تُواصل أعداد الإصابات والوفيات بمرض الكوليرا بمناطق شمال شرقي سوريا ارتفاعها، في ظل انتشار البيئة المواتية لهذا المرض، وضعف الإمكانات المتاحة لاحتوائه، وسط ما بات يشكّله من تهديد خطير لسوريا والدول المجاورة.
ومنذ ظهور الإصابات الأولى في المناطق المحاذية لنهر الفرات في شهر آب/أغسطس الماضي، قفزت أعداد الإصابات من العشرات لتتجاوز نقطة الألف، وتأكّد مخبرياً انتشار الكوليرا في ما لا يقل عن عشر محافظات منها حلب، دير الزور، الحسكة، الرقة، اللاذقية، دمشق.
دعا هذا المنحى التصاعدي للوباء منظمات أممية إلى التحذير من فقدان السيطرة عليه، وحثّت الأمم المتحدة الأطراف المعنية على ضرورة اتخاذ إجراءات عاجلة لاحتواء تفشيه، وضمان الوصول المستدام دون عوائق إلى المجتمعات المتضررة.
كما صرحت منظمة الصحة العالمية في السابع من تشرين الأول/أكتوبر الحالي إنه تم الإبلاغ عن أكثر من 15 ألف حالة مشتبه بإصابتها بالكوليرا في عموم سوريا، أسفرت عن وفاة ما لا يقل عن 60 شخصاً.
هذا وأشارت إحصائيات “برنامج الإنذار المبكر والاستجابة للأوبئة EWARN” في سوريا، المنشورة يوم 22 من تشرين الأول/أكتوبر الحالي، إلى وصول إجمالي أعداد الإصابات بالكوليرا في مناطق شمال شرقي سوريا إلى 15483 إصابة، توفي منهم 28 شخصاً منذ بدء انتشار المرض في المنطقة، وتوزعت هذه الحالات بمدن الرقة والثورة ودير الزور والميادين والبوكمال.
ومن جهة أخرى فقد بلغت أعداد الإصابات في ريف محافظة الحسكة بمنطقتي تل أبيض ورأس العين 408 إصابة، مع تسجيل حالتي وفاة. أما في شمال غربي سوريا فقد ارتفعت أعداد المشتبه بإصاباتهم إلى 2272 إصابة، مع تسجيل حالتي وفاة.
من جانبها قالت وزارة الصحة السورية في 22 من تشرين الأول/أكتوبر إن العدد الإجمالي التراكمي للإصابات المثبتة بالكوليرا بلغ 942 إصابة موزعة على 13 محافظة من إجمالي 14 في البلاد، العدد الأكبر منها في محافظة حلب، حيث أعلنت الوزارة تسجيل 44 حالة وفاة منها 37 في حلب، مشيرة إلى أن “معظم الوفيات ناتجة عن التأخّر في طلب المشورة الطبية المبكرة أو لأشخاص يعانون من أمراض مزمنة”.
بدورها سجّلت الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا، في 27 من أيلول/ سبتمبر الماضي، ما يزيد عن خمسة آلاف و365 حالة اشتبه بإصابتها بمرض الكوليرا.
وبيّن الرئيس المشارك لهيئة الصحة، جوان مصطفى، في تصريح لفضائية “روج آفا“، أن عدد الإصابات المؤكّدة بالكوليرا ارتفع إلى 105 حالات في عموم المناطق.
-
الظروف المرافقة لتفشي الكوليرا شمال شرقي سوريا:
تواصلت “سوريون من أجل الحقيقة والعدالة” مع مصابين وعاملين بالمجال الطبي بمناطق شمال وشرق سوريا، للوقوف على واقع انتشار الكوليرا، وأسبابها، ومدى جاهزية المؤسسات الطبية لاستيعاب الإصابات والحد من المرض.
أحد هؤلاء المصابين كان النازح “جاسم. م”، والبالغ من العمر 20 عاماً، حيث أُصيب بمرض الكوليرا، مع 11 فرداً من عائلته من المقيمين في مخيم “الطلائع/سري كانيه” بعد نزوحهم من قرية أم الكيف بريف تل تمر في ريف الحسكة الشمالي.
قال جاسم في شهادته لـ “سوريون”:
“بتاريخ 1 آب/أغسطس شعرتُ بأعراض غريبة رافقها إسهال شديد وألم حاد في المعدة وضعف في السمع والرؤية، راجعتُ على الفور مركز الهلال الأحمر الكردي (الإسعافي) في المخيم لكنّه لم يقم بتحويلي إلى المشفى العام بمدينة الحسكة، وفي أثناء ذلك كانت الأعراض تزداد حدتها بشكل أكبر فاضطررت إلى مراجعة طبيب مختص ودفع تكاليف مادية كبيرة”.
وأضاف:
“بعد مراجعة طبيب خاص في الحسكة وإجراء العديد من التحاليل تبيّن أنّ تلك الأعراض هي لمرض الكوليرا، ويبدو أنني أصبتُ به عن طريق مياه الشرب التي كنا نشتريها في المخيم من صهاريج خاصّة بعد نفاد المياه التي تؤمنها لنا المنظمات الإنسانية، والتي عادة ما تكون صالحة للشرب.”
وتابع جاسم حديثه:
“إنّ المياه التي تدخل المخيم عبر الصهاريج/الخاصة من قبل بعض الأفراد، غير صالحة للشرب ولا تخضع لأي مراقبة صحية، وقد أدت إلى إصابة 11 شخصاً من عائلتنا وحدها بينهم والدتي وأخي”.
أُصيبت “منيفة. ع ” بمرض الكوليرا هي الأخرى في مخيم “الطلائع /سري كانيه”، والذي ترافق مع أعراض متمثلة بألم في المعدة وإقياء وإسهال شديد وضعف في النظر. قالت منيفة في شهادتها لـ “سوريون”:
“بتاريخ 7 آب/أغسطس استيقظتُ من نومي على إثر ألم حاد في معدتي، راجعتُ على الفور مركز الهلال الأحمر الكردي في المخيم لكنه امتنع عن إعطائي تحويلة طبية إلى المشفى بذريعة عدم وجود تحويلات طبية، وبعد ذلك تدهورت حالتي الصحية بشكل أكبر فقصدتُ طبيب هضمية مختص في مدينة الحسكة رغم تردي أوضاعنا الاقتصادية، وصعوبة توفير تكاليف العلاج. بعد تشخيص حالتي وإجراء التحاليل اللازمة أخبرني الطبيب بأنني مصابة بالكوليرا، وقد انتقل لي المرض عن طريق المياه الملوثة”.
وتابعت حديثها:
“اضطرّ ابني إلى استدانة مبلغ سبعة ملايين ليرة سورية لتغطية تكاليف علاجي وإجراء التحاليل الخاصة، إذ بقيت في المشفى لمدة سبعة أيام تحت المراقبة إلى أن استرديت عافيتي بشكل كامل”.
كما تعرضت ابنة منيفة البالغة من العمر 15عاماً لعدوى الإصابة بالكوليرا أيضاً في نفس اليوم الذي أصيبت به والدتها، وسط ظروف اقتصادية صعبة للغاية مرّت بها العائلة، بحسب تعبيرها، ووصفت منيفة الخدمات الطبية المتوفرة في المخيم بالسيئة جداً.
مدير مكتب الصحة في مخيم “الطلائع /سري كانيه”، دلاور فرحان، تحدث لـ “سوريون” عن طريقة تعامل المكتب مع انتشار حالات الإصابة بالكوليرا في المخيم، وأشار إلى أنه ومنذ بدء ظهور مرض الكوليرا خلال الشهر الماضي تم تسجيل نحو 15 حالة اشتباه بالإصابة بالمرض داخل المخيم. كذلك أوضح فرحان لـ”سوريون”:
“يتم التعامل مع حالات الاشتباه بالإصابة بالكوليرا في المخيم عن طريق غرفة عمليات مشتركة بين الهلال الأحمر الكردي ومقر منظمة الصحة العالمية في مشفى الحكمة وسط مدينة الحسكة”.
وأضاف:
“يتم إسعاف الحالات إلى مشفى الحكمة، وتحت إشراف منظمة الصحة العالمية يتم تقديم العلاج لهم ومن ثم إعادتهم إلى المخيم بعد التعافي من المرض”.
وحول الإجراءات المتّبعة للوقاية من المرض قال فرحان:
“دورنا في المخيم يكمن في مراقبة المياه والأغذية بخاصة الخضار، ونشر التوعية بين قاطنيه عن طريق فرق تُعنى بالثقافة الصحية تتجول في المخيم بشكل دوري وتراقب المياه عن كثب كونها تعتبر المصدر الأساسي للعدوى، لا سيما بعد أن قطعت تركيا مياه آبار محطة (علوك) عن مدينة الحسكة ما أدى إلى لجوء السكان إلى استعمال وشرب مياه غير معروفة المصدر”.
وبحسب ما توصلت إليه “سوريون”، يعاني مخيما “واشو كاني” و”الطلائع /سري كانيه”، من نقصٍ حادٍّ في الخدمات الطبية نتيجة غياب الاعتراف الأممي بهما. ويشهد المخيمان انتشاراً كبيراً للأمراض السارية بين النازحين، ويقف عشرات المرضى يومياً أمام النقطة الطبية للهلال الأحمر الكردي، بهدف الحصول على العلاج.
-
عشرات الإصابات في دير الزور وسط حالة من التأهب عاشتها المراكز الطبية:
تواصلت “سوريون” مع أسرة إحدى المصابات، تدعى ياسمين. س (تبلغ من العمر 19 عاماً، وتنحدر من منطقة الحصان بريف دير الزور الغربي)، وتمكنت من التحدث مع “أحمد” شقيق ياسمين الذي قال لـ”سوريون”:
“بتاريخ 28 أيلول/سبتمبر ظهرت أعراض المرض على شقيقتي، وبدأت بإسهال وإعياء شديدين ما أثّر على حركتها وقواها التي انهارت من شدة الألم”.
وأضاف:
“قمنا بإسعافها إلى مشفى المدينة الكائن في منطقة المعامل، وبعد الكشف الطبي وإجراء التحاليل تبيّن أنها تعاني من أعراض مرض الكوليرا، ومكثت في المشفى لمدة ثلاثة أيام قدّم لها الأطباء خلالها العلاج اللازم مع مراقبة حالتها الصحية إلى أن تماثلت للشفاء، وبعد تجاوزها مرحلة الخطر وإجراء تحاليل جديدة أكدت شفاءها خرجت من المشفى”.
أرجع أحمد سبب إصابة شقيقته بالكوليرا إلى “تغير المناخ وتلوّث المياه القادمة إلى المنازل من نهر الفرات، والتي لا تخضع لتصفية صحية أو مراقبة”.
أدّت الإصابة بالكوليرا إلى الموت في العديد من الحالات، وكانت السبب في خسارة عائلة “الرجيجة” المنحدرة من قرية العزبة بريف دير الزور الغربي والدَهم حسين ذي الثمانين عاماً.
قالت ابنته “سمية” لـ “سوريون” في وصف ما حدث مع والدها:
“ظهرت أعراض المرض على والدي في 8 و9 أيلول/سبتمبر بشكلٍ مفاجئ. رافقها مغص حاد في المعدة وغثيان وألم ووهن في قدميه. اعتقدنا أن والدي قد أصيب بتسمم حاد واشترينا له سيرومات وبعض الأدوية من الصيدلية الموجودة في القرية، لكنها لم تجدِ نفعاً وأخذت حالته تسوء تدريجياً. وبعد أسبوع اضطررنا لإسعافه إلى مشفى الكسرة بريف ديرالزور الغربي الذي يبعد عنا مسافة 50 كيلومتراً (ساعة ونصف)”.
وأضافت:
“خضع والدي لمراقبة طبية في المشفى، لكن العلاج لم يكن متوفراً بالشكل المطلوب لكثرة الإصابات الموجودة، وكنا نقوم بشراء الأدوية المتمثلة بالإبر المضادة للإسهال والفلاجيل والسيرومات وغيرها من خارج المشفى، لكن ورغم ذلك لم يتمكن الأطباء من إنقاذه، فقد سيطر عليه المرض وفقد حياته بعد يومين من وجوده في المشفى”.
وأرجع الأطباء سبب إصابة حسين بالمرض الذي أودى بحياته إلى تلوث مياه نهر الفرات بالدرجة الأولى، وفق ما أكدت ابنته “سمية” لـ “سوريون”.
-
نقص الكوادر الطبية بدير الزور:
مصدر طبي في مشفى “الكسرة” بدير الزور (فضّل عدم الكشف عن اسمه) تحدث لـ “سوريون” عن الانتشار الكبير للكوليرا بالمحافظة منذ مطلع أيلول الماضي، وهو ما أرهق الكوادر الطبية التي تعاني من نقص شديد. وقال بهذا الصدد:
“كان الأسبوع الأول بعد اكتشاف أول إصابة بالكوليرا في المشفى مرهقاً جداً. فبما أن الكوليرا ذات طابع وبائي، انتشرَ المرض بشكل سريع في منطقة “الكسرة”، وخلال ثلاثة أيام تم اكتشاف انتشار كثيف للعدوى بين الناس على طول الخط الغربي لدير الزور”.
وأضاف “أخذنا عينات من نهر الفرات على مدار سبعة أيام من انتشار المرض، وتبيّن لنا أن النهر ملوّث بالكوليرا. كما أخذنا عينات من مناهل الشرب في قرى “الكسرة” و”الجنينة” و”الصعوة”، وتبين أن جميع النتائج إيجابية، الأمر الذي يؤكد أن المياه الملوثة تقف وراء انتشار المرض”.
وفيما يخص الإجراءات المتخذة للحد من الوباء في المنطقة أشار المصدر الطبي إلى وجود تدخل سريع وطارئ من قبل منظمات طبية دولية قدمت الدعم (سيرومات) بشكل مكثف، لافتاً إلى أن الدعم الأكبر قدمته منظمة “ميديكال ريليف إنترناشيونال” والتي أمّنت 30 سريراً خاصاً بمرضى الكوليرا.
كما أبدت “لجنة الصحة في دير الزور” استجابة سريعة لانتشار الكوليرا، وفقاً للمصدر، إذ قام الرئيس المشترك للجنة، الدكتور محمد السالم، بزيارات يومية لمشفى الكسرة والمراكز الصحية، إلى جانب العمل على رفدها بالأدوية التي تساعد على مكافحة المرض، وجعل دوام المستوصفات المنتشرة في المنطقة على شكل مناوبات ليلية ونهارية من أجل استقبال المرضى وتخفيف التكلفة على الأهالي.
واعتبر المصدر الطبي أن قدرة مشافي المنطقة والمراكز الصحية على استيعاب الحالات جيدة، لكنه أكد على ضرورة رفد الطواقم الطبية بكوادر جديدة وتخصيص مراكز لمثل هذه الأمراض.
وعن إجراءات الوقاية من الكوليرا، أكد المصدر الطبي على أهمية النظافة الشخصية، والطبخ الجيد للطعام إذ أن درجة الحرارة العالية تقضي على البكتيريا، إلى جانب اتّباع الإجراءات الصحيحة الخاصة بتعقيم المياه، مع تجنب إضافة كميات كبيرة من الكلور الأمر الذي قد يؤدي إلى التسمم.
-
إجراءات الوقاية والعلاج:
الطبيب المختص في الأمراض الداخلية، “عبدالله الهللو”، المقيم في مدينة “القحطانية” بريف القامشلي تحدث لـ “سوريون” عن أسباب انتشار مرض الكوليرا وطرق الوقاية والعلاج.
وبيّن أن الكوليرا “تأتي عادةً على شكل جائحة لأن العدوى تكون جماعية فمصدرها واحد إما عن طريق المياه الملوثة أو الخضار والأغذية”.
وأوضح أنه “من أكثر الأسباب التي تؤدي لانتشار المرض تلوث الأغذية بمياه الصرف الصحي، وكذلك تلوث المياه الجوفية التي تختلط بهذه المياه، وهو ما يتسبب بإسهال شديد وحاد لدى المصاب -قد يصل إلى 30 مرة في اليوم- الأمر الذي يؤدي إلى تعرضه للجفاف”.
أشار الطبيب أن الكوليرا مرض قديم وليس بمستجد، ويمكن السيطرة عليه إذا ما تم علاجه بالطريقة السليمة ومداومة المريض على أخذ الأدوية الموصوفة له، إلى جانب غسل الأيدي وتعقيم الأطعمة بشكل مستمر.
-
“الفرات” فقد عذوبته:
أظهرت التحاليل وجود البكتيريا المسؤولة عن الكوليرا في مياه نهر الفرات “نتيجة انحسار مياه النهر وتراجع منسوبه بشكل كبير وتحوله في كثير من المناطق إلى مستنقعات، فضلًا عن تلوث الخضراوات المروية بمياهه بالجراثيم”، وفق ما صرّح الرئيس المشترك لهيئة الصحة التابعة للإدارة الذاتية “جوان مصطفى” خلال مؤتمر صحفي عقده في 21 من أيلول/سبتمبر الماضي.
وتحتجز السلطات التركية كميات أكبر من المعتاد في السدود التي أنشأتها على مجرى نهر الفرات قبل بلوغه سوريا، ما فاقم من تراجع غزارة مياهه، وهذا بدوره تسبّب بزيادة نسبة تلوثها بسبب مياه الصرف الصحي التي تصبّ فيه، والتلوث النفطي في المناطق الغنية بآبار النفط.
كما أدّت عوامل عدة من بينها الجفاف وارتفاع درجات الحرارة الناجمة عن التغيّر المناخي، إلى تراجع منسوب مياه النهر ليصل إلى أدنى مستوياته، بعدما كان يفيض سنوياً عند هطول الأمطار الغزيرة.
ورغم تلوثه يعتمد أكثر من خمسة ملايين نسمة في سوريا على نهر الفرات كمصدر رئيس للحصول على مياه الشرب، وفق تقديرات الأمم المتحدة.
أدى النزاع السوري المستمر منذ ما يزيد عن عقد من الزمن إلى تدمير البنى التحتية لمياه الشرب والصرف الصحي، إذ تضرر نحو ثلثي عدد محطات معالجة المياه، ونصف محطات الضخ، وثلث خزانات المياه، بحسب الأمم المتحدة، ما أجبر الأهالي على اللجوء إلى آليات تكيّف سلبية مثل تغيير ممارسات النظافة، وحلول غير خاضعة لأدنى مقومات الأمان والرقابة.