الرئيسية صحافة حقوق الإنسان سوريا/درعا: انتشار التهاب الكبد الوبائي نتيجة ندرة المياه المأمونة

سوريا/درعا: انتشار التهاب الكبد الوبائي نتيجة ندرة المياه المأمونة

تعجز الحكومة السورية عن تأمين المياه الصالحة للشرب والسقاية وحماية صحة مواطنيها

بواسطة communication
312 مشاهدة تحميل كملف PDF هذا المنشور متوفر أيضاً باللغة: الإنجليزية حجم الخط ع ع ع

يواصل مرض التهاب الكبد انتشاره في محافظة درعا، جنوبي سوريا، بسبب تلوث مياه الشرب، وسط إهمال الحكومة السورية، وعجز المراكز الطبية وتدهور الوضع الصحي في المحافظة، مهدداً حياة أكثر من 30 ألف مدني هناك، وذلك بالرغم من توجيه اﻷهالي عدة نداءات تطالب بإنقاذهم.

فقد أصدر الأهالي نهاية شهر أيلول/سبتمبر 2023 بياناً، ناشدوا فيه المنظات والهيئات الدولية والإنسانية والإغاثية والحقوقية بالتدخل لمساعدة المحافظة “المنكوبة” التي اجتاحها التهاب الكبد الفيروسي، مؤكدين بأنّه لا يخلو بيت من الإصابة بهذا الوباء الذي حلّ بهم جراء تلوث مصادر مياه الشرب وإهمال الحكومة، مضيفين بأنّهم وجّهوا عشرات نداءات الاستغاثة فتمّ تلبية: “النداء بالأدوية الفاسدة وترك الأهالي يواجهون مصيرهم المجهول…”. بحسب وصفهم.

وكشفت المعلومات التي حصلت عليها “سوريون من أجل الحقيقة والعدالة” بشكل خاص من مصدر طبي محلّي، عن تسجيل حوالي 2000 إصابة بالتهاب الكبد في عموم محافظة درعا ما بين شهري حزيران/يونيو وتشرين الأول/أكتوبر 2023.

تواصلت “سوريون” مع عدد من المرضى وذويهم ومع عاملين/ات في القطاع الصحي والدراسي وفي مديرية المياه بمنطقة حوض اليرموك في درعا، وذلك من أجل الوقوف على أسباب انتشار الوباء والإجراءات التي تتخذها الحكومة السورية، للتصدي لهذه الأزمة، وقصور الاستجابة عن حماية السكان.

  1. المياه الملوثة تسبب انتشار وباء التهاب الكبد:

تحدثت “سوريون” مع أحد المزارعين في بلدة “الشجرة” بريف محافظة درعا، كانت زوجته وابنته قد تعرضتا للإصابة بمرض التهاب الكبد الوبائي بعد شربهما من مياه الري/السقاية، حيث أصيبتا عقب ذلك بآلام شديدة في البطن والظهر، فضلاً عن إصابتهما باصفرار العينين والجلد. قال المصدر لـ”سوريون”:

أملك مزرعة خضراوات بين قريتي الشجرة ونافعة، وأنا معتاد أن أسقي المحصول من ماء السواقي الذي يأتي من نبع (عين ذكر). كان هذا الماء نظيفاً قبل سنوات، لكنه أصبح ملوثاً بشدّة بسبب التعديات من قبل المزارعين الذين يقومون بمد خطوط من السواقي إلى المزارع، ثم لا يزيلون هذه الخطوط بعد إنهاء السقي، مما يؤدي إلى رجوع المياه الملوثة إلى الخط الرئيسي. لا يوجد لدينا خيار آخر فالدولة قننت وصول الماء إلى المزارع، كما أن شراء الماء للسقاية مكلف جداً، والمطر قليل جداً في السنوات الأخيرة ولا يكفي، كما لا يوجد مصدر ماء آخر في المنطقة، لذا كان عليَّ أن أستخدم هذا الماء لأتمكن من بيع محصولي وإطعام عائلتي“.

هذا ولا يقتصر التلوث على مياه الري في محافظة درعا، فقد  أصيبت طالبة في الصف السابع الإعدادي في بلدة “الشجرة” بمرض التهاب الكبد الوبائي بعد أن شربت من المياه في المدرسة. روت الطفلة بحضور ذويها في إفادتها لـ”سوريون” ما يلي:

بدا لي الماء نظيفاً، وكنت أشرب منه يومياً، حتى بدأت أشعر بألم في بطني وحرارة في جسمي. ظننت بدايةً أنها نزلة برد عادية ولم أهتم كثيراً، لكنّ المرض أشتد وأصبح لون عينيّ وجلدي أصفر فشعرت بخوف شديد خاصة أن الجميع كانوا يتحدثون عن انتشار مرض التهاب الكبد الوبائي في البلدة. ذهبت مع والدي إلى المركز الصحي في القرية، وأكدوا إصابتي بالفعل وقالوا بوجوب تجنب شرب الماء الملوث، وضرورة غليه قبل استخدامه، لكن هذا صعب جداً فلا يوجد ماء نظيف في القرية، ولا يوجد كهرباء أو غاز لغليه“.

فيما لم يشفى بعض المصابين في درعا من المرض، بل تدهورت حالتهم وتسبب المرض بوفاتهم، خاصة من كان يعاني منهم من مشاكل صحية سابقة. على سبيل المثال، كشف أحد المدرسين لـ”سوريون” من ريف درعا، عن إصابة اثنين من طلابه عقب شربهما من ماء المدرسة التي يغذيها الخط الرئيسي لبلدة الشجرة والذي كان مختلطا بالصرف الصحي، ما أدى لموت أحدهما بعد فترة وجيزة من الإصابة. حيث قال المدرس:

كان عليهما الذهاب إلى المشفى الوطني في نوى، والبعيد جداً عن (بلدة الشجرة)، وتوجب عليهما الانتظار في طوابير طويلة للحصول على الفحص والعلاج لأنه المشفى الحكومي الوحيد بالمنطقة وأغلب سكان قرى ونواحي نوى تقصده. كما توجب على أهالي الطالبَين دفع مبالغ كبيرة لشراء الأدوية والمواد الغذائية لأن المشفى لا تقدم أي أدوية خاصة بالتهاب الكبد الوبائي، رغم أن ّمنطقة درعا تعاني سنوياً من هذا المرض بسبب تلوث المياه. كنتُ أزور الطالبين في المشفى للاطمئنان عليهما خاصة بعد أن تدهورت حالتهما لإصابتهما بمرض الربو والحساسية. حاولت أن أشجعهما وأدعمهما لكن ذلك لم يكن كافياً. لقد توفي أحدهما بعد أيام، والتقرير الطبي للمشفى أرجع موته لتدهور حالته التنفسية، معتبراً أن مرض الكبد الوبائي أو الأدوية التي أخذها لم تكن هي المسبب الرئيسي في موته، بل تفاقم الحساسية لديه وضعف الرئة أديا للوفاة“.

وبحسب منظمة الصحة العالمية، تنتقل العدوى بفيروس التهاب الكبد عن طريق تناول الأطعمة والمياه الملوثة أو المخالطة المباشرة لشخص مصاب بالعدوى، ويرتبط خطر الإصابة بشكل خاص بنقص المياه المأمونة وتردي مستوى الإصحاح والنظافة العامة.

  1. عجز الحكومة السورية عن حماية صحة مواطنيها:

أجمعت المصادر التي تحدثت معها “سوريون” على عدم قدرة المراكز الطبية الحكومية على استقبال المرضى، وعلى عدم وجود طاقم طبي كافي أو أدوية مناسبة للمرض. حيث قالت إحدى الممرضات في المركز الصحي في بلدة “عين ذكر” بريف درعا، بأنّه تمّ استدعاؤها بتاريخ 20 أيلول/سبتمبر 2023، إلى المركز الصحي في بلدة “الشجرة”، بسبب كثرة حالات الإصابة بمرض التهاب الكبد الوبائي وقلة الكوادر الطبية داخل المركز.

أخبرت الممرضة “سوريون” بأنّ الكادر الطبي كان يستخدم المياه الملوثة ذاتها من أجل تعقيم الجروح والأدوات، مضيفة بأنها حاولت قدر المستطاع مساعدة المرضى:

“أبلغتنا مديرية الصحة في درعا أنّ سبب تركز الإصابات في هذه القرى ناجم عن تلوث واختلاط مصادر مياه الشرب. حتى اليوم[1] سجّل المركز إصابة 1519 حالة معظمهم من الأطفال والنساء. لقد شاهدت كيف كان العديد من المصابين في الشارع وأكياس السيروم معلقة بأيديهم نتيجة انتشار المرض وعدم قدرة المركز على استيعابهم”.

كما كشفت الممرضة عن عدم تقديم أي دعم للمركز سواء من وزارة الصحة أو المراكز القريبة، باستثناء بعض المساعدات من أهالي درعا وأبناء بلدة “الشجرة” المغتربين، رغم معاناة المركز من نقص الأدوية والمستلزمات الطبية الحاد، لدرجة الاضطرار لاستخدام أدوات الحقن نفسها لأكثر من مريض واحد، مما زاد من خطر العدوى. أضافت الشاهدة:

تفتقر المنطقة للمراكز الصحية، حيث يوجد مركز واحد ببلدة الشجرة وهو ضعيف أيضاً حيث لا يوجد فيه أطباء، بل ممرضين يقومون بإسعافات أولية تتمثل بوضع سيرومات فقط. وقد اقتصر عمل مديرية الصحة بدرعا على توعية المواطنين باتباع إرشادات النظافة العامة وإغلاق خزانات المياه وتعقيمها بشكل مستمر وتنظيف مصادر الطعام، إضافة إلى ضرورة عزل الأدوات الشخصية للمصاب عن باقي أفراد العائلة“.

بالإضافة إلى آثار المرض المباشرة، ضاعفت الاستجابة المحدودة وشح الموارد الطبية من معاناة الأهالي ومخاوفهم، ومنهم والدة أحد أطفال بلدة “الشجرة” المصابين بالتهاب الكبد الوبائي ويبلغ من العمر خمس سنوات، والتي قالت لـ”سوريون” ما يلي:

لم نستطع إيجاد طبيب يعالج الطفل لكن ساعدنا بعض الممرضين في المركز الصحي الوحيد في البلدة، وقد أخبروني أنه يحتاج إلى سيرومات وأدوية لا تتوفر لديهم بسبب كثرة الإصابات. كان ابني يتألم كثيراً ويبكي طوال الوقت، وقد كنت أشعر بخوف كبير على حياته وعلى حياة بقية أطفالي. أخذنا الطفل إلى مشفى الشفاء الخاص بمدينة درعا لعلاجه، لكنهم رفضوا إبقاءه هناك وطلبوا إعادته للبيت بعد إعطائنا السيروم وتعليمنا كيفية تركيبه للطفل“.

مواجهاً ذات العجز في الاستجابة، قال المزارع من بلدة “الشجرة” الذي تحدثنا معه:

لم أستطع إحضار زوجتي وابنتي إلى المشفى الخاص بمدينة نوى أو درعا، فهما بعيدتان جداً عن قريتي ولا أملك وسيلة نقل خاصة، لذا اضطررنا للجوء إلى المركز الصحي بالبلدة، والذي كان مكتظاً جداً، حتى أنّ الممرضين طلبوا منا عدم إحضار المرضى إليهم، بل عزلهما في البيت، وأخذ السيرومات لهما“.

  1. عجز الحكومة السورية في توفير المياه الصالحة للشرب والسقاية لمواطنيها:

بهدف التعرف على أسباب انتشار هذه الظاهرة الخطيرة والمتمثلة بتلوث المياه المخصصة للشرب والسقاية، وما تخلفه من نتائج كارثية مميتة، قابلت “سوريون” أحد المهندسين العاملين في مديرية المياه بمنطقة “حوض اليرموك” والذي أكد صحة المعلومات المتعلقة بتلوث مياه الشرب والري بالفضلات والجراثيم، حيث روى في شهادته قائلاً:

كنت أعمل في قسم المختبرات الذي يفحص جودة الماء. منذ يوم 15 أيلول/سبتمبر 2023 بدأت الشكاوى تردنا حول تلوث المياه في منطقة حوض اليرموك، وظهرت حالات إصابة بمرض التهاب الكبد الوبائي، وقد رأيت بعيني كيف كانت المياه المستخدمة في ري الحقول والزراعات ومياه الشرب في بعض القرى ملوثة بالفضلات والجراثيم. السبب الرئيسي هو تضرر الأنبوب المخصص لسقي الماشية والممتد من نبع عين مالي المعروفة باسم نبع عين ذكر إلى منطقة الشجرة. كان تطهير الماء بشكل كافٍ أمر مستحيل لأننا لم نكن نملك المواد الكيميائية اللازمة، وكان علينا أن نستخدم كمية قليلة من الكلور، وأحيانا ألا نستخدم شيئاً، وهذا خطير جداً على صحة الناس، خصوصاً الأطفال والنساء الحوامل. قمت بتحذير مديري من خطورة الوضع، وطلبت منه إبلاغ السلطات المحلية والصحية، لكنه أخبرني أنه لا يستطيع فعل شيء، وبأن عليَّ التزام الصمت، معللاً ذلك بقوله أن الحالة عامة في كل مكان، وإننا لا نملك خياراً آخر“.

  1. الحق في الصحة والحصول على مصادر مياه مأمونة من المنظور القانوني:

الصحة حق أساسي من حقوق الإنسان لا غنى عنه من أجل التمتع بحقوق الإنسان الأخرى. ويحق لكل إنسان أن يتمتع بأعلى مستوى من الصحة يمكن بلوغه ويفضي إلى العيش بكرامة. وتعتبر المياه النظيفة الصالحة للشرب حاجة ضرورية لحماية هذا الحق، وحق الإنسان في الصحة مسلم به في العديد من الصكوك الدولية. إذ تؤكد المادة 25 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان أن لكل شخص الحق في مستوى معيشة يكفي لضمان الصحة له ولأسرته، ويشمل المأكل والملبس والمسكن والرعاية الطبية والخدمات الاجتماعية الضرورية.

وبحسب المادة 12 من العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية تشمل التدابير التي يتعين على الدول الأطراف في هذا العهد اتخاذها لتأمين الممارسة الكاملة لحق كل إنسان في التمتع بأعلى مستوى من الصحة الجسمية والعقلية يمكن بلوغه، تحسين جميع جوانب الصحة البيئية والصناعية، والوقاية من الأمراض الوبائية والمتوطنة والمهنية والأمراض الأخرى وعلاجها ومكافحتها، وتهيئة ظروف من شأنها تأمين الخدمات الطبية والعناية الطبية للجميع في حالة المرض.

 كذلك فالحق في الصحة معترف به في المادة 5 من الاتفاقية الدولية للقضاء على جميع أشكال التمييز العنصري لعام 1965، وفي المادتين 11 و12 من اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة لعام 1979، وفي المادة 24 من اتفاقية حقوق الطفل لعام 1989.

إضافة لذلك، يشكل الحصول على مياه الشرب المأمونة النظيفة وخدمات الصرف الصحي شرطاً أساسياً لعيش حياة كريمة ودعم حقوق الإنسان. ففي عام 2010، اعتمدت الجمعية العامة للأمم المتحدة القرار رقم 64/292 الذي “اعترف بالحق في الحصول على مياه الشرب المأمونة والنظيفة وخدمات الصرف الصحي كحق من حقوق الإنسان الأساسية للتمتع الكامل بالحياة وكافة حقوق الإنسان”. يتطلب هذا الحق أن يكون الوصول إلى مياه الشرب المأمونة متوافراً ومتاحاً وآمناً وبأسعار ميسورة للجميع من دون تمييز.

وتشير اللجنة المعنية بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية إلى أن الحق في الماء يشمل، في أوقات النزاعات المسلحة وحالات الطوارئ والكوارث الطبيعية، الالتزامات التي تعهدت بها الدول الأطراف بموجب القانون الإنساني الدولي. ويتضمن ذلك حماية الأشياء التي لا يمكن الاستغناء عنها لبقاء السكان المدنيين، بما في ذلك منشآت مياه الشرب والإمدادات وأعمال الري، وحماية البيئة الطبيعية من الأضرار المنتشرة والطويلة الأجل والشديدة الضرر، وضمان حصول المدنيين والمعتقلين والسجناء على الماء المأمون والكافي.

أما على صعيد التشريعات السورية، فيخلو الدستور السوري لعام 2012 من أي مواد تذكر صراحةً الأمن المائي والغذائي أو تشير إلى دور الدولة في تأمينه وحمايته. لكنه لا يغفل عن ذكر مسؤولية الدولة في حماية صحة المواطنين، حيث أكدت المادة 22 منه على وجوب أن تكفل الدولة كل مواطن وأسرته في حالات الطوارئ والمرض والعجز، وأن تحمي صحة المواطنين وتوفر لهم وسائل الوقاية والمعالجة والتداوي. كما تنص المادة 25 منه على أن الصحة ركن أساسي لبناء المجتمع، وتعمل الدولة على تحقيق التنمية المتوازنة بين جميع مناطق الجمهورية العربية السورية. تؤكد هذه النصوص مسؤولية الحكومة السورية في توفير المياه الصالحة للشرب وكذلك المرافق الطبية المؤهلة لاستقبال المرضى، وتقديم الأدوية اللازمة للحفاظ على صحة المواطنين وعلى حياتهم.


[1] تاريخ 09 تشرين الثاني/نوفمبر 2023

منشورات ذات صلة

اترك تعليقاً

* By using this form you agree with the storage and handling of your data by this website.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك عدم المشاركة إذا كنت ترغب في ذلك. موافق إقرأ المزيد