1. ملخص تنفيذي:
بعد ست سنوات من تنفيذ “اتفاق” المدن الأربعة: مضايا والزبداني في مقابل كفريا والفوعة، الذي وُقّع في نيسان/أبريل 2017، بين إيران والميليشيات المرتبطة بها من جهة وعدد من الفصائل المعارضة الإسلامية المسلحة، (أبرزها جبهة فتح الشام، وحركة أحرار الشام) من جهة أخرى، بوساطة قطرية، يعيش المهجّرون ظروفاً إنسانية صعبة، فلم تكن الأيام كفيلة بالتخفيف من معاناتهم التي ذاقوها في أعوام الحصار الطويلة بل تحولت إلى معاناة من نوع آخر، إذ تشكّل ﺣﻴﺎتهم اليوم سلسلة من الخسارات ومشاعر الخذلان وعدم الاستقرار، فضلاً عن صعوبات تأمين تكاليف المعيشة الأساسية.
يصف الناشط الحقوقي، أحمد كويفاتي، ابن مدينة الزبداني المهجّر إلى إدلب شمال غربي سوريا، الآثار التي تركها الاتفاق على المهجّرين: “فقدنا الأهل والأصدقاء والأقارب، ضاعت أملاكنا وحُرمنا منها، فقدنا عملنا وكل شيء بنيناه، وأُجبرنا على العيش بعيدين عن كل ما نتمناه ونحبه“.
ويضيف أبو نضال الذي شغل منصب مدير الهيئة الطبية في الزبداني، ويعيش حالياً في عفرين شمال غربي حلب:
“كانت أصعب الأمور علينا هي انتزاعنا من أرضنا وجذورنا، نعيش في المهجر حالة مأساوية فالوضع في “المناطق المحررة” ليس على ما يرام من ناحية الوضع الأمني والمعيشي الصعب، كل شخص خارج دائرة العسكر وضعه المادي صعب جداً وأنا أكبر مثال على ما يعانيه المهجّرون من فقر، وهناك عدم استقرار نفسي نتيجة تعلّق مصيرنا ومصير المنطقة بالتجاذبات الدولية، وما يخيب آمالنا ويحبطنا أن إخواننا في (الجيش الوطني) أصبحوا مرتزقة بكل ما تعنيه الكلمة من معنى“.
من جانبها تشير رؤى، (اسم مستعار لناشطة من مضايا مقيمة في إدلب)، إلى أن كثيراً من المدنيين الذين غادروا الزبداني ومضايا لم يكونوا مدركين أنهم يخرجون منها بموجب اتفاق، بل كانوا يبغون الخلاص من الوضع الإنساني السيّئ الذي عانوه جراء الحصار، فقد كان سكان المنطقة يموتون جوعاً ومرضاً بسبب نقص المواد الأساسية من غذاء ودواء، إلا أنهم صُدموا لاحقاً بسبب ما اكتنفه واقعهم الجديد من مشاق، تقول بهذا السياق:
“آثار كل جريمة لا تكون واضحة في بدايتها، وكذلك الأمر بالنسبة لاتفاق المدن الأربعة، فهذه الجريمة لم تظهر آثارها فوراً، حين قدمنا إلى إدلب كنا سعيدين جداً، لكن بعد مكوثنا فيها كانت المرحلة الصادمة، وصار الناس يقولون ليتنا بقينا في الحصار، وذلك بسبب الانتهاكات التي ترتكبها الجماعات المسلحة المسيطرة على المنطقة“.
أما من فضّل البقاء في الزبداني ومضايا فحاله ليست أفضل، في ظل سوء الأوضاع الأمنية، وانتشار تجارة المخدرات تحت سيطرة حزب الله اللبناني والفرقة الرابعة، وقلّة فرص العمل، واستيلاء الحكومة السورية على أملاك الأهالي، لاسيما المعتقلين والملاحقين غيابياً بعد توجيه تهم “الإرهاب” لهم، وفق ما تؤكده مصادر محلية.
ولا تبدو معاناة أهالي كفريا والفوعة المهجّرين بموجب الاتفاق أخف وطأة، فرغم اختلاف الظروف والجغرافيا تتشابه المصائر. فبعد أن نقلتهم حافلات التهجير من داخل الحصار المحكم الذي عانته المنطقتان ذواتا الغالبية الشيعية بريف إدلب، على يد “جيش الفتح/المعارض” توزعوا بمناطق سيطرة الحكومة السورية في دمشق وحلب وحمص واللاذقية وطرطوس، وهي مناطق غير مألوفة بالنسبة لهم، لتفرغ كفريا والفوعة بالكامل من أهاليهما الأصليين.
وفي وصف ما ألمّ بهم جراء التهجير نشرت صفحة “كفريا والفوعة” في موقع فيس بوك، “ونحن أيضاً لنا أرض، نشتاق إلى كل ذرة تراب فيها، إلى جدران بيوتنا التي بنيناها حجر فوق حجر، إلى أشجار التين والزيتون التي رويناها بعرق جبيننا ودماء شهدائنا، إلى حوانيتها وضجيج بائعيها، إلى أحبابنا المحتضنين في ثراها..
ونحن أيضا لنا أرض ولنا قضية، لنا أرض منسية نتوق أن نعود إليها وندفن فيها، لنا أرض أصبحنا بعدها مشردين لا بيت يأوينا ولا دفء يجمعنا ولا تراب يحتضن رفاتنا“.
ومع خروجهم من مناطقهم خسر أهالي كفريا والفوعة ملكياتهم العقارية، لتسيطر عليها الفصائل العسكرية المسيطرة في إدلب، وفق ما توضحه دراسة بعنوان “واقع حقوق الملكية والأراضي والسكن في سوريا” أصدرتها منظمة “اليوم التالي” في كانون الأول/ديسمبر 2020، جاء فيها أن: “هيئة تحرير الشام والفصائل الأخرى الموجودة في المنطقة مثل حركة أحرار الشام الإسلامية والحزب الإسلامي التركستاني استولت علـى ممتلكات خاصة بشكل ممنهج فـي المناطق التي تم تهجير سكانها منها، ومنها بلدتا كفريا والفوعة وقرية الغسانية بريف جسر الشغور، وفي حين لم يتم تغيير الأوصاف المادية للغالبية العظمى مــن تلك الملكيات، أو نقل ملكيتها في السجلات العقارية حسب ما أكده عاملون في السجل العقاري، إلا أن الفصائل تسيطر بالقوة على تلك الممتلكات وتستثمرها من خلال تأجيرها وتحصيل العائد الشهري مثلاً أو إسكان عائلات مقاتليها في حالات أخرى“.
وقد قبل المدنيون بأي حل يخلّصهم من الحصار حتى لو كان على حساب خسارتهم منازلهم وأملاكهم، لكن ورغم ما قدمته الحكومة السورية ومنظمات الإغاثة، بما في ذلك الهلال الأحمر السوري، إلى مهجري كفريا والفوعة من مراكز إيواء ومساعدات مالية في ﺪﻓﻊ اﻹﻳﺠﺎر وﻏﻴﺮه ﻣﻦ اﻟﻨﻔﻘﺎت، إلا أن مسائل الإسكان تسببت بشعور عدم الاستقرار لدى الأهالي.
وقال مهجّر من الفوعة إلى صلنفة بريف اللاذقية، لموقع “سوريا على طول“: “نحن لا نشعر بأننا نستطيع أن نعيش حياة طبيعية هنا، ليس لنا بيوت، ليست مدينتنا، نحن بحاجة إلى ما يحتاجه أي شخص للعيش، نريد تأمين لقمة العيش لأسرنا… نريد منازل ونريد العمل، نريد العودة إلى بيوتنا“.
من جانبها وثقت منظمة العفو الدولية في تقرير بعنوان: “إما أن نرحل أو نموت.. التهجير القسري بموجب التغيير الديموغرافي في سوريا“، الانتهاكات المرافقة لاتفاقيات التهجير التي ﺗﻢ اﻟﺘﻮﺻﻞ إﻟﻴﻬﺎ بين اﻟﺤﻜﻮﻣﺔ اﻟﺴﻮرﻳﺔ وﺟﻤﺎﻋﺎت اﻟﻤﻌﺎرﺿﺔ اﻟﻤﺴﻠﺤﺔ بإﺷﺮاف أﻃﺮاف دوﻟﻴﺔ، ﻓﻲ اﻟﻔﺘﺮة اﻟﻮاﻗﻌﺔ ﺑﻴﻦ آب/أﻏﺴﻄﺲ 2016 وآذار/ﻣﺎرس 2017، وأدت إﻟﻰ ﻧﺰوح آﻻف اﻟﺴﻜﺎن ﻣﻦ دارﻳﺎ، وﺣﻠﺐ اﻟﺸﺮﻗﻴﺔ، واﻟﻮﻋﺮ، وﻣﻀﺎﻳﺎ، واﻟﺰﺑﺪاﻧﻲ، وﻛﻔﺮﻳﺎ، واﻟﻔﻮﻋﺔ.
وجاء في التقرير: “ﻳﻌﺎﻧﻲ آلاف اﻟﻤﺪﻧﻴﻴﻦ، اﻟﺬﻳﻦ أﺟﺒﺮﺗﻬﻢ اتفاقيات التهجير ﻋﻠﻰ اﻟﻨﺰوح ﻗﺴﺮاً، ﻣﻦ ﻇﺮوف ﻗﺎﺳﻴﺔ، ﺣﻴﺚ ﻳﻌﻴﺶ ﺑﻌﻀﻬﻢ ﻓﻲ ﻣﺨﻴﻤﺎت ﻣﺆﻗﺘﺔ، وﻻ يُتاح ﻟﻬﻢ اﻟﺤﺼﻮل إﻻ ﻋﻠﻰ اﻟﺤﺪ اﻷدﻧﻰ ﻣﻦ اﻟﻤﻌﻮﻧﺔ اﻹﻧﺴﺎﻧﻴﺔ واﻟﺨﺪﻣﺎت اﻟﻀﺮورﻳﺔ، ﺑﻴﻨﻤﺎ ﻳﻜﺎﺑﺪ آﺧﺮون اﻟﻤﺸﺎق ﻟﺪﻓﻊ ﺗﻜﻠﻔﺔ اﻹﻳﺠﺎر وﻏﻴﺮه ﻣﻦ ﻧﻔﻘﺎت اﻟﻤﺮاﻓﻖ ﻣﺜﻞ اﻟﻤﻴﺎه واﻟﻜﻬﺮﺑﺎء. وﻻ ﺗﺴﺘﻄﻴﻊ ﻏﺎﻟﺒﻴﺘﻬﻢ اﻟﻌﻈﻤﻰ اﻟﻌﻮدة إﻟﻰ ﻣﻨﺎزﻟﻬﻢ.
وﻓﻲ اﻟﻮﻗﺖ ﻧﻔﺴﻪ ﺗﻤﻀﻲ اﻟﺤﻜﻮﻣﺔ اﻟﺴﻮرﻳﺔ ﻗﺪﻣﺎً ﺑﺘﻨﻔﻴﺬ إﺟﺮاءات، ﻣﻦ ﺑﻴﻨﻬﺎ اﺷﺘﺮاط إﺟﺮاء ﻓﺤﻮص أﻣﻨﻴﺔ ﻟﻌﻘﻮد اﻟﺒﻴﻊ اﻟﺨﺎﺻﺔ ﺑﺎﻷرض واﻟﻌﻘﺎرات، وﻣﺼﺎدرة ﻣﻨﺎزل ﺑﻌﺾ ﻫﺆﻻء اﻟﻨﺎزﺣﻴﻦ، وﺗﻐﻴﻴﺮ اﻟﺴﺠﻼت اﻟﻘﺪﻳﻤﺔ، وﻫﻮ أﻣﺮ ﻳﺼﻌﺐ ﻣﻌﻪ إﺛﺒﺎت ﺣﻘﻮق اﻟﻤﻠﻜﻴﺔ أو اﻟﻤﻄﺎﻟﺒﺔ ﺑﺘﻌﻮﻳﻀﺎت“.
تتجلى أهم عواقب الاتفاق في ما أحدثه من تغيير التركيبة السكانية السورية لسكان المناطق التي شملها، إذ أفضى إلى أكبر عملية تغيير ديموغرافي في البلاد على أساس طائفي.
ولم تكن قطر الراعية للاتفاق مهتمة بالآثار الكبيرة للصفقة بقدر اهتمامها برفاهية أفراد العائلة المالكة، الذين احتجزتهم ميليشيات شيعية بقيادة الجنرال الإيراني قاسم سليماني في أثناء ذهابهم لرحلة صيد منتصف كانون الأول من عام 2015، وفق ما يشير الصحفي في جريدة نيويورك تايمز الأمريكية، روبرت وورث، الذي التقى أحد الأمراء القطريين المطلق سراحهم، وكشف له تفاصيل العملية التي كلفت الحكومة القطرية ما يقارب مليار دولار.
أما الكلفة التي دفعها السوريون ومازالوا لا تقدر بثمن، فقد تسببت الصفقة بالتشريد القسري لآلاف السكان الذين خسروا كل ما كانوا يملكونه.
2. منهجية التقرير:
يهدف التقرير المشترك بين منظّمة “سوريون من أجل الحقيقة والعدالة” ورابطة “تآزر” للضحايا إلى توضيح تفاصيل الأحداث المرافقة لاتفاق “المدن الأربعة” ودور الأطراف الدولية الفاعلة فيما حدث، وما ترتب عليه من عمليات تشريد قسري طالت آلاف السوريين، إضافة لدراسة أحوال المهجّرين اليوم والصعوبات التي يواجهونها لاسيما انتهاكات حقوق السكن والأراضي والملكية، والعوامل التي تحول دون عودتهم إلى مناطقهم الأصلية، في محاولة لطرح توصيات تخفف من تداعيات الاتفاق عليهم.
ويأتي ضمن سلسلة تقارير تناقش أثر الاتفاقيات الدولية التي أفضت إلى عمليات تهجير واسعة غيّرت الديموغرافيا السورية.
اعتمد التقرير في منهجيته على مخرجات جلسة حوارية تفاعلية عُقدت يوم 17 حزيران/يونيو 2023، جمعت أهالي وناشطين/ات من مضايا والزبداني وريف دمشق مع تعذّر التواصل المباشر مع أهالي من كفريا والفوعة بسبب تواجدهم بمناطق سيطرة الحكومة، وما يترتب عليه من تخوفات أمنية لديهم.
خلال الجلسة ناقش الحضور خلفية الاتفاق ومراحل تنفيذه، وما أفضى إليه من آثار وتبعات سلبية عليهم، وما يتطلعون إليه من حلول للحيلولة دون تجذّر عملية التغيير الديموغرافي الحالي، وخلصوا إلى بعض التوصيات التي تمت مراجعتها لاحقاً من قبل الباحث القانوني في المنظمة.
كما أُجريت، لغرض إتمام التقرير، مجموعة من المقابلات عبر الإنترنت مع شخصيات من الزبداني ومضايا يتواجدون داخل وخارج سوريا. تناولت التوسع في بعض جوانب الاتفاق وخلفياته، واستعراض قصص إنسانية من معاناة الأهالي، وتجارب شخصية في محاولة التأقلم مع الواقع الجديد، إضافة لتطلعاتهم المستقبلية.
وتمّ إرسال أسئلة إلى إعلاميين وفاعلين بالشأن العام ينحدرون من كفريا والفوعة عبر الإنترنت إلا أننا لم نتلقَ أي ردّ حتى لحظة إعداد التقرير.
ولتعويض الفجوة الحاصلة عن عدم التمكن من إجراء مقابلات مع أهالي من كفريا والفوعة، تمت الاستفادة من لقاءات وفيدوهات منشورة لهم تضمنت معاناتهم في أثناء الحصار، وعلى طريق التهجير، إلى جانب أوضاعهم في مناطق تواجدهم الحالية.
استند التقرير أيضاً إلى تقارير حقوقية، وأبحاث، ومقالات إخبارية منشورة في مصادر مفتوحة موثوقة.
3. مقدمة:
في سيناريو تكرّر بالعديد من المناطق السورية على طول سنوات الحرب، انطلقت الحافلات الخضراء من بلدتي مضايا والزبداني بريف دمشق في 12 نيسان/أبريل 2017، معلنة انتهاء مرحلة مأساوية من حصار جائر على يد قوات الحكومة السورية وحزب الله اللبناني، بدأ ﻓﻲ ﺗﻤﻮز/ﻳﻮﻟﻴﻮ 2015، انعدمت خلاله أبسط مقومات الحياة، وتحولت الأجساد إلى هياكل عظمية، وخلت المشافي من الأطباء المتخصصين والأدوية، إلى جانب القصف العشوائي على المناطق الآهلة بالسكان، ما جعل العديد من أبناء المنطقة يرحبون بالاتفاق ويرون فيه أهون الشرين، وبداية لمرحلة جديدة تحمل معها بعض البحبوحة بعد ما عانوه من حرمان.
وعلى بعد ﻗﺮاﺑﺔ 400 ﻛﻴﻠﻮﻣﺘر شمالاً، ارتبط مصير الزبداني ومضايا ببلدتي الفوعة وكفريا بريف إدلب الشمالي، اللتين عانتا من حصار فرضته فصائل المعارضة المسلحة منذ آذار/ﻣﺎرس 2015، وانتهى في تموز/يوليو 2018، بتفريغ البلدتين بالكامل من سكانهما، بعد أن تدهورت أوضاعهم بشكل كبير، إذ ﻗﻴﺪت الفصائل ﺑﺸﻜﻞ ﺗﻌﺴﻔﻲ ﺣﺼﻮل السكان ﻋﻠﻰ اﻟﻤﻌﻮﻧﺔ اﻹﻧﺴﺎﻧﻴﺔ، وﺻﺎدرت اﻹﻣﺪادات اﻟﻄﺒﻴﺔ ﻣﻦ ﻗﻮاﻓﻞ اﻟﻤﻌﻮﻧﺔ، وﻗﺼﻔﺖ اﻟﻤﻨﺎﻃﻖ اﻟﻤﺪﻧﻴﺔ ﺑﺎﺳﺘﺨﺪام أﺳﻠﺤﺔ ﻣﺘﻔﺠﺮة ذات ﺗﺄﺛﻴﺮ واﺳﻊ اﻟﻨﻄﺎق.
وبينما قُدمت الصفقة تحت شعار إنساني ظاهرياً، وهو إنهاء الحصار الذي سينعكس إيجابياً على جميع سكان المدن الأربعة، إلا أنها في جوهرها حوّلت السكان لورقة مساومة، واستُخدم مصيرهم كأداة ضغط ﻟﺘﺤﻘﻴﻖ ﻣﺼﺎﻟﺢ اﺳﺘﺮاﺗﻴﺠﻴﺔ ﺧﻼل اﻟﻤﻔﺎوﺿﺎت ﺑﻴﻦ أﻃﺮاف اﻟﺼﺮاع.
فبموجب اتفاق “المدن الأربعة”، استعاد الرئيس السوري بشار الأسد نفوذه على بلدتين قرب دمشق كان سكانها المعارضون يشكلون له تهديداً مستمراً.
كما وفّرت إيران امتداداً تسيطر عليه في سوريا يصل إلى مناطق نفوذ حزب الله في لبنان، وأنقذت الشيعة المعرّضين للخطر في الشمال من الحصار.
أما فصائل المعارضة المسلحة فوسّعت سيطرتها على كامل بلدتي كفريا والفوعة، واستولت على منازل سكانها الأصليين، بما فيها من أغراض وممتلكات تحت مسمّى “غنائم الحرب“، ووزعت منازل على عناصرها القادمين من محافظات ريف دمشق وحمص ودرعا، واستثمرت أخرى من خلال تقاضي إيجارات من الأهالي.
بدورها نجحت قطر في تحرير مجموعة الصيادين المختطفين التي ضمت 28 شخصاً من الأسرة الحاكمة، آل ثاني، الذين قضوا 16 شهراً في الأسر لدى كتائب حزب الله العراقي المدعوم من إيران، وذلك بعد أن دفعت مليار دولار، وهي ما اعتُبرت أكبر فدية في التاريخ.
نصّ اتفاق “المدن الأربعة” على خروج 3800 شخص، بينهم مقاتلون من منطقة الزبداني بريف دمشق باتجاه محافظة إدلب، فضلاً عن خروج الراغبين من سكان مضايا والزبداني وبلودان إلى الشمال. إضافة لإخراج 8000 شخص بينهم مسلحون من المليشيات الموالية للحكومة السورية من بلدتي كفريا والفوعة بريف إدلب باتجاه مدينة حلب. كما تضمّن الاتفاق تبادلاً للأسرى والجثث بين الطرفين، وإخراج 1500 من المعتقلين لدى الحكومة السورية، معظمهم من النساء، وإدخال المساعدات الإنسانية، إضافة إلى هدنة في مناطق جنوب دمشق، وأولها في مخيم اليرموك. وشمل الاتفاق أيضاً حل قضية 50 عائلة عالقة في لبنان من أهالي الزبداني ومضايا، وذلك مقابل إخراج كامل سكان كفريا والفوعة على دفعتين. وفي عام 2018 توسع الاتفاق ليشمل الحجر الأسود ومخيم اليرموك جنوبي دمشق. |
خارطة تُظهر مناطق السيطرة العسكرية في سوريا أواخر العام 2015.
4. توصيات:
تمخضت عن الجلسة الحوارية التي عقدتها “سوريون” و”تآزر” وحضرها أهالي وناشطون من الزبداني ومضايا مجموعة من التوصيات التي يمكن تلخيصها بما يلي:
- ضرورة توجيه رسائل إلى الدول الفاعلة المتورطة في الملف السوري، خاصة في اتفاقيات التهجير، تطالبهم بالإعلان عن بطلان تلك الاتفاقيات، والاعتذار للشعب السوري عن النتائج الوخيمة التي خلّفتها، والعمل على إعادة الحال إلى ما كان عليه قبلها، ونشر نصوص تلك الاتفاقيات كي يضطلع عليها الشعب السوري.
- ضرورة قيام منظمات المجتمع المدني السورية، لا سيما الحقوقية منها، بالمهام الملقاة على عاتقها فيما يتعلق بتوثيق الانتهاكات التي تقع على الجغرافية السورية منذ آذار 2011، ومنها بطبيعة الحال تلك التي تخص الملكيات العقارية، بحيادية ومهنية، بما في ذلك القيام بحملات التوعية والمناصرة لتسليط الضوء على أهمية توثيق الانتهاكات العقارية ومدى تأثيرها مستقبلاً على حق المهجرين (النازحين واللاجئين) في العودة الآمنة والطوعية إلى أماكن سكناهم الاصلية، وتشجيع المدنيين على الاحتفاظ بالوثائق التي بحوزتهم الدالة على ملكيتهم للعقارات التي يدعون ملكيتها، وفضح وتسليط الضوء على اتفاقيات التهجير، والمناصرة لعدم قبول النتائج التي تمخضت عنها، لا سيما التغيير الديموغرافي.
- أخذ الحساسية الجندرية بعين الاعتبار، والتركيز على الملكيات العقارية للنساء، خاصة فيما يتعلق بآثار الاتفاق على تلك الحقوق، واعتبار البنود المذكورة في “مبادئ بنهيرو” بخصوص النساء والفتيات أساس حق الملكية والسكن لهذه الفئة.
- ضرورة مناشدة منظمات المجتمع المدني السورية للجنة التحقيق الدولية المستقلة والمحايدة الخاصة بالجمهورية العربية السورية، بأن تولي اهتماماً أكبر للانتهاكات التي تطال الملكيات العقارية في جميع المناطق السورية، والتركيز على عمليات التغيير الديموغرافي الناجمة عن اتفاقيات التهجير.
- الضغط على الحكومة السورية للقيام بواجباتها القانونية تجاه مواطنيها، لاسيما الكشف عن مصير المعتقلين والمفقودين، وإصدار شهادات الوفاة للمتوفين، وكذلك شهادات الميلاد وبيانات الزواج وغيرها من الواقعات المدنية، لما لتلك الوثائق من أثر كبير على حقوق الملكية، خاصة بالنسبة للسوريين المقيمين خارج مناطق سيطرتها.
- ضرورة النص دستورياً على سمو المعاهدات والاتفاقيات الدولية التي صادقت وستصادق عليها سوريا على القوانين الداخلية، لا سيما تلك المتعلقة بحقوق الإنسان وحرياته الأساسية، ومنها حق التملك، واعتبار المبادئ المتعلقة برد المساكن والممتلكات للاجئين والمشردين (مبادئ بنهيرو) جزءاً لا يتجزأ من القوانين السورية الداخلية.
- الضغط على الحكومة السورية لاعتبار عمليات الاستيلاء على الممتلكات تحت أي مسمى كان، وكذلك عمليات نقل الملكية باطلة، واعتبار القوانين الصادرة للتنظيم العمراني في سوريا غير مشروعة، وكذلك قرارات الاستملاك الصادرة بعد عام 2011، وإزالة الآثار الناجمة عن تلك القوانين، وإعادة الحال إلى ما كان عليه قبل آذار 2011، واعتبار السجلات العقارية قبل هذا التاريخ هي المعتمدة.
- الضغط على الحكومة السورية، الحالية أو المستقبلية، للإعلان صراحة عن بطلان اتفاقيات التهجير كونها لم تكن طرفاً فيها، ولم يتم التصديق عليها من قبل البرلمان السوري كما هو منصوص عليه في الدستور السوري، ولأنها تناقض المادة (34) من اتفاقية فيينا لقانون المعاهدات لعام 1969 التي تنص على أنه: “لا تنشئ المعاهدة التزامات أو حقوقاً للدولة الغير بدون رضاها”.
5. رأي قانوني:
نصت المادة 75 من الدستور السوري على أن مجلس الشعب (البرلمان) هو صاحب الصلاحية في إقرار أي اتفاقية، كي تصبح الأخيرة نافذة في سوريا، وملزمة لها ولسلطاتها، لكن الاتفاقية موضوع هذا التقرير لم تحقق الشرط المذكور، فلم تكن سوريا كحكومة طرفاً فيها، وإنما تمت تلك التفاهمات بالتعاون والتنسيق بين حكومة إيران والميليشيات التابعة لها في العراق وسوريا من جهة والفصائل العسكرية السورية المسلحة من جهة ثانية ودولة قطر من جهة ثالثة، وهذا يعني ضرورة عدم سريان تلك الاتفاقيات على سوريا وشعبها، ولا يمكن الاحتجاج بمضمونها بمواجهة سوريا، كونها لم تكن طرفا فيها ولم يتم إقرارها وفق الإجراءات القانونية المنصوص عليها في الدستور السوري.
ولأن “اتفاقية المدن الأربع” أدت إلى ارتكاب الكثير من الانتهاكات بحق أهالي وسكان المناطق التي تناولتها تلك الاتفاقيات/التفاهمات، من قتل واعتقال تعسفي واختفاء قسري وتعذيب وتهجير قسري ونهب ومصادرة ممتلكات وغيرها من انتهاكات وجرائم ترافقت أو تلت عمليات التهجير القسري، والتي قد ترقى إلى جرائم حرب أو جرائم ضد الانسانية، فإن الأطراف المتورطة في هذا التصرف غير المشروع يتحملون المسؤولية القانونية الكاملة عن تلك الانتهاكات، وعليها العمل على إلغاء الآثار غير المشروعة لتصرفاتها وإعادة الحال إلى ما كان عليه قبل تنفيذ ذلك الاتفاق /التفاهم، ما أمكن، وفي الحالات التي يكون التعويض العيني فيها مستحيلاً، فمن الواجب عليها قانوناً تعويض الضحايا عما لحق بهم من أضرار جسدية أو مادية أو معنوية جراء ذلك.
وعلى الدولة السورية، وانطلاقا من مسؤوليتها في صون الحقوق الأساسية لمواطنيها ــ كحق التملك والانتقال بحرية في أراضي الدولة[1] وغيرها من الحقوق المنصوص عليها في الدستورــ القيام بواجباتها لحماية سلامة أراضيها وكذلك سلامة مواطنيها وحقوقهم، وبالتالي مطالبة الأطراف المتورطة بتلك الاتفاقيات/ التفاهمات رسمياً بتحمل مسؤولياتها عن تصرفها غير المشروع.
إن غياب الرغبة الحقيقية والإرادة الحرة للسكان المدنيين في التقرير بخصوص مغادرتهم أماكن سكنهم الأصلية يعني إكراههم على تلك المغادرة وهو المعيار الرئيسي للتهجير القسري. فالتهجير القسري يعني أن السكان المدنيين يجبرون على الانتقال ضد إرادتهم ودون خيار حقيقي “عبر الطرد أو غيره من أشكال الإكراه. قد يشمل مصطلح “قسري” القوة المباشرة، فضلاً عن التهديد باستخدام القوة أو الإكراه، مثل تلك الناتجة عن الخوف من العنف أو الإكراه أو الاحتجاز أو الاضطهاد النفسي أو إساءة استخدام السلطة أو فعل استغلال ظروف المحيط/البيئة القسرية”.[2]
لا يغير واقع عقد اتفاقيات بين أطراف النزاع وتوسط أطراف ثالثة لعقد هذه الاتفاقيات من حقيقة أن أي ترحيل للسكان المدنيين لا يستوفي الشروط القانونية يعتبر تهجيراً قسرياً محظوراً في القانون الدولي. فالقانون الدولي يلحظ إمكانية إجلاء السكان المدنيين في حالات الضرورة العسكرية القهرية أو إذا اقتضى ذلك أمنهم وسلامتهم، على أن يكون الأساس المنطقي لهذا الإجلاء هو كونه حالة مؤقتة يجب أن تنتهي مع انتهاء الأسباب الموجبة له، ويجب أن يتم وفقاً للمعايير الدولية التي تعرضها المبادئ التوجيهية بشأن التشريد الداخلي. ولا يخفى من خلال تجربة “المدن الأربعة” وما يعرضه التقرير أن أصل الإجراءات التي تمت لم تهدف لحماية المدنيين ولا لضرورة عسكرية قهرية في سياق الأعمال العدائية. كما أن الممارسات التي تلت ذلك الاتفاق والتي أسست لحالة من الأمر الواقع المستمر تدل بوضوح على أن التوجه كان يهدف لتغيير التركيبة السكانية في هذه المدن بما يتناسب والغايات السياسية لأطراف النزاع، مع الأخذ بعين الاعتبار إمكانية توصيف هذا الأمر كتغيير ديموغرافي أو تطهير عرقي حسب ما ورد في القاعدة 129 من دراسة اللجنة الدولية للصليب الأحمر حول القانون الدولي الإنساني العرفي.
ولقضايا حماية الملكية اهتمام خاص في الإطار القانوني الخاص بالتهجير الداخلي، وعلى جميع الأطراف ذات الصلة حماية تلك الملكية من أي ممارسات قد تؤثر على تمتعهم بأي شكل بتلك الملكية، مثل النهب والمصادرة والتدمير ونقل الملكية فعلياً أو قانونياً.
6. صعوبات يواجهها مهجرو الزبداني ومضايا:
ترك اتفاق “المدن الأربعة” آثاراً عدة على المهجّرين، الذين كان عليهم البدء من الصفر في بيئة جديدة تكتنفها الكثير من التحديات، بما في ذلك الصعوبات المادية، وقلة فرص العمل، والتهديدات الأمنية، والاختلافات المجتمعية.
تصف نسرين (اسم مستعار لناشطة من الزبداني مقيمة في عفرين)، معاناة عائلتها في الفترة الأولى التي أعقبت التهجير:
“كانت السنوات التي تلت الحصار صعبة كالاقتلاع من الجذور، كنا دون مأوى ولا نمتلك أي مقومات للحياة، ومن الصعب للغاية استئجار منزل وجلب الأغراض له لأننا لم نكن نمتلك أي أموال أو عمل، كنا كالتائهين في الغابة، ناهيك عن عدم التأقلم مع البيئة والمحيط والحكام الجدد للمنطقة.”
الناشطة المدنية عُلا برهان، المنحدرة من الزبداني وتقيم في عفرين، تؤكد من جانبها أن الفقر هو أصعب ما واجه المهجّرين، وتضيف في وصف الصعوبات:
“تدهورت أوضاع المصابين بشدة، خاصة الذين كانوا يعانون من بتر في الأطراف لأنهم كانوا بحاجة دائمة لتجريفها وتنظيفها، وهو ما كان يتم في المشافي التركية ويحتاج إلى إذن للخروج إلى تركيا، ذلك فضلاً عن صعوبة الانخراط بالمجتمع الجديد، وعدم امتلاك بعض الأسر الوثائق المطلوبة لتسجيل الطلاب بالمدارس والتي تثبت ما اجتازوه من صفوف“.
في العام الأول من التهجير أسّس أهالي الزبداني الذين تجمّع أغلبهم في مدينة إدلب وبلدة معرة مصرين، مكتباً للنفوس خاص بهم يسجل حالات الولادات والزواج والطلاق، لكنهم فيما بعد عملوا تحت سلطة الإدارة الموجودة في إدلب، وفق ما بينت الناشطة عُلا.
بدوره يوضح الطبيب البيطري محمد يوسف المهجّر من مضايا إلى إدلب، أن المنظمات التي استقبلت النازحين قدمت لهم مساعدات إغاثية لمدة شهر واحد، وكان عليهم بعد انتهائه البحث عن خيم أو منازل للإيجار، وسط صعوبة تأمين السكن ومستلزمات المنزل، يقول بهذا الصدد: “خرجنا بملابسنا وبعض المستلزمات الضرورية جداً لأن باصات التهجير لم تتسع لنقل الأثاث أو الأدوات المنزلية والتي اضطررنا إلى تركها في منازلنا، كنا في السنة الأولى نستأجر المنازل مفروشة بـ (طراحة أو حصيرة)، وبعد السنة الثانية أو الثالثة بدأ الناس بشراء بعض مستلزمات المنزل، وما زلنا نعاني من تأمين الإيجارات بينما يسكن البعض في منازل شيّدتها المنظمات بأعالي الجبال أو في البلدات الحدودية البعيدة عن مناطق الاشتباك مثل حارم وسرمدا والدانا.”
وفي ظل انتشار البطالة وقلة فرص العمل، عمل المهجّرون على فتح أعمالهم الخاصة كل حسب اختصاصه: “عدتُ إلى عملي كطبيب بيطري بعد أن اضطررت للعمل كطبيب جراح في أثناء فترة الحصار، وكذلك عاد إلى عمله المعلم والمهندس والتاجر والحداد واللحام“.
ويبيّن د.محمد أن غالبية المهجّرين يعيشون كفاف يومهم، بينما لا تتجاوز نسبة الطبقة الغنية في إدلب الـ 15% وهم من أصحاب الأملاك الرئيسيين الذين يعملون في الصرافة أو تحويل الأموال أو لديهم محلات في السوق التجاري.
ويتحدث د.محمد عن مشاكل في التعليم، إذ بات يعتمد على المدارس الخاصة التي تبلغ تكلفتها نحو 200-300 دولار في السنة للطالب الواحد، أما المدارس العامة فتعاني من استهتار نتيجة عدم دفع رواتب المعلمين خلال السنتين الماضيتين.
الناشطة رؤى واجهت صعوبات من نوع آخر في إدلب: “اضطررنا إلى النزوح مرات عدة بسبب القصف المستمر، بعد وصولنا بثلاثة أيام استشهد شاب وزوجته من المهجّرين الذين قدموا معنا جراء القصف وبقي أطفالهم وحيدين في مواجهة الحياة، كما زاد من الصعوبات الاقتتال الدائر بين الفصائل، وقد تم اعتقال أخي وزوجي من قبل هيئة تحرير الشام، وإغلاق فرع هندسة المعلوماتية التابع لجامعة حلب الحرة حيث كنت أدرس من قبل الهيئة“.
وتلفت رؤى إلى أن بعض المهجّرين عادوا إلى الزبداني بسبب عدم قدرتهم على تحمّل الظروف التي واجهوها في إدلب، لاسيما في ظل قلة فرص العمل، وغلاء الإيجارات، والقصف المستمر، والاعتقالات التي تطال المهجّرين، والفوضى العارمة في المنطقة.
من جهتها تعتبر الناشطة نور برهان، ابنة مدينة الزبداني المقيمة في ألمانيا، أن الانتهاكات التي تطال مهجّري الزبداني ومضايا في إدلب على يد الجماعات الإسلامية المسيطرة، كالاعتقالات وسلب الحريات، ليست خاصة بهم بل هي تمارس على المدنيين المتواجدين بمناطق شمال غرب سوريا دون استثناء، وأنها أدت إلى عودة بعض الأهالي إلى مناطقهم رغم الصعوبات والمخاطر التي قد يواجهونها.
وتؤكد رؤى بدورها أن العديد من الرجال والنساء تم اعتقالهم من قبل قوات الحكومة السورية لمجرد عودتهم، وذلك إما بسبب تقارير كيدية سابقة، أو لوجود أسمائهم ضمن قوائم من اختار الخروج نحو إدلب، وقد تراوحت مدة الاعتقال بالنسبة للنساء بين عدة أيام وعدة أشهر، أما الرجال فمنهم من انقطعت أخبارهم وتحولوا لمختفين قسرياً.
7. حال الزبداني ومضايا اليوم:
بعد فك الحصار عنها لم تعد الزبداني ومضايا كما كانت، فقد خسرت مقوماتها التي كانت تميزها من سياحة وزراعة وتجارة، إذ كانت مقصداً سياحياً للسوريين من مناطق عدة، والخليجيين الذين تملكوا فيها نحو 20% من عقاراتها، لكن نسبة الدمار التي لحقت بها وصلت إلى نحو 80%، وخسر غالبية سكانها الذين كانوا يعملون في الزراعة مصدر كسبهم، مع ما طالها من تلف للأراضي الزراعية، واقتلاع للأشجار وحرق للسهول، فضلاً عن تحويل عدة هكتارات من الأراضي في محيطها إلى حقول ألغام ما يجعل عملية استصلاحها وزراعتها محفوفة بمخاطر مميتة، إلى جانب تحويل حزب الله اللبناني المنطقة إلى مستودع كبير للسلاح القادم من إيران، ومرتعاً لإنتاج المخدرات.
يصف الناشط أبو نضال السوري ما حلّ بالزبداني: “بعد فك الحصار وتهجيرنا إلى الشمال، بدأ الأهالي النازحون إلى محيطها بالعودة إلى مدينتهم المدمرة، وكان شبيحة النظام يسرقون المنازل أمام أعين أصحابها بالقوة، والعائدون يُمنعون من التحرك دون الحصول على إذن، وهم يعيشون اليوم بوضع مأساوي خاصة في ظل عدم توفر فرص العمل، فقد تعرضت أشجار الفاكهة التي كانت تتميز بها الزبداني للقطع على يد عناصر النظام وحزب الله من أجل بيعها كحطب للتدفئة، إلى جانب سرقة المحركات التي كان يعتمد عليها المزارعون في ري أراضيهم، وردم غالبية الآبار، وهو ما زاد من معاناة الأهالي“.
تضيف الناشطة نور برهان بهذا السياق: “يمكن وصف الوضع إجمالاً بالسيئ كما هي الحال في جميع مناطق سيطرة الحكومة السورية، لكن ما يزيده سوءاً هو حرق الأراضي الزراعية وسهل الزبداني وخسارة البنية الزراعية التي كان يعتمد عليها السكان، كما أن معظم الأبنية لا تزال مهدمة، ويُمنع في كتير من الأحياء العمار أو الترميم“.
من جانبه يعتبر الناشط المدني، أمجد المالح، ابن مدينة مضايا المقيم في عفرين، أن انتشار المخدرات بشكل كبير وسوء الأوضاع الأمنية هو أخطر ما يهدد المنطقة: “الزبداني ومضايا اليوم هي مرتع لتجارة المخدرات تحت سيطرة الفرقة الرابعة وحزب الله، ففي مضايا يوجد أربعة معامل لإنتاج المخدرات والمجتمع الدولي يعرف وهو متواطئ، وهناك مخطط لشق طريق من حمص إلى لبنان عن طريق القلمون“.
ويضيف: “ذلك إلى جانب الوضع الأمني السيئ مع انتشار السرقات والاستيلاء على المنازل بطريقة غير شرعية، كما تشهد المنطقة تجدد العمليات ضد النظام من قبل بعض الأشخاص الذين استقروا في الجبال، إذ أقدموا مؤخراً على قتل رئيس شعبة حزب البعث في الزبداني، عماد التيناوي، في أثناء مروره من الطريق الواصل بين مدينتي الزبداني و بلودان“.
تُعتبر الزبداني منطقة مهمة جيوسياسياً فهي تقع بمحاذاة الحدود اللبنانية – السورية، وتواجهها آخر نقاط الجنوب اللبناني والتي تعدّ معقلاً لحزب الله، فهي صلة وصل ما بين دمشق وحزب الله، ويمر منها طريق دمشق بيروت الأساسي، وتبعد عن العاصمة دمشق نحو 45 كيلومتراً، وكانت تعد المركز السياحي لدمشق، ويقع فيها القصر الرئاسي. |
8. في الزبداني ومضايا لا ملكية لمعارض:
عمدت الحكومة السورية إلى مصادرة أملاك المعارضين لها بقوة القانون، ففي عام 2012 صدر القانون رقم 19 لعام 2012 (قانون مكافحة الإرهاب)، والقانون رقم 22 لعام 2012 (إنشاء محكمة الإرهاب)، ما أتاح لها الحجز على الأموال المنقولة وغير المنقولة لمعارضين سياسيين، وُجهت إليهم تهم دعم ما يسمى بـ”الإرهاب”، كما صدرت قرارات الحجز الاحتياطي على العديد من أملاك مواطني مناطق ثارت ضد الحكومة، إلى جانب مصادرة أملاك المهجّرين والمتخلفين عن الخدمة الإلزامية في الجيش السوري، وقالت منظمة هيومن رايتس ووتش إن: “الحكومة السورية تستغل قوانين مكافحة الإرهاب الكاسحة ومحكمتها المتخصصة ضد المدافعين عن حقوق الإنسان وغيرهم من النشطاء السلميين بتهمة مساعدة الإرهابيين في محاكمات تنتهك الحقوق الأساسية في الإجراءات القضائية السليمة.”
ويؤكد الناشط أمجد المالح مصادرة أملاكه في مضايا بقرار صادر عن “محكمة الإرهاب”، ويبيّن بهذا الصدد: “أُدرج اسمي مع عدد من الأشخاص الذين لم أعرف منهم سوى اسم واحد، ولفّقوا لي تهمة الانضمام لخلية إرهابية، وبموجبها تم الحجز على أملاكي المنقولة وغير المنقولة والحكم عليّ بالإعدام غيابياً.”
ويلفت أمجد إلى أن قرار الحجز على الأملاك صدر بحق العديد من مهجّري الزبداني ومضايا دون أن يتم تبليغهم به وكانوا يكتشفون ذلك بالصدفة.
بدوره يؤكد أيهم (اسم مستعار لناشط من الزبداني يقيم في لبنان) مصادرة ملكياته العقارية وعدم قدرته على استردادها، يقول: “تم وضع إشارة حجز احتياطي على أملاكي ولا أستطيع التصرف بها، لم أتمكن من رفع تلك الإشارة لأنها أمنية“.
من جهتها تلفت الناشطة نور برهان إلى أن بعض حالات الاستيلاء على الملكيات العقارية في الزبداني ومضايا تتم بطرق احتيالية أو تحت الضغط، مشيرة إلى أن الاستيلاء على أملاك النساء كان أسهل من غيرهنّ، “بسبب إضعافهنّ قانونياً وعرفياً ما يجعل عمليات النصب والضغط أسهل على ملكياتهنّ خصوصاً“.
الناشط المدني علي نصر الله يبين من جانبه أن المنطقة لم تتأثر بقانون الاستملاك رقم 10 لعام 2018، لكن بعض القوانين السورية لعبت دوراً في عرقلة المعاملات العقارية مثل القرارات المترتبة على محاكم الإرهاب، بالإضافة إلى غياب أطراف المعاملات العقارية وتشتتهم بين الشمال ودمشق، مشيراً إلى أن عمليات الاستيلاء هي في ظاهرها صادرة بموجب أحكام قضائية مبنية على القوانين السورية وليست حالة انتقامية، ما يجعل استرجاعها أو المطالبة بها أمراً صعباً.
وقد رافق عمليات الاستيلاء إتلاف متعتمّد لسجلات مدنية، ففي عام 2017 نقلت مصادر مطلعة عن مسؤولين كبار في لبنان قولهم إنهم يراقبون ما يُعتقد أنه إحراق منهجي لمكاتب السجل العقاري والأحوال المدنية في المناطق السورية التي استعادت الحكومة السيطرة عليها، بهدف منع السكان المحليين من إثبات ملكية عقاراتهم، خاصة في كل من: مضايا والزبداني والقصير، وحمص، وداريا، وأحياء في محيط دمشق وحلب.
9. آثار الاتفاق على أهالي كفريا والفوعة:
خرج أهالي كفريا والفوعة بموجب اتفاق “المدن الأربعة” على دفعتين في عامي 2016 و2017، وتوزعوا حينها على مراكز إيواء في اللاذقية وحمص، أما الباقون فخرجوا في اتفاق الإخلاء الكامل عام 2018، وتم استقبال معظمهم بمركز إيواء في جبرين شرقي حلب.
واشتكى العديد من المهجّرين ندرة المساعدات، والمعاملة التفضيلية التي حصلت عليها عوائل المقاتلين في صفوف المليشيات الشيعية أو المقربون منهم، واضطرت بعض العائلات للخروج من مراكز الإيواء والسكن في منازل مستأجرة، أو لتطويع أبنائها في صفوف المليشيات كي تتمكن من تدبير معيشتها، وتوجّه قسم من المهجّرين إلى منطقة السيدة زينب جنوبي دمشق للعمل والإقامة.
ومنذ عام 2018 شهدت المناطق المحيطة بالسيدة زينب عمليات بيع واسعة للعقارات من أصحابها الأصليين لصالح أهالي كفريا والفوعة وشخصيات محسوبة على الميليشيات الشيعية، وشيعة أجانب إيرانيين وعراقيين وأفغان، ضمن خطة طويلة الأمد لتحويل المنطقة إلى ضاحية شيعية أشبه بضاحية بيروت الجنوبية.
ويستغل سماسرة قرار الحكومة السورية عدم السماح لأهالي المنطقة الأصليين بالعودة، لشراء منازلهم تحت وطأة التهديد من استملاك تلك المنازل أو الحجز عليها، خاصة تلك التي تعود لمقاتلي المعارضة وعوائلهم الذين هُجروا قسرياً نحو الشمال السوري، فيقومون بالاتصال بهم وعرض مبالغ مالية زهيدة مقابل عقاراتهم، سواء كانت مدمرة أو صالحة للسكن.
وفي حلب عملت ميليشيات إيرانية منذ عام 2018 على توطين أهالي كفريا والفوعة في منازل المهجّرين قسرياً من الأحياء الشرقية للمدينة، كالصالحين والميسر والفردوس والمشهد والسكري، وقدمت لهم مساعدات من فرش وأغطية ومواد غذائية واشتراكات بالمولدات الكهربائية.
ومنذ بداية عام 2019 عملت الميليشيات على ترميم المنازل غير الصالحة للسكن بدعم مباشر من “هيئة إعادة الإعمار الإيرانية”، ومنحت قسماً منها لعائلات عناصرها والمقربين منهم، بينما تقوم بتأجير قسم آخر.
تقع بلدتا كفريا والفوعة في ريف إدلب الشمالي، وتتميز بكونهما من البلدات القليلة في سوريا التي يغلب الشيعة على أهلها. هجر الهدوء البلدتين بعد عام 2011 إثر وقوف سكانهما في الحرب مع الحكومة السورية ضد القرى السنية المحيطة بهما التي تطالب بتنحي الرئيس بشار الأسد. في عام 2015 سيطرت الفصائل الإسلامية على كامل محافظة إدلب باستثناء بلدتي الفوعة وكفريا اللتين باتتا محاصرتين، وتحولتا إلى منطقة عسكرية نتيجة تحصن قوات الحكومة السورية وعناصر من ميليشيا حزب الله داخلهما. واستخدمت فصائل المعارضة البلدتين لسنوات كورقة ضغط لطرح شروطها خلال مفاوضات مع الحكومة السورية وحزب الله. |
10. تنازع على ملكية العقارات في كفريا والفوعة بغياب أصحابها:
بعد إخلائهما من سكانهما في تموز/يوليو 2018 بموجب اتفاق المدن الأربعة، سيطرت الفصائل الإسلامية المسلحة على بلدتي كفريا والفوعة، وقسمتها إلى قطاعات.
وتسيطر هيئة تحرير الشام على أكثر من نصف المنازل في كفريا، بينما يتقاسم النصف الآخر الحزب الإسلامي التركستاني وأنصار التوحيد.
في حين تخضع الفوعة لسيطرة هيئة تحرير الشام وجيش الأحرار وفيلق الشام وأحرار الشام وتجمع أبناء دمشق، ويفرض كل فصيل سيطرته على قطاع كامل بما فيه من منازل ومحال تجارية.
ويقطن البلدتان عشرات العائلات النازحة من أرياف دمشق وحمص وريفها ودرعا والقنيطرة وغيرها، غالبيتهم من مُهجّري مضايا والزبداني والغوطة الغربية بشكل عام.
ومنذ عام 2018 تدور نزاعات واشتباكات بين المدنيين والفصائل على أحقية السكن في بيوت مهجّري كفريا والفوعة الذين خسروا كل ما كانوا يملكونه ولم يعد بإمكانهم استرداد أملاكهم، إذ عمدت الفصائل إلى إخراج بعض القاطنين من المنازل التي يسكنونها أو إجبارهم على دفع الإيجارات لهم وإبرام عقود رسمية بين الفصيل والمهجّرين، بذريعة أنها تشكّل “غنية حرب” للفصيل.
وكانت الفصائل قد وزعت في البداية المنازل المهجورة على المدنيين دون أي ثمن، لكنها لم تكن مخدّمة بشكل جيد، فعمل البعض على ترميمها وإكسائها بأموالهم الشخصية كل حسب استطاعته، بهدف البقاء فيها.
وعقب مغادرة سكانها الأصليين تعرضت معظم منازل كفريا والفوعة لنهب ما فيها من أثاث ومفروشات وأدوات كهربائية إضافة لمواد الإكساء، وأقامت لاحقاً هيئة تحرير الشام مزاداً علنياً لبيع الأغراض المستولى عليها تحت مسمّى “غنائم”.
ويُبيّن الناشط المدني علي نصرالله أنه لم تتم أي عمليات بيع أو شراء قانونية للعقارات في كفريا والفوعة من قبل مالكيها الأصليين، بل تتبع العقارات بشكل مباشر لمكاتب الإسكان التابعة للفصائل وهي من يتحكم بها، ويكتب قاطنوها الحاليون عقود إيجار مع هذه المكاتب سواء كانوا مهجرين من الزبداني ومضايا أو غيرها من المناطق.
ويشير علي إلى أن مهجّري الزبداني ومضايا يتوزعون من حيث العدد في الفوعة فكفريا فإدلب فعفرين، ويوضح أن: “الحالة الاقتصادية للمهجّرين أجبرتهم على قبول السكن بمنازل الفوعة وكفريا بالمجان، إلى جانب ترويج الفصائل بأن المنطقة غنيمة حرب ونستطيع أن نفعل بها ما نشاء، أما المناطق الأخرى فقد كان توفر العمل والقدرة المادية والخدمات الدافع للسكن فيها”.
من جانبه يؤكد الناشط من ريف دمشق براء الشامي (اسم مستعار) أن المهجّرين المقيمين في كفريا والفوعة قدموا إليها بسبب ضيق أوضاعهم الاقتصادية، لافتاً إلى أنهم يستأجرون حالياً منازل من الفصائل المسلحة.
ويشير إلى أنهم يواجهون الكثير من الصعوبات منها تلك المتعلقة بنقص الخدمات الأساسية والبنية التحتية الهشة في المنطقة بشكل عام، إلى جانب معاناتهم بسبب تهجيرهم من مناطقهم، مضيفاً القول: “عندما تمتلك منزلاً لكنك تكون مضطراً لاستئجار آخر هذا شيء صعب مادياً ونفسياً”.
ويلفت براء إلى أن المسلحين كانوا يحضّون المهجّرين الذين قدموا إلى إدلب، على السكن في كفريا والفوعة لا سيما في ظل ارتفاع الإيجارات بإدلب والتي قد تصل إلى 150 دولاراً للمنزل الواحد شهرياً، وكانوا يخبرونهم أن هذه البيوت والأراضي هي عوض بيوتكم وممتلكاتكم في مناطقكم.
ويضيف بهذا السياق، “كنا نحاول توعية الناس بألا يقبلوا بهذا الأمر حتى وإن كانت الحاجة كبيرة”.
طالبت حكومة الإنقاذ في بيان أصدرته بتاريخ 6 آب 2018، بنقل المهجّرين والنازحين المقيمين في مدارس بمدينة إدلب إلى بلدتي كفريا والفوعة قبل بدء العام الدراسي، وطالب البيان بتأمين سكن بديل للمهجّرين في منازل البلدتين. |
11. طريق التهجير الطويلة:
ترتبط ذكرى التهجير في أذهان أهالي المدن الأربعة بالكثير من المشاق التي واجهتهم على طول الطريق. يستذكر الناشط المدني أمجد المالح الطريق الذي سلكه أهالي مضايا نحو الشمال السوري، والانتهاكات التي طالت المهجّرين بالقول:
“خرجنا من مضايا في 12 نيسان/أبريل 2017، كان عددنا حوالي 2700 شخص، مررنا بالعديد من المدن السورية حتى وصلنا إلى محطة الراموسة بحلب، وهناك حصل تفجير في حي الراشدين استهدف أهالي الفوعة الخارجين من حلب، وتوفي حينها نحو مئة شخص أغلبهم أطفال، ومن بين القتلى أناس كانوا ينتظرون أهاليهم القادمين من الزبداني ومضايا، ترافق ذلك بتواجد أمني كثيف من الميليشيات الإيرانية والشرطة العسكرية الروسية، مع مرافقة الهلال الأحمر السوري الذي كان تعامله سيئاً جداً ولم يقدم أي شيء، التخوف الأكبر كان من أن تتم تصفيتنا كردة فعل على هذا التفجير الإرهابي، فقمنا بحملة إعلامية سريعة لنؤكد أنه لا دخل لنا بالأمر“.
ويضيف:
“وصلنا إلى مدينة إدلب يوم 14 نيسان/أبريل، لم يكن هناك مراكز إيواء مجهزة، وزعونا على المشافي، يومها قدمت المنظمات الطعام والمساعدات للمهجّرين لكن بطريقة غير مدروسة، ما أسفر عن مرض العديد منهم لأنهم كانوا لسنوات محرومين من الطعام ومعتادين على البقوليات وأطعمة معينة، ما أدى إلى الإضرار بهم“.
تفاصيل تفجير الراشدين على لسان أحد المهجّرين كما ذُكر في كتاب “المقاعد الخالية” الذي وثق يوميات حصار كفريا والفوعة: “حوالي الساعة الثالثة جاءت سيارة تحمل أكياس شيبس للأطفال وصاروا ينادون الأطفال كي يأخذوها، وفعلاً ركض أطفالنا الجائعون منذ ليلتين ونهارين نحو السيارة، ركضوا كي يتذوّقوا من جديد طعمة الشيبس التي نسوها منذ بدء الحصار اللعين، وفجأة سمعنا صوت انفجار قوي جداً، وبسرعة شديدة لفّنا دخان أسود كثيف ودبّ الرعب في قلوبنا، وصار الجميع يصرخ ويركض يمنة ويسرة، والرجال تصرخ على النساء حتى يتجمّعن، والمسلحون يتراكضون وأسلحتهم بأيديهم.. السيارة التي انفجرت كانت متوقّفة إلى جانب الباصات التي في المقدمة، طبعاً هذه الباصات احترقت بمن فيها، وكلّ المنظر كان مروعاً ولا يمكن لقلم أن يصف ما جرى، فالدماء والأشلاء والجثث غطّت المكان، واندفع الناس ليبحثوا عن أولادهم وهم يصرخون ويعوّلون ويضربون وجوههم..” |
12. شروط العودة:
لا يرى مهجّروا الزبداني ومضايا الظروف الحالية ملائمة لعودتهم، خاصة في ظل غياب بيئة آمنة ومحايدة تسبقها إجراءات بناء ثقة تتعلق بمحاسبة المتورطين، وإعادة الحقوق لأصحابها.
يقول الطبيب محمد يوسف بهذا الصدد: “كل إنسان مغترب عن بلده يتمنى أن يعود عاجلاً غير آجل، عدد كبير من الناس يتمنون العودة اليوم قبل غد لكن القبضة الأمنية التي يفرضها النظام على مناطق سيطرته تحول دون ذلك، كل الناس المتواجدين في إدلب من الطفل الصغير إلى الشيخ الكبير مطلوبون أمنياً للنظام ولا نعطيه الأمان، شاهدنا حالات كثيرة لأشخاص عادوا إلى مناطق النظام فقام باعتقالهم على أقرب حاجز وإعادتهم إلى أهلهم جثثاً هامدة، وبالتالي لا عودة إلى الزبداني ومضايا حتى يرحل النظام وتسقط القبضة الأمنية ونتخلص من الطائفية والتحزبات، وترجع الحياة طبيعية حرة كريمة“.
وتتفق نسرين مع د. محمد، وتقول: “لا أرى أملاً في عودة المهجّرين دون سقوط نظام الأسد“.
أما أيهم فيرى أنه في ظل الظروف الاقتصادية الحالية من الصعب الرجوع إلى البلد.
13. خاتمة:
حققت الجهات الدولية التي صاغت وأشرفت على تنفيذ اتفاق “المدن الأربعة” مصالحها وغاياتها منه على حساب مصائر أهالي هذه المناطق الذين خسروا كل ما كانوا يملكونه، واضطروا لبدء حياة جديدة من الصفر في ظل ظروف وتحديات سياسية واقتصادية واجتماعية صعبة.
لم يُشر الاتفاق إلى إمكانية عودة الأهالي إلى مناطقهم مستقبلاً، ولا إلى ما سيحل بملكياتهم العقارية من منازل وأراضٍ ومحال تجارية هي بمثابة (شقا عمرهم) الذي جنوه على مدى سنوات طويلة.
ولا تزال معاناة الأهالي مستمرة في دفع تكاليف إيجارات البيوت وﻏﻴﺮها ﻣﻦ ﻧﻔﻘﺎت اﻟﻤﺮاﻓﻖ ﻣﺜﻞ اﻟﻤﻴﺎه واﻟﻜﻬﺮﺑﺎء، وتوفير الخدمات الأساسية الأخرى من تعليم وصحة وغيرها، وتتفاقم الصعوبات التي يواجهها النازحون في المخيمات ومراكز الإيواء.
بينما تقاسمت الحكومة السورية والميلشيات الإيرانية الموالية لها من جهة وفصائل المعارضة المسلحة من جهة أخرى الاستيلاء على أملاك بعض المهجّرين، الأمر الذي ترافق مع ﺗﻐﻴﻴﺮ اﻟﺴﺠﻼت اﻟﻘﺪﻳﻤﺔ أو تلفها، وفقدان بعض الأهالي أوراقهم الثبوتية، ما يجعل من الصعب إﺛﺒﺎت ﺣﻘﻮق اﻟﻤﻠﻜﻴﺔ أو اﻟﻤﻄﺎﻟﺒﺔ ﺑﺘﻌﻮﻳﻀﺎت.
وتتجلى أهم عواقب الاتفاق فيما أحدثه من تغيير التركيبة السكانية السورية، إذ أفضى إلى أكبر عملية تغيير ديموغرافي في البلاد على أساس طائفي. ويجب على الأطراف المتورطة بالاتفاق العمل على إعادة الحقوق لأصحابها، وتأمين ظروف العودة الطوعية والآمنة والكريمة للمهجّرين/ات قسراً عن مناطقهم.
[1] فقد أدت الاتفاقيات /التفاهمات المذكورة إلى حرمان أهالي المدن الأربع من ممتلكاتهم ولا سيما العقارية، وكذلك أجبرتهم على الانتقال بشكل قسري إلى مدن وبلدات سورية أخرى دون أن تكون لديهم أي صلاحية بهذا الخصوص، وهذا يتناقض مع ما هو منصوص عليه الدستور السوري ولا سيما المواد 15 و 38 منه.
[2] ICTY, Prosecutor v. Radovan Karadžić, Case No. IT-95-5/18-T, Public Redacted Version of Judgement Issued on 24 March 2016 – Volume I of IV (TC), 24 March 2016, § 489.