يصادف يوم 3 حزيران/يونيو 2019 الذكرى الثامنة لمجزرة ارتكبها أجهزة أمنية سورية في مدينة حماه في جمعة “أطفال الحرية” عام 2011، والتي أسفرت عن مقتل وجرح العديد من الشبان والأطفال ممن تجمّع للتظاهر في ساحة العاصي، حيث أطلق عناصر الأجهزة الأمنية الرصاص الحي على المتظاهرين وفق شهود عيان، وحتى اليوم لم تتم محاسبة المسؤولين عن ارتكابها كما لم يتجرأ ذوو عدد كبير من الضحايا على التقدم بدعوى قضائية خوفاً من الملاحقة الأمنية.
تحدثت سوريون من أجل الحقيقة والعدالة في ذكرى المجزرة إلى عدد من الناجين وعدد من أهالي الضحايا، إضافة إلى طبيب وثلاثة ممرضات كانوا قد أشرفوا على علاج قسم كبير من الجرحى وشهدوا سقوط قتلى، كما تمكن الباحث الميداني لدى سوريون من أجل الحقيقة والعدالة في مدينة حماة من توثيق وإحصاء 80 قتلى بينهم طفلين على الأقل، في حين قال ناشطون محليون إن عدد الضحايا فاق ذلك بكثير وكان بينهم نحو 15 طفلاً، كما قال عاملون طبيون إن عدد الضحايا بلغ نحو 200.
ماذا حدث؟
ظهيرة يوم 3 حزيران/يونيو 2011، وفي الجمعة التي سماها المتظاهرون “جمعة أطفال الحرية” وأثناء توافد المتظاهرين من أحياء عدة بمدينة حماة إلى ساحة العاصي للتظاهر، قام عناصر يتبعون لأجهزة أمنية عدة معظمهم من “شعبة الأمن العسكري”، بإطلاق الرصاص الحي بشكل مباشر على المتظاهرين قبيل وأثناء وصولهم إلى ساحة العاصي، واستمر إطلاق النار لمدة عشر دقائق، وفق ما أكد ناجون من المجزرة وشهود عيان مشاركين في الحراك السلمي آنذاك، وأضافوا أن معظم العناصر كانوا يرتدون الزي العسكري باللون الأخضر غير المموه، وكان بينهم عناصر بلباس مدني وصفهم الناجون بـ”الشبيحة” وقالوا أنهم قوة رديفة غير رسمية.
الناجون الذين التقتهم سوريون من أجل الحقيقة والعدالة أكدّوا أن عناصر الأجهزة الأمنية كانوا متمركزين في ثلاث نقاط ونُشرت القناصة فوق أسطح المباني الحكومية والسكنية في ثلاث مناطق رئيسية وهي؛ منطقة المرابط حيث تمركزت قوات الأمن في ملجأ الأيتام والمباني المحيطة فيه لاستهداف المتظاهرين القادمين من أحياء منطقة السوق (الجراجمة وباب القبلي والشيخ عنبر والتعاونية والشجرة وثمانية أذار)، وفي منطقة الحاضر وتمركزت على مبنى الحزب الجديد وقيادة الشرطة لاستهداف المتظاهرين القادمين من أحياء المناخ والحميدية والمتظاهرين الذين سيتجمعون في شارع سعد العاص وحتى جسر العبيسي، إضافة إلى منطقة ساحة العاصي وتمركزت فوق مبنى المحافظة والمركز الثقافي ومجمع عبد الباقي ومبنى النفوس القديم ومبنى الحزب القديم لاستهداف المتظاهرين الذي سيصلون إلى ساحة العاصي من مختلف المناطق التي تؤدي للساحة وهي ( الحاضر، المرابط، الدباغة، شارع العلمين)، كما تجمع العناصر أيضاً في وسط ساحة العاصي بعتادهم الكامل.
وأكد كل من الشهود التالية أسمائهم؛ خالد الحموي وأحمد أبو محمود وكمال أبو المجد ومحمد سكاف في شهاداهم المطولة أن عناصر الأجهزة الأمنية أغلقوا بعض الشوارع المؤدية إلى ساحة العاصي ليل الخميس-الجمعة، ولم يتمركزوا -كما المعتاد- في نهاية شارع الحاضر بل وقفوا قرب الأبنية السكنية وعلى الأسطح.
ونشر ناشطون على مواقع التواصل الاجتماعي مقطعاً مصوراً قالوا إنه للمتظاهرين القادمين من منظقة الحاضر وكيفية إطلاق النار عليهم من قبل عناصر الأمن قرب حديقة أم الحسن.
وروى شاهد العيان عبد الحميد أبو عروبة، وهو ناشط شارك في تنظيم المظاهرات، ما حدث معه يوم وقوع المجزرة حيث قال:
“في يوم الجمعة وكما جرت العادة كنا نتجمع من كافة الأحياء في ساحة العاصي، وكنت أشارك في تحضير اللافتات في منطقة الحاضر ثم أذهب إلى جامع المناخ للخروج بعد صلاة الجمعة في المظاهرة التي تنطلق من الجامع وبعدها نسير نحو حي الحميدية وبدأنا نتوجه إلى ساحة العاصي، كانت أعدادنا ضخمة جداً وكنا نحمل الورود معتزمين اهدائها لعناصر الأمن، قوات الأمن كانت منتشرة في نهاية شارع سعيد العاص عند مبنى الحزب الجديد ومبنى قيادة الشرطة، لم نكن نخطط لاي احتكاك معها كنا حريصين على السلمية بشكل كبير، وتابعنا المسير نحو ساحة العاصي ولم نلاحظ أي علامات تنبئ بنية الأمن باستهداف المظاهرة لأننا سابقاً اعتدنا أن عناصر الأمن يقفون بشكل جدار بشري في نهاية شارع الحاضر ويوجه بنادقه نحونا ويبدأ بإطلاق الرصاص والقنابل المسيلة للدموع قبل اقترابنا من ساحة العاصي لمنعنا من الوصول للساحة، ولكن في هذا اليوم لم نلاحظ ذلك بل بقي الأمن بجانب الأبنية وعلى الأسطح.”
وتابع “عبد الحميد”:
“عندما وصلت مع باقي المتظاهرين إلى جانب مبنى الحزب الجديد وقفت بجانب صيدلية “خطاب” وبعدها بلحظات سمعت صوت طلقة واحدة في السماء جاءت من جهة ساحة العاصي وكأنها كانت إشعاراً لعناصر الأمن لبدأ إطلاق الرصاص، ومن ثم بدأ الرصاص ينهال علينا وبدأت الناس تتساقط من حولي ثم بدأت الجموع تركض باتجاهات مختلفة نحو أحياء المناخ والبارودية لإخلاء الشارع المكشوف على عناصر الأمن المتواجدين على أسطح المباني، كان تعدانا أنذاك كبيراً وممتدين على طول المسافة من جامع عمر بن الخطاب إلى جسر شفيق العبيسي، استمر إطلاق الرصاص علينا لحوالي عشرة دقائق متواصلة ثم بدأ يتقطع، ومعظم المتظاهرين الذين سقطوا في هذه المنطقة قتلوا، والمتظاهرين الذين كانوا قرب الأبنية التي يتواجد فيها عناصر الأمن تم اعتقالهم، استمرت الجموع بالتفرق والهرب نحو الأزقة والمداخل التي كانت موجودة على طول الشارع، ولم نستطع بداية الأمر إسعاف الجرحى وحمل الشهداء لكثافة الرصاص وعندما التقطنا أنفاسنا بدأت الناس بإسعاف الجرحى وسحب من تستطيع من الشارع لأن القناصة كانت تستهدف كل من يخرج من الأزقة باتجاه الشارع.”
شهادات عاملين طبيين في ثلاث مشافٍ:
تحدثت سوريون من أجل الحقيقة والعدالة إلى أحد المدراء الإداريين في مشفى “الحواراني” ويدعى “محمد/الاسم الأول”، حيث أكد أن عناصر من شعبة الأمن العسكري طلبت إغلاق المشفى ومنع استقبال المصابين، وروى قائلاً:
“بعد صلاة الجمعة بوقت قصير بدأت أعداد الجرحى والقتلى الكبيرة تتوافد إلى مشفى الحوراني، واستقبل المشفى في ذلك الوقت حوالي 200 مصاب نصفهم كانوا قتلى، ولكثرة الجرحى قمنا بعلاجهم في ممرات المشفى فلم تعد الغرف والإسعاف والعمليات قادرة على الاستيعاب، بعد حوالي نصف ساعة تلقيت اتصالاً من ضابط في الأمن العسكري قال لي أن أغلق باب المشفى وأمنع استقبال أي جريح وإلا سيحاسب المشفى، فقلت له تعال بنفسك وامنع دخول الجرحى وأغلقت الهاتف، تجمع ألاف المتظاهرين حول المشفى لحمايتها من أي اقتحام لقوات الأمن، معظم القتلى كانت إصابتهم في الرأس والصدر.”
ولفت “محمد” أن شعبة الأمن العسكري قامت باعتقاله بعد يوم واحد فقط من المجزرة، وعاودت اعتقاله مرة ثانية بعد فترة وجيزة.
أما -شيماء- اسم مستعار لممرضة سابقة في مشفى “الحوراني” أيضاً، روت لسوريون من أجل الحقيقة والعدالة ما يلي:
” في ذلك اليوم وصل للمشفى أعداد لا استطيع تحديدها لكثرتها من الجرحى والقتلى ولكن يمكنني القول أنهم كانوا أكثر من مئة بين جريح وقتيل إضافة إلى نحو ثمانية أشخاص من ذوي الإصابات الخطيرة توفوا بعد أيام قليلة من المجزرة حيث كانت إصاباتهم الخطيرة في الرأس والصدر.”
من جابنها، قالت (ر.ج) مسؤولة قسم الإسعاف في مشفى “البدر” الذي استقبل أيضاً ضحايا في ذلك اليوم:
“في يوم المجزرة استقبل مشفى البدر قرابة 70 شخص بين قتيل وجريح، وعجزت المشفى وقتها عن استيعاب الاعداد الكبيرة وأصبح هناك نقص في المواد الطبية والحاجة الكبيرة لمتبرعين بالدم وامتلأت غرف العناية المشددة بالإصابات الخطيرة، كان يوماً لا ينسى غرقت المشفى فيه بدماء المتظاهرين .”
وأيضاً، أكدت زينة -اسم مستعار- وهي ممرضة في “المركز الطبي بمدينة حماة” أن معظم الإصابات كانت بالرأس والصدر، حيث قالت:
“لقد كان يوماً رهيباً لم أشهد مثله في حياتي، كان الجرحى يُنقلون في سيارات البيك آب والتكسي إلى المشفى، وكنا نستقبل عشرين جريحاً على الأقل كل 5 دقائق، ومعظم الإصابات كانت في الرأس والظهر والكتف وهناك مصابون أصيبوا بإعاقات دائمة كالشلل أو فقد أحد العينين، جميع غرف المشفى امتلأت بالجرحى باستثناء العناية المشددة التي امتلأت أيضاً بالحالات الخطيرة.”
مصير الجثث وتسجيل واقعات الوفاة:
أفاد شهود العيان والناجون من المجزرة الذين تحدثت إليهم سوريون من أجل الحقيقة والعدالة أن ثمانين ضحية تم دفن جثثهم من قبل ذويهم، حيث لم تقم الأجهزة الأمنية بسحب جثثتهم من موقع الاستهداف، وأفاد أحد الشهود أنهم عثروا على تسع جثث كانت ملقاة في حديقة أم الحسن بعد يومين من وقوع المجزرة.
من جانبه، قال والد أحد الضحايا إنه تم إجباره على توقيع ورقة تفيد بأن سبب وفاة ابنه هو إطلاق نار من قبل المجموعات المسلحة الإرهابية، وبعد التوقيع تم السماح له بدفن جثة ابنه واستكمال تسجيل واقعة الوفاة في السجل المدني أصولاً.
وأوضح أحد المدراء الإداريين في مشفى “الحوارني” أن تقرير سبب الوفاة الصادر عنها أوضح سبب الوفاة هو إصابة برصاصة في الصدر أو الرأس -تبعاً للإصابة- وأن “الأمن الجنائي” المسؤول عن تسجل محاضر الوفيات أجبر ذوي الضحايا على توقيع أوراق تفيد أن الضحية قتل برصاص مجموعات مسلحة، ومنع السجل المدني من تثبيت واقعات الوفاة أصولاً ودفن الجثة دون الحصول على تلك الورقة إلى جانب التقرير الطبي المختومين من قبله.
لا محاسبة ولا عدالة حتى الآن:
بحسب الشهود الذين تحدثت إليهم سوريون من أجل الحقيقة والعدالة فإن رئيس شعبة الأمن العسكري آنذاك كان العميد الركن عادل مصطفى، وقُتل في عام 2012 أثناء مواجهات مسلحة في حي باب قبلي حيث تم استهداف سيارته بقذيفة مدفعية، وتسلم رئاسة الفرع بعده محمد مفلح.
من جانبه، قال -محمد- المدير في مشفى “الحوراني” إنه تم اعتقاله بعد يوم من وقوع المجزرة، من قبل شعبة الأمن العسكري، وتم إعتقاله مرة ثانية خلال فترة تولي محمد مفلح لرئاسة الفرع حيث التقى الشاهد بالأخير خلال التحقيق، ونقل الشاهد ما يلي:
“أخبرني محمد مفلح خلال فترة اعتقالي أنه لا علاقة له بارتكاب المجزرة، وأن لديه أدلة تثبت عدم تورطه بها، وأن عادل مصطفى هو المسوؤل عنها حيث أنه تلقى أوامر مباشرة من ماهر الأسد آنذاك.”
وبحسب عدد من النشطاء وبعض ذوي الضحايا، فإن جُل الأهالي لم يتجرأوا على التقدم بدعاوى قضائية للتحقيق بالمجزرة ومحاسبة المسؤولين عنها على الرغم من أن بعضهم غادر سوريا، وذلك بسبب تخوفهم من الملاحقة الأمنية التي قد تطال أقاربهم وذوي الضحايا الآخرين.