغاتهم الأم، وبينما يتم حرمانهم من أدوات الحفاظ على لغاتهم وتطويرها؟[2]
تضمن “المادة 9” من دستور 2012 “حماية التنوع الثقافي للمجتمع السوري بكافة مكوناته وتعدد روافده، فهو تراث وطني يعزز الوحدة الوطنية في إطار وحدة أراضي الجمهورية العربية السورية”. غير أن هذه المادة تبقى مجرد إطار نظري، فضفاض ويشوبه الغموض. منذ اعتمادها، لم تسعى الحكومة السورية إلى تنفيذ أي من عناصر هذه المادة. على سبيل المثال، لم تسمح الحكومة السورية للكرد في المناطق التي تسيطر عليها بتعلم لغتهم في المدارس الحكومية أو فتح مدارس مختصة بتعليم اللغة الكردية.
من جهةٍ أخرى، فشلت السياسة التي تنتهجها المعارضة السورية بخصوص اللغة الأم للمكوّنات غير العربية في سوريا المستقبلية بوضع أساسٍ يهدف للإصلاح المؤسسي؛ يبدو الفشل جلياً في خطة الانتقال السياسي التي أعلنت عنها “الهيئة العليا للمفاوضات” عام 2016. حيث نصّ المبدأ الأول من الخطة على ما يلي: “سوريا جزء لا يتجزأ من الوطن العربي، واللغة العربية هي اللغة الرسمية للدولة، وتمثل الثقافة العربية الإسلامية مَعيناً خصباً للإنتاج الفكري والعلاقات الاجتماعية بين السوريين على اختلاف انتماءاتهم الإثنية ومعتقداتهم الدينية حيث تنتمي أكثرية السوريين إلى العروبة وتدين بالإسلام ورسالته السمحاء التي تتميز بالوسطية والاعتدال”.
تمنح هذه النبرة الأولوية لجماعات دينية وثقافية محددة على حساب جماعات أخرى، الأمر الذي لا يقوّض خلق مجتمع شامل أصيل منفتح لجميع أشكال الهوية الاجتماعية فقط، ولكنه يعمل أيضاً على إعادة إنتاج البيئة السياسية التمييزية التي أنشأها رئيس الجمهورية العربية السورية، بشار الأسد. حيث انعكس كلاً من التقويض والسياسات التمييزية المعادية للأقليات على إجراءات المعارضة السورية ومن خلفها الحكومة التركية في منطقة عفرين ذات الأغلبية الكردية.[3]
ففي منطقة عفرين، فرضت “الحكومة السورية المؤقتة/الائتلاف السوري المعارض”، مناهج صادرة عن وزارة التربية فيها بإشرافٍ من الحكومة التركية. كما خصصت “الحكومة المؤقتة” أربع حصص للغة التركية ومثلها للغة الكردية. لاحقاً، تمّ تقليص نصاب اللغة الكردية إلى حصتين فقط وأحياناً إلى حصة واحدة، وألغيت تماماً في بعض المدارس بحجة عدّم وجود كوادر لتدريسها. هذا وقد رافق التغييرات التعليمية الهائلة انخفاضاً حاداً في عدد الطلبة الكرد في المنطقة، حيث تقلص العدد إلى 30% من 95%، وهي نسبة الطلاب في عفرين قبل عملية “غصن الزيتون” التي أدت إلى احتلال تركيا للمنطقة عام 2018.
حيث أن تركيا تواصل إسقاط التيارات العقائدية الكامنة وراء المناهج التركية على نطاق واسع في المناطق التي تسيطر عليها في سوريا، بما في ذلك منطقة عفرين. لذلك، سعت تركيا إلى خنق الحقوق اللغوية للأكراد عبر مؤسساتها السياسية والتعليمية، مثلما تفعل مع سكانها الأكراد في شرق تركيا. صرحت أنقرة علناً استيلائها على الهيئة السياسية في عفرين، ورفعت تركيا علمها على جميع مدارس المنطقة والدوائر الإدارية والخدمية وفي الساحات العامة، حيث كانت تركيا الدولة الوحيدة من بين تلك التي تحتفظ بوجود عسكري في سوريا، أن رفعت العلم التركي في أماكن غير عسكرية كتأكيد على تبعية المنطقة الإدارية لها.[4]
لطالما أصرّت الحكومة التركية على النفي المطلق لكافة المعطيات السياقية والقانونية حول قيامها باحتلال مناطق واسعة في شمال وشمال غرب سوريا. على سبيل المثال، في ردها على مراسلة مشتركة من عدد من الإجراءات الخاصة لمجلس حقوق الإنسان عام 2020، نفت الحكومة التركية بشكل قاطع ممارستها السيطرة الفعالة على الأراضي السورية، خاصةً من خلال سيطرتها الفعالة على فصائل “الجيش الوطني السوري” وعلى “الحكومة المؤقتة”. لقد جادلت “سوريون من أجل الحقيقة والعدالة” مراراً بانطباق حالة الاحتلال على المناطق السورية الخاضعة للسيطرة الفعالة لتركيا. يستند هذا الموقف بشكل رئيسي إلى ما توصلت إليه عدة هيئات أممية، أهمها لجنة التحقيق الدولية والمفوضية السامية لحقوق الإنسان، بالإضافة إلى إثبات واقع الاحتلال التركي بشكل مباشر أو من خلال السيطرة الفعالة على المنطقة أو على الفصائل العسكرية المنتشرة هناك.[5]
من أجل عدم السماح للتهميش وانعدام الاعتراف الرسمي باللغات المختلفة في البلاد من زعزعة الاستقرار في سوريا وتعريض الإصلاح المستقبلي للخطر، تعتقد “سوريون من أجل الحقيقة والعدالة” أنه يجب على الحكومة القادمة، وهيئة الحكم الانتقالية المنصوص عليها في قرار الأمم المتحدة رقم 2254، اتخاذ التدابير اللازمة للحفاظ على ودعم التنوع اللغوي في سوريا. وتقدم التوصيات التالية:
- النص دستورياً على اعتبار اللغات الأخرى الموجودة في سوريا لغات رسمية إلى جانب العربية، على الأقل في المناطق حيث يعيش الناطقون بإحدى هذه اللغات، وإلزام الحكومة باتخاذ التدابير اللازمة لتحقيق ذلك.
- النص على مسؤولية الدولة في توفير المناخ الملائم والدعم اللازم، للحفاظ على اللغات الموجودة في سوريا، وضمان إمكانية الأقليات اللغوية على تدريس لغاتهم ومساعدتهم في الحفاظ على ثقافاتهم ولغاتهم.
- تجريم محاولات صهر وتذويب اللغات والثقافات المتعددة في بوتقة لغوية أو قومية واحدة، وإدراج هكذا فعل في خانة جرائم التمييز العنصري.
- اعتبار التعدد اللغوي والثقافي مصدر غنى وقوة لسوريا القادمة.
أما الدولة التركية، كقوة احتلال في العديد من المناطق السورية، وبالأخص في منطقة عفرين، فيتوجب عليها:
- الامتثال الى المواد الخاصة من اتفاقية جنيف الرابعة (50 و94)، حيث تنص المادتان صراحةً على واجب قوة الاحتلال في تيسير عمل كافة المؤسسات القائمة على التعليم في المناطق المحتلة وعلى متابعة الأطفال واليافعين لدراستهم، وضمان استمرار التعليم واستخدام اللغة الأم وضمان الآليات والكوادر والمؤسسات التي تؤهل استخدام اللغة الأم، وفي هذه الحالة اللغة الكردية في منطقة عفرين.
- حظر كل الإجراءات والتغييرات التي تؤدي الى تقييد حق الأقليات بالتمتع في تعلم واستخدام لغاتهم في الاحتفالات الدينية والقومية وفي الحياة اليومية.
[1]“سوريا: يجب على تركيا وضع حد للانتهاكات التي ترتكبها الجماعات الموالية لها والقوات المسلحة التركية ذاتها في عفرين”. منظمة العفو الدولية. نشر في 02 آب/أغسطس 2018
https://www.amnesty.org/ar/latest/news/2018/08/syria-turkey-must-stop-serious-violations-by-allied-groups-and-its-own-forces-in-afrin/ (آخر زيارة: 30 آذار/ مارس 2023)
[2]“الحرمان من اللغة الأم كأحد أشكال ’الإبادة الثقافية‘ المستمرة في سوريا”، سوريون من اجل الحقيقة والعدالة، 22 شباط/ فبراير 2022: الحرمان من اللغة الأم كأحد أشكال “الإبادة الثقافية” المستمرة في سوريا – سوريون من أجل الحقيقة والعدالة (stj-sy.org)
[3]” إشراك الجميع أمر جوهري لتحقيق عدالة انتقالية في سوريا”، المركز السوري للعدالة والمسائلة، 5 تشرين الأول/ أكتوبر 2016: إشراك الجميع أمر جوهري لتحقيق عدالة انتقالية في سوريا (syriaaccountability.org) (آخر زيارة: 31 آذار/ مارس 2023).
[4]“المناهج التعليمية في عفرين: بين ’التتريك‘ والتضييق على اللغة الكردية”، سوريون من اجل الحقيقة والعدالة، 16 اذار/ مارس 2023: المناهج التعليمية في عفرين: بين “التتريك” والتضييق على اللغة الكردية – سوريون من أجل الحقيقة والعدالة (stj-sy.org) (آخر زيارة: 31 آذار/ مارس 2023).
[5] “ملاحقات واعتقالات في الشمال السوري بتهم ’المساس بالشعور الديني‘ و’الإساءة لتركيا‘”، سوريون من اجل الحقيقة والعدالة، 27 تشرين الأول/ أكتوبر 2022: ملاحقات واعتقالات في الشمال السوري بتهم “المساس بالشعور الديني” و”الإساءة لتركيا” – سوريون من أجل الحقيقة والعدالة (stj-sy.org) (آخر زيارة: 31 آذار/ مارس 2023).