تفاقمت معاناة السوريين/ات اليومية في الحصول على أساسيات المعيشة والخدمات مع استمرار واشتداد الأزمة الاقتصادية في سوريا، ووصلت هذه الضائقة لذروتها خلال الأشهر الأخيرة مع استمرار انهيار سعر صرف العملة السورية المحلّية أمام العملات الأجنبية والزيادة غير المسبوقة في الأسعار تزامناً مع نقص المحروقات الشديد ورفع الحكومة الدعم عن المواد والمنتجات الأساسية كالخبز والغاز وازدياد عدد ساعات قطع الكهرباء، وغيرها من الأسباب التي دفعت سكان المناطق الخاضعة لسيطرة الحكومة لانتقاد الأوضاع المعيشية علناً، والمطالبة بالاحتجاج لتحسين الأوضاع المعيشة.
وبالفعل خرجت العديد من المظاهرات في هذه المناطق تطالب بتحسين الأوضاع وتنتقد الطبقة الحاكمة في سوريا، وراح أبناء الساحل السوري ينتقدون الرئيس والأسرة الحاكمة بشكل غير مسبوق محمِّلين الحكومة مسؤولية تدهور أوضاعهم الاقتصادية والمعيشية، مما دفع الأجهزة الأمنية لتنفيذ حملة اعتقالات واسعة في مناطق سيطرة الحكومة.
اعتقال الإعلامية لمى عباس:
في 4 أيلول/سبتمبر 2023 اعتقلت أجهزة الأمن السورية الإعلامية “لمى توفيق عباس” من مواليد جبلة، وذلك أثناء مرورها بأحد الحواجز العسكرية وهي في طريقها من جبلة إلى دمشق حيث تقيم. تنتمي “لمى عباس” إلى الحزب القومي السوري، أحد أحزاب الجبهة الوطنية المتحالفة مع السلطة في سوريا؛ وهي ناشطة معروفة بقربها من النظام الحاكم في سوريا.
كانت الإعلامية قد تعرضت لمحاولة اعتقال سابقة من منزلها في دمشق بتاريخ 27 تموز/يوليو 2023، بعد قيامها بتوجيه انتقادات لاذعة لسياسات الحكومة السورية عبر صفحتها في فيسبوك، وخصوصاً بعد أن دعت للاحتجاج والتظاهر في مناطق سيطرة الحكومة السورية، وبعد أن أشارت إلى مسؤولية العائلة الحاكمة عن “حريق ساروجا” الذي وقع في 16 تموز/يوليو 2023، وربطته بالحرائق التي شهدها الساحل السوري بعد عشرة أيام في 26 تموز/يوليو.
جاء اعتقال “لمى عباس” في سياق حملة قمع واعتقالات مكثفة تقوم بها الأجهزة الأمنية في مناطق سيطرة الحكومة السورية، خصوصاً في الساحل السوري، ضد منتقدي السلطة والفساد؛ وذلك إثر تصاعد الاحتجاجات في تلك المناطق وظهور أصوات غاضبة من حالة الانهيار الاقتصادي، وفي ظل يأس الكثيرين من حدوث أي تغيير حقيقي في ظل النظام القائم.
موجة غضب شعبي تطال مناطق سيطرة الحكومة:
بتاريخ 9 آب/أغسطس، أجرى الرئيس السوري بشار الأسد مقابلة مع قناة سكاي نيوز عربية، أجاب فيها على سؤال: من هي المعارضة التي تعترفون بها بعد كل هذه السنوات؟ بقوله “هي المعارضة المصنعة محلياً لا المصنعة خارجياً”، ونفى خلالها أن تكون “المخاوف الأمنية” عائقاً أمام عودة اللاجئين إلى سوريا، مرجعاً السبب إلى “الظروف الاقتصادية التي تعانيها البلاد بعد الحرب التي خاضتها ضد الإرهاب”.
أثارت هذه المقابلة موجة إحباط وغضب واسعة في المجتمع السوري في مختلف المناطق، إذ رأوا فيها أن لا نية حقيقية لدى الحكومة لتقديم تنازلات لصالح حل الصراع المتواصل في سوريا منذ عام 2011؛ ما يعني استمرار الأزمة الاقتصادية والمعيشية وشتى الأزمات الاجتماعية والحقوقية الأخرى التي يعانيها السوريون/ات في الداخل والخارج إلى أجل غير مسمى.
تلت هذه التصريحات وما أثارته من ردود فعل مختلفة صدور قرار الحكومة السورية برفع الدعم عن الوقود ومضاعفة رواتب القطاع العام، بتاريخ 17 آب/أغسطس 2023، وأثار موجة غضب إضافية بين السوريين/ات في مناطق سيطرة الحكومة، فانتشرت عبر وسائل التواصل الاجتماعي دعوات للقيام باحتجاجات ومظاهرات سلمية وعصيان مدني في مختلف مناطق سيطرة الحكومة.
وبالفعل اندلعت في درعا والسويداء احتجاجات تطالب برحيل الأسد وتطبيق القرار 2254، وفي محافظات الساحل ساعد تأسيس “حركة 10 آب” قبل القرار في المساهمة إلى الدعوة للخروج في مظاهرات وعرض مجموعة من المطالب، وانتشرت عدة فيديوهات عبر وسائل التواصل الاجتماعي لسوريين من أبناء الساحل ينتقدون الرئيس السوري وزوجته ويحملونه مسؤولية الانهيار الاقتصادي والاجتماعي الذي وصلت إليه البلاد.
وفي حين نحا النظام -لأسباب غير مصرح عنها- إلى تجاهل الاحتجاجات غير المسبوقة التي شهدتها محافظة السويداء، ولم ينفذ فيها أية اعتقالات حتى الآن؛[1] قام بتنفيذ حملة اعتقالات واسعة في المحافظات الأخرى الخاضعة لسيطرته.
شهادات بعض المعتقلين في مناطق سيطرة الحكومة:
وثقت “سوريون من أجل الحقيقة والعدالة” أربع شهادات لمعتقلين وذوي معتقلين ممن تعرضوا للاعتقال التعسفي خلال شهر آب/أغسطس الماضي، في كل من جبلة (اللاذقية) ودرعا وريف دمشق. وتحققت من أدلة تثبت اعتقالات أخرى حدثت في كل من طرطوس ودمشق وتوضح التهم التي وجهت للمعتقلين/ات في هذه الحالات. كما أجرت مقابلتين منفصلتين مع إعلاميَين؛ أحدهما يعمل في جريدة البعث، والآخر في الهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون؛ ووجهت إليهما أسئلة حول رأيهما بأسباب موجة الانتقادات الواسعة التي تواجهها الحكومة السورية.
أشارت العديد من المعلومات التي حصلت عليها “سوريون” إلى أن أبرز الاتهامات التي واجهها المعتقلون تستند إلى المواد 285 و286 و287 من قانون العقوبات السوري رقم 148 لعام 1949، وتعديلاته في القانون رقم 15 لعام 2022، والتي تناولها تقرير سابق نشرته “سوريون” في أيار/مايو 2022 بعنوان “سوريا: تعديلات قانون العقوبات تنهي المساحات المتبقية لحرية الرأي والتعبير“.
في 20 آب/أغسطس 2023 اعتقلت المخابرات السورية “أحمد إبراهيم إسماعيل” من مواليد مدينة جبلة بريف اللاذقية عام 1969 بعد نشره عدّة منشورات تنتقد تردي الأوضاع المعيشية وغلاء الأسعار، على حسابه الشخصي في موقع فيسبوك. ووفقاً لما روته ابنة الضحية لـ”سوريون”:
“تمّ اعتقال والدي من قبل جهاز الأمن العسكري في مدينة جبلة، وحتى الآن لا نعرف عنه سوى أنّ دورية من الأمن العسكري قامت باعتقاله من مكان عمله. جاءت دورية بعد ساعتين إلى المنزل وصادرت هاتفه وحاسبه المحمول. ذهبنا إلى فرع الأمن العسكري لكن لم يُسمح لنا برؤيته، أو معرفة التهم الموجهة له، حيث قالوا لنا عند بوابة الفرع أن علينا الانتظار حتى انتهاء التحقيق معه وتحويله إلى مبنى القضاء العسكري بمنطقة القلعة في مدينة اللاذقية. قمنا بتوكيل محامٍ له، لكن الفرع رفض وجود المحامي إلى جانبه إلى حين انتهاء التحقيق”.
وأضافت الشاهدة:
“قبيل اعتقال والدي بأسبوعين، اتصل به شخص من قريتنا وعرّف نفسه بأنه من مؤسسة ‘العرين’،[2] ثم التقيا لاحقاً بمنزل المختار في القرية، وذكر أنه مفوض من المكتب الرئاسي وبأنه جاء لعرض مبلغ مالي على والدي مقابل أن يتوقف عن نشر تلك المنشورات”.
وفي 23 آب/أغسطس 2023، في ريف درعا، تعرض “م. ا.”[3] للاحتجاز أيضاً من قبل قوات الحكومة السورية بعد مشاركته في المظاهرات احتجاجاً على تردي الأوضاع الاقتصادية والمعيشية. ثم أفرجت عنه لاحقاَ بعد 48 ساعة من احتجازه. وجاء في شهادته لـ”سوريون”:
“في ذلك اليوم قامت دورية تابعة لمفرزة الأمن العسكري باعتقالي من منزلي، ضمن حملة استهدفت عدداً من شبان الحي الذين شاركوا في هذه التظاهرات. تمّ احتجازي في مبنى المفرزة لمدة 48 ساعة. أجبروني على الاعتراف بأسماء المشاركين في المظاهرات، وحققوا معي حول عملي السابق كمصور وناشط إعلامي قبيل سيطرة النظام على درعا. هددّني المحقق خلال التحقيق بتوجيه عدّة اتهامات بحقي، منها: الخروج على السلطة والتحريض لانقلاب والتعاون مع جهات خارجية بالإضافة لخرق اتفاق التسوية الذي وقعته عام 2018. لم يسمح لي بالتواصل مع عائلتي أو توكيل محامٍ. خلال فترة احتجازي لم تكن عائلتي تعرف مكان وجودي أو الجهة التي قامت باحتجازي. ولم يتم الإفراج عني إلا بعد إجباري على إغلاق حساباتي على مواقع التواصل الاجتماعي وتوقيع تعهد مكتوب بعدم المشاركة في المظاهرات”.
“و. ا.” من ريف درعا، كان أيضاً أحد الذين اعتقلتهم القوات الحكومية السورية في درعا يوم 23 آب/أغسطس 2023، بعد مشاركته في المظاهرات. وثقت “سوريون” شهادته، ومما جاء فيها:
“تمّ اعتقالي من قبل عناصر حاجز يطلق عليه اسم حاجز ‘فلفلة’ (حاجز مشترك بين الفرقة الرابعة والأمن العسكري) وتمّ تحويلي مباشرة إلى فرع الأمن العسكري بتهمة الخروج في مظاهرات مناهضة للدولة والمشاركة في نشاط مسلح ضدها. أفرجوا عني بعد 24 ساعة عندما علم المحقق أنني أحد أقارب قائد مجموعة تتبع لفرع أمن الدولة. طلب المحقق مني أن أتواصل معه بشكل دوري بعد إطلاق سراحي، وأن أرسل إليه قائمة بأسماء جميع من شاركوا في المظاهرات الأخيرة، وإعلامه بمن لديه صلات مع مواقع إعلامية أو شخصيات عسكرية في الخارج”.
“أيمن الفارس” من مواليد محافظة طرطوس عام 1979، متزوج ولديه ثلاث بنات. اعتقل في 26 آب/أغسطس 2023. قامت “سوريون” بإجراء مقابلة مع محاميته في 12 أيلول/سبتمبر 2023، وقد صرحت لـ”سوريون”:
“تم اعتقاله بتاريخ 26 آب/أغسطس على حاجز ‘العادلية’ الواقع على الطريق الدولي دمشق-السويداء، أثناء توجهه إلى محافظة السويداء. اعتقل مع شخص آخر من السويداء يدعى ‘باسل صياح الحسين’؛ وفي حين تمّ الإفراج عن الأخير بعد ساعات من احتجازه، بقي أيمن محتجزاً. جاء اعتقاله على خلفية نشره عدة فيديوهات تتضمن انتقادات للأسد وزوجته عبر حسابه في موقع فيسبوك، كاتهامه لأسماء الأسد بسرقة المساعدات المقدّمة من دول الخليج لسوريا عقب الزلزال الذي ضربها مؤخراً، ووصفه لعائلات القتلى من قوات النظام السوري بأنهم لا يجدون الخبز. بعد عدّة ساعات من احتجاز أيمن أجبر على حذف مقاطع الفيديو من حسابه في موقع فيسبوك. ومازال قيد التحقيق ولم يتم توجيه أية تهمة بحقه بعد. سيتم تحويله إلى القضاء العسكري في مدينة دمشق بعد انتهاء التحقيق معه”.
وبعد أيام من اعتقال “أيمن الفارس”، اعتقلت السلطات السورية الشاعر الشعبي “حسين حيدر” (مواليد 1970) من منزله في سهل الغاب في 29 آب/أغسطس 2023، وذلك إثر قيامه بنشر كتابات وفيديوهات يظهر فيها ملقياً قصائد مناهضة للعائلة الحاكمة عبر حسابه في موقع فيسبوك. وبعد اعتقاله أيضاً تم حذف تلك المنشورات والفيديوهات من حسابه. ومازال مصيره مجهولاً حتى الآن.
رأي بعض الإعلاميين في تصاعد وتيرة الانتقادات للحكومة السورية:
أحد الإعلاميين العاملين في جريدة “البعث” السورية لخّص لـ”سوريون” وجهة نظره حول الأسباب المحتملة التي أدت مؤخراً إلى اتساع موجة الانتقادات للحكومة السورية، حيث قال:
“على رأس هذه الأسباب، تفاقم الأزمة الاقتصادية والإنسانية في البلاد والتي أثرت على كافة شرائح المجتمع وخاصةً الفقراء والضعفاء منهم. كما أنّ وسائل التواصل الاجتماعي باتت مفتوحة وسهّلت على السوريين التعبير عن انتقاداتهم ومطالبهم، إلى جانب انخفاض قيمة الليرة السورية بنسبة 99%، والنقص الحاد في السلع الأساسية، مثل الغذاء والوقود والدواء والكهرباء. يمكن القول بأنّه أصبح هناك ميل لدى العديد ممن يعيشون هذا الواقع إلى إلقاء اللوم على الحكومة السورية لسوء إدارة الاقتصاد وتحويل المساعدات، والفشل في توفير الخدمات والبنية التحتية الكافية”.
تابع المصدر:
“كما أن استمرار القمع وانتهاكات حقوق الإنسان من قبل الحكومة السورية وقواتها الأمنية، والتي استهدفت كل من يعبر عن معارضته للنظام، وحيث لم يعد باستطاعة القوات الأمنية إنكار الاعتقالات بعد انتشار وسائل التواصل الاجتماعي، كان سبباً في استمرار انتقاد الحكومة بشكل مباشر”.
إعلامي آخر من مدينة السويداء، يعمل في هيئة الإذاعة والتلفزيون السوري؛ اعتبر في مقابلة أجرتها معه “سوريون” أنّ هنالك فروقات رئيسية بين المطالب التي نادت بها الاحتجاجات عام 2011، وتلك التي تطالب بها الاحتجاجات الحالية في عدد من مناطق سيطرة الحكومة السورية، حيث قال:
“تركزت احتجاجات عام 2011 في مدن مثل ريف دمشق وحمص ودرعا وحلب وحماه… أما اليوم فقد امتدت موجة الانتقادات والاحتجاجات إلى أجزاء مختلفة من البلاد ووصلت إلى المناطق التي لم تخرج عن سيطرة النظام مثل السويداء ودمشق واللاذقية. لم يعد العديد من أبناء هذه المناطق قادرين على احتمال الحالة الاقتصادية السيئة، وبات بمنظورهم أنّ السلطة الحاكمة هي من تتحمل اللوم. عندما اندلعت الاحتجاجات عام 2011، كانت هناك آمال في التوصل إلى حل سريع في المراحل الأولى من النزاع، أما اليوم وبعد مرور أكثر من 10 سنوات على النزاع، لم تنجح الجهود المبذولة للتوصل إلى حل سياسي، وهذا أدى بدوره لظهور تلك الانتقادات والمطالبة بالتوصل إلى حل ما، لقد تحول التركيز -عند هذه الفئة من الشعب السوري- من الدعوة إلى الإصلاح، إلى المطالبة بإنهاء الحرب وتشكيل حكومة جديدة”.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الملحق رقم 1
توجيه صادر عن مكتب وزير الداخلية السوري ينص على عدم توقيف أي شخص من محافظة السويداء مطلوب للأجهزة الأمنية باستثناء حالات الجرم المشهود. المصدر: منشور على صفحة راصد السويداء على موقع فيسبوك.
[1] في 8 آب/أغسطس 2023 تداولت حسابات وصفحات على موقع فيسبوك صورة مسربة لـ “توجيه” صادر عن مكتب وزير الداخلية السوري ينص على “عدم توقيف أي شخص من محافظة السويداء مطلوب للأجهزة الأمنية باستثناء حالات الجرم المشهود”. انظر الملحق رقم 1
[2] “مؤسسة العرين الإنسانية” تأسست عام 2020 وتديرها أسماء الأسد زوجة الرئيس السوري. آخر زيارة للرابط بتاريخ 20 أيلول/سبتمبر 2023 https://www.facebook.com/AlAreen.Humanitarian.Foundation/about
[3] تحفظت “سوريون” على ذكر بيانات بعض المعتقلين بناءً على طلبهم أو طلب ذويهم.