أثارت قضية قيام مسؤول العلاقات الخارجية في “الحكومة السورية المؤقتة“؛ ياسر مصطفى الحجي، برفع دعوى إلى النائب العام في مارع ضد المحامي “محمد عبد الحميد المحلول”، استنكار شريحة واسعة من السوريين، إذ رأوا فيها قمعاً لحرية الرأي والتعبير، تمارسه “الحكومة السورية المؤقتة” في مناطق نفوذها، ضد الحقوقيين والإعلاميين والنشطاء والأهالي.
حيث تم اتهام المحامي أواخر شهر أيلول/سبتمبر 2023، بـ”نشر عبارات تحقير وقدح بحق الحكومة السورية المؤقتة والائتلاف الوطني”. سُربت صورة عن المحضر عبر وسائل التواصل الاجتماعي (الصورة رقم 1)، جاء فيها أن “المدعى عليه” قام بالتعليق على أحد المنشورات على موقع “فيسبوك” وتضمن تعليقه “عبارات مسيئة ومهينة” تنال من رئيس الحكومة المؤقتة وأعضاء الائتلاف والموظفين. الأمر الذي رأى فيه “الحجي” جرم “قدح وتحقير سلطة عامة” مستنداً إلى تعريف “القدح” في المادة 375 من قانون العقوبات السوري.
واعتبر الأمر موجباً لتنظيم ضبط بحق “المشكو منه” لدى مديرية أمن مارع وإلقاء القبض عليه، وتحريك الدعوى العامة بحقه، ومحاكمته وإخضاعه لأقصى العقوبات، استناداً إلى المادة 378 من قانون العقوبات السوري، وبدلالة المادة 208 منه.
وفي سبيل التحقق من الواقعة وفهم سياقها، تواصلت “سوريون من أجل الحقيقة والعدالة” مع كل من المدَّعَى عليه المحامي “محمد المحلول” والمُدَّعي “ياسر الحجي”، وتحققت من صحة طلب رفع الدعوى، ووثقت شهادة كل منهما.
كما أجرت أربع مقابلات أخرى؛ مع اثنين من المحامين العاملين في شمالي غرب سوريا، إضافة إلى ناشطة إعلامية، وأحد أهالي المنطقة؛ وحاورتهم/ن حول الدعوى التي رُفعت ضد “المحلول” وحول حالة حرية الرأي والتعبير في شمالي غرب سوريا الخاضعة لسيطرة الحكومة السورية المؤقتة وفصائل المعارضة المسلحة بشكل عام.
تصريحات أطراف الدعوى لـ”سوريون”:
في شهادته لـ”سوريون” بتاريخ 11 تشرين الأول/أكتوبر 2023 أشار المحامي “محمد المحلول” إلى عدم تواصل الحكومة المؤقتة أو النائب العام معه بشأن الدعوى. وعند سؤاله عن حيثيات القضية، أجاب بإيجاز:
“هذه ليست المرة الأولى التي أتعرض فيها لمضايقات. أعتقد أن من يقف وراء تحريك الدعوى ضدي هم أشخاص يكنون كراهية شخصية لي، ويحاولون عرقلة عملي، ربما لأني نازح من معرة النعمان (في إدلب) إلى مارع (في حلب)”
وفي ذات السياق، تحدثت “سوريون” مع “ياسر الحجي” مسؤول العلاقات الخارجية في الحكومة المؤقتة، والذي صرح بما يلي:
“لا يجوز أن يتعرض رئيس الحكومة المؤقتة وأعضائها للإهانة من قبل أشخاص لهم أجندات خاصة أو مغرضة، أو يسعون إلى زعزعة الثقة في المؤسسات الشرعية، هذا يضر بالمصلحة العامة، ويخلّ بالأمن والاستقرار. أهمية رفع الدعوى هي في إظهار أن الحكومة المؤقتة تحترم القانون، وتطبقه على جميع المخالفين، فالحكومة المؤقتة لا تسمح بالإفلات من العقاب، أو بالاستغلال السياسي لحرية التعبير، فحرية التعبير هي حق مشروع، لكن لا يجب أن تستخدم كغطاء للإساءة إلى شخص ما أو إلى السلطة. حرية التعبير تستلزم المسؤولية والاحترام، لذلك نطالب بتطبيق العقوبات المنصوص عليها في قانون العقوبات”.
الصورة رقم 1: طلب رفع دعوى عامة بحق المحامي محمد المحلول.
استقلال القضاء شرط لحماية حرية التعبير:
تتبع “الحكومة السورية المؤقتة” لـ”الائتلاف الوطني السوري لقوى الثورة والمعارضة“، وتتبع للحكومة المؤقتة عدة وزارات، في حين أن فصائل المعارضة السورية المدعومة من تركيا، والتي تملك السلطة الفعلية على أرض الواقع، تنضوي تحت لواء “الجيش الوطني السوري”، التابع بدوره إلى وزارة دفاع الحكومة المؤقتة؛ ومن المفترض أن تتولى “وزارة العدل” إدارة شؤون القضاء في مناطق سيطرة تلك الفصائل، إلا أن هذا الأمر مناط بالحكومة التركية، وهذا ما سيتم ذكره في الأسطر التالية.
في مقابلة أجرتها “سوريون” مع المحامي “فهد الموسى” رئيس الهيئة السورية لفك الأسرى والمعتقلين، ناقش “الموسى” شرعية اعتبار “الحكومة السورية المؤقتة” سلطة عامة وشرعية ومنتخبة وممثلة للشعب السوري؛ وبالتالي حول قانونية الدعوى المرفوعة ضد “المحلول” نظراً لكونها تستند إلى المواد 375 و378 من قانون العقوبات السوري، والتي تتناول أساساً حالة الذم والقدح والتحقير حين يرتكب بحق سلطة عامة. صرح “الموسى” بما يلي:
“يجب أن تكون جريمة القدح والذم والتحقير قد ارتكبت بحق جهة رسمية أو موظف عام، وذلك وفقاً لما تنص عليه المواد المشار إليها في الدعوى. في حين أن الحكومة المؤقتة غير منتخبة وليست شرعية وغير معترف بها”.
بحسب “الموسى”، فإن قانون العقوبات السوري يسمح للقاضي إما بتبرئة المتهم أو إدانته في جرم “تحقير وقدح سلطة عامة”، حيث يرجع ذلك للقاضي حسب الأدلة المطروحة، لذا فإن تبعية القضاء هي من ستقرر الحكم في دعوى “المحلول” وليس القانون نفسه. وأضاف “الموسى” مشككاً بشرعية القضاء واستقلاله:
“هل القضاء الذي يأتمر بأوامر الحكومة السورية المؤقتة، ويمنع أكثر من 300 محامٍ من الترافع أمام المحاكم بحجة أنّ الحكومة المؤقتة لم تعترف بالنقابة التي ينتسبون إليها، هل هو قضاء مستقل؟ ومتى كانت نقابة المحامين المنتخبة بشكل شرعي بحاجة لاعتراف من حكومة غير منتخبة ولا تملك أي شرعية شعبية؟ ثم هل ما يسمّى بالحكومة المؤقتة هي حكومة مستقلة ولا تتبع لأوامر المنسق التركي؟ لا يمكن تحقيق العدالة دون قضاء مستقل، ودون نقابة محامين مستقلة”.
“علا”[1] ناشطة إعلامية في منطقة الباب في حلب، تحدثت لـ”سوريون” حول واقع حرية الرأي والتعبير في مناطق سيطرة فصائل المعارضة. حيث قالت:
“ما من صحفيٍ قادرٍ على انتقاد الحكومة السورية المؤقتة رغم أنها غير شرعية ولا تمثل الشعب السوري كما أنها تنتهك حقوق الإنسان والديمقراطية… فضلاً عن فشلها في توفير الخدمات الأساسية للمواطنين. ولا ننسى كيف تمّ فرض عبد الرحمن مصطفى رئيساً لهذه الحكومة من قبل الجانب التركي. يخشى الصحفيون والمواطنون التعبير عن آرائهم خوفاً من الفصائل في ‘المناطق المحررة’. حيث يسيطر كل فصيل على منطقة، ويمكنه أن يعتقل أو يخفي أي شخص دون مساءلة”.
وحول قضية المحامي “محمد المحلول”، أفادت “علا” بما يلي:
“كان لدينا حالة من الخوف، أنا وسواي من الإعلاميين، فلم نستطع أن نعبر عن موقفنا ووجهة نظرنا بأنّ ما حدث لا يعتبر إساءة، بل تعبير عن رأي شخصي رافض للفساد”.
الذم والقدح والتحقير في قانون العقوبات السوري:
يطبق القضاء في مناطق سيطرة فصائل المعارضة ونفوذ الحكومة السورية المؤقتة قانون العقوبات السوري. وفي مقابلة مع راديو روزنة في تشرين الثاني/نوفمبر 2020، قال “عبد الله عبد السلام”، وزير العدل التابع للحكومة المؤقتة أنه “منذ عام 2017، اختار القضاة العاملون في القضاء من المحامين والقضاة المنشقين تطبيق القانون العربي السوري بمرجعية دستور 1950 (الممثل للثورة)، كما أوضح في المقابلة ذاتها “أن العمل القضائي في مناطق الحكومة المؤقتة يجري عبر منسقين أتراك، ولا يوجد حتى الآن مجلس قضاء أعلى.”
وفي هذا الصدد، عبرت الناشطة الإعلامية “علا” عن رأيها بقولها:
“إنّ حرية التعبير حقّ من حقوق الإنسان الأساسية، ولا يجب أن يخضع أي شخص للرقابة أو الإضطهاد بسبب آرائه أو تعبيره عنها… إن المحاكم في ‘المناطق المحررة’ تستخدم القانون السوري القديم والظالم، ولم تعمل على تعديله”.
شرح المحامي “فهد الموسى” مصطلحات “الذم والقدح والتحقير” في القانون السوري لـ”سوريون” حيث قال:
“تُعرّف الفقرة الأولى من المادة 375 من قانون العقوبات العام الذم بأنه ‘نسبة أمر إلى شخص ولو في معرض الشك أو الاستفهام، ينال من شرفه أو كرامته’. وتُعرّف الفقرة الثانية من المادة 375 القدح بأن ‘كل لفظة ازدراء أو سباب أو تعبير أو رسم يشفان عن التحقير يعد قدحاً إذا لم ينطوِ على نسبة أمر ما’. فالقدح هو اعتداء على كرامة الشخص بدون إسناد فعل أو واقعة معينة له. في حين تعرف المادة 373 التحقير بأنه ‘التحقير بالكلام والحركات أو التهديد الذي يوجه إلى موظف في أثناء قيامه بالوظيفة أو في معرض قيامه بها أو يبلغه بإرادة الفاعل’.”
وأشار “الموسى” إلى أن قانون العقوبات السوري جعل من وقوع هذه الأفعال على الأشخاص أو الجهات العامة ظرفاً مشدداً أي أن العقوبة تكون مشددة في حال ارتكب الذم أو القدح أو التحقير بحق سلطة عامة أو موظف عام، لأن هذه الجهات هي بمثابة “رموز وطنية”.
حدود حرية الرأي والتعبير في القانون الدولي:
توفر المعايير الدولية لحقوق الإنسان دليلاً لكيفية إحداث القانون المحلي توازناً بين حماية حق حرية التعبير من ناحية واحترام الآخرين والحفاظ على الأمن والنظام العام من ناحية أخرى. حيث لا يمكن تقييد الحق بحرية التعبير إلا في ظروف محدودة معينة نص عليها العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية في المادة 19. مع ذلك، فإن أي قيود لتحقيق الأهداف المشروعة المذكورة أعلاه يجب أن تفي بمتطلبات الشرعية والضرورة والتناسب.
وفي هذا الصدد قال المحامي “عبد الله العلي”، من معرة النعمان في محافظة إدلب، لـ “سوريون”:
“في كل دول العالم تستطيع أن تنتقد الوزارة ورئيس الدولة أيضاً، لكن دون شخصنة. الأمر عادي، عندنا فقط تتحول القضية إلى مسألة مساس بالوطن والرموز الوطنية، كما لو أن الوطن يُختزل في أشخاص المسؤولين”.
تؤكد منظمة العفو الدولية على أن “السجن ليس عقوبة مناسبة للقدح والذم، حيث يُعتبر التعويض المدني كافياً لجبر الضرر”. وقد أكد على هذا “ياسر عمر هلال” أحد أهالي ريف حلب بقوله لـ”سوريون”:
“أنا أؤيد قيام السيد ياسر الحجي برفع دعوى قضائية ضد المحامي محمد المحلول. لكن في رأيي يجب أن تكون العقوبة غرامة مالية وليس سجناً”.
تجدر الإشارة إلى أن القيود المفروضة على حرية التعبير وفقاً للفقرة الثالثة من المادة 19 من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية يجب التعامل معها بمحدودية عندما يتعلق الأمر بالشخصيات العامة حيث يجب الافتراض أولاً أن حرية التعبير موجهة لدورهم الوظيفي وليس لشخصهم، مع استمرار استفادتهم من الحماية الواردة في أحكام العهد. وبالتالي، لا يكفي مجرد اعتبار أن أشكال التعبير مهينة لتلك الشخصيات مبرراً لفرض عقوبات.[2] وفي هذا السياق، تشير لجنة الأمم المتحدة المعنية بحقوق الإنسان بوضوح إلى وجوب ألا تنص القوانين الوطنية على عقوبات أشد صرامة على أساس هوية الشخص الاعتبارية بصفته شخصية عامة يمارس مهاماً رسمية للسلطة.[3]
خاتمة:
دأبت الحكومة السورية طوال العقود الماضية على استخدام هذه المواد القانونية كوسيلة لقمع حرية الرأي والتعبير في البلاد، ويبدو أن سلطات المعارضة في شمال غرب سوريا اختارت اتباع النهج نفسه؛ الأمر الذي يعيق ويهدد عمل الصحفيين والحقوقيين ونشطاء المجتمع المدني ويمنعهم من التحدث علناً خصوصاً حين يتعلق الأمر بشخصيات نافذة في البلاد، ويكرس حالة الاستبداد وقمع الحريات التي ثار السوريون ضدها ابتداءً.
وإذا كانت الحكومة المؤقتة تهدف الى تطبيق القانون على كل من يقيم في مناطق نفوذها دون تمييز أو محاباة كما تدعي، فعليها، وقبل كل شيء، تحقيق استقلال القضاء في تلك المناطق، فمن غير المقبول أن يتم تسمية القضاة السوريين من قبل الحكومة التركية، وأن تُدفع رواتبهم من قبل الأخيرة، أو أن تقوم باختيار وتدريب عناصر الشرطة، كما أن الهياكل الإدارية والتنفيذية الموجودة في المنطقة غير فعالة إلى حد كبير وغير قادرة على معالجة المظالم فيما يتعلق بالسلوك غير المشروع للعشرات من الجماعات المسلحة.[4]
[1] تم استخدام اسم وهمي بناءً على طلب المصدر.
[2] اللجنة المعنية بحقوق الإنسان، التعليق العام رقم ٣٤: المادة ١٩ – حرية الرأي وحرية التعبير، CCPR/C/GC/34، ١٢ أيلول ٢٠١١، الفقرة ٣٨.
[3] المصدر السابق.
[4] الفقرة 70 من تقرير لجنة التحقيق الدولية المستقلة المعنية بالجمهورية العربية السورية A/HRC/40/70الصادر بتاريخ 31 كانون الثاني/يناير 2019.