بتاريخ 23 كانون الثاني/يناير 2022، عممت وزارة العدل السورية، بتوقيع وزيرها (القاضي أحمد السيّد) تعميماً حمل الرقم (3)، متعلّقاً بشكل خاص بالجرائم المعلوماتية (الجرائم الإلكترونية) في سوريا، ونصّ الإعلان على أنّ القاضي الجزائي هو الحارس على تطبيق القانون، وعليه أنّ ينظر في ظروف وملابسات كل قضّية قبل إصدار أوامر “التوقيف الاحتياطي”. أي أنّ التعميم عزّز المجال للقضاة من أجل محاكمة بعض الأشخاص المتهمين بارتكاب “جرائم إلكترونية” وهم طلقاء (غير محتجزين)، أو حجز حريتهم بشكل احترازي في حال استدعت القضية ذلك (بحسب قناعة القاضي).
كما أشار التعميم الموجه إلى المحامين العامين والقضاة الجزائيين إلى أنّ القانون السوري قد نظم “مؤسسة التوقيف الاحتياطي” وفقاً لقواعد واضحة وأُسس علمية تعتمد على خطورة الجريمة، وآثارها السلبية على المجتمع أيضاً. وهو ما يعطي الصلاحية مرة أخرى للقضاة على إمكانية توقيف الأفراد احتياطياً “بحسب خطورة الجريمة وآثارها السلبية على المجتمع“.
درج القضاء في سوريا على تفسير المواد المتعلقة “بالنيل من هيبة الدولة وإضعاف الشعور القومي” أو “النيل من موظف عام أثناء القيام بوظيفته” على أنّها جرائم خطيرة ولها آثار سلبية على المجتمع وتضر بالنظام العام. ما يعني فعلياً إعادة التأكيد على صلاحية القضاة لاعتقال الأشخاص وتوقيفهم بحسب التعميم بشكل مؤقت، حتى صدور الحكم النهائي والذي قد يستغرق أشهراً أو سنوات. ما يعني إمكانية حجز حرية الأشخاص بشكل تعسفي ودون تعويض. |
وشدّد التعميم على أن “التوقيف ليس سلفة على العقوبة“، أيّ أن كل فرد معرّض للعقاب (في حال المخالفة)، مع احتساب فترة التوقيف الاحتياطي مع الحكم الأصلي النهائي في هذه الحالة، وسواء احتسبت فترة الاحتجاز الاحتياطي مع الحكم النهائي أو لم تحتسب، فإن التعميم يفتح المجال للتعسف في استعمال الحق مرتين، مرة في حال إصدار أحكام غير عادلة وسياسية بحقّ الموقوفين/ات، ومرة من خلال حجز الحرية الموقوفين أثناء “فترة التوقيف” التي قد تطول أشهر أو سنوات، بحسب مزاجية القاضي ودون معايير واضحة.
كما طلب التعميم من القضاة والمحامين العامّين استخدام تلك المؤسسة (التوقيف الاحتياطي) بحذر وموضوعية لمراعاة “الحدّ الفاصل بين حرية التعبير عن الرأي، وحقوق المواطنين والإدارة العامة والموظف العام”.
يسمح التعميم فعلياً للسلطة القضائية والتي هي إدارياً/وظيفياً تابعة لوزير العدل (السلطة التنفيذية) من استخدام هذه الجملة الفضفاضة لملاحقة أي شخص منتقد للحكومة بأنّه تجاوز الحدّ الفاصل لحرية التعبير، في ظل عدم وجود تعريف واضح وجامع في القانون أو التعميم نفسه لمثل هذا الحدّ الفاصل. |
ما هي تبريرات وزير العدل للتعميم الصادر؟
القاضي ” أحمد السيد” وزير العدل السوري، برر مسوغات التعميم لعدّة أمور منها: أن الدستور السوري الحالي ضمن حق كل مواطن أن يعبر عن رأيه بحرية وعلنية، سواء بالقول، أم بالكتابة أم بوسائل التعبير كافة، كما حمى المواطن من الاعتداء على كرامته وأمنه وحياته الخاصة. (الفقرة 2 المادة 42).
أيضا، برر “السيد” مسوغات التعميم بأنّ “حق التعبير” قد سمح بالانتقاد والإشارة الى أماكن الخلل في حال وجودها، دون أن يتعدى ذلك إلى الإساءة للإدارة العامة أو القائمين عليها في أشخاصهم وشرفهم وحياتهم الخاصة …الخ”.
تعني الإدارة العامّة والقائمين عليها، جميع موظفي الدولة، ابتداءً من رئيس الجمهورية وحتى أدنى درجات الوظيفة العامة إدارياً. ومن هنا، سوف يكون من السهولة بمكان اعتبار أي نقد لأداء هؤلاء الموظفين/ات أو كشف أي محاولة ابتزاز أو فساد أو رشوة أو تقصير على أنّها “إساءة” تستوجب “التوقيف الاحتياطي” للمنتقد/ة. حيث يركن التعميم إلى كلمات واسعة وفضفاضة دون وجود معايير أو محددات واضحة لتلك الجريمة، ما يفتح الباب مرة أخرى على مصراعيه للتأويل والمزاجية في التطبيق وبالتالي انتشار المحسوبات والفساد والرشوة والابتزاز المالي. |
توضيحات المحامي العام الأول في سوريا حول التعميم:
كان المحامي العام الأول في سوريا القاضي “أ. أديب مهايني” قد أوضح بتاريخ 24 كانون الثاني/يناير 2022، في حديث خاص إلى إذاعة (المدينة إف إم) بأنّ “الدستور السوري الحالي يضمن للمواطن حق التعبير عن الرأي بكل حرية، ولكن هذا الحق يقف عند حدود حرية وكرامة الآخرين …”.
وأضاف المهايني بأنّ موضوع “التوقيف الاحتياطي” هو موضوع حسّاس جداً، وطلب من القضاة دراسة كل قضية على حدا وبحذر، وأن يستعرض جميع ظروفها وملابساتها. علاوة على ذلك، فإن القاضي سيقدر فيما إذا كان من الممكن ترك المشكو منه حراً طليقاً أم احتجازه، خاصة في حال وجود شكّ لدى القاضي بأن المشكو منه يمكن أن يعبث بالأدلة أو يطمس معالمها أو اذا كانت التهمة المنسوبة إليه (المدعى عليه) تشكل خطراً على المجتمع ولها آثار سلبية عليه.
كما أكدّ “مهايني” أن وسائل التعبير الواردة في التعميم المقصود بها هي “الحق بممارسة التعبير عن الرأي والانتقاد البنّاء” دون التعرض للشخص أو المساس بشرفه أو حياته الخاصة سواء كانت على وسائل التواصل الاجتماعي أو غيرها، لذلك يجب أن يكون بين حرية التعبير وانتهاك الحياة الخاصة والتعرض للأشخاص القائمين على الإدارات العامة.
كما تابع المحامي العام على سؤال للمذيع فيما لو طال النقد (عمل الأشخاص القائمين في الإدارات العامة و/ أو أليات عمل المسؤول فهل يطاله “التوقيف الاحتياطي” فأجاب، بالقول: بأنّه طالما كان الانتقاد في حدود “الصالح العام” دون تحريض ودون المساس بأي شخص فهو مسموح به/ أما في حالة التعدي على الشخص أو شتمه أو نعنته بصفات غير أخلاقية فيعاقب عليه القانون.
لم يوضّح المحامي العام ما هو معنى مصطلح “الصالح العام”، ومتى يمكن أنّ يكون النقد للصالح العام أو ضده. فهي عبارة واسعة تحتمل التأويل وليس لها محددات أو معايير أو تعاريف واضحة. لذلك فإنه من السهولة بمكان أن تستخدم السلطات السورية مصطلح” الصالح العام” بغية اعتقال كل من تسول له نفسه انتقاد الحكومة بحجة أن هذا النقد ليس من “الصالح العام” وبذلك تكون ذريعة جديدة لقمع الحريات وسلب حرية التعبير والتضيق على الناس. |
ما هو مفهوم التوقيف الاحتياطية ومدته وغاياته وفق التشريعات السورية؟
التوقيف الاحتياطي: هو “تدبير وقائي” وليس “عقوبة مقررة”، أي أنّه إجراء استثنائي يحجز حرية الأفراد، ويتخذه القاضي إذا رأى أن حالة الحدث/الواقعة تستدعي اتخاذه. ولا يكون في كل الأحوال إلا أثناء النظر في الدعوى، وخلال سيرها وقبل إصدار الحكم النهائي فيها.
أما قانون أصول المحاكمات الجزائية السورية النافذ حالياً فقد استخدم مصطلح “مذكرة التوقيف”، وهي غير محددة المدّة، وتبقى حتى صدور الحكم النهائي بالقضية مع مراعاة نص المادة 117 أصول جزائية (الفقرة الثانية) والتي تقول:
“إذا كانت الجريمة من نوع الجنحة وكان الحد الأقصى للعقوبة التي تستوجبها الحبس سنة وكان للمدعى عليه موطن في سورية (عنوان دائم) وجب إخلاء سبيله، بعد استجوابه بخمسة أيام. على أن أحكام هذه الفقرة لا تشمل من كان قد حكم عليه قبلا بجناية أو بالحبس أكثر من ثلاثة أشهر بدون وقف التنفيذ.”
أي أنّه وبحسب التعميم الجديد، فإنّ الموقوفين بسبب “جرائم المعلوماتية/الجرائم الإلكترونية”، سوف لن يتمّ إيقافهم وفقاً للمادة 117 غالباً، لإنّ “جرائم النيل من هيبة الدولة”، هي بمثابة جرائم جناية (تستوجب الحبس لأكثر من سنة) وليست جنح بسيطة. وهو ما يعني بقاء الموقوف في (التوقيف الاحتياطي) وعدم قدرة القضاة على إخلاء سبيله بحسب قانون أصول المحاكمات الجزائية السوري الحالي.
بمعنى أخر؛ فإن الموقوفين في الجرائم الالكترونية حسب التعديلات المقترحة في مشروع قانون الجرائم الإلكترونية سيتم إيداعهم في الحجز حتى صدور الحكم النهائي، والذي قد يمتد إلى أشهر أو سنوات.
ووفقا للمادة 102 من قانون أصول المحاكمات الجزائية في الفقرة الأولى منه، فإنّه يحقّ لقاضي التحقيق في دعاوى الجناية والجنحة أن يكتفي بإصدار مذكرة دعوة على أن يبدلها بعد استجواب المدعى عليه بمذكرة توقيف إذا “اقتضى التحقيق” ذلك.
درجت المحاكم والقضاة في سوريا على تفسير عبارة” اذا اقتضى التحقيق ذلك” في حال استشعر القاضي أن هنالك خشية من تمكّن المجرم (عندما يترك حراً طليقاً) من طمس معالم الجريمة المنسوبة إليه أو محو آثارها، أو التأثير في الشهود الذين لم يستمع القاضي إلى شهاداتهم أن يمدد مذكرة التوقيف بحقهم وهي تخضع بذلك لقناعة ومزاجية القاضي. |
تعميم لمواجهة موجة الاستياء الواسعة على نيّة الحكومة تعديل مواد في قانون الجريمة الالكترونية:
أثارت التسريبات المتعلقة بالتعديلات المتعلقة بقانون “الجريمة الإلكترونية”، استياءاً عاماً وواسعاً لدى شرائح مختلفة في المناطق الخاضعة لسيطرة الحكومة المركزية (دمشق). وخاصّة فيما يتعلق بموضوع التشدد في العقوبة والغرامات المفروضة على الأشخاص الذين سوف يواجهون تهم متعلّقة بـ “النيل من هيبة الدولة“، والتي تعاقب بالسجن المؤقت من 3 إلى 5 سنوات وغرامة ما بين 2 إلى 4 ملايين ليرة سوريّة على: “كل من قام بإحدى وسائل تقانة المعلومات بنشر أخبار كاذبة على الشبكة من شأنها النيل من هيبة الدولة أو المساس بالوحدة الوطنية وإثارة الرأي العام”.
تعيد تسريبات تعديلات قانون الجريمة الإلكترونية في سوريا، إلى الأذهان مئات وربّما آلاف من حالات الاعتقال التعسفي التي شهدتها سورية قبل العام 2011، من قبل محكمة “أمن الدولة” الاستثنائية ومحكمة “مكافحة الإرهاب” لاحقاً. ومن السهولة بمكان بحسب (تسريبات تعديلات القانون الجديد) اعتبار أيّ شيء مخالف لوجهة نظر الحكومة “أخباراً كاذبة تنال من هيبة الدولة وتمس بالوحدة الوطنية”. |
خاتمة:
ومن الواضح أن التعميم يكشف عن نية الحكومة المركزية الإصرار على إصدار قانون جديد للجريمة الالكترونية بنسخة مشددة في العقوبات والغرامات، مما لا يدع مكان للشك بذلك هو أن السلطات السورية قامت باستباق صدور القانون الجديد بالتمهيد له إعلامياً وتسريبه وذلك بغية التخفيف من حدته وأثاره المتوقعة لتخفيف احتقان الشارع السوري، كما أن مسودة مشروع القانون الجديد إن أقر سيكرس تعطيل حرية الرأي والتعبير والتي هي في الأصل منقوصة بشكل كبير في سوريا وشبه معدومة، على الرغم أنها مصانة نظرياً بالمادة 42 الفقرة 2 من الدستور السوري النافذ لعام 2012، والتي تقول بأنّ: “حرية الاعتقاد مصونة وفقاً للقانون. لكل مواطن الحق في أن يعرب عن رأيه بحرية وعلنية بالقول أوالكتابة أو بوسائل التعبير كافة.”
علاوة على ذلك، فإن تمرير هذا القانون في سوريا، سوف يشكّل غالباً خطراً على أي شخص يعبر عن رأيه في جملة يكتبها، أو رسالة يرسلها، أو حتى طرفة (دعابة) يتداولها مع أصدقائه. وبالتالي فإن الحكومة السورية توجه رسالة واضحة الى السوريين مفادها؛ أن الملاحقة القضائية ستطال كل من ينتقد الحكومة” الدولة” والأشخاص المسؤولين فيها وخصوصا مع تصاعد حدة النقد في الآونة الأخير من قبل السورين/ات لأداء الحكومة و عجزها عن تأمين المواد الأساسية واجتياح موجة غلاء الاسعار وانتشار الفقر بين السوريين وصعوبة تأمين الكهرباء والمحروقات التدفئة في لمواطنيها في مناطق سيطرتها.
ويُعتقد أن تاريخ إصدار تعميم وزير العدل رقم 3 عام 2022، يشي باقتراب موعد صدور التعديلات الجديدة لقانون الجريمة الالكترونية وأنه ستتم إقرار التعديلات المشددة المقترحة. فجاء التعميم رقم 3 عام 2022 بغية تهدئة الشارع السوري وامتصاص أجواء الاحتقان لدى الرأي العام السوري، كذلك من المتوقع أن يصدر القانون بنسخته الجديدة المشددة خلال الأشهر المقبلة القليلة من عام 2022.
صورة رقم (1) نسخة عن تعميم وزارة العدل الذي يحمل الرقم (3) المصدر صفحة الفيس بوك الرسمية لوزارة العدل التابعة للحكومة السورية.
1 تعليق
[…] إساءة استعمال الوسائل التقنية.وفي مطلع نيسان الماضي، نشرت منظمة “سوريون من أجل الحقيقة والعدالة” […]